﴿أَمَّن جَعَلَ الۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ الۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ اللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [النمل :61]
مَنِ الذي جَعَلَ هذهِ الأرضَ ساكِنَةً ثابِتةً لا تتَحرَّكُ ولا تَضْطَرِب، ليَتمَكَّنَ أهلُها مِنَ الاستِقرارِ عَليها، وجعلَ فيها أنهارًا جاريَةً تَنتَفِعونَ بها، وجِبالاً ثابِتةً لئلاّ تَميدَ الأرضُ بأهلِها، وجعلَ بينَ البَحرَينِ فاصِلاً يَمنَعُهما مِنَ المُمازَجةِ حينَ يَلتَقيان، فلا يَختَلِطُ ماءُ هذا بماءِ ذاك. فهلْ هُناكَ إلهٌ آخَرُ غَيرُ اللهِ شاركَهُ في هذا الخَلقِ والإبداع؟ بلْ أكثَرُهمْ جاهِلون، لا يَعلَمونَ ما هُمْ عَليهِ مِنْ جَهلٍ وضَلالٍ يُزري بعُقولِهم.
﴿أَمَّن يُجِيبُ الۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ السُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ الۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ اللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل :62]
ومَنِ الذي يَستَجيبُ دُعاءَ المُضطَرّ، الذي أحوجَتْهُ الشدَّة، وخنقَهُ الكَرْب، فيَكشِفُ ما بهِ منْ ضُرّ؟ ومَنِ الذي يُهلِكُ جِيلاً ويُنشِئُ آخَر، ويَجعَلُكمْ مِنْ سُكّانِ الأرْض، فتَكونونَ خَلَفًا لسَلَف؟ أهُناكَ إلهٌ معَ اللهِ يُقَدِّرُ ذلكَ ويَتصرَّفُ فيه؟ ولكنْ ما أقَلَّ تذَكُّرَكمْ للنِّعْمَة، وتبَصُّرَكمْ بالحَقّ!
﴿أَمَّن يَهۡدِيكُمۡ فِي ظُلُمَٰتِ الۡبَرِّ وَالۡبَحۡرِ وَمَن يُرۡسِلُ الرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦٓۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ اللَّهِۚ تَعَٰلَى اللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [النمل :63]
ومَنِ الذي يُرشِدُكمْ في ظُلُماتِ اللَّيالي في البَرِّ والبَحرِ إذا سافَرتُم، بما جعلَ لكمْ مِنَ الدَّلائلِ والعَلاماتِ في الأرْضِ وفي السَّماء؟ ومَنِ الذي يَبعَثُ الرِّياحَ لتُبَشِّرَ بنُزولِ المطَرِ بعدَ تشَكُّلِ السَّحاب؟ هَلْ هُناكَ إلهٌ آخَرُ يُساعِدُ اللهَ في ذلك؟ تعالَى وتقدَّسَ رَبُّ العالَمينَ عمَّا يُشرِكونَ به.
﴿أَمَّن يَبۡدَؤُاْ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ اللَّهِۚ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [النمل :64]
أمْ مَنْ هوَ الذي يُوجِدُ الخَلْقَ أوَّلَ مرَّة، ثمَّ يُميتُهُ ويُعيدُ خَلْقَهُ مرَّةً أخرَى؟ ومَنِ الذي يَرزُقُكمْ مِنَ السَّماءِ فيُنزِلُ مِنها المطَر، ومِنَ الأرضِ أنواعَ الزَّرعِ والثَّمَر؟ أيوجَدُ معَ اللهِ مَنْ يَرزقُكم؟ قُلْ لهم: هاتُوا دَليلَكمْ إذًا على ما تدَّعونَهُ مِنْ وجودِ آلِهةٍ أُخرَى معَ الله، إذا كنتُمْ صادِقينَ في دَعواكُم.
﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ الۡغَيۡبَ إِلَّا اللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ﴾ [النمل :65]
قُلْ للمُشرِكينَ المُكَذِّبينَ أيُّها الرَّسُول: لا يَعلَمُ أحَدٌ ممَّنْ في السَّماواتِ والأرضِ الغَيبَ إلاّ الله، ولا يَدري أحَدٌ منهمْ متَى يُبعَثُ بعدَ الموت.
﴿بَلِ ادَّـٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ﴾ [النمل :66]
بلْ توَقَّفَ عِلمُهمْ وعَجَزَ عنْ مَعرِفَةِ شأنِ الآخِرَة، بلْ همْ في شَكٍّ مِنْ تحَقُّقِ هذا اليَومِ ووقوعِه، بلْ همْ في عَمايَةٍ عنْ دلائلِه، وجَهلٍ كبيرٍ به.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبٗا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخۡرَجُونَ﴾ [النمل :67]
وقالَ الكافِرونَ بالبَعثِ بعدَ المَوت: أإذا مِتنا، وتحوَّلَتْ أجسادُنا، نحنُ وآباؤنا وأجدادُنا الأقدَمون، إلى عِظامٍ وتُراب، فهلْ سنُخرَجُ مِنْ قُبورِنا أحياءً بعدَ ذلك؟
﴿لَقَدۡ وُعِدۡنَا هَٰذَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ الۡأَوَّلِينَ﴾ [النمل :68]
قالوا: لقدْ سبَقَ أنْ وُعِدَ آباؤنا وأجدادُنا بذلك، وما هذا سِوَى حِكاياتِ السَّابِقينَ وأكاذيبِهمُ التي سطَّروها في كتُبِهم.
﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي الۡأَرۡضِ فَانظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الۡمُجۡرِمِينَ﴾ [النمل :69]
قُلْ لهمْ: امشُوا في الأرْضِ وانظُروا في الآثار، واقرَؤوا التَّاريخ، لتَعرِفوا ما آلَ إليهِ أمرُ المشرِكينَ المُكذِّبينَ بالرسُل، واعتَبِروا مِنْ ذلك، حتَّى لا تَكونَ عاقِبتُكمْ مثلَ عاقِبَتِهم.
﴿وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُن فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ﴾ [النمل :70]
ولا تَحزَنْ عَليهمْ لإصْرارِهمْ على الكُفرِ أيُّها الرَّسول، ولا يأخُذْكَ الهَمُّ والغَمُّ لإعراضِهمْ عنك، ولا يَضِقْ صَدرُكَ بمَكائدِهمْ ومُؤامراتِهم، فإنَّ اللهَ يؤَيِّدُكَ ويَعصِمُكَ منهم.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [النمل :71]
ويَقولُ لكَ المشرِكونَ مُستَبعدِينَ الأمر: متى يَكونُ وَقتُ العَذابِ المَوعودُ بهِ إنْ كنتُمْ صادِقينَ في قَولِكم؟
﴿قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعۡضُ الَّذِي تَسۡتَعۡجِلُونَ﴾ [النمل :72]
قُلْ لهم: عسَى أنْ يَكونَ اقتربَ بَعضُ العَذابِ الذي تَستَعجِلونَه.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ﴾ [النمل :73]
وإنَّ اللهَ ذو فَضلٍ على جَميعِ النَّاس، بما أسبغَ عَليهمْ مِنْ نِعَمِه، لكنَّ أكثرَهمْ لا يُقَدِّرُونَها ولا يَشكرونَ للمُنعِمِ بها، وهوَ يَرحَمُهمْ ولا يُعاجِلُهمْ بالعُقوبَة.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعۡلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمۡ وَمَا يُعۡلِنُونَ﴾ [النمل :74]
واللهُ مُحيطٌ بأقوالِهمْ وأحوالِهم، ويَعلَمُ ما يُخفُونَهُ في صُدورِهمْ مِنْ أسرَار، وما يُظهِرونَهُ مِنْ أقوالٍ وأعمَال، فلا يَغيبُ عنِ اللهِ منها شَيء، وسَوفَ يُحاسِبُهمْ عَليها.
﴿وَمَا مِنۡ غَآئِبَةٖ فِي السَّمَآءِ وَالۡأَرۡضِ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ﴾ [النمل :75]
وما مِنْ شَيءٍ يَخفَى على النَّاس، في السَّماءِ كانَ أو في الأرْض، صَغيرًا كانَ أو كَبيرًا، إلاّ وهوَ مدَوَّنٌ عندَ اللهِ في اللَّوحِ المَحفُوظ، بَيِّنٌ لمَنْ يَنظُرُ فيهِ مِنَ المَلائكة.
﴿إِنَّ هَٰذَا الۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ الَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ﴾ [النمل :76]
إنَّ هذا القُرآنَ الجَليلَ يَذكرُ لليَهودِ والنَّصارَى أكثرَ الأمورِ التي يَختَلِفونَ فيها، ممَّا كانَ سبَبًا في ضَلالِهمْ وانحِرافِهم، ولو أنَّهمْ تأمَّلوا فيهِ وأنصَفوا، لاهتَدَوا إلى الحقِّ الذي فيه، ولكنَّهمْ عانَدوا وكابَروا وقلَّدوا، فضَلُّوا وأضَلُّوا، كَقَولِ النَّصارَى في المَسيحِ عَليهِ السَّلام، وكأمرِ النبيِّ المُبَشَّرِ به...
﴿وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [النمل :77]
وإنَّ القُرآنَ هِدايَةٌ لمَنْ يؤمِنُ به، فيُرشِدُهمْ إلى الطَّريقِ الحَقّ، ورَحمَةٌ لهمْ وسَعادَةٌ في الدَّارَين، فيَأخذُهمْ إلى الفَوزِ والظَّفَر.
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُم بِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡعَلِيمُ﴾ [النمل :78]
إنَّ اللهَ يَفصِلُ بينَكمْ وبينَ اليَهودِ والنَّصارَى، أو بينَهمْ همْ يَومَ القيامَة، بحُكمِهِ العَدْل، وقَضائهِ الفَصْل، وهوَ العَزيزُ الذي لا يُرَدُّ حُكمُه، العَليمُ بأقوالِ العِبادِ وأفعالِهمْ ونيَّاتِهم.
﴿فَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِۖ إِنَّكَ عَلَى الۡحَقِّ الۡمُبِينِ﴾ [النمل :79]
فقُمْ بأداءِ رِسالَتِكَ كما يَنبَغي، وفَوِّضْ أمركَ كُلَّهُ إلى رَبِّك، فإنَّكَ على هِدايَةٍ واستِقامَة، وحَقٍّ واضِحٍ بَيِّن، وإنْ خالَفَكَ المشرِكونَ وكذَّبوك.
﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ الۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ﴾ [النمل :80]
إنَّكَ لا تُسمِعُ مَنْ كانَ مَيِّتَ القَلب، فهوَ لا يَفقَهُ ولا يَعي ما تَقول، كما لا تُسمِعُ مَنْ سَدَّ أذُنَيهِ عنْ سَماعِ الحَقّ، فهوَ لا يُريدُ سَماعَه، ولا يُريدُ أنْ يَنفُذَ إلى قَلبِه، فهؤلاءِ مُعرِضونَ عنْ رِسالَةِ رَبِّهم، مُخالِفونَ لأمرِه.