تفسير سورة البقرة

  1. سور القرآن الكريم
  2. البقرة
2

﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة:141]


- لَقَدْ مَضَتْ تلكَ الأمَّة، فَلَها أعمالُهَا، ولكمْ أعمالُكُمُ التي اكتَسبتُموها، ولن يُغْنِيَ عنكمُ انتسابُكُمْ إليهمْ واتِّكَالُكُمْ عَلَى أعمالِهمْ مِنْ غَيْرِ مُتَابَعَةٍ لهمْ في أعمالِهمُ الطيِّبَة، فلا تَغُرَّنَّكُمُ النسبَةُ إليهم، حتَّى تَكونوا مثلَهُمْ في الطَّاعَةِ واتِّباعِ الرسُل.

﴿۞سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ الۡمَشۡرِقُ وَالۡمَغۡرِبُۚ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [البقرة:142]


أُمِرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَستَقبلَ في صَلاتهِ الصخرةَ مِنَ بيتِ المَقدسِ أوَّلاً، فكانَ هوَ والمسلمونَ على ذلك، ستةَ عشرَ أو سبعةَ عشرَ شهراً، كما في صحيحِ البخاريّ. وكانَ عليه الصلاةُ والسلامُ يَبتَهِلُ إلى اللهِ أنْ يَجعلَ قِبْلَتَهُ الكعبة، قبلةَ إبراهيمَ عليهِ السلام، فأُجيبَ إلى ذلك، فحصلَ شكٌّ وزيغٌ عنِ الحقِّ منْ أهلِ النفاقِ والريبِ والكفَرةِ من اليهود، وقالوا: ما الذي صَرفهمْ عنْ قِبلتِهمُ الأولى؟ وخاصَّةً أنَّ اليهودَ كانوا يتذرَّعونَ بأنَّ الاتجاهَ إلى بيتِ المقدسِ يَعني أنَّ دينَهمْ هوَ الأصل، وأنَّهُ هوَ الصَّحيح. فصَاروا يُلقُونَ بذورَ الشكِّ والشائعاتِ في صفوفِ المجتمعِ الإسلاميّ، حولَ مصيرِ صلواتِهمُ السابقة، وسببِ الانتقالِ منْ قِبلةٍ إلى أخرى، وأنَّهُ يدلُّ على عدمِ السدادِ، فليسَ بوحي...!

فسمّاهمُ اللهُ تعالَى "السفهاء"، وهمُ الذين خفَّتْ عقولُهم، وامتَهنوها بالتقليدِ والإعراضِ عنِ التدبُّرِ والنظَر، أو أنَّ السفيهَ هوَ الكذّابُ المتعمِّدُ خلافَ ما يَعلم، أو الظَّلومُ الجَهول. فإنَّ اللهَ تعالَى لهُ مطلقُ الحكمِ والتصرُّفِ في الأمر، فلهُ المَشرِقُ والمَغرِب، الجهاتُ كلُّها له، فأينَما حدَّدَ القِبلةَ يتوجَّهُ المؤمنونَ إليها دونَ اعتراض، ما عَليهمْ إلا الطاعَةُ وامتثالُ الأمر. والكعبةُ أشرفُ بيوتِ اللهِ في الأرض، فهي بناءُ إبراهيمَ عليهِ السلام. ويَهدي اللهُ مَنْ شاءَ مِنْ عبادهِ إلى نَهجهِ الصحيحِ إذا رأى فيهمْ نيَّةً وتوجُّهاً إليه، أمّا السفهاءُ ففي الغَيِّ والضلالِ يَتَخبَّطون.

﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا الۡقِبۡلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [البقرة:143]


وكذلكَ جَعلناكمْ –يا أمَّةَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم- خيارَ الأُمَم، لتَكونوا شُهداءَ عَليهمْ يومَ القيامة، بأنَّ اللهَ أرسلَ الرسلَ إليهمْ فبلَّغوا ونصَحوا، ولأنَّ دينَكمْ هوَ الحقُّ مِنْ بينِ أديانِ الأممِ ومَذاهبِها؛ فقدْ وجَّهكمُ اللهُ إلى قِبلةِ إبراهيمَ أبي الأنبياء، وخصَّكمْ بأكملِ الشرائع، وأقومِ المناهج، وأوضَحِ المذاهب. ثمَّ يكونُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكمْ يومَ القيامة، بأنَّهُ بلَّغكمْ رسالةَ ربِّه.

وقد كانَ الأمرُ باستقبالِ المسجدِ الأقصَى أولاً امتحاناً، ليتبيَّنَ منْ يُطيعُ اللهَ ومَنْ يُخالِفُه، وخاصَّةً أنَّ العربَ كانوا متعلِّقينَ بالبيتِ كيفَما كان، وكانَ التحوُّلُ منهُ صَعباً عليهم، فأرادَ اللهُ أنْ يَصرِفَ قلوبَ مَنْ أسلمَ منهمْ إلى الطَّاعةِ المطلَقة، والتخلُّصِ منْ الرواسبِ الجاهليَّة، مهما كانَ شأنُها، حتَّى تأخذَ هذهِ التربيةُ مأخذَها منَ النفوسِ وتتدرَّبَ على الطاعةِ والامتِثال، وهو وإنْ كانَ عَظيماً على النفوس، إلاّ أنَّهُ سَهلٌ على القلوبِ المؤمنةِ المُهتدية، التي أيقنتْ بتصديقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ ما جاءَ بهِ هوَ الحقُّ الذي لا شكَّ فيه، وأنَّ اللهَ يَفعلُ ما يشاءُ ويَحكمُ ما يُريد، فما على المسلمِ إلاّ الطاعةُ والامتِثال.

وما كان اللهُ ليُضِيعَ صلواتِكمُ التي توجَّهتُمْ فيها إلى بيتِ المقدسِ سابقاً، فلا يَضِيعُ ثوابُها عندَه، إنَّهُ رؤوفٌ رحيمٌ بعبادِه، يوصِلُ إليهمُ النِّعمَةَ الصافيةَ بفضلهِ ورَحمتِه.

﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي السَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ الۡمَسۡجِدِ الۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ الۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة:144]


كانَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أن يُوَجَّهَ إلى الكعبة، كما في صحيحِ البخاريّ، فقالَ لهُ ربُّه: لَنُعطينَّكَ طلبَك، ولنُمَكِّننَّكَ منِ استقبالِ القبلةِ التي تُحِبُّها وتَشتاقُ إليها، فحوِّلْ وجهَكَ نحوَ المسجدِ الحرام، وحيثُما كنتُمْ أيُّها المسلمونَ في أنحاءِ الأرضِ جميعاً اتَّجِهوا إلى هذهِ القِبلة، إلى أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها.

وإنَّ اليهودَ والنصارَى يَعلمونَ أنَّ توجُّهَكمْ إلى البيتِ هوَ الحقّ، بما في كتبِهمْ مِنْ صفةِ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأمَّته، ولعلمِهمْ أنَّ الكعبةَ هيَ بيتُ اللهِ الأوَّل، الذي بنَى قواعدَهُ واتَّجهَ إليه إبراهيمُ عليهِ السلام، ولكنَّهمْ لا يَقتَنِعونَ بالأدلَّة، ويَكتمونَ ما في كتبِهمْ مِنْ عِلمٍ ولا يُظهرونَه، واللهُ ليسَ بغافلٍ عمّا يَعملون، وسيُجازيهمْ في الدنيا والآخرةِ على ذلك. وليسَ بغافلٍ عنْ ثوابِ المؤمنينَ وجزائهمْ كذلك.

﴿وَلَئِنۡ أَتَيۡتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٖ مَّا تَبِعُواْ قِبۡلَتَكَۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٖ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعٖ قِبۡلَةَ بَعۡضٖۚ وَلَئِنِ اتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذٗا لَّمِنَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [البقرة:145]


فلو أقمتَ لليهودِ والنصارَى الحُجَّةَ تِلوَ الحُجَّةِ على صِحَّةِ ما جئتَ به، وأيَّدكَ اللهُ بالمعجِزاتِ في ذلك، لَمَا تَركوا أهواءَهم، ولمَا تَوجَّهوا إلى القِبلةِ التي ولّاكها ربُّك. ولنْ تتَّجهَ إلى قبلتهمْ أيضاً، ولنْ تتَّبِعَ أهواءَهم؛ لمتابعتِكَ أمرَ الله، وطلبِكَ رِضاه. ولنْ يتَّبعَ اليهودُ قِبلةَ النصارَى، ولا النصارَى يتَّبعونَ قبلةَ اليهود، فالعَداوةُ بينَهما شَديدة. ولو أنَّكَ اتَّبعتَ مرادَهمْ بعدَ الذي وجَّهكَ اللهُ إليهِ ورضيَهُ لكَ مِنَ القِبلة، لكنتَ مُؤثِراً الباطلَ على الحقّ.

وهوَ على الفَرَضِ والتقدير، وتحذيرٌ للأمَّةِ منْ أهواءِ أهلِ الكتابِ وأضاليلِهم.

﴿الَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ الۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنۡهُمۡ لَيَكۡتُمُونَ الۡحَقَّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة:146]


إنَّ أهلَ الكتابِ منَ اليهودِ والنصارَى يَعرفونَ محمَّداً صلى الله عليه وسلم وصِحَّةَ ما جاءَ بهِ كما يَعرِفُ أحدُهمُ ابنَه! وهوَ مَثَلٌ يُضْرَبُ في صحَّةِ الشيءِ والتيقُّنِ منهُ تماماً، فمَعرِفةُ الابنِ هي قمَّةُ المعرِفة؛ وذلكَ لوصفِ الرسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الدقيقِ في كتبِهم، وصفةِ أمَّته، وما إلى ذلك، ومنها القِبلةُ التي يتوجَّهونَ إليها. لكنَّ فريقاً منهمْ معَ هذا التحقُّقِ والتأكُّدِ في مَعرِفتِه، يَكتمونَ الناسَ ما في كتبِهمْ من ذلك، وهمْ يَعلمونَه.

﴿الۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الۡمُمۡتَرِينَ﴾ [البقرة:147]


إنَّ ما أُنزِلَ إليكَ أيُّهاِ الرسولُ هوَ الحقُّ الذي علَّمَكَ ربُّك، لا مِريَةَ فيهِ ولا شكّ، فلا تكنْ منَ الشاكِّينَ في ذلك.

وهوَ إيحاءٌ مِنْ ربِّ العزَّةِ إلى أمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعدمِ التأثُّرِ بأباطيلِ اليهود، وبالتنبُّهِ إلى أحابيلِهم.

﴿وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَاسۡتَبِقُواْ الۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [البقرة:148]


ولكلِّ أهلِ دِينٍ مِنَ الأديانِ قِبلةٌ يتوجَّهونَ إليها ويَرضَونَ بها، ولنْ يتَّبعَ بَعضُهمْ قِبلةَ بَعض، فما على المسلمينَ سِوَى التوجُّهِ إلى عَملِ الخَير، والتنافسِ في رِضَى الله، والانصرافِ إلى ما يُفيدُ ويُثمِر، والابتعادِ عنْ شُبَهِ الأعداءِ وأفكارِهمُ المنحرِفَة، وإنَّ اللهَ سبحانَهُ سيَجمعُ الموافِقَ والمخالِفَ منكم، وإنْ تفرَّقتْ أبدانُهم، وهوَ قادرٌ على الإماتة، والإحياء، والجمع، لا يُعجِزُهُ شَيء.

﴿وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ الۡمَسۡجِدِ الۡحَرَامِۖ وَإِنَّهُۥ لَلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَۗ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة:149]


وهذا أمرٌ فيهِ تأكيد، فحيثُما خرجتَ وأينَما كنتَ أيُّها الرسُول، توجَّهْ في صلاتِكَ نحوَ المسجدِ الحرام، فإنَّهُ القِبلةُ الخالصةُ التي رَضِيَها اللهُ لكم، وهوَ الثابتُ الموافِقُ للحِكمَة، وليسَ اللهُ بغافلٍ عنِ امتثالِكمْ وطاعتِكم، ولسوفَ يُجازيكمْ بذلكَ أحسنَ جزاء.

﴿وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ الۡمَسۡجِدِ الۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَاخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [البقرة:150]


ثمَّ تجديدٌ وتأكيدٌ للمرَّةِ الثالثةِ لأهميَّته، ولقطعِ الطريقِ على الشُّبَهِ والتشكيكاتِ التي زادَ سعيرُها في المجتمعِ الإسلاميِّ الجديدِ منْ قِبَلِ الأعداءِ المتربِّصينَ بالإسلام، للقضاءِ عليهِ وهو ما زالَ في أوَّله، ولقطعِ النظرِ كذلكَ عنْ أيِّ شَيءٍ ممّا عَداه، فالكعبةُ هي القِبلةُ الأخيرةُ لمنْ أسلمَ وجهَهُ للهِ إلى أنْ تَقومَ القيامة. فكلَّما خَرجتَ وأينَما كنتَ أيُّها النبيُّ اتَّجِهْ نحوَ المسجدِ الحرام، وأينما كنتُمْ أيُّها المسلمونَ جميعاً توجَّهوا نحوَه؛ حتَّى لا يَبقَى أدنَى شكٍّ عندَ أهلِ الكتابِ أنَّكمْ أمَّةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الموعودَة، حيثُ يجدونَ عندَهمْ أنَّ قِبلتَكمْ ستَكونُ الكعبة، ولو أنَّهمْ فَقدوا ذلكَ منكمْ لاحتجُّوا بما يَقولونَ منْ أنَّكمْ لستُمْ تلكَ الأمَّة.

وحتَّى لا يكونَ لأيِّ مشركٍ أو كافرٍ تأثيرٌ عليكمْ في جدالِهمْ وعنادِهمْ معكم، وما يَبثُّونَهُ مِنْ شُبَهٍ وشائعاتٍ لغَرضٍ في نفوسِهم، كقولِ بعضِهمْ لكم: ما دمتُمُ استقبلتُمُ البيتَ فستَرجِعونَ إلى دينِ آبائكم! فلا تَحسُبوا حِساباً لهمْ ولا لأقاويلِهم، فلا سلطانَ لهمْ عليكمْ ولنْ يضرُّوكم، بلِ اتَّقُوا ربَّكمْ واخشَوْهُ في السرِّ والعَلَن، فهو الضارُّ النافِع، وأهلٌ لأنْ يُخشَى، وبيدهِ الأمرُ كلُّه، وحتَّى أُكمِلَ نعمتي عليكمْ فيما شرعتُ لكمْ منِ استقبالِ القِبلة. ولعلَّكمْ بهذا تَهتدونَ إلى ما ضلَّتْ عنهُ الأمم، فهدَيناكمْ إليهِ وخصَصناكمْ به، ولذلكَ كنتُمْ أشرفَ الأممِ وأفضلَها.

﴿كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ الۡكِتَٰبَ وَالۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة:151]


ومعَ نعمةِ القِبْلةِ اذكروا أيُّها المسلمونَ بعثةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيكم، يقرأ عليكمْ كلامَ اللهِ العظيم، ويُطَهِّرُكمْ منْ رذائلِ الأخلاق، وأفعالِ الجاهليَّة، ودنَسِ النفوس، ويُخرجُكمْ منَ الظُّلماتِ إلى النور، بإذنِ رَبِّه، ويعلِّمُكمُ القرآنَ والسنَّة. وبينما كنتُمْ في الجاهليَّةِ على جهلٍ وعداوةٍ وشِقاق، أبدلَكمُ اللهُ بذلكَ ما لم تَكونوا تَعلَمون، وما لم يَكنْ لكمْ بهِ سابقُ عِلم، فصارَ منكمُ العلماء، والصِّدِّيقون، والأولياء، والقادةُ الفاتحون، والدعاةُ المبشِّرونَ بالدِّينِ العظيم.

﴿فَاذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَاشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ﴾ [البقرة:152]


فلا تنسَوا هذهِ النِّعَمَ العظيمةَ التي أنعمتُ بها عَليكم، اذكرُوني بالطَّاعةِ أذكُرْكمْ بالثواب، واشكروا لي هذهِ النعمَ ولا تَجحدوها، أزِدْكمْ بذلكَ نعمةً وفَضلاً.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسۡتَعِينُواْ بِالصَّبۡرِ وَالصَّلَوٰةِۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـٰبِرِينَ﴾ [البقرة:153]


وإذا كانَ الشكرُ منْ آدابِ المؤمنين، فإنَّهُ لا بدَّ لهمْ منَ الصبرِ أيضاً، فعَليكمْ به، فإنَّهُ خَيرُ صِفةٍ تتحلَّونَ بها لتحمُّلِ البلايا والرزايا ومشاقِّ الدعوة، والعزمِ على الطاعةِ والقرُبات، وتركِ المآثمِ والمحرَّمات.

وكذا الصلاةُ، التي تشدُّ العزيمة، وتجدِّدُ الطاقة، وتملأ القلبَ نُوراً، ولذلكَ كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ –أي هجمَ عليهِ أو غلبَهُ- صلَّى، كما في حَديثٍ حسنٍ رواهُ أحمدُ وأبو داود.

ذلكَ أنَّ اللهَ معَ الصابرين، يؤنِسُهم، ويُؤيِّدُهم، ويُثبِّتُهم، ويَزيدُ مِنْ قوَّتِهمُ الضَّعيفة.

﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ﴾ [البقرة:154]


ولا يَقدِرُ على الجهادِ إلا الصابرونَ وذوو العزائم، وهؤلاءِ إذا سقطوا شهداءَ في ساحةِ المعركة، فلا تظنُّوا أنَّهمْ ماتوا، بلْ همْ أحياءٌ عندَ ربِّهم، يُطعِمُهمْ ويَسقِيهم؛ جزاءَ تضحيِتهم بأرواحِهمْ في سبيلِه، ولكنَّكمْ لا تَشعُرونَ بهم، فهمْ في حياةٍ أخرَى (برزخيَّةٍ) غيرِ التي أنتمْ فيها.

﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ الۡخَوۡفِ وَالۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ الۡأَمۡوَٰلِ وَالۡأَنفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ الصَّـٰبِرِينَ﴾ [البقرة:155]


وسوفَ نختبرُكمْ ونمتَحِنُكمْ أيُّها المسلمون، لتَظهرَ حقيقةُ إيمانِكمْ ومدَى ثباتِكمْ على أمرِ دينِكم، سيُصيبُكمْ شَيءٌ منَ الخوفِ وأنتمْ تَخوضونَ معاركَ ضدَّ الباطل، وشيءٌ منَ الجوعِ كالفَقرِ، ونَقصٌ مِنَ الأموالِ، كأنْ يصيَبها جائحةٌ أو غَرَقٌ أو ضَياع، ويُقْتَلُ أو يموتُ منْ أهلِكمْ وأحبابِكم، ويَقِلُّ شيءٌ منْ زروعِكمْ وثماركِم، ببَردٍ أو حَرْقٍ أو آفةٍ سماويَّة. فإذا صبَرتُمْ ورَضِيتُمْ بقضاءِ اللهِ فزتُمْ وحُزتُمُ الأجْر.

﴿الَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾ [البقرة:156]


إنَّ الحائزينَ على درجةِ الصبرِ بحقٍّ همُ الذين إذا ابتُلوا بمصِيبةٍ آمَنوا فصَبروا، وتسلَّوا واسترجَعوا، وقالوا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، لعلمِهمْ بأنَّهم مُلْكٌ لله، يتصرَّفُ في عبيدهِ كما يَشاء، وأنَّهُ لا يَضِيعُ عندهُ شَيءٌ يومَ القيامة.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُهۡتَدُونَ﴾ [البقرة:157]


فعلَى هؤلاءِ الصابرينَ ثناءُ الله، ولهمْ مغفرتهُ وعليهمْ رحمتُه، فهمُ الذينَ اهتدَوا إلى الحقِّ والصَّواب، بصبرِهمْ واسترجاعِهم.

﴿۞إِنَّ الصَّفَا وَالۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ الۡبَيۡتَ أَوِ اعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:158]


إنَّ الطوافَ بينَ جبلَي الصفا والمروةِ ممّا شرعَهُ اللهُ تعالَى لإبراهيمَ عليهِ السلامُ في مناسكِ الحجّ، فمنْ نوَى حجًّا أو عُمْرةً فليَجعَلْ ذلكَ مِنْ مناسكِه، ومَنْ زاد َفي السعي بينَهما، أو زادَ مِنْ نَفْلٍ، فإنَّ اللهَ يُثِيبُهُ عليه، وهوَ عليمٌ بما يَستحِقُّهُ منَ الجزاء، ولا يَنقُصُ أحداً ثوابَ عَملِه.

والمقصُود: لا جُناحَ عليهِ مِنْ فِعلِ السَّعي بينَهما، وليسَ مَعناه: لا جناحَ مِنْ تَركِ السَّعي، وإلاّ لكانَ التعبير: لا جُناحَ عَليهِ ألاّ يَطَّوَّفَ بهما. وكانَ الأنصارُ يتَحرَّجونَ منَ السَّعي بينَهما لأنَّهمْ لم يَكونوا يُحِلُّونَهُ في الجاهليَّة، فجاءَ التَّعبيرُ هكذا.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ الۡبَيِّنَٰتِ وَالۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِي الۡكِتَٰبِ أُوْلَـٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ اللَّـٰعِنُونَ﴾ [البقرة:159]


إنَّ أهلَ الكتاب، وخاصَّةً اليهود، يُخفُونَ ما أنزَلنا على الرسُلِ منَ الدلالاتِ البيِّنةِ على حَقائقَ مُهمَّة، وما جَاؤوا بهِ منَ الهَدي النافعِ للقلوب، كالإيمانِ بمبعثِ الرسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ووجوبِ اتِّباعِه، حيثُ بيَّنَهُ اللهُ تعالَى في الكتبِ التي أنزلها.

قالَ أبو السعودِ في تفسيره: "والمرادُ بكتمهِ إزالتُه ووضعُ غيرهِ في موضعه، فإنَّهمْ محَوا نعتَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وكتبوا مكانَهُ ما يُخالِفُه". وقدْ جعلَ الكتمَ بهذا منْ أنواعِ التحريفِ والتبديل.

فهؤلاءِ الساكتونَ عنِ الحقّ، الكاتمونَ ما أنزلَ اللهُ منْ خيرٍ وهُدًى، يَطردُهمُ اللهُ ويُبعِدهمْ مِنْ رحمتِه، كما يَلعنُهمْ كلُّ مَنْ يتأتَّى منهمُ اللعنُ والدعاءُ عليهم، مِنَ الملائكةِ ومؤمني الجنِّ والإنس، فهمْ مَنبوذونَ مِن أهلِ الحقِّ كلِّهم.

﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:160]


ويُستثنَى مِنْ أهلِ الكتابِ المذكورين، الذينَ تابوا إلى اللهِ ورجَعوا عمّا كانوا عَليهِ مِنْ ضَلال، وأعلنوا الحقَّ واعترَفوا به، وأصلَحوا ما أفسَدوا وحرَّفوا، وبيَّنوا للناسِ ما كانوا كتَمُوه، فهؤلاءِ أقبَلُ توبتَهم، وأنا كثيرُ قبولِ التوبةِ ونَشرِ الرحمة.