إنَّ مَشاهدَ الخلقِ في الكونِ عَظيمةٌ دَقيقة، يَنبغي أنْ يُنظرَ فيها بتَعمُّقٍ منْ جوانبِها العلميَّةِ والحِكْمية، ليُستدلَّ بها على الخالقِ الأعظم.
فهذهِ السماواتُ بارتفاعِها، وإحكامِ خَلْقِها، وما فيها منْ شُموسٍ وكواكب، وصخورٍ وذرَّات، وجاذبيَّةٍ ودوَران، وبُعدِها عنِ الأرض، أو بعضِها عَن بَعض، بمسافاتٍ لا تكادُ تُتَخيَّل، كملايينِ السنواتِ الضوئيةِ وما يُقالُ في هذا، عدا ما لم يُكتَشَفْ منها.
والأرضُ في جبالِها ووِهادِها، وبحارِها وأنهارِها، وخِصْبِها وصَحرائها، وإنسِها وجنِّها، وحيواناتِها وجمادِها، ونباتاتِها وأشجارِها، بملايينِ أصنافِها وأنواعِها، الدقيقةِ والعَجيبة، وأحيائها المائيةِ في سلوكِها ومعيشتِها، وما فيها مِنْ مَنافع، مِنْ مَعادنَ ولآلئ، وماءٍ وهواء، وكلِّ ما سُخِّر للإنسان.
ومَجيءُ النهارِ يَتلوهُ الليل، ثمَّ يَتلوهُ النهارُ وهكذا، مِنْ تعاقبِ النورِ والظُّلمَة، باستِمرارٍ ودقَّةٍ مُتناهية.
وهذهِ السفنُ والبواخرُ والأساطيلُ التي تَجري في البَحر، سخَّرَهُ اللهُ للناسِ هكذا ليَنتَفعوا بهِ في أسفارِهم، ونَقلِ بضائعِهمْ مِنْ مَكانٍ إلى آخر، وليَستَخرِجوا منهُ ما يَنفعُهمْ مِنْ مَؤونةٍ ومِيرةٍ وتِجارة.
والمطرُ الذي يَنـزلُ منَ السَّحابِ بأمرِ الله، تحيا بهِ زُروعٌ وثِمار، وأناسيُّ وحيَوانات، تُفَجَّرُ بهِ عيون، ويُخَزَّنُ منهُ في الأرضِ للآبار، بعدَ أنْ كانتِ الأرضُ يابِسةً لا حياةَ فيها.
وما نُشِرَ في الأرضِ مِنْ كلِّ حيّ، عاقلٍ وغيرِ عاقل، على اختلافِ أشكالِها وألواِنها ومنافعِها، وصِغَرِها وكِبَرِها.
وهذهِ الرياحُ بأنواعِها واتِّجاهاتِها، وما هوَ منها للرَّحمةِ وما هوَ منها للعَذاب، وما تَجمَعُهُ أو تُفَرِّقهُ منَ السُّحُب، فتقفُ بها في مكانٍ أو تسوقُها إلى حيثُ أمرَها الله، أو ما تَحمِلُهُ منْ حُبوبِ اللِّقاحِ منَ الأشجارِ والنباتاتِ المذكَّرةِ وتَضعهُ على المؤنَّثةِ لتُنتِجَ الثمارَ بإذنِ الله.
وهذهِ الغيومُ المنتَشِرَةُ فوقَ الأرض، في تَشكيلِها وأنواعِها ودلالاتِها، وحركتِها وتسخيرِها وانتقالِها.
كلُّ هذا وغيرهُ حقائقُ عظيمةٌ ودلالاتٌ بيِّنةٌ على وجودِ اللهِ ووَحدانيتِه، وقُدرتهِ وحكمتِه، هذا إذا تفكَّرَ بها الإنسان، وألقَى عنْ عقلهِ بَلادةَ الأُلفةِ وغِشاوةَ الغَفلة، ونظرَ في هذهِ المخلوقاتِ بفكرٍ متعمِّقٍ وحِسٍّ مُتَجَدِّد، وقلبٍ مُتَطلِّعٍ إلى الحقّ.
وعلى الرغمِ منَ الدلالاتِ السابقةِ على وحدانيَّةِ اللهِ وتفرُّدهِ بالخَلقِ والتدْبير، إلاّ أنَّ هناكَ صِنفاً منَ الناسِ أشرَكوا بالله، وعبَدوا معَهُ نُظَراءَ وأمثالاً، على هوَى أنفسِهمْ وما تُسَوِّلُ لهمُ الشياطين، في تقليدٍ جاهلٍ أو حُمْقٍ فاضِح، كعبادةِ أحْجارٍ وأشْجار، أو نجومٍ وكواكب، ويُدافِعونَ عنها ويُحاربونَ عليها، ويحبُّونَها كمَحبَّتِهمُ الله! وهوَ الواحدُ الأحد، الذي لم يتَّخذْ صاحبةً ولا ولداً، ولا مثيلَ لهُ ولا نَظير.
أمّا المؤمنون، فإنَّهمْ يَعبدونَ اللهَ على نُورٍ منْ ربِّهمْ وبُرهان، ويُحبُّونَهُ حُبًّا خالِصاً لا شائبةَ فيه، وهمْ أكثرُ حبًّا لهُ منْ حبِّهمْ أنفسَهمْ وما يملكون؛ لتَمامِ معرفتِهمْ به، وتوحيدِهمْ وتعظيمِهمْ له، ولجوئهمْ إليهِ وحُسنِ توكُّلِهمْ عليه.
ولو عاينَ المشركونَ ومَنْ تابعَهمْ ما أُعِدَّ لهمْ منَ العَذابِ يومَ القيامة، لعَلِموا أنَّ جميعَ الأشياءِ تحتَ قَهرهِ وسُلطانه، وأنَّ القوَّةَ والتصرُّفَ لهُ وحدَه، وأنَّ عذابَهُ شَديدٌ مؤلم، وإذاً لانتَهَوا عمّا همْ فيهِ مِنْ ضَلال.
وهؤلاءِ الذينَ كانوا أعلاماً في الكُفرِ والضَّلالِ والدَّعواتِ الهدَّامة، ولهمْ أنصارٌ وتابِعون، عندما يُكشَفُ لهمُ الحِساب، ولا يرَونَ أمامَهمْ سِوَى النار، التي لا مناصَ لهمْ منها، يَتبرَّؤونَ مِنْ تابِعيهم، لأنَّ ذلكَ يَزيدُهمْ عَذاباً، ويَقولونَ لهم: لا علاقةَ لنا بكم، ولم نُجبِرْكُمْ على متابَعتِنا، وكانتْ لكمْ عقولٌ فلمَ خُدِعتُمْ وشاركتُمونا؟
وتَنقطعُ بينهمُ الأواصرُ والعلاقاتُ السَّابقة، وتنقلبُ إلى حقدٍ وعَداوةٍ وتخاصُم، حيثُ انتَهتِ الأعمال، وحانَ وقتُ الجزاء.
وإذا طُلِبَ منَ المشرِكينَ وأهلِ الكتابِ أنْ يتَّبعوا كتابَ اللهِ الذي أنزلَهُ على رسولهِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم قالوا: لا نتَّبعُه، بلْ نتَّبعُ ما وَجدْنا عليهِ آباءَنا، لأنَّهمْ كانوا خَيراً منّا!
أيَقتَدونَ بهمْ ويَقتَفونَ أثرَهمْ ولو كانوا لا يَفهمونَ شيئاً ولا يهتدونَ إلى الصواب؟ ولو كانوا غافلينَ وجاهلينَ ضالِّين؟
إنَّ مَثَلَ الذينَ كفَروا في غيِّهمْ وضلالِهم وجهلِهمْ وعدمِ تدبُّرهمْ فيما أُلقيَ إليهمْ منَ الآيات، كالبَهائمِ التي لا تَفقَهُ ما يُقالُ لها، فإذا دعاها أو هتفَ بها راعِيها لا تَفهَمُه، إنَّما تَسمعُ لحنَهُ ودويَّ صوتِه.
فهمْ صُمٌّ عنْ سَماعِ الحقّ، وخُرْسٌ لا يَتفوَّهونَ به، وعُميٌ عنْ رؤيةِ طَريقه، ولو كانتْ لهمْ حَواسُّ ظاهِرَة، ما داموا لا يَنتفعونَ بها. إنَّهم لا يَفهمونَ شيئاً لأنَّهمْ لا يتدبَّرونَ الآياتِ والحقائق، ولا يتأمَّلونَ فيما يرونَهُ منَ الدلائلِ الواضحةِ والأمورِ النافِعة.
وخُذوا أحكامَ الحلالِ والحرامِ منَ اللهِ الخالقِ الرَّازق، فإنَّهُ لا يُحِلُّ إلاّ طيِّباً، ولا يُحَرِّمُ إلا ما خَبُثَ وكانَ فيهِ ضَرر.
وقدْ حرَّمَ عليكمْ أكلَ المَيْتةِ التي لم تُذبَح، ما عدا السمكَ والجراد. وكذلكَ حرَّمَ الدَّم، ولحمَ الخِنزير، سواءٌ ذُبِحَ أو ماتَ حتفَ أنفِه، وما ذُبِحَ على غيرِ اسمِ الله، منَ الأصنامِ والطواغيتِ ونحوِها.
ومَنْ ألجأتْهُ الضرورةُ إلى أكلِها وقد فقدَ غيرَها منَ الأطعِمَة، فلا بأسَ مِنْ أكلِها، مِنْ غيرِ بغيٍ ولا اعتداء: منْ غيرِ أنْ يُؤْثِرَ نفسَهُ في هذهِ الضرورةِ على مُضطرٍّ آخَرَ مثلِه، ولا أنْ يأكلَ زيادةً على سَدٍّ جَوْعَتِه، فاللهُ يَغفرُ لهُ عندئذٍ ما أكلَ منَ الحرام، وهوَ رحيمٌ إذْ أحلَّ لهُ ذلكَ في حالِ الاضطِرار.
إنَّ الذينَ يَكتمُونَ ما أنزلَ اللهُ في الكتُبِ مِنْ صِفَةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وخاصَّةً اليهود، حتَّى لا تَذهبَ وجاهتُهمْ ورئاستُهمْ أمامَ العرب، وكانوا يتلقَّونَ منهمُ التُّحَفَ والهَدايا تعظيماً لشأنِهمْ وعلمِهم، كما يأكلونَ الرِّشا مُقابلَ تَحليلٍ أو تَحريم، فخَشُوا إنْ همْ أظهَروا أوصافَهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يتَّبعَهُ الناسُ ويَتركوهم، فكتَموا ذلك، إبقاءً على ما كانَ يَحصلُ لهمْ مِنْ ثَمنٍ قليلٍ مُقابلَ أمرٍ عَظيم، فباعُوا دينَهم مُقابلَ نَزْرٍ يَسيرٍ منَ المال، فكانوا منَ الخاسرين.
وسوفَ يأكلونَ ناراً تتأجَّجُ في بُطونِهمْ يومَ القيامة، جزاءَ ما كانوا يأكلونَهُ مقابلَ كِتْمانِ الحقّ. ولا يكلِّمُهمُ اللهُ غَضباً عليهم. ولا يُثنِي عليهمْ خَيراً، بلْ يُعَذِّبُهمْ عَذاباً مؤلماً شَديداً.
وقدِ استَحقُّوا كلَّ هذا العَذاب؛ لأنَّ اللهَ لم يُنـزِلْ كُتبَهُ على الأنبياءِ عبَثاً، ولم يأخذِ المواثيقَ منَ الأممِ بدونِ حساب، بلْ إنَّ كلَّ ذلكَ حقٌّ والتزامٌ ومَسؤولية، فمنْ أبَى وخان، وجحدَ وكتم، استحقَّ العذابَ والنَّكال.
وهؤلاءِ الذينَ اختلَفوا في الكتاب، فآمنوا ببَعضهِ وكفروا ببَعضهِ الآخَر، وأوَّلوا منهُ أشياء، ثمَّ وصَفوا القُرآنَ بأوصافٍ باطِلة، همْ في اختلافٍ شديدٍ وبُعدٍ عنِ الحقِّ والصَّواب، مستوجِبٍ لأشدِّ العذاب.
عندما أمرَ اللهُ المسلِمينَ أوَّلاً بالتوجُّهِ إلى بيتِ المَقدِس، ثمَّ أمرَهمْ بالتحوُّلِ إلى الكعبة، شقَّ ذلكَ على طائفةٍ منْ أهلِ الكتابِ وبعضِ المسلمين، فبيَّنَ في هذه الآيةِ العظيمةِ أنَّ المهمَّ في هذا هوَ التسليمُ والطاعةُ والامتثالُ لأمرِ الله.
فليستِ الغايةُ منَ التوجُّهِ إلى المشرقِ والمغربِ هوَ الجهةُ بعينِها، ولا القيامُ بحركاتٍ ظاهرةٍ نحوَها، فلا تَكمُنُ الخيريَّةُ في هذهِ الأمورِ مجرَّدةً عنِ الدافعِ منْ ورائها وطاعةِ الآمرِ بها، فجِماعُ الخيرِ هوَ في العَقيدةِ الصَّحيحَة، والطاعةِ لله، والتسليمِ بأمرِه، الذي يُعطي القيمةَ والقَبولَ لتلكَ الأعمال، الإيمانُ بهِ عزَّ وجلَّ أوَّلاً إيماناً عميقاً، وباليومِ الآخِرِ وما فيهِ منْ جَزاءٍ وحِساب، ونَعيمٍ وعَذاب، وبالملائكةِ جُندهِ ورسلهِ بينَهُ وبينَ عباده، وبالكتابِ الحقِّ المُنـزَلِ منْ عندِ اللهِ على رسولهِ لهدايةِ عبادِه، آخِرُها القُرآن، الذي نسخَ كلَّ ما قبلَهُ منَ الكتُب. وبأنبياءِ اللهِ كلِّهم، حتَّى خاتمِهم محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، منْ غيرِ تَفرقةٍ بينهمْ كما فعلَ أهلُ الكتاب.
والمؤمِنُ الصادقُ أيضاً هوَ مَنْ أنفقَ مِنْ مالِهِ وهوَ محبٌّ لهُ راغِبٌ فيه، فأعطاهُ لأهلهِ وأقربائه، ولليتامَى الذينَ فَقدوا آباءَهمْ وكانوا صِغاراً ضُعَفاء، والمساكينِ الذينَ لا يَجدونَ ما يَكفيهم، وابنِ السبيلِ الذي نَفِدَتْ نفقتُهُ وهوَ بعيدٌ عنْ وطنه، والسائلينَ الذينَ ألجأتهمُ الحاجةُ والضرورةُ إلى السؤال، وفي الرِّقاب: العبيدِ الذينَ يُريدونَ أن يُصبِحوا أحرَاراً ولا يجدونَ المبلغَ الكافيَ لإعطائهِ أسيادَهمْ منْ أجلِ ذلك.
ثمَّ حافظَ على عباداتِه، فأقامَ الصلاةَ المفروضةَ بشروطِها وأركانِها، وأدَّى زكاةَ مالِه. وأنْ يكونَ منَ الأوفياءِ بعهودِهمْ إذا عاهدوا، فلا يَخونُ ولا يَغْدِرُ كالمنافقينَ ومَنْ حَذا حَذْوَهم.
ومنَ الصابرينَ إذا أصابَهُ مَكروه، كفَقرٍ أو مَرض. وكذلكَ في حالِ القِتالِ ولقاءِ العدوّ.
فهؤلاءِ الذينَ اتَّصفوا بهذهِ الصفاتِ، همُ الذينَ صدَقوا ربَّهمْ في إيمانِهم، فاتَّبعوا الحقّ، وتحرَّوا البِرّ، وأحرَزوا الخير، وابتَعدوا عنِ المحارمِ والموبِقاتِ وسائرِ الرذائل، وفعلوا الطاعاتِ المطلوبةَ منهم؛ امتثالاً لأمرِ اللهِ وخَشيةً منه.
أيُّها المؤمِنون، لقدْ فُرِضَتْ عليكمُ المُماثلةُ والمساواةُ في أمرِ القَتلِ عَمداً، بأنْ يُقتَلَ القاتلُ بالصِّفةِ التي قُتِل بها المقْتول، وأنْ يُقتَلَ الحُرُّ بالحُرِّ، كما يُقْتَلُ العَبدُ بالعَبد، وتُقتَلُ الأنثَى بالأنثَى؛ إقامةً للعدلِ بينَ الناس.
وكانتْ أحياءٌ في الجاهليةِ إذا قُتِلتْ منهمُ امرأةُ لم يرضَوا إلا بقتلِ رجلٍ منْ طرفِ القاتِل، وإذا قُتِلَ منهمْ عبدٌ طَلبوا قتلَ حُرّ، وإذا قُتِلَ منهمْ وَضيعٌ طَلبوا قتلَ شَريف؛ تعالياً وتمُعُّناً في الانتِقام. فبيَّنتْ هذهِ الآيةُ الكريمةُ حكمَ النوعِ إذا قُتِلَ نوعُه، كالأنثَى بالأنثَى، ولم تتعرَّضْ لأحدِ النوعينِ إذا قُتِلَ الآخَر، وهذا ما بيَّنتْهُ السنَّةُ منْ بعد، كأنْ يُقْتَلُ الذكَرُ بالأنثَى أيضاً؛ لاعتبارِ المماثلةِ في الدِّين، ولا يُقتَلُ مسلمٌ بكافر، ولا حرٌّ بعَبد.
فإذا عفا أهلُ القتيل، بأنْ طَلبوا بدلَ الدَّمِ دِيَةً، وهوَ مِقدارٌ منَ المالِ يؤدَّى إليهم، فليُكنْ ذلكَ مُطالبةً جَميلةً ومَعقُولة، وليؤدِّ القاتلُ الدِّيَةَ بإحسانٍ وإكرام، دونَ بَخْسٍ ولا مُماطَلة.
وتشريعُ الدِّيَةِ رحمةٌ منَ اللهِ لهذهِ الأمَّة، وكانَ التشريعُ في الدياناتِ السابقةِ العفوَ أو العقوبة، ولم تكنْ هناكَ دِيَة.
وإذا حدثَ أنْ قُتِلَ القاتلُ بعدَ أخذِ الدِّيَةِ أو قبولِها، فلفاعلهِ عذابٌ منَ اللهِ مؤلمٌ شَديد.
والقَتلُ أوفَى للقَتل، وأوقَفُ لسفكِ الدماء، فإنَّهُ إذا قُتِلَ القاتلُ سكنتِ الفِتنة، وإلا زادتْ وسقطَ أكثرُ مِنْ قتيل، معَ استحكامِ العداوةِ والبَغضاءِ بينَ الفريقين، وربَّما الأهلِ والأرحام.
ففي قتلِ القاتلِ حياة، ولو بدا في صورتهِ قَتلاً، لأنَّهُ حُكمٌ عَدْلٌ باستيفاءِ حقٍّ مِنْ سفكِ دمٍ بَريء؛ هذا لمنْ تدبَّرَ وكانَ منَ العقلاء، وإنَّما شُرِعَ القِصاصُ لتَبتَعِدوا منَ القَتل، فلا تَقتُلوا حتَّى لا تُقتَلوا.
فُرِضَ عليكمْ إذا اقتربَ أجَلُ أحدِكمْ إنْ تركَ مالاً أنْ يوصيَ منهُ لوالديهِ وأقربائهِ بالعَدل، حقًّا مؤكَّداً على المؤمنين.
وكان هذا في ابتداءِ الإسلام، حيثُ كانتِ الوصيَّةُ فَريضةً للوالدَينِ والأقرَبين، ثمَّ نُسِخَتْ بآيةِ الميراث، وصارَ كلٌّ يأخذُ حقَّهُ بأمرٍ مُوجبٍ منَ اللهِ ورسولِه، ولم يَعُدِ الورثةُ بحاجةٍ إلى وصيَّة، بلْ لا تَجوزُ لهم، ومنهمُ الوالدان، للحديثِ الصحيح: "لا وصيَّةَ لوارِث".
ويبقَى حقُّ الأقرَبين، فإنَّهُ تُستَحبُّ الوصيَّةُ لهمْ منَ الثلثِ المسمُوحِ بهِ للموصي، استئناساً بآيةِ الوصيَّةِ وشُمولِها، وللآياتِ والأحاديثِ الواردةِ بالأمرِ ببرِّ الأقاربِ والإحسانِ إليهم.