وهناكَ مَنْ يَدعو فيُحْسِنُ الدُّعاء، ويَجمَعُ فيهِ بين خَيرَي الدُّنيا والآخِرَة، فيَقول: ربَّنا أعطِنا جِماعَ الخَيرِ في الدنيا والآخِرَة.
وهوَ كأنْ يدعوَ لنفسهِ بالرزقِ الواسع، والزوجةِ الصالحة، والمركبِ الهنيء، والثناءِ الطيِّب، والعلمِ النافِع.
كما يدعو لنفسهِ بحُسنِ الخاتمة، والأمنِ يومَ الحشرِ والحِساب، ودخولِ الجنَّةِ معَ الأبرار، والوقايةِ منْ عذابِ النار.
واذكُروا اللهَ وكبِّروهُ في أيّامِ التَّشريق، وهيَ يومُ عيدِ الأضحى معَ الأيّامِ الثلاثةِ التاليةِ له، وهيَ أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وذِكر، لا يجوزُ صومُها. فمنْ أرادَ أنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنىً ثانيَ أيّامِ التشريقِ فلا حرجَ عليه، ومَنْ أرادَ أنْ يَبقَى إلى اليومِ الثالثِ ويرميَ الجِمارَ فلا حرجَ عليهِ أيضاً.
وكانوا في الجاهليَّةِ يُعَيِّرونَ المُتَعَجِّلَ ويؤثِّمونَ المتأخِّر، فبيَّنتِ الآيةُ عدمَ القَدْحِ في ذلك. وهوَ اللائقُ بمنْ حجَّ للهِ والتزمَ بالمناسكِ كما شَرعَ الإسْلام.
فكُونوا على تَقوًى منَ الله وخَشيةٍ منه، بامتِثالِ الأوَامرِ وتَركِ المحظوراتِ، واحذَروا الإخلالَ بما ذُكِرَ منَ الأحكام، وتيقَّنوا بأنَّكمْ ستَعودونَ إلى الحياةِ بعدَ موتِكم، فيحاسِبُكمُ اللهُ على أعمالكمْ ويجازيُكمْ عَليها.
وإذا وُعِظَ أحدُ هؤلاءِ المنافقينَ وقيلَ له: احذَرْ غَضبَ الله، وانْتَهِ مِنْ فَعالِكَ السيَّئة، وارجِعْ إلى الحقّ، أخَذتْهُ الحميَّةُ والغَضب، وتعاظمَ واستكبرَ أنْ يُوَجَّهَ لهُ مثلُ هذا التذكيرِ والإنكار، لِما امتلأ قلبُهُ مِنَ الكفرِ والعِصيان، فما استَحيا منَ الله، ولا سمعَ كلامَ أحَد، وهوَ في واجهتِهمْ يتَظاهرُ بالإيمانِ والمحبَّةِ والطَّاعة!
ويَكفي أنْ يَكونَ نصيبَهُ النارُ الفظيعةُ يومَ الدين، جزاءَ إفسادهِ وفُجورِه، وكذبِهِ ونِفاقِه، وبئسَ المكانُ الذي يَكونُ فيهِ المرءُ مُعَذَّباً مُحتَرِقاً تأتي النارُ حتَّى على فؤاده، وهوَ يطلبُ فيهِ الموْت، ولكنْ لا موْتَ ولا حَياة، ولكنَّهُ نارٌ مؤجَّجةٌ وعَذابٌ مُستَمِرّ.
وفي مقابلِ المنافقينَ الفاجِرين، هناكَ منَ المؤمنينَ مَنْ يَهَبُ ما ملكَ ليَنفُذَ بإيمانِه؛ طلباً لرضَى الله، كما فعلَ صُهَيبٌ الروميّ، عندما أسلمَ بمكَّةَ وأرادَ الهِجرةَ إلى المدينة، فمُنِع، فتجرَّدَ منْ مالهِ وتخلَّصَ منهمْ بذلك. فمثلُ هذا يرحمهُ الله.
والآيةُ في كلِّ مجاهدٍ في سبيلِ الله، يَهَبُ روحَهُ ليَرضَى عنهُ الله، تاركاً الدُّنيا وما فيها، لينتصرَ لدينِ الله، فتَنتَشِرُ المبادئُ العَظيمة، والأحكامُ العادِلة. فشتّانَ بين المنافِقِ وما طَلب، وبينَ المؤمنِ المجاهدِ وما وَهَب.
هؤلاءِ المنحرِفونَ عنِ الإسْلام، لا يَنتظرونَ سِوَى الساعةِ الحاسمةِ يومَ القيامة، ليقضيَ اللهُ القضاءَ الفصلَ بينَ العباد، يأتي سبحانَهُ في ظُلَلٍ منَ الغمام، والملائكةُ الذينَ يُنَفِّذونَ أوامرَه.
وانتهَى الأمرُ بقضاءِ اللهِ العَدل، فلا خطأ فيه ولا مُراجعةَ عليه، وتمَّ أمرُ إهلاكِهمْ بما يَستَحِقُّونَهُ مِنْ عَذابٍ مُؤلم. وليُعلمَ أنَّ الأمرَ الأخيرَ هوَ للهِ سُبحانَه، لا لغَيرِه، يُجازي كلاًّ بعَملِه.
اسألْ بني إسرائيلَ كمْ آتيناهُمْ منْ أدلَّةٍ ظاهرة، وبَراهينَ كثيرة، على صِدقِ نبيِّهمْ موسَى عليهِ الصلاةُ والسلامُ فيما جاءَ به، ومعَ ذلكَ أعرَضوا عنها، واستبدَلوا الكفرَ بالإيمانِ بها!
ومَنْ يُبدِّلُ نعمةَ الإيمانِ التي جاءتْهُ بالشكِّ والإعراض، فإنَّ اللهَ ذو عقابٍ شَديد، وسوفَ يُجازيهمْ به.
لقدْ زُيِّنتِ الحياةُ الدُّنيا في عُيونِ الكافرينَ الذين رَضُوا برفاهيتِها، وتهالَكوا عليها، وتشبَّثوا بها، واطمأنُّوا إليها، ولم يتجاوزوها إلى ما هو أرقَى وأسمَى، وسَخِروا منَ المؤمنينَ الذين زَهِدوا فيها، وفضَّلوا حياةَ الجهادِ والدعوةِ والعِبادة، وأنفَقوا ما عندَهمْ ابتغاءَ وجهِ الله، ولو كانَ ما عندَهمْ قليلاً. فكانوا منَ المُكرَمينَ الذينَ حازوا الحظَّ الأوفرَ والدرَجةَ العُليا، والآخَرونَ ذُلُّوا وأُهينوا وكانوا في الدرَكاتِ السُّفلَى.
واللهُ يدَّخرُ الخَيرَ للمتَّقين، وهوَ الرازقُ الذي يَمنَحُ مَنْ يشاءُ مِنْ عبادهِ العطاءَ الجَزْل، بلا حصرٍ ولا تَعداد، جزاءَ ما أنفقوا مِنْ مالٍ ووقتٍ وقوَّةٍ في سَبيلِ الله.
كانَ النَّاسُ على شَريعةٍ واحدةٍ منَ الحقّ، ثمَّ اختلَفوا وصَاروا يعبدونَ الأصنامَ وغيرَها، فأرسلَ اللهُ إليهمُ الأنبياءَ ليبشِّروهمْ بالجزاءِ الحسَنِ إنْ همْ أطاعوا وثَبَتوا علَى الحقّ، وليُخوِّفوهمْ منَ العِقابِ الشَّديدِ إنْ همْ خالَفوا وعصَوا. وأنزلَ معهمُ الكُتبَ بالحقِّ والعَدلِ والقولِ الفَصل، ليَتدبَّرَها الناسُ ويَتحاكموا إلى ما فيها مِنْ أوامرَ ونَواه، ففيها الحقَّ، ولا قولَ بعدَها.
وما اختلفَ في هذهِ الكتبِ إلاّ الذينَ نَزلتْ فيهمْ بعدَما قامَتْ عليهمُ الحُجَجُ ووَضَحَ لهمُ الأمرُ ورسَخَ في عُقولِهم. وما حملَهمْ على هذا الاختلافِ إلا الحسَدُ والطَّمَع، والظُّلمُ والهوَى، والخُصومَةُ واللَّجاجَة، والعِنادُ والتمرُّدُ على الحقّ، والتهالُكُ على الدنيا.
وقدْ هدَى اللهِ بلُطفهِ وتيسيرهِ المؤمنينَ إلى الحقِّ فيما اختُلِفَ فيهِ مِنْ ذلك، لصَفاءِ نُفوسِهم، واستِعدادِهمْ لقَبولِ الحقّ، فأقامُوا على الإخلاصِ للهِ وحدَه، وعبادتهِ على بيِّنةٍ واستِقامَة، واعتَزلوا الخلاف، وتَركوا الأهواءَ والنَّـزوات، والخُصومةَ والعِناد.
واللهُ يَهدي مَنْ يشاءُ مِنْ خَلْقهِ إلى الطريقِ المستَقيم، ممَّنْ يَعْلَمُ فيهمُ الرغبةَ في اتِّباعِ الهُدَى وتقبُّلِ الحقّ. وهوَ الهادي إلى سَواءِ السَّبيل.
وهلْ ظننتُمْ أيُّها المسلِمونَ أنَّكمْ ستَنالونَ الجنَّةَ دونَ أنْ تُبْتَلوا وتُمْتَحَنوا، ودونَ أنْ يُصيبَكمْ مثلَما أصابَ الذينَ مِنْ قبلِكم، وقدْ نالتْ منهمُ الأمراضُ والآلام، والمصائبُ والكوارِث، والفقرُ والجَهدُ والخَوف؛ ليتبيَّنَ بذلكَ كلِّهِ صبرُكمْ وإيمانُكمْ وثباتُكمْ على الحقّ، الذي يَنبغي ألاّ تُزيحَهُ الاختِبارات، ولا تَعصِفَ بهِ البلايا. وقدْ أُزعِجوا إزعاجاً شَديداً وزُلزِلوا خَوفاً منَ الأعدَاء، وامتُحِنوا امتِحاناً عَظيماً، حتَّى صارَ الرسولُ وأتْباعهُ المؤمنونَ يَدعونَ بالنصرِ وقُربِ الفرَجِ والمَخرَجِ منْ هذا الضِّيقِ الشَّديد.
وإنَّ نصرَ اللهِ قريبٌ ممَّنْ صبرَ على مُكابدةِ المَشاقّ، وجاهدَ حقَّ الجهَاد، فكانَ أهلاً للنَّصر، وإنَّ معَ العُسرِ يُسراً وتَوفيقاً، ونَصراً وفرَجاً.
يسألُكَ أصحابُكَ أيُّها الرسولُ ما الذي يُنفِقونَهُ مِنْ أموالِهمْ وعلى مَنْ؟ فقلْ لهم: الأَولَى صَرفُ ما تَطوَّعتمْ بهِ على مَنْ لهُ حقٌّ عَليكم، وهم: الوالدانِ الواجبُ بِرُّهما، والأهلُ: الأقرَبُ منهمْ فالأقرَب، واليتامَى منَ الصِّغارِ الذين فَقدوا آباءَهم، وهمْ مَظِنَّةُ الحاجةِ لعدمِ قُدرتِهمْ على الكَسب، والمساكينُ: الذينَ لا يَجدونَ ما يَكفيهم، وابنُ السبيل: الغَريبُ الذي انقطعَ عنْ بلدهِ ولا يَجدُ ما يُبْلِغهُ إليه.
وما تُنفِقوا مِنْ أموالٍ على هؤلاءِ المُحتاجين، وما تَفعلوا مِنَ الطَّاعاتِ والقُرُبات، يَعلَمْها الله، وسيَحفظُها لكم، ويُجازيكمْ عليها أفضلَ الجزاء.
فَرَضَ اللهُ عَليكمُ الجِهادَ وهوَ شاقٌّ عليكم، تَكرههُ النفوسُ وتَستَثقِلُه، ولكنْ رُبَّما كَرِهتُمْ شيئاً وفيهِ خيرٌ لكم، فإنَّ نتيجتَهُ -إنْ شاءَ اللهُ- النصرُ على الأعداءِ وفتحُ بلادِ الكفرِ ورفعُ رايةِ الإسلام، أو الشهادةُ التي يَدخلُ بها المرءُ الجنَّة. وعسَى أنْ تحبُّوا شَيئاً وفيهِ شرٌّ لكم، فإنَّ القُعودَ عنِ الجهادِ والركونَ إلى الكسلِ والرفاهيةِ يُعطي نتيجةً عَكسيَّة، فيَستولي الأعداءُ على البلاد، ويَنهزمُ المسلِمون، ويَتحكَّمُ الكفّارُ في شؤونِهم.
فالجهادُ سَببٌ لحصولِ النصرِ والأمن.
واللهُ أعلمُ منكمْ بمآلِ الأمور، وأخبَرُ بما فيهِ صلاحُكمْ في دنياكمْ وآخِرَتِكم، فالتزِموا جانبَ الجهادِ والقُوَّة. وقدْ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيحِ مسلم: "مَنْ ماتَ ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ بهِ نفسَهُ، ماتَ على شُعْبةٍ مِنْ نِفاق".
– يَسألونكَ عنِ القِتالِ في الأشهرِ الحُرُم، وهي رَجبٌ وذو القَعْدةِ وذو الحِجَّةِ والمُحَرَّم، فقل: لا يَحِلُّ ذلك، بلْ هوَ أمرٌ جَلَلٌ وذَنبٌ كبير.
وإنَّ منعَ الناسِ عنِ الدِّينِ الحقّ، والكفرَ باللهِ العَظيم، وبالمسجدِ الحرام، عندما انتهكَ المشركونَ حُرمتَه، وآذَوا المسلمينَ مِنْ أهلِه، وفَتَنوهمْ في دينِهم، وعذَّبوهمْ ليَردُّوهمْ إلى الكفر، وأخرَجوهمْ منْ حَرَمِهم، هوَ أشدُّ وأعظمُ منَ القَتلِ في هذهِ الأشهر.
وهمْ مُقيمونَ على هذا المسلَكِ الخَبيث، فلا يَزالونَ يقاتلونَكمْ غيرَ تائبينَ ولا نازعينَ عنْ ذلك، حتَّى يُعيدوكمْ إلى ملَّةِ الكفرِ والضَّلال، إذا قَدِروا عليه.
ومَنْ يَرْجِعْ منكمْ عنْ دِينهِ ويَمُتْ على الكُفر، فقدْ فسدَ عملهُ كلُّه، وضيَّعَ ما كَسَبَهُ مِنْ حسَناتٍ في أثناءِ إسلامِه، ولم يَعُدْ يُفيدهُ إيمانهُ السَّابق، وسَيكونُ مِنْ أهلِ النار، الباقينَ فيها أبداً.
وقدِ اختلفَ العلماءُ في تَحريمِ القتالِ في الأشهرِ الحُرُم، هلْ هوَ باقٍ أمْ نُسِخ؟ وأشهرُ الأقوالِ على أنَّهُ منسوخ، بدلائلَ أخرَى، منها قولُهُ تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. والله أعلم.
– يَسألونَكَ عنْ حُكمِ الخَمْرِ والقِمار، فقلْ: في تَعاطِيهما ذَنبٌ كبيرٌ ومَفْسَدةٌ كبيرة، معَ شَيءٍ منَ المنافع، ففيهما ذهابُ العَقلِ والمالِ والدِّين، والمُخاصَمةُ والمشاجَرةُ والمُعاداة، وفيهما مَنافعُ جِسميَّةٌ ونَفسيَّةٌ مؤقَّتة، كالهضمِ والطرب، وربَّما ربحٍ في المقامَرة، لكنَّ إثمَهما والخسارةَ فيهما أكثرُ بكثيرٍ منْ منافعِهما.
وكانَ هذا أوَّلَ خَطوةٍ في تحريمِهما، بأسلوبٍ تربويٍّ ربانيٍّ حكيم، ثمَّ نزلَ التحريمُ الشاملُ في قولهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
ويَسألونكَ ماذا يُنفقونَ منْ أموالِهم؟ فقلْ لهم: ما زادَ منْ حاجتِكم.
وهكذا يبيِّنُ اللهُ لكمُ الأحكامَ ويوضِّحُها في حِكمةٍ وبَيان، لتتَفكَّروا وتَعرِفوا الحقَّ جيِّداً،
بما يفيدكمْ في الدنيا، ويُيَسِّرُ لكمْ أمرَ الآخِرة.
ويَسألونكَ عنْ كيفيَّةِ معاشرةِ اليتامَى في أموالِهم، فقُل: إنْ عَزلتُمْ أموالَهمْ وطعامَهمْ عمّا يَخصُّكمْ منها حتَّى لا يقعَ عليهمْ شَيءٌ منَ الخسارةِ فذلكَ حسَن، وإنْ خلطتُموها بأموالِكمْ فلا بأسَ عليكم، فهمْ إخوانُكمْ في الدِّين. واللهُ يَعلمُ نيّاتِكمْ في الإصلاحِ والإفساد. فالإصلاحُ في أمرِ اليَتامَى أفضَل، ومخالطتُهمْ فيما يُحَقِّقُ لهمُ الخيرَ أجدَى منِ اعتزالِهم.
ولو أرادَ اللهُ لضيَّقَ عليكمُ الأمرَ وأحرَجَكم، ولكنَّهُ وسَّعَ عليكمْ وخفَّفَ عنكم، وأباحَ لكمْ مخالطتَهمْ بالتي هيَ أحسَن، واللهُ قادرٌ على ما يُريد، حكيمٌ فيما يأمرُ به.