﴿وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي الۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بِـَٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [النمل :81]
ولا تَستَطيعُ أنْ تُرشِدَ أعمَى القَلبِ وتَصرِفَهُ عنِ الضَّلالِ الذي هوَ فيه، ولا تُسمِعُ إلاّ مَنْ فتحَ اللهُ قَلبَهُ للإيمان، وصدَّقَ أنَّ القُرآنَ مِنْ عندِ الله، فعندَئذٍ يَسمَعُ ما تَتلوهُ عَليه، وما تُرشِدُهُ إليه، لأنَّهُ مُسلِمٌ مُخلِصٌ في إيمانِه، مُنقادٌ للحَقِّ المطلوبِ منه.
﴿۞وَإِذَا وَقَعَ الۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ الۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ النَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾ [النمل :82]
وإذا وجبَ عَليهمُ العَذابُ أخرَجنا لهمْ دابَّةً مِنَ الأرْض، على غَيرِ هَيئةِ الإنسَان، تُخاطِبُهمْ وتَقولُ لهم: إنَّ النَّاسَ كانوا لا يُوقِنونَ بالعَلاماتِ الدالَّةِ على قيامِ السَّاعَة.
﴿وَيَوۡمَ نَحۡشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوۡجٗا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِـَٔايَٰتِنَا فَهُمۡ يُوزَعُونَ﴾ [النمل :83]
واذكُرْ يَومَ القيامَة، عندَما نَحشُرُ مِنْ كُلِّ قَومٍ جَماعةً ممَّنْ يُكَذِّبُ برِسَالاتِ اللهِ ومُعجِزاتِه، فيُحبَسُ أوَّلُهمْ على آخرِهم، حتَّى يتلاحَقوا ويَجتَمِعوا في مَوقِفِ التَّوبيخِ والمُناقَشَةِ قَبْلَ أنْ يُقذَفوا في النَّار، ليَزدادوا حَسْرَةً وغَمًّا.
﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبۡتُم بِـَٔايَٰتِي وَلَمۡ تُحِيطُواْ بِهَا عِلۡمًا أَمَّاذَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [النمل :84]
حتَّى إذا اجتَمَعوا ووَقَفوا بينَ يَدَي اللهِ تعالَى للحِساب، قالَ لهم: أكذَّبتُمْ بالمُعجِزاتِ التي أيَّدتُ بها رسُلي، وأعرَضتُمْ عنِ الكُتبِ التي أنزَلتُها لأجلِكم، الناطِقَةِ بلَقاءِ يَومِكمْ هذا، أمْ ماذا كنتُمْ تَعمَلونَ في الدُّنيا، ولماذا لم تُفَكِّروا فيها؟ بلْ كنتُمْ مُكَذِّبينَ جاهِلين.
﴿وَوَقَعَ الۡقَوۡلُ عَلَيۡهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمۡ لَا يَنطِقُونَ﴾ [النمل :85]
ووَجبَ عَليهمُ العَذابُ المُحَقَّق، بسَبَبِ شِركِهمْ وتَكذيبِهمْ بآياتِ الله، وبُهِتوا ولمْ يَنطِقوا بحُجَّةٍ واحِدَة.
﴿أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا الَّيۡلَ لِيَسۡكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [النمل :86]
ألَمْ يَنظُروا ويَتفَكَّروا كيفَ خلَقنا اللَّيلَ وما فيهِ مِنْ سُكونٍ وظَلام، ليَستَريحوا مِنْ تعَبِ النَّهارِ ويَنامُوا، وجعَلنا النَّهارَ مُشرِقًا ليَعمَلوا ويَتدَبَّروا فيهِ أمرَ مَعاشِهم؟ وفي ذلكَ دلائلُ وعِبَرٌ على عظَمَةِ اللهِ وإبداعِهِ في خَلْقِه، وقُدرَتِهِ على البَعثِ بعدَ المَوت، وعلى صِدْقِ الآياتِ النَّاطِقَةِ بذلك، لمَنْ تدَبَّرَ وصدَّقَ به.
﴿وَيَوۡمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ اللَّهُۚ وَكُلٌّ أَتَوۡهُ دَٰخِرِينَ﴾ [النمل :87]
ويَومَ يَنفُخُ إسْرافيلُ في الصُّورِ - وهوَ قَرْنٌ - في آخِرِ عمُرِ الدُّنيا، يَعتَري الفزَعُ والرُّعبُ كلَّ مَنْ في السَّماواتِ والأرْض، إلاّ مَنْ شاءَ اللهُ ألاّ يَفزَع، كالشُّهَداء، فهمْ أحياءٌ عندَ رَبِّهم، لا يَصِلُ إليهمُ الفزَع. وهذهِ هيَ النَّفخَةُ الأولَى، والثانيَةُ تَكونُ نَفخَةَ الصَّعْق، وهوَ المَوت، ثمَّ نَفخَةَ النُّشورِ مِنَ القُبور. وهذا قَولُ ابنِ كثيرٍ وآخَرين.
وكُلُّ المَبعوثينَ عندَ النفخَةِ جَاؤوا ليَقِفوا بينَ يَدي اللهِ للحِسابِ صاغِرينَ مُنقادِين.
﴿وَتَرَى الۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِۚ صُنۡعَ اللَّهِ الَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ﴾ [النمل :88]
وترَى الجِبالَ يَومَئذٍ كأنَّها ثابِتَةٌ باقِيَةٌ على ما كانتْ عَليه، والحَقُّ أنَّها زائلَةٌ عَنْ أماكنِها، وتَسيرُ كسَيرِ السَّحاب، حتَّى تقعَ على الأرضِ فتَستَويَ بها. وهذا مِنْ صُنعِ اللهِ الذي أجادَ وأحكمَ كُلَّ ما خلَق، واللهُ عَليمٌ بأفعالِ عِبادِه، ظواهِرِها وبَواطنِها، خَيرِها وشَرِّها، وسيُجازيهمْ على ذلكَ كُلِّه.
وذهبَ مُفَسِّرونَ إلى أنَّ المَقصودَ بالحَديثِ في الجِبالِ هُنا ما يَجري لها في الدُّنيا. ويَقولُ المُفَكِّرُ الإسلاميُّ زَغلولُ النجَّارُ في مَوقعِه: الجِبالُ ليسَتْ كُتَلاً هامِدَة، ولكنَّها تتحرَّكُ جانبيًّا بالتضاغُطِ والتثَنِّي والطَّيّ، كما تَتحرَّكُ رأسيًّا بالتصَدُّعِ والرَّفعِ مِنْ أسفَلَ إلى أعلَى بواسِطَةِ مُختَلِفِ قُوَى الأرضِ الداخليَّة، وبفِعْلِ عَوامِلِ التَّعريَة...
ثمَّ يَقول: والجِبالُ تَمُرُّ معَ الأرضِ مرَّ السَّحاب، وتَترَنَّحُ معَها في دوَرانِها حَولَ مِحوَرِها، وتَجري معَها في مَدارِها حولَ الشَّمس، ولعلَّ هذهِ الحركاتِ هيَ صورَةٌ منْ صُوَرِ الخُضوعِ للهِ الخالِقِ سُبحانَهُ وتعالَى، بالعِبادَة، والطَّاعَة، والتَّسبيحِ والذِّكْر، والسُّجود.
﴿مَن جَآءَ بِالۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ﴾ [النمل :89]
مَنْ أطاعَ اللهَ وعَمِلَ صالِحًا فيُجازَى خَيرًا يَومَ القِيامَة، ويُعطَى أفضَلَ مِنْ حسَنَتِهِ تلك، وهمْ آمِنونَ سالِمونَ مِنْ خَوفِ ذلكَ اليَومِ العَصِيب.
﴿وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فِي النَّارِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [النمل :90]
ومَنْ أتَى اللهَ في ذلكَ اليَومِ مُشرِكًا، مُسيئًا لم يُحسِنْ في شَيء، أُلقُوا في النَّارِ على وجُوهِهمْ مَنكوسِين. هلْ تُحاسَبونَ وتُجزَونَ إلا على ما كنتُمْ تَعمَلونَ مِنْ أعمال؟
﴿إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الۡبَلۡدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ الۡمُسۡلِمِينَ﴾ [النمل :91]
قُلْ لهمْ أيُّها الرَّسول: إنَّما فُرِضَ عَليَّ أنْ أعبُدَ الله، رَبَّ مَكَّةَ التي فيها بَيتُهُ الحَرام، وهيَ أحَبُّ البِلادِ إلى رَسولِه، التي جعلَها اللهُ حرَمًا، آمِنًا، لا يُسفَكُ فيها دَم، فإذا سُفِكَ غُلِّظَتِ العُقوبَةُ وإنْ كانتْ خطَأ، ويأمَنُ فيها اللَّاجِئ... ولا يُقطَعُ شَوكُها، ولا يُنَفَّرُ صَيدُها... وغَيرُ ذلكَ منَ الأحكامِ الخاصَّةِ بها. وهوَ رَبُّها ورَبُّ كُلِّ شَيء، خَلقًا ومُلكًا وتَدبيرًا، لا يُشارِكُهُ فيها أحَد. وأُمِرْتُ أنْ أكونَ مِنَ المؤمِنينَ الموَحِّدينَ المُخلِصين، الطائعينَ لربِّ العالَمين، وأنْ أثبُتَ على ذلك.
﴿وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ الۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ اهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ الۡمُنذِرِينَ﴾ [النمل :92]
وأُمِرْتُ أنْ أُواظِبَ على قِراءَةِ القُرآنِ على النَّاسِ وأُبَلِّغَهُمْ وأُنذِرَهمْ به، فمَنِ اهتدَى بهِ واتَّبعَ أحكامَه، فإنَّ منفَعَةَ اهتِدائهِ تَعودُ على نَفسِه، ومَنْ ضَلَّ عَنهُ وكفرَ بهِ فقُل: إنَّ مُهِمَّتي أنْ أُنذِرَكمْ بالقُرآن، وليسَ عليَّ مِنْ ضَلالِكمْ شَيء، إنَّما وَبالُ ذلكَ عَليكم.
﴿وَقُلِ الۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ [النمل :93]
وقُلْ: الحَمدُ للهِ الذي أنعَمَ عَليَّ بالنبوَّة، ووَفَّقَني لتَبليغِ كتابِه، وتأديَةِ رِسالَتِه، وسيُريكمُ اللهُ عَلاماتٍ وأدِلَّةً تدلُّ على قُدرَتِهِ ووَحدانيَّتِه، في أنفُسِكمْ وفي السَّماواتِ والأرْض، تَعرِفونَها مَعرِفَةً تدلُّكمْ على الحقِّ والباطل، واللهُ غَيرُ غافِلٍ عنْ عمَلِ النَّاس، فهوَ شَهيدٌ على كُلِّ شَيء، وسيُجازي كُلاًّ بما عَمِل، فاحذَروا، فقدْ بُلِّغتُم.