﴿جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحۡمَٰنُ عِبَادَهُۥ بِالۡغَيۡبِۚ إِنَّهُۥ كَانَ وَعۡدُهُۥ مَأۡتِيّٗا﴾ [مريم :61]
وهيَ جَنّاتٌ مُعَدَّةٌ للإقامَةِ الدَّائمَة، وعَدَ اللهُ بها عِبادَهُ الصَّالِحين، الذينَ يُؤمِنونَ بها وإنْ لم يَرَوها، وإنَّ ما وعدَهمُ اللهُ بهِ آتٍ لا مَحالَة.
﴿لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا﴾ [مريم :62]
لا يَسمَعونَ في الجَنَّةِ كلامًا باطِلاً تافِهًا لا خَيرَ فيهِ مثلَما هوَ في الدُّنيا، لكنْ يَسمَعونَ كلامًا طَيِّبًا، فيهِ سَلامٌ مِنَ المَلائكةِ عَليهم، ومِنْ بَعضِهمْ على بَعض، ولهمْ ما يَشتَهونَ مِنَ الأرزاقِ في مِثلِ أوقاتِ الصَّباحِ والمَساء، أو أنَّ المَقصودَ الدَّوامُ.
﴿تِلۡكَ الۡجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنۡ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّٗا﴾ [مريم :63]
تلكَ الجَنَّةُ العاليَةُ الرَّائعَة، التي نُعطيها لمَنْ كانَ تَقيًّا مِنْ عِبادِنا المؤمِنين، الذينَ آثَروا طاعَةَ رَبِّهمْ وصبَروا عَليها، ولم تَصرِفْهُمْ مُغرِياتُ الدُّنيا عنِ الالتِزامِ بالدِّين.
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا﴾ [مريم :64]
قالَ جبريلُ عَليهِ السَّلام: وما نَنزِلُ إلى الأرضِ - نحنُ الملائكةَ - إلاّ بأمرِ الله، لهُ أمرُ الدُّنيا، وأمرُ الآخِرَة، وما بينَ ذلك. وما كانَ اللهُ تارِكًا أنبياءَه.
وفي صَحيحِ البُخاريِّ وغَيرِه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ لجبريل: "ما يَمنَعُكَ أنْ تَزورَنا أكثرَ مما تَزورُنا"؟ فنزَلَتِ الآية.
﴿رَّبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَاعۡبُدۡهُ وَاصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا﴾ [مريم :65]
اللهُ خالِقُ السَّماواتِ والأرضِ ومالِكُهما وما بينَهما، ومُدَبِّرُهما، والحاكِمُ فيهما، فلا يَنسَى، ولا يَنام، ولا يَغفُلُ عَنهما، فالزَمْ طاعتَه، واصبِرْ على مَشاقِّ عِبادَتِه، وتكاليفِ أمرِهِ ونَهيه، هلْ تَعلَمُ للهِ مِثْلاً وشَبيهًا؟
﴿وَيَقُولُ الۡإِنسَٰنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوۡفَ أُخۡرَجُ حَيًّا﴾ [مريم :66]
ويَقولُ الإنسَانُ الكافِر، المُنكِرُ للبَعث: أإذا مِتُّ وكنتُ رُفاتًا، سأُخْرَجُ حيًّا مِنَ القَبرِ مرَّةً أُخرَى؟! قالَ ذلكَ استِهزاءً واستِبعادًا للمَعاد.
﴿أَوَلَا يَذۡكُرُ الۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ يَكُ شَيۡـٔٗا﴾ [مريم :67]
ألا يَتذَكَّرُ ويَتفَكَّرُ هذا الإنسَانُ أنَّهُ لم يَكنْ شَيئًا في وَقتٍ مِنَ الأوقات، ثمَّ خَلقنَاهُ فكانَ حَيًّا؟ فإذا كُنّا خَلقناهُ ولم يَكنْ شَيئًا، ألَسنا قادِرينَ على إعادَةِ خَلقِهِ وقدْ كانَ شَيئًا؟
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ وَالشَّيَٰطِينَ ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِيّٗا﴾ [مريم :68]
فوَرَبِّكَ أيُّها الرَّسُول، سنَجمَعُ هؤلاءِ المُنكِرينَ للمَعادِ في المَحْشَر، معَ الشَّياطينِ الذينَ كانوا يُضِلُّونَهم، بارِكينَ على الرُّكَبِ حَولَ جَهنَّم، في ذِلَّةٍ وفَزَع، يَنتَظِرونَ أنْ يُقذَفَ بهمْ فيها في أيَّةِ لَحظَة.
﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمۡ أَشَدُّ عَلَى الرَّحۡمَٰنِ عِتِيّٗا﴾ [مريم :69]
ثمَّ لنُخرِجَنَّ مِنْ كُلِّ أمَّةٍ منهمْ قادَتَهمْ ورُؤساءَهمُ الأكثرَ شَرًّا وفُجورًا وجُرأةً على اللهِ وخُروجًا عنْ طاعَتِه، فيُقَدَّمُونَ إلى النَّار.
﴿ثُمَّ لَنَحۡنُ أَعۡلَمُ بِالَّذِينَ هُمۡ أَوۡلَىٰ بِهَا صِلِيّٗا﴾ [مريم :70]
ثمَّ نحنُ أعلمُ بمنْ يَستَحِقُّ مِنَ النَّاسِ أنْ يَدخُلَ النَّارَ ويُعانيَ عَذابَها ويَخلُدَ فيها.
﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا﴾ [مريم :71]
وما مِنْ أحَدٍ منكمْ إلاّ ويَرِدُ على النَّار، البَرُّ والفاجِرُ، وكانَ ورُودُكمْ عَليها أمرًا واجِبًا، قضَاهُ اللهُ عَليكم.
وورُودُ المؤمنينَ على جهنَّمَ هوَ المرورُ على الصِّراط، الذي يَكونُ على مَتنِها، مثلَ حَدِّ السَّيف، فيرَونَ جهنَّمَ ولَهيبَها وهيَ تَكادُ أنْ تتَميَّزَ منَ الغَيظ، ويُقذَفَ بالكافِرينَ فيها... فورُودُ المُتَّقينَ غَيرُ ورُودُ الظَّالِمينَ عَليها.
﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا﴾ [مريم :72]
وعندَ مُرورِ الخلائقُ على النَّار، نُنَجِّي المؤمِنينَ الذينَ لم يُشرِكوا برَبِّهمْ منها، ونَترُكُ فيها المُشرِكينَ جاثينَ فيها على رُكَبِهم، فقدْ أُلْقُوا فيها على هَيئاتِهمْ عِندَما كانوا حَولَ جَهنَّم.
﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ الۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا﴾ [مريم :73]
وإذا قُرِئتْ على المُشرِكينَ آياتُنا مِنَ القُرآن، الظَّاهِرَةُ في إعجازِها، المُحْكَمَةُ في مَعناها ودَلالتِها، قالوا للمؤمِنين: أيُّ الفَريقَينِ مِنَّا ومِنكمْ أفضَلُ مَنزِلَةً ومَكانَة، وأحسَنُ ناديًا ومَجلِسًا؟ وكانَ المُسلِمونَ في مَكَّةَ أكثَرُهمْ مِنَ الضَّعَفَة، ويَستَتِرونَ في دارِ الأرقَم، والمشرِكونَ رؤساءُ القَوم، وعدَدُهمْ أكثَر، ومَجالِسُهمْ أكبَر، حيثُ يُلقَى فيها الشِّعر، وتُدارُ فيها الخَمر، فقالوا -مُحتَجِّينَ بذلكَ - إنَّهمُ الأفضَلُ إذاً!
﴿وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَحۡسَنُ أَثَٰثٗا وَرِءۡيٗا﴾ [مريم :74]
ولكنْ ليَتفَكَّروا ويَتدَبَّروا، ولا يَنظُروا إلى العَدَدِ والمَنزِلَةِ الدُّنيَويَّة، فكمْ أهلَكنا مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ بسَبَبِ ضَلالِهمْ وتَكذيبِهمْ أنبياءَهم، وكانوا أكثرَ مَتاعًا وأموالًا، وأحسنَ مَنظَرًا وشَكلاً.
﴿قُلۡ مَن كَانَ فِي الضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ الرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الۡعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا﴾ [مريم :75]
قُلْ للمُشرِكينَ أيُّها النبيّ: مَنْ كانَ مِنَّا ومِنكمْ على البَاطِل، فليُبْقِهِ اللهُ على ذلك، وليُمهِلْهُ حتَّى يأتيَهُ أجَلُه. حتَّى إذا جاءَهمْ ما وُعِدوا به، إمَّا بقَتلِهمْ وأسرِهمْ عندَ غَلبَةِ المسلِمينَ عَليهم، أو بقيامِ السَّاعَةِ ودخولِهمُ النَّار، فسيَعلَمونَ عندَ ذلكَ مَنْ هوَ شَرٌّ مَكانَةً ومَنزِلَة، وأقَلُّ أنصَارًا وأعوَانًا، المؤمِنونَ أمِ الكافِرون؟
﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهۡتَدَوۡاْ هُدٗىۗ وَالۡبَٰقِيَٰتُ الصَّـٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٞ مَّرَدًّا﴾ [مريم :76]
ويَزيدُ اللهُ المؤمِنينَ المُهتَدينَ بهَدي اللهِ إيمانًا ويَقينًا، والطَّاعاتُ والأعمالُ الصَّالِحَةُ خَيرٌ عندَ اللهِ جَزاء، فتَبقَى فوائدُها وتَدومُ عَوائدُها، وخَيرٌ عاقِبَةً ومَرجِعًا على صَاحبِها، فنَتيجَتُها النَّعيمُ المُقيم، ورِضاءُ ربِّ العَالَمين.
﴿أَفَرَءَيۡتَ الَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا﴾ [مريم :77]
أرأيتَ ذلكَ المُشرِكَ الذي كفَرَ بآياتِنا وأدِلَّتِنا، ومنها إعادَةُ بَعثِ الأمواتِ للحِسابِ والجَزاء، وقالَ لمُسلِمٍ مُستَهزِئًا: سأُعطَى في الآخِرَةِ أموالاً وأولادًا؟
وكانَ لخَبّابٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ دَيْنٌ على العاصِ بنِ وائل، فجاءَ إليهِ يَطلبُ منهُ دَيْنَهُ، فقالَ له: لا أُعطِيكَ حتَّى تَكفُرَ بمُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم)، فرَدَّ عَليه: لا أكفُرُ حتَّى يُميتَكَ اللهُ ثمَّ تُبْعَث، فقال: دَعني حتَّى أموتَ وأُبْعَث، فسَأُوتَى مالاً ووَلَدًا، فأقضِيَك. والخبَرُ في الصَّحيحَين.
﴿أَطَّلَعَ الۡغَيۡبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا﴾ [مريم :78]
فهَلْ نظرَ هذا الكافِرُ في الغَيبِ ورَأى أنَّهُ في الجَنَّة، أمْ أنَّهُ شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ فيَرجو بذلكَ جَنَّتَه؟
﴿كَلَّاۚ سَنَكۡتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ الۡعَذَابِ مَدّٗا﴾ [مريم :79]
كَلاّ، ما أبعدَ ما قال، وما أبعَدَهُ عنِ التَّوحِيد، وسنَحفَظُ عندَنا قَولَهُ هذا، لنَجزِيَهُ بهِ يَومَ الحِساب، ونُطيلَ مُدَّةَ عَذابِه، أو نَزيدَهُ عَذابًا فَوقَ العَذاب، بدلَ ما ادَّعَى لنَفسِهِ مِنْ إمدادِهِ بالمالِ والوَلَد.
﴿وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأۡتِينَا فَرۡدٗا﴾ [مريم :80]
ونَسلُبُ منهُ ما قالَهُ مِنْ مَالٍ ووَلَدٍ ونُهلِكُه، ويأتينا يَومَ القِيامَةِ بنَفسِه، لا يَصحَبُهُ أحَد، فَضلاً عنْ أنْ يُؤتَى زيادَةً عمَّا قال.