تفسير سورة البقرة

  1. سور القرآن الكريم
  2. البقرة
2

﴿وَلِلۡمُطَلَّقَٰتِ مَتَٰعُۢ بِالۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى الۡمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:241]


وتُعطَى المطلَّقاتُ حقَّهُنَّ منَ المُتعة، يعني منَ المال، كلٌّ بما يَقْدِرُ عليهِ ممّا يوافِقُ حالَهُ وكرمَهُ ومعاليَ أخلاقه، لتبقَى الأخوَّةُ الإسلاميَّةُ قائمة، ولئلّا تَنقلبَ الأمورُ إلى عَداوةٍ وبَغضاء. وهوَ ما يَعرِفهُ الذينَ يَخشَونَ ربَّهمْ فيما يأتونَ وما يذَرون.

﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [البقرة:242]


وهكذا يوضِّحُ اللهُ الأحكامَ الشرعيَّةَ الفاصِلة، لعلَّكمْ بذلكَ تَفهَمونَها وتَتدبَّرونَها وتَعرِفونَ الحِكمةَ منها، وما فيها منْ تَيسيرٍ ومَصلَحة.

﴿۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ الۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة:243]


هؤلاءِ قومٌ في قديمِ الزمان، كانوا بالآلاف، خرَجوا من ديارِهمْ هروباً مِنَ الموتِ الذي كانَ يُلاحقُهمْ فيه، ربَّما نَتيجةَ أوبئةٍ وأمْراضٍ كانتْ تُلازِمُهم، أو أنَّهُ وقعَ فيهمُ الطاعُون، فأرادوا الفِرارَ منها إلى غَيرِها، فلمّا وصلوا إلى المكانِ الجديد، أماتَهمُ اللهُ جميعاً في وقتٍ واحد، ليُعلَمَ أنَّ الحذَرَ منَ الموتِ لا يُغني ولا يُجدي إذا أرادَهُ الله، فإذا قدَّرَ شيئاً كانَ رغمَ كلِّ الاحتِياطات، فلا مَفَرَّ منْ حُكمِه. ثمَّ أحيَاهمُ اللهُ بعدَ موتِهم، في دليلٍ قاطعٍ على قُدرةِ اللهِ على إحياءِ الموتَى وبَعثِ الناسِ يومَ المعاد.

وهذا منْ فَضلِ اللهِ علَى النَّاس، أنْ يُريَهمُ الآياتِ والدلالاتِ والعِبَرَ ليُؤمِنوا ويَعتَبروا، ولكنَّ أكثرَهم، معَ هذا، لا يقومونَ بشكرِ المُنعِمِ عَليهم.

وهذا تَمهيدٌ لتَشجيعِ المسلِمينَ على القِتال، الذي يأتي في الآيةِ التالية، فإنَّ الأجلَ واحِد، في سِلْمٍ كانَ المرءُ أو في حَرب.

﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة:244]


وجاهِدوا في سَبيلِ اللهِ باذِلينَ أرواحَكمْ وأموالَكمْ لإعلاءِ كلمتِه، ولا تَخافوا منَ الموت، فإنَّ هذا لا يُقرِّبُ أجلاً ولا يُباعدُه، والفِرارُ لا يُنجي منَ الموتِ كذلك، فالأجَلُ مَحتوم، والرزقُ مَقسوم، والمُقَدَّرُ لا مَرَدَّ له. واللهُ يَسمَعُ ما تَقولونَ فيما تُدَبِّرون، إنْ جِهاداً أو تَخُلُّفاً، عليمٌ بما نوَيتُمْ عليهِ في نفوسِكمْ منْ ذلك. فسارِعوا إلى الامتِثال، واحذَروا خِلافَه.

﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقۡرِضُ اللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَاللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [البقرة:245]


إنَّ الذي يُعطي مِنْ مالهِ للجهادِ أو لأيِّ عملٍ صالح، إعطاءً حلالاً مقروناً بالإخلاصِ وطِيْبِ النفس، فإنَّ اللهَ يَقبَلُ منه، ويُضاعِفُ لهُ الأجرَ والثوابَ أضعافاً كثيرةً بما لا يَتوقَّعه.

واللهُ يُعطي ناساً ويُقَلِّلُ على آخَرِينَ في الرِّزق، لحِكمَةٍ يَشاؤها ومَصلحةٍ يُقَدِّرها. فأنفِقوا ولا تَبخلوا، فاللهُ هوَ الرزّاق، وبيدهِ الخيرُ كلُّه.

ولَسوفَ تُرجَعونَ إليهِ يومَ القيامةِ ليُجازيَكمْ على ما قدَّمتُمْ مِنْ أعمال، إنْ خَيراً فخَير، وإنْ شَرّاً فشَرّ.

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى الۡمَلَإِ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰٓ إِذۡ قَالُواْ لِنَبِيّٖ لَّهُمُ ابۡعَثۡ لَنَا مَلِكٗا نُّقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِۖ قَالَ هَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن كُتِبَ عَلَيۡكُمُ الۡقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُواْۖ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبۡنَآئِنَاۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ الۡقِتَالُ تَوَلَّوۡاْ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالظَّـٰلِمِينَ﴾ [البقرة:246]


وانظُروا إلى قومٍ منْ بَني إسْرائيلَ كانوا منْ بعدِ موسَى عليهِ السلام، فقالَ أشرافُهمْ ووجهاؤهمْ لنبيٍّ لهم: أقِمْ لنا مَلِكاً نَصْدُرْ عنْ رأيهِ في الحربِ ونُقاتِلْ في سبيلِ اللهِ أعداءَه.

فقالَ لهمْ نبيُّهم: أرأيتُمْ لو أُجِبتُمْ إلى ذلكَ وطُلِبَ منكمُ القِتالُ حقّاً ولم تَفُوا بما التزمتُمْ به؟

فقالوا: كيفَ لا نُقاتِلُ وقدْ أُخِذَتْ منّا ديارُنا، وسُبيَ أولادُنا، واغترَبنا منْ أهلينا، فإنَّ كلَّ هذا داعٍ قويٌّ إلى الطاعةِ والقِتال.

ولكنْ لمَّا عُيِّنَ لهمْ مَلِكٌ يقودُهمْ إلى الحرب، وجاءَ وقتُ القِتال، وطُلِبَ منهمُ الخروجُ معه، لم يَفُوا بوعدِهم، إلاّ القليلُ منهم، فقدْ تَخلَّفَ أكثرُهم.

واللهُ عليمٌ بتركِهمُ الجِهادَ ونقضِهمْ عهدَهم، ولسوفَ يُجازيهمْ عليهِ بعُقوبةٍ كبيرة.

﴿وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ اللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكٗاۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الۡمُلۡكُ عَلَيۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِالۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ يُؤۡتَ سَعَةٗ مِّنَ الۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةٗ فِي الۡعِلۡمِ وَالۡجِسۡمِۖ وَاللَّهُ يُؤۡتِي مُلۡكَهُۥ مَن يَشَآءُۚ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة:247]


وقالَ لهمْ نبيُّهمْ لمّا طَلبوا منهُ أنْ يعيِّنَ لهمْ مَلِكاً: إنَّ اللهَ قدِ اختارَ لكمْ طالوتَ مَلِكاً.

فقالوا: وكيفَ يَكونُ مَلِكاً عَلينا وهوَ ليسَ منْ بيتِ مُلك، بلْ هوَ مجرَّدُ رجلٍ عاديّ، فنحنُ أحقُّ بذلكَ منه. ثمَّ إنَّهُ لا يَملِكُ مالاً كثيراً ليقومَ بحقِّ المُلك.

فقالَ لهمْ نبيُّهم: إنَّ اللهَ قدِ اختارَهُ منْ بينِكمْ ليكونَ مَلِكاً عليكم، وقدْ آتاهُ عِلماً كثيراً، وقوَّةً في الجسم، وصَبراً في الحرب. ومَعرفةً بها أكثرَ منكم. واللهُ يُعطي مَنْ يَشاءُ ما يَشاء، فهوَ الحاكمُ لا أنتُم. وهوَ واسعُ الفَضل، يُوَسِّعُ على منْ يَشاءُ منَ الفقراءِ ويُغْنيه، عليمٌ بمنْ يَستَحِقُّ المُلكَ ممَّنْ لا يَستَحِقّ.

﴿وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [البقرة:248]


ثمَّ قالَ لهمْ نبيُّهم: إنَّ دليلَ اصطفاءِ طالوتَ مَلِكاً عليكمْ أنْ يأتيَكمُ التابوتُ بسَكينةٍ وهدوءٍ فتَسكنونَ إليه، معَ أشياءَ ممّا ترَكها آلُ موسى وآلُ هارون، ذُكِرَ أنَّها العَصا، وألواحٌ منَ التوراة... ويَحْمِلُ هذا التابوتَ ملائكةُ اللهِ وتَضعُهُ عندَ طالوت.

وفي ذلكَ آيةٌ عظيمةٌ لكمْ وعِبرة، تدلُّ على مُلكهِ عَليكم، إنْ كنتُمْ مصدِّقينَ بذلك.

﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ اغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا الۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ اللَّهِۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّـٰبِرِينَ﴾ [البقرة:249]


ولمّا خرجَ طالوتُ مَلِكُ بني إسرائيلَ بجُنودهِ وبمنْ خرجَ معَهُ منْ بني إسرائيل، قالَ لهم: سيَختبرُكمْ ربُّكمْ ليرَى طاعتَكم، حيثُ تَقطعونَ نهراً -وكانَ عذباً ماؤهُ- فمنْ شَرِبَ منهُ فلا يَصحبْني في الحَرب، إلاّ ما كانَ مقدارَ كفِّ اليد، فلا بأسَ به، ومنْ لم يَشْرَبْ فليَصحَبْني في هذا الوَجه.

فشرِبَ أكثرُهم، وذُكِرَ أنَّهمْ كانوا عِطاشاً، وبقيَ القَليلُ الذي لم يَشرب، طاعةً لله.

وكانتِ الحكمةُ منْ هذا الابتلاءِ فَرْزَ الضعفاءِ المتذبذبينَ منَ الثابتينَ الأقوياء، فالذين شَربوا ما كانوا ذوي إرادةٍ وطاعة، فما كانوا يَصلُحونَ للحَربِ والقِتال، بل إنَّ فعلَهُمْ هذا يُنْبِئُ عنْ ضَعفٍ وعِلَّة، وأنَّهمْ سيَكونونَ عالةً على بقيَّةِ الجُند، وأنَّهمْ لضَعفِ إرادتِهمْ قدْ يَبثُّونَ الهلعَ وروحَ الهزيمةِ بينهم. ففَصلَهمْ مَلِكُهمْ ولم يسْمَحْ لهمْ بالمشاركةِ في الحربِ الكبيرةِ التي تَنتظرُهم.

فلمَّا استقلَّ طالوتُ بالجنودِ المؤمنينَ الباقينَ معَه، وقدْ صاروا إلى قِلَّة، وقابَلوا جيشَ جالوتَ الكبير، قالوا: لا قُدرةَ لنا على مُحاربتِهم؛ لكثرتِهم، فقالَ لهمْ عُلماؤهمْ والخُلَّصُ منهم، المؤمنونَ بلقاءِ اللهِ وحُسْنِ ثوابِه: إنَّ جماعةً قَليلةً، مُؤمِنةً في عَقيدتِها وعَزمِها وتوكُّلِها، تَستَمِدُّ قوَّتَها منَ اللهِ ووعدهِ بالنَّصرِ والجزاءِ، ستَغلِبُ فئةً كبيرةً عدوَّةً لا تَعتمدُ سِوَى على قوَّتِها الظاهرة، بإذنِ اللهِ وتيسيرِه، فلا تُغني كثرتُهمْ معَ خِذْلانِ اللهِ لهم، ولا تَضرُّ قِلَّةُ الفِئةِ المؤمنةِ معَ تأييدهِ ونَصرهِ لهم، وإنَّ اللهَ سيثبِّتُ الفِئةَ الصابرةَ ويَنصُرها، ويُمِدُّها بالمعُونةِ والتوفيق، فتقدَّموا ولا تَتوانَوا.

والمؤمنونَ مُختلفونَ في قوَّةِ اليقينِ وقوَّةِ الإرادة.

﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَانصُرۡنَا عَلَى الۡقَوۡمِ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة:250]


ولمَّا تَقابَلوا معَ جَالوتَ وجُنودهِ في كثرتِهم الكاثرة، تصبَّروا وفوَّضوا أمرَهمْ إلى الله، ودَعَوْهُ بالنَّصر، وقالوا: اللهمَّ قوِّ عَزائمَنا، واملأْ قلوبَنا بالسَّكينة والرِّضا، وثبِّتْنا عندَ اللِّقاء، وانصُرْنا على هؤلاءِ الظَّالِمينَ الكافِرين.

﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ اللَّهُ الۡمُلۡكَ وَالۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ الۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى الۡعَٰلَمِينَ﴾ [البقرة:251]


فانتَصرَ المسلِمون، انتصرتِ الفئةُ القليلةُ المؤمنةُ بإذنِ اللهِ وتَوفيقِه، وقتلَ داودُ قائدَ الكفَرةِ جالوتَ، وكانَ داودُ في جَيشِ طالوت، فآتاهُ اللهُ المُلك مِنْ بعدِه، وزادَهُ نِعمَةً وتَفضُّلاً بأنْ آتاهُ النبوَّة، وخَصَّهُ بعلمٍ كثيرٍ مِنْ عندِه.

ولولا أنْ يَدفَعَ اللهُ ناساً بناسٍ آخَرين، في صراعاتٍ ومَعارك، وتنافُسِ قوىً وطاقَات، وتَدافُعٍ وسِباقات، كما دفعَ عنْ بني إسرائيلَ بمقاتلةِ طَالوتَ وشَجاعةِ داود؛ لهلَكوا.

فالفضلُ للهِ وحْدَهُ على العالَمين، حيثُ مَنَّ عليهمْ ورَحِمَهم، ودفعَ بعضَهمْ ببَعض، فلهُ الحُكمُ والحِكمة، والحقُّ والقُدرة.

﴿تِلۡكَ ءَايَٰتُ اللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِالۡحَقِّۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الۡمُرۡسَلِينَ﴾ [البقرة:252]


إنَّها آياتُ الله، والقَصَصُ الحقُّ الذي أنزلَهُ اللهُ عليكَ أيُّها الرسُولُ الكريم، ليؤمنَ الناسُ ويَعتَبِروا، ويَتبَصَّروا بحقائقِ الأمور، وما كانوا يعرفونَ هذهِ الآثارَ والأخبار، لكنَّكَ أخبرتَهمْ بذلكَ مِنْ وحي اللهِ وعلمِه، فأنتَ نبيٌّ مرسَلٌ منْ عندهِ لا رَيب.

﴿۞تِلۡكَ الرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ابۡنَ مَرۡيَمَ الۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ الۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَا اقۡتَتَلَ الَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ الۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ اخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَا اقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة:253]


لقدْ فضَّلنا رُسُلاً على رُسُلٍ آخَرين، فقدْ كلَّم اللهُ بَعضاً منهم، كموسَى عليهِ السلام، ورفعَ بعضَهم درجاتٍ أعلى منْ درجاتِ آخَرين، كمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي فضَّلَهُ اللهُ على العالَمين، فهو رسولُ اللهِ إلى الناسِ كافَّة، ونَسَختْ رسالةُ الإسلامِ التي جاءَ بها سائرَ الرسالاتِ السابِقة. وآتَينا نبيَّ اللهِ عيسى بنَ مريمَ عليهِ السلامُ دلائلَ ومُعجِزاتٍ قويَّة، كإحياءِ الموتى بإذنِ الله، وغيرِها، تُثبتُ صحَّة نبوَّتهِ وما جاءَ بهِ لبني إسرائيل، وأيَّدناهُ بجبريلَ عليه السلام، يُثَبِّته ويُقَوِّيه.

وقدْ تقاتلَ أتباعُ الرسلِ مِنْ بعدُ نتيجةَ اختلافِهم، على الرَّغمِ مِنْ كونِ أنبيائهمْ جميعاً دعاةً إلى عِبادةِ اللهِ الواحدِ الأحَد، وعلى الرغمِ مِنْ وضوحِ الآياتِ البيِّناتِ والحُججِ السَّاطعاتِ لدَى الفريقِ المؤمن، فكانَ منهمْ مَنْ آمَن، ومنهمْ مَنْ كفَر، ولو أرادَ اللهُ لَمَا تَقاتلوا، ولكنْ هذهِ إرادَتُهُ ومَشيئتَه، ليدفعَ الكفرَ بالإيمان، وليثبِّتَ العقيدةَ الصحيحةَ في الأرض، لتنتَشِرَ ويَعرِفَها الناس.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خُلَّةٞ وَلَا شَفَٰعَةٞۗ وَالۡكَٰفِرُونَ هُمُ الظَّـٰلِمُونَ﴾ [البقرة:254]


أيُّها المؤمنون، إنَّ الدُّنيا فرصةٌ للعَملِ الصَّالح، فأنفِقوا ممّا تفضَّل اللهُ بهِ عليكمْ مِنْ رِزق، قبلَ أنْ تُغلَقَ صفحةُ الدُّنيا فلا يُقبَلُ منْ أحدٍ عَمَل، وإنَّ أمامَكمْ يومَ القيامَة، الذي لا يوجدُ فيهِ بَيعٌ ولا شِراءٌ حتَّى تُجَرِّبوا رِبحاً، فلا مالَ يَبذلهُ المرءُ ليَفديَ بهِ نفسَه، ولا تَنفعُ صداقةُ أحدٍ ولا قَرابتُهُ لمسامحتِكم، ولا وَساطاتٌ جاريةٌ لتَشفَعَ لكمْ وتَعفوَ عنكم، بلِ الأمرُ كلُّه يَومَئذٍ لله.

والكافِرونَ همْ أكثرُ الناسِ خَسارةً في ذلكَ اليوم، فقدْ أنكروا الحقّ، وظلموا أنفسَهمْ بعدمِ اتِّباعه، وظلَموا غيرَهمْ عندما صَدُّوهمْ عنِ الهُدَى، وحَرَموهمْ منْ خيرٍ كثير، فبَاؤوا بإثمِهمْ وآثامِ الآخَرين.

﴿اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الۡحَيُّ الۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۗ مَن ذَا الَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ الۡعَلِيُّ الۡعَظِيمُ﴾ [البقرة:255]


هوَ اللهُ الواحِدُ الأحَد، الذي لا يُعْبَدُ بحقٍّ إلاّ هو، الحيُّ الدائمُ الباقي الذي لا يَعتريهِ الموتُ ولا سبيلَ للفَناءِ إليه، فهوَ ذو حياةٍ أزليَّةٍ لا بِدايةَ لها، وأبديَّةٍ لا نهايةَ لها، وهوَ الموجودُ القائمُ بتَدبيرِ كلِّ شَيءٍ وحفظِه، لا يَطرأ عليه فُتورٌ ولا يَغْلِبُ عليهِ وسَنٌ ولا نُعاس، فضلاً عنِ النومِ المُستَغرِق، فهوَ مُنَـزَّهٌ سُبحانَهُ عنْ هذا وذاك، لا يَغْفُلُ عنْ شَيءٍ لحظَة.

كلُّ ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلكٌ لهُ وتحتَ سيطرتهِ وإرادتِه.

ولا يَتجاسَرُ أحدٌ على طَلبِ الشفاعةِ منهُ إلاّ بإذنه، فالكلُّ لهُ عبيد، خاضِعونَ لمشيئتِه، يَطلبونَ منهُ الإذن، ويَشفعونَ في حُدودِ المأذونِ لهمْ به، ولهُ المُلْكُ والعظَمةُ والجَلال.

وعِلْمُهُ مُطلَقٌ شامِلٌ كامِلٌ، مُحيطٌ بجَميعِ الكائنات، ماضِيها وحاضرِها ومَستَقبلِها، وما تُسِرُّهُ وما تُظهِرُه. ولا يَعرِفونَ شَيئاً مِنْ علمهِ إلاّ إذا أطلعَهم عليه، ممّا يناسبُ حالَهمْ وحاجتَهم، ممّا سخَّرَ لهمْ في الأرضِ وفي السماءِ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [سورة فُصِّلَت: 53].

وقد وَسِعَ كرسيُّهُ السَّماواتِ والأرض.

ولا يُتْعِبُهُ حِفْظُ ما فيهما ولا يُثْقِلُهُ شيءٌ مِنْ ذلك، ولا ما بينَهما، بلْ هوَ سهلٌ عليهِ يَسير، فهوَ الرقِيبُ على جميعِ الكائنات، لا يَغيبُ عنهُ شيءٌ مِنْ حركاتِها، والأشياءُ كلُّها صَغيرةٌ ومَتواضِعَةٌ بالنسبةِ إلى قُدرتهِ وعظَمَتِه، وهيَ جميعاً مُحتاجَةٌ إلى حِفظهِ وتَدبيرِه.

وهوَ المُتَفرِّدُ بالعلوِّ والعظَمة، والجلالِ والجبَروت، الرفيعُ فوقَ خَلْقِه، المُتعالي عنِ الأشياءِ والأمثال، الكبيرُ الذي لا شيءَ أعظمُ منه.

ومهما عَلا إنسانٌ فلا يتجاوزُ مقامَ العبوديةِ للهِ العَظيم!

وهذهِ آيةُ الكرسيِّ، شأنُها عَظيم، وردَ في أحاديثَ صحيحةٍ أنَّها أعظمُ آيةٍ في القُرآنِ الكريم. كما صحَّ قولهُ صلى الله عليهِ وسلَّم: "مَنْ قرأ آيةَ الكرْسي ِّ دُبُرَ كلِّ صَلاةٍ مَكتوبة، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخولِ الجنَّةِ إلاّ أنْ يَموت".

﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي الدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشۡدُ مِنَ الۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِالطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِاللَّهِ فَقَدِ اسۡتَمۡسَكَ بِالۡعُرۡوَةِ الۡوُثۡقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَاۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:256]


لا يُجْبَرُ أحدٌ على الدخُولِ في الإسْلام، ولا لزومَ لهذا الإكراهِ ولا فائدةَ منه، فإنَّ الإسلامَ نَهجٌ واضحٌ بيِّنٌ يُخاطِبُ عقلَ الإنسانِ وقُوَاهُ وطاقاتهِ كلَّها، وهوَ دينُ الفطرةِ والبَداهةِ والإقناع، وليسَ دينَ الغُموضِ والقَهْرِ والإكراهِ، ولا يُفيدُ الإسلامَ وأهلَهُ رجلٌ أبدى اعتناقَهُ للإسلامِ وهوَ غيرُ مقتنعٍ به، بلْ هذهِ صفةُ المنافقينَ الذينَ ذمَّهمُ اللهُ تعالى في كتابهِ ورفضَ قَبولَ إسلامِهم، وهمْ بهذا يكونونَ عالةً على المجتمعِ الإسلامي، ومَرَضاً يَسري في جسمِه.

وفي كلِّ الأحوالِ لا يُقْبَلُ من المرءِ إلاّ إيمانٌ عنْ طَواعية، كما لا يُقْبَلُ منهُ عَمَلٌ إلا عنْ رضىً واقتِناع.

وقدْ وضَحَ الفرقُ بين الإيمانِ والكُفر، بينَ طَريقِ الحقِّ وطَريقِ الضَّلال، وأودعَ اللهُ في الإنسانِ ما يُدرِكُ بهِ ذلك، فمَنْ تجنَّبَ الأصْنام، وتركَ ما يدعو إليهِ الشيطانُ مِنْ عبادةِ غيرِ الله، ولم يَتجاوزِ الحدودَ التي حدَّها اللهُ للعباد، وآمنَ باللهِ وحدَه، واستمَدَّ مِنْ كتابهِ طريقَ العِبادةِ والعَمل، فقدْ تمسَّكَ منَ الدِّينِ بأقوَى سبَب، وقبضَ على عُقْدَةٍ قويَّةٍ متمكِّنةٍ لا تَنفَصِم، وحَبلٍ مَتينٍ لا يَنقطِع، وثبتَ على الطريقِ الصحيح، واستقامَ على النهجِ المُبين.

واللهُ يَسمعُ ما تَلهَجُ بهِ الألسِنة، عليمٌ بما تُكِنُّهُ القلوبُ مِنْ نيّاتٍ وعَقائد.

﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ الطَّـٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [البقرة:257]


إنَّ اللهَ يؤيِّدُ عبادَهُ المؤمنينَ فيقوِّي عزائمَهمْ ويَهديهِمْ إلى الحقّ، ويُخرِجُهمْ منْ ظُلماتِ الكُفرِ والشكِّ إلى نورِ الحقِّ المُبين، وإلى ضيائهِ وإشعاعهِ الصافي، الذي يَملأ القلبَ اطمئناناً ويَزيدُهُ ثَباتاً.

أمّا الكافرونَ الذينَ رَكنوا إلى الطاغوتِ ورَضُوا بالضَّلال، فإنَّ الشيطانَ يُزيِّنُ لهمْ ما همْ فيهِ منَ الغَيِّ والضَّلالِ حتَّى يَثْبُتوا عليه، بلْ يَزيدُهمْ غِوايةً واعوِجاجاً، وظَلاماً وهَوًى، وشُروداً وتِيهاً، وشَكًّا وقلَقاً.

وهؤلاءِ مَصيرُهمُ النار، ماكثونَ فيها أبدًا، فهوَ اللائقُ بأصحابِ الظُّلمات، الذين آثَروها على النورِ والحقِّ المُبين، ولا يَستوي الحقُّ والباطِل، كما لا يَستوي أهلُهما، ولا يَستوي كذلكَ مصيرُهما(16).


(16) حكمَ عليهم بالخلودِ في النارِ لكفرهم. (ابن عطية).

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأۡتِي بِالشَّمۡسِ مِنَ الۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ الۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَۗ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [البقرة:258]


انظرْ إلى هذا المَلِكِ المتكبِّرِ المتعنِّت، الذي أعطاهُ اللهُ منَ المالِ ما أعْطاه، ثمَّ جاءَ يُجادلُ النبيَّ إبراهيمَ عليهِ السلامُ ويُخاصِمهُ في ربِّه، وذلكَ لمّا رأى نفسَهُ مختصّاً بمالٍ ومُلكٍ ليسَ عندَ غَيرِه، ويأمرُ وينهَى كما يَشاءُ فيُسمَعُ ويُطاع، فقالَ لهُ إبراهيمُ عليهِ السلام، لِيُريَهُ حَقيقَةَ نفسهِ وضَعْفَ قوَّتهِ وإرادتهِ أمامَ ربِّهِ الخالق: إنَّ اللهَ يُحْيي ويُمِيتُ، وإنَّ ما يُرَى مِنْ ذلكَ في عالمِ الإنسانِ والحيوانِ دليلٌ على وجودِه، وعلى تَصريفهِ للكونِ وتَدبيرِهِ لما يَجري فيهِ وحدَه، فهي لا تَحْدُثُ بنفسِها، بلْ لا بدَّ لها مِنْ مُوجدٍ ومِنْ مدبِّر، وهوَ الذي يَسْلُبُ حياةَ مَنْ شاءَ متَى شاء، بأسبابٍ ظاهرةٍ أو باطِنة، مَعروفةٍ أو غيرِ مَعروفة.

فالإحياءُ والإماتةُ مِنْ صفاتِ هذا الإلهِ الذي لا يَكونُ أحدٌ مثلَه، ولا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يَقومَ بما يقومُ هوَ به، وهوَ الذي أعبدهُ وأدعوكَ وأدعو الناسَ إلى الاستسلامِ لهُ وعبادتِه، فهوَ الخالق، والمُحيي والمُميت، الذي بيدهِ كلُّ شَيءٍ في هذا الكون، فلا إلهَ إلا هو، ولا عبادةَ إلاّ له.

واغترَّ هذا المَلِكُ المتكبِّرُ بما يَملِكُ مِنْ قُوىً بشَريَّةٍ وسَيطرة، فتمادَى في غَيِّهِ وقالَ لإبراهيم: أنا أيضاً أُحيي وأميت!

ذكرَ غيرُ واحدٍ أنَّهُ أوتيَ برَجُلَينِ استحقّا القَتل، فأمرَ بقَتلِ أحدِهما وعفَا عنِ الآخَر، فذكرَ أنَّهُ أماتَ الأوَّلَ وأحيَا الآخَر، فكانَ هذا مفهومَ الإحياءِ والإماتةِ عندَه!

ولم يُرِدْ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ أنْ يُطيلَ معَهُ الجِدالَ وهوَ بهذهِ العقليَّةِ المتكبِّرةِ المُنكَرة، فأرادَ أنْ يُفهِمَهُ أنَّ الإلهَ المقصودَ بعبادتهِ هوَ المتصرِّفُ في الكونِ كلِّه، وأنَّ هذهِ القوانينَ الكونيَّةَ الموجودةَ هي منْ صُنعهِ وتَدبيرِه، وطلبَ منهُ تغييرَ قانونٍ واحدٍ منْ هذهِ القوانينِ الكثيرةِ المبثوثةِ في الكون، بما أنَّهُ يدَّعي أنَّهُ هوَ الآخَرُ فيه صفةُ الربوبية، وقالَ له: إنَّ اللهَ جعلَ الشمسَ تُشرقُ منَ الشرق، فَأْمُرْها أنتَ لتُشْرِقَ منَ الغرب!

فتحيَّرَ ذلكَ المَلِكُ وسكت، وعَجَزَ عنِ الكلام، وصُدِمَ بهذهِ الحُجَّةِ الدامغةِ التي لم تَدَعْ لهُ منطقاً يُدافعُ بهِ عنْ نفسِه. لكنَّهُ لم يُسَلِّمْ بالأمرِ ولم يؤمن، لأنَّهُ لم يرغبْ في الحقّ، ولم يَتلمَّسْ طريقَ الهِداية. واللهُ لا يَهدي هؤلاءِ الذينَ يَظلِمونَ أنفسَهم، فيَختارونَ طريقَ الضلالِ والعِناد، على الرَّغمِ منْ وضوحِ الحُجَّةِ ضدَّهم.

﴿أَوۡ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ اللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَانظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَانظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَانظُرۡ إِلَى الۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [البقرة:259]


وانظرْ إلى هذا الذي مرَّ على قريةٍ خَرِبةٍ مُحَطَّمةٍ على قواعدِها، قدْ سقطتْ سقوفُها وجُدرانُها، ليسَ فيها أحد، ولا يَنطِقُ فيها شَيء. فوقفَ الرجلُ أمامَ هذا المشهدِ المحطَّمِ الميِّتِ البالي، وقال: كيفَ يُحيي اللهُ هذهِ القَريةَ بعدَ أنْ ماتَ فيها كلُّ شيء، فلا حِسَّ ولا حرَكة؟!

فأماتَهُ اللهُ مائةَ عام، ثمَّ أحياهُ بقُدرتِه، وقيلَ له: كمْ بَقيت؟

قال: بقيتُ يوماً أو أقلَّ! قيلَ له: بلْ بقيتَ مائةَ عامٍ مَيتاً! فانظرْ إلى قُدرتِنا على إماتَتِكَ وعلى إحيائك، وانظرْ إلى طعامِكَ وشرابِكَ كيفَ حَفِظْناه، فلمْ يَتعفَّنْ ولم يَتغيَّرْ طَعمُهُ كلَّ هذهِ المدَّةِ الطويلة، بلْ هوَ كما تركتَهُ قبلَ أنْ نُميتَك.

وهذا حمارُكَ الذي كنتَ راكباً عليه، انظرْ كيفَ نَخِرَتْ عظامهُ وتمزَّقتْ أوصالُه!

ولنَجعَلَكَ عِبرةً ودلالةً على البَعثِ بعدَ الموت.

وانظرْ إلى هذهِ العِظامِ المتفرِّقةِ لحمارِكَ كيفَ نرفعُ بعضَها إلى بعضٍ ونجمعُها في أماكنِها ونُلَبِّسُها لَحماً ونُحييها!

فلمّا تبيَّنَ لهُ كلُّ ذلك، وتَوضَّحَ لهُ الأمرُ عِياناً، أيقنَ بذلكَ تمامَ الإيقان، وقال: أعلمُ أنَّ اللهَ قادرٌ على كلِّ شيء، لا يَصعُبُ عليهِ أمر.

﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ الۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ الطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ اجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ادۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَاعۡلَمۡ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [البقرة:260]


وقال نبيُّ اللهِ وخليلهُ إبراهيمُ عليهِ السلامُ داعياً ربَّه: بَصِّرْني كيفَ تُحيي الموتَى يا ربّ، لأرَى ذلكَ عِياناً.

فقالَ لهُ ربُّه: أوَلم تؤمنْ بأنِّي قادرٌ على الإحياءِ يا إبراهيم؟

وهوَ يعلمُ سبحانَهُ أنَّهُ أثبتُ الناسِ إيماناً وأقواهُمْ يَقيناً.

فقالَ عبدهُ ونبيُّهُ إبراهيمُ عليهِ السلام: بلَى يا ربّ، قدْ عَلِمتُ وقدْ آمَنت، ولكنِّي أريدُ أنْ أرَى ذلكَ عِياناً، ليَنضمَّ ما أراهُ إلى ما أعتَقِدُهُ يقيناً، فأزدادُ بالمشاهدةِ بَصيرة، ويطمئنُّ بذلكَ قلبي، فإنَّهُ يَسْكنُ إذا عاينَ شيئاً وشاهدَه، وليسَ الخبرُ كالمعَايَنة.

قالَ صاحبُ "روح المعاني": ولا أرَى رؤيةَ الكيفيَّةِ زادَتْ منْ إيمانهِ المطلوبِ منهُ عليهِ السلام، وإنَّما أفادتْ أمراً لا يَجِبُ الإيمانُ به".

فاستجابَ اللهُ دُعاءَه، وأراهُ كيفيَّةَ الإحياءِ عِياناً، وقالَ له: خُذْ أربعةَ طُيور، فاذبَحْها وقَطِّعْها ومَزِّقْها، وفَرِّقْ أجزاءَها على جِبال، ثمَّ نادِها، فَسوفَ تأتيكَ مُسرِعَة. فاجتَمعتْ أجزاؤها مرَّةً أخرَى، وعادتْ إلى الحياةِ بإذنِ الله.

واعلمْ أنَّ اللهَ عزيزٌ لا يُعْجِزُهُ ولا يَمتنعُ منهُ شيء، حكيمٌ فيما يَقولُ ويَفعل، ويُشَرِّعُ ويُقَدِّر.