تفسير سورة الأحزاب

  1. سور القرآن الكريم
  2. الأحزاب
33

﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ اللَّهَ وَالۡيَوۡمَ الۡأٓخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرٗا﴾ [الأحزاب:21]


لقدْ كانَ حقًا عَليكمْ أنْ تَقتَدوا برَسولِ اللهِ يَومَ الأحزاب، في انتِصارِهِ لدِينِ الله، وتحَمُّلِهِ الأذَى، وصَبرِه، ومُرابطَتِه، وثَباتِه، وانتِظارِهِ الفرَجَ مِنْ رَبِّه، فهوَ قُدوَةٌ لكمْ في أقوالِهِ وأفعالِه، وأحوالِهِ وشَمائلِه، لمَنْ كانَ يَخشَى اللهَ ويَرجو ثَوابَهُ يَومَ الجَزاءِ على الأعمَال، وذكرَ اللهَ ذِكرًا كثيرًا في عامَّةِ أحوالِه.

﴿وَلَمَّا رَءَا الۡمُؤۡمِنُونَ الۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا﴾ [الأحزاب:22]


والمؤمِنونَ الصَّادِقونَ الراسِخونَ في إيمانِهمْ لمَّا رَأوا الأحزابَ قدِ اجتَمَعوا عَليهم، وتذَكَّروا ما وعدَهمُ اللهُ بهِ مِنَ الابتِلاءِ والشدَّة، ثمَّ النَّصرِ على الكافِرين، قالوا في إيمانٍ ويَقين: هذا ما وعدَنا اللهُ ورَسولُهُ مِنَ الابتِلاءِ والاختِبار، وصدَقَ اللهُ ورَسُولُه، في الابتِلاء، وفي الانتِصار، وما زادَهمْ ذلكَ إلاّ إيمانًا باللهِ وتَصديقًا بوَعدِه، وتَسليمًا لأمرِهِ وقَدَرِه، وطاعَةً لرَسُولِه.

﴿مِّنَ الۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا﴾ [الأحزاب:23]


مِنَ المؤمِنينَ المُخلِصينَ رِجالٌ صَدَقوا ما وعَدوا اللهَ به، مِنَ الثَّباتِ على العَهد، والجِهادِ في سَبيلِه، فمنهمْ مَنْ ماتَ شَهيدًا في سَاحَةِ الجِهاد، ومِنهمْ مَنْ يَنتَظِرُ فُرصَةً للجِهادِ ليُقاتِلَ طلبًا للشَّهادَة، وما غَيَّروا عَهدَهمْ معَ الله، ولا نَقَضوهُ أبَدًا.

﴿لِّيَجۡزِيَ اللَّهُ الصَّـٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ الۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [الأحزاب:24]


ليَجزِيَ الذينَ صَدَقوا ما عاهَدوا اللهَ عَليهِ ويُثيبَهمْ رَحمَةً مِنْ عِندِه، بسبَبِ صَبرِهمْ وصِدقِهمْ ووَفائهم، وليُعَذِّبَ المُنافِقينَ الذينَ خالَفوا أمرَ اللهِ ونقَضوا عَهدَه، إنْ شَاءَ ذلك، أو يَتوبَ عَليهمْ فيَهديَهمْ إلى الإيمانِ والعمَلِ الصَّالِح، واللهُ يَغفِرُ لمَنْ تابَ وآمَن، ويَرحَمُهم.

﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى اللَّهُ الۡمُؤۡمِنِينَ الۡقِتَالَۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا﴾ [الأحزاب:25]


وردَّ اللهُ الكافِرينَ مِنَ الأحزابِ حانِقين، لم يَشفُوا صُدورَهمْ بنَيلِ ما أرادُوا، فلمْ يَظفَروا بنَصرٍ ولا غَنيمَة، ووَقَى اللهُ المؤمِنينَ بالرِّيحِ والمَلائكة، ففَرَّ أعداؤهمْ دونَ أنْ يُقاتِلوهم، واللهُ قَويٌّ فيما يُريدُه، لا تَمنَعُهُ قُوَّةٌ مِنْ ذلك، عَزيزٌ في انتِقامِه، غالِبٌ على كُلِّ شَيء.

﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا﴾ [الأحزاب:26]


والذينَ ساعَدوا الأحزابَ مِنْ أهلِ الكِتاب، وهمْ بَنو قُرَيظَةَ مِنَ اليَهود، الذينَ نقَضوا عَهدَهمْ معَ الرَّسُولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام ومَالَؤوا المشرِكين، أنزَلَهمُ اللهُ مِنْ حُصونِهمِ ومَعَاقلِهم، فحاصرَهمْ المسلِمونَ حتَّى جَهِدوا مِنَ الحِصار، واستَسلَموا للقَتلِ والأسْر، فقتَلوا رِجالَهم، وأسَروا نِساءَهمْ وذَرارِيهم.

﴿وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا﴾ [الأحزاب:27]


وملَّكَكمْ أرضَ بَني قُرَيظَةَ وحُصونَهمْ وأموالَهم، وأرضًا لم تَطَأْها أقدامُكمْ مِنْ قَبل - وهيَ خَيبَرُ أو غَيرُها - واللهُ قادِرٌ على كُلِّ شَيء، وسيُمَكِّنُكمْ مِنْ فُتوحاتٍ أُخرَى بتأييدِهِ وقُدرَتِه.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ الۡحَيَوٰةَ الدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا﴾ [الأحزاب:28]


أيُّها النبيُّ الكريم، قُلْ لزَوجاتِك: إنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ السَّعَةَ والتنَعُّمَ في الحيَاةِ الدُّنيا وزُخرُفَها - وكُنَّ سَألْنَهُ النفَقَةَ وراجَعْنَهُ في ذلك - فأقبِلْنَ لأُمَتِّعْكُنَّ مُتْعَةَ الطَّلاقِ - وهوَ مالٌ أو مَتاعٌ يُعطَى لهُنَّ تَكريمًا لهنَّ - وأُطَلِّقْكُنَّ طَلاقًا حسَنًا لا ضَرَرَ فيه.

﴿وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَالدَّارَ الۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [الأحزاب:29]


وإنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ رَسُولَ اللهِ والثَّوابَ الجَزيلَ مِنْ عندِ الله، والنَّعيمَ الباقي في الآخِرَة، وتَصبِرْنَ على الرسُولِ في الحالِ التي هوَ فيها، فإنَّ اللهَ قدْ هيَّأَ للمُحسِناتِ منكُنَّ، جَزاءَ إحسَانِهنّ، ثَوابًا عَظيمًا، ورِزقًا كريمًا.

﴿يَٰنِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا الۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٗا﴾ [الأحزاب:30]


يا نِساءَ النبيِّ، وأمَّهاتِ المؤمِنين، لَكُنَّ اختِصاصٌ ومِيزَةٌ لكَونِكُنَّ زَوجاتِ رَسُولِ الله، فمَنْ يَأتِ مِنكُنَّ بمَعصِيَةٍ ظاهِرَة، كنُشوزٍ وعِصيان، تُضاعَفْ لها العُقوبَةُ ضِعفَين، في الدُّنيا وفي الآخِرَة، وهذا سَهلٌ يَسيرٌ على الله، فلا يَمنَعُهُ شَيءٌ مِنْ ذلك، ولو كانتِ المُعاقَبَاتُ نِساءَ رَسُولِه، فهوَ حَكَمٌ عَدْلٌ لا يَظلِمُ في قَضائهِ وحُكمِهِ أحدًا.

﴿۞وَمَن يَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا نُّؤۡتِهَآ أَجۡرَهَا مَرَّتَيۡنِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهَا رِزۡقٗا كَرِيمٗا﴾ [الأحزاب:31]


ومَنْ يَخشَعْ مِنكُنَّ وتَستَجِبْ لأمرِ اللهِ ورَسُولِه، وتَعمَلْ عمَلاً صالِحاً، مِنْ عِبادَةٍ ونفَقَةٍ وصِلَةٍ وغَيرِها، نُضاعِفْ لها الثَّواب، وهيَّأنا لها رِزقًا حسَنًا مَرضيًّا في الجنَّة.

﴿يَٰنِسَآءَ النَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِالۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ الَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا﴾ [الأحزاب:32]


يا نِساءَ النبيِّ، لَستُنَّ في القَدْرِ والمَنزِلَةِ مِثلَ سائرِ النِّساءِ إنْ داوَمتُنَّ على طاعَةِ اللهِ ورَسولِه، لِما امتَزْتُنَّ بهِ مِنْ شرَفِ الزَّوجيَّةِ لرَسُولِ اللهِ وأُمومَةِ المؤمِنين، فلا تُلِنَّ القَولَ، ولا تُرَقِّقْنَ الكلامَ إذا خاطَبتُنَّ الرِّجال، فيَطمَعَ مَنْ كانَ في قَلبِهِ فُجورٌ أو شَهوَةٌ ويَجِدَ سَبيلاً إلى الطَّمَعِ فيكُنّ، وقُلْنَ قَولاً حسَنًا فيهِ خَيرٌ وصَلاح، مِنْ غَيرِ خُضُوع.

﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ الۡجَٰهِلِيَّةِ الۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ الزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ الرِّجۡسَ أَهۡلَ الۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا﴾ [الأحزاب:33]


والْزَمْنَ بيوتَكُنَّ ولا تَخرُجْنَ مِنْ غَيرِ حاجَة، ولا تَمشِينَ بتبَختُرٍ وتكَسُّرٍ وتغَنُّج، ولا تُبدِينَ مَحاسِنَكُنَّ كشَأنِ الجاهِليَّة، وحافِظْنَ على إقامَةِ الصَّلاة، وآتِينَ الزَّكاةَ مِنْ أموالِكُنَّ لمُستَحِقِّيها، ودَاوِمْنَ على طاعَةِ اللهِ ورَسولِهِ واثبُتْنَ عَليها، إنَّما يُريدُ اللهُ بهذهِ الأحكامِ والتَّوجيهاتِ أنْ يُذْهِبَ عنكمُ الآثامَ والذُّنوبَ يا أهلَ البَيت، ويُطَهِّرَكمْ مِنها تَطهيرًا بَليغًا(111).

(111) ويطهِّرَكم مِن الدنَسِ الذي يكونُ في أهلِ معاصي اللهِ تطهيرًا. (الطبري). واستعارةُ الرجسِ للمعصيةِ والترشيح بالتطهيرِ لمزيدِ التنفيرِ عنها. (روح البيان).

﴿وَاذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ اللَّهِ وَالۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ [الأحزاب:34]


واذْكُرْنَ فَضْلَ اللهِ عَليكُنَّ وما ميَّزَكُنَّ به، مِنْ ذلكَ نُزولُ الوَحي في بُيوتِكُنَّ دونَ سَائرِ النَّاس، فاعْمَلْنَ بما أُنزِلَ على رَسُولِهِ مِنَ الآياتِ البَيِّنات، وسُنَّةِ نَبيِّهِ صلى الله عَليه وسلم، وعَلِّمْنَها النَّاس، واللهُ لَطيفٌ بعِبادِهِ المؤمِنين، عالِمٌ بما يُصلِحُ شَأنَهم.

﴿إِنَّ الۡمُسۡلِمِينَ وَالۡمُسۡلِمَٰتِ وَالۡمُؤۡمِنِينَ وَالۡمُؤۡمِنَٰتِ وَالۡقَٰنِتِينَ وَالۡقَٰنِتَٰتِ وَالصَّـٰدِقِينَ وَالصَّـٰدِقَٰتِ وَالصَّـٰبِرِينَ وَالصَّـٰبِرَٰتِ وَالۡخَٰشِعِينَ وَالۡخَٰشِعَٰتِ وَالۡمُتَصَدِّقِينَ وَالۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّـٰٓئِمِينَ وَالصَّـٰٓئِمَٰتِ وَالۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَالۡحَٰفِظَٰتِ وَالذَّـٰكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرٗا وَالذَّـٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [الأحزاب:35]


في حَديثٍ حسَنٍ أو صَحيح، أنَّ أُمَّ عُمارَةَ الأنصاريَّةَ رَضيَ اللهُ عنها أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَت: ما أرَى كُلَّ شَيءٍ إلاّ للرِّجال، وما أرَى النِّساءَ يُذْكَرْنَ بشَيء. فنزَلَتِ الآيَة.

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}: الدَّاخِلينَ تَحتَ مِظَلَّةِ الإسلام، المُنقادِينَ لحُكمِ الله. {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}: المُصَدِّقينَ باللهِ ورَسولِه، المُخلِصينَ في إيمانِهم. {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ}: القائمِينَ بالطَّاعَة، المُمتَثِلينَ أمرَ اللهِ ورَسُولِه. {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} في أقوالِهم، فإنَّ الصِّدْقَ يَهدي إلى البِرّ، وهوَ مِنْ دَلائلِ الإيمان. {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} عنِ المعاصي، وعلى ما أُمِروا بهِ مِنَ الطَّاعَة، وعلى ما يُقَدِّرُهُ اللهُ عَليهمْ مِنَ البَلايا. {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}: المُتَواضِعينَ للهِ بقُلوبِهمْ وجَوارِحِهم، الخائفِينَ مِنْ غضَبِهِ وعُقوبتِه. {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ}: زَكاةً ممّا يَجِبُ عَليهم، وتَطوُّعًا وإحسَانًا ومَعروفًا معَ النَّاس. {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ}: فَرْضًا أو نَفْلاً. {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} عمَّا لا يَحِلُّ لهم. {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} باللِّسانِ والقَلب، قائمينَ وقاعِدينَ ومُضطَجِعين، تَسبيحًا وتَحميدًا وتَكبيرًا وتَهلِيلاً، وقِراءَةً للقُرآن؛ هيَّأ اللهُ للمُتَّصِفينَ بتلكَ الصِّفاتِ الجَليلَة، جزاءَ طاعَتِهمْ وإخلاصِهم، ذكورًا وإناثًا: مَغفِرَةً لِما اقتَرَفوهُ مِنَ الذُّنوب، وثَوابًا عَظيمًا، هوَ الجنَّة.

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا﴾ [الأحزاب:36]


ولا يَصِحُّ ولا يَستَقيمُ لرَجُلٍ ولا لامرَأةٍ مِنَ المؤمِنينَ إذا حكمَ اللهُ ورسُولُهُ بشَيء، أنْ يَختارُوا مِنْ أمرِهمْ ما شَاؤوا، بلِ الواجِبُ عَليهمْ أنْ يَسمَعوا ويُطيعوا، ومَنْ يَعْصِ اللهَ ورَسُولَهُ ويَعْمَلْ برَأيهِ وهَواه، دونَ حُكمِ اللهِ ورَسُولِه، فقدْ ضَلَّ عنْ طَريقِ الحقّ، وانحرَفَ انحِرافًا بَيِّنًا.

وقدْ نزَلَتْ في ابنَةِ عَمَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَينبَ بنتِ جَحش، عندَما طَلبَ منها أنْ تقبَلَ الزَّواجَ مِنْ مَولاهُ زيدِ بنِ حارِثَة، فأبَت، فنزَلَتِ الآيَة، فوافقَت.

﴿وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ اللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا اللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى الۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ اللَّهِ مَفۡعُولٗا﴾ [الأحزاب:37]


واذكُرْ قَولكَ - أيُّها النبيُّ - لمَولاكَ زَيدٍ، الذي أنعمَ اللهُ عليهِ بالإسْلام، وأنعَمتَ عليهِ بالعِتقِ مِنَ الرِّقِّ ومَزيدِ القُرب: أَبْقِ على زَوجَتِكَ زَينَب، واتَّقِ اللهَ في أمرِها، ولا تُطَلِّقْها. وكانَ قدِ اشتَدَّ لِسانُها عليه، رَضيَ اللهُ عنهما. وتُسِرُّ في نَفسِكَ أيُّها الرَّسُولُ ما اللهُ مُظهِرُه، وهوَ أنَّ زَيدًا سيُطَلِّقُها وتتَزَوَّجُها بعدُ، وتَخافُ منِ اعتِراضِ النَّاسِ ولَومِهم، لكَونِكَ تزوَّجتَ زَوجةَ مَنْ تبَنَّيتَهُ سابِقًا بعدَ طَلاقِها منه، واللهُ أحَقُّ وأَولَى أنْ تَخافَهُ في كُلِّ أمر.

فلمَّا قضَى زَيدٌ حاجتَهُ منها وطلَّقَها، جَعلناها زَوجةً لك، حتَّى لا يَبقَى حرَجٌ على المؤمِنينَ في الزَّواجِ مِنْ زَوجاتِ أدعيائهمُ الذينَ تبنَّوهمْ مِنْ قَبل، بعدَ طلاقِهِنَّ وانقِضاءِ عِدَّتِهنّ، وكانَ أمرُ اللهِ وحُكمُهُ نافِذًا وحاصِلاً لا مَحالَة.

وكانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ تبنَّى زَيدَ بنَ حارِثَةَ قَبلَ النبوَّة، فكانَ يُقالُ لهُ "زَيدُ بنُ محمَّد"، فنزَلَ الوَحيُ بمَنعِ التبَنِّي، كما مرَّ في الآيَتَينِ الرَّابِعَة والخامِسَةِ مِنْ هذهِ السُّورَة.

﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنۡ حَرَجٖ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُۥۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ اللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا﴾ [الأحزاب:38]


ما كانَ هناكَ إثمٌ ولا حرَجٌ على النبيِّ فيما قسَمَ اللهُ لهُ وأحلَّه، وهذهِ سُنَّةُ اللهِ في أنبِيائهِ مِنْ قَبل، فلا يأمرُهمْ بشَيءٍ يَكونُ فيهِ عَليهمْ إثم، وكانَ أمرُ اللهِ وحُكمُهُ كائنًا ووَاقِعًا، لا مَعدِلَ عنه.

﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبٗا﴾ [الأحزاب:39]


الذينَ يُبَلِّغونَ رِسالاتِ اللهِ إلى النَّاسِ ويُؤَدُّونَها بأمانَة(112)، ويَخافُونَهُ ولا يَعصُونَه، ولا يَخافُونَ أحَدًا سِوَاه، مَهما كذَّبَهمُ المُناوِئونَ وآذَوهمْ وسَخِروا منهم، وكفَى باللهِ مُراقِبًا أعمالَ عِبادِه، ومُحاسِبَهمْ عَليها.

(112) المرادُ ما يتعلقُ بالرسالة، وهي سفارةُ العبدِ بين الله وبين ذوي الألبابِ من خلقه، أي: إيصالُ الخبرِ من الله إلى العبد. (روح البيان). يمدحُ تباركَ وتعالى {ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ} أي: إلى خلقه، ويؤدُّونها بأماناتها. (ابن كثير).

﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّـۧنَۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا﴾ [الأحزاب:40]


ما كانَ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكم، فليسَ هوَ أبًا لزَيدٍ وإنْ كانَ تبنَّاهُ قَبلَ النبوَّة، ولكنَّهُ رَسُولُ اللهِ إليكمْ وإلى النَّاسِ أجمَعين، وخاتَمُ الأنبِياءِ كُلِّهم، فلا نَبيَّ بَعدَه. وهوَ رَحيمٌ بكم، ومُشفِقٌ عَليكمْ كالأب. واللهُ عَليمٌ بكُلِّ شَيءٍ في الكَونِ مِنْ أمورِ النَّاسِ وغَيرِهم، لا تَخفَى عَليهِ خافِيَة.