إذا أطلقَ اللهُ للنَّاسِ رَحمَةً مِنْ عندِه، مِنْ نِعمَةٍ، وأمْنٍ، وعِلمٍ، وصِحَّةٍ، فلا يَقدِرُ أحَدٌ على مَنعِ عَطائه، وإذا حبسَهُ عَنهمْ فلا يَقدِرُ أحَدٌ على مَنحِهِ لهم، واللهُ عَزيزٌ يَغلِبُ ولا يُغلَب، حكيمٌ، فلا يُقَدِّرُ إلاّ ما فيهِ مَصلحَةٌ وحِكمَة.
واللهُ يَقبَلُ منكمُ الكَلامَ الطيِّبَ المُبارَك، وإليهِ سُبحانَهُ يَصعَدُ الذِّكرُ، والتِّلاوَة، والدُّعاء. والعمَلُ الحسَنُ المُوافِقُ للشَّرعِ هوَ الذي يَرفَعُ الكَلامَ الطيِّب، الذي يَدلُّ على الإخْلاص، وعلى مُوافقَةِ ما شرَعَ اللهُ لعِبادِهِ مِنَ القَولِ والعمَل.
والذينَ يَعمَلونَ السيِّئات، أو يُراؤونَ بأعمالِهمْ ليُوهِموا أنَّهمْ في طاعَةِ الله، لهمْ عَذابٌ شَديدٌ مؤلِم، ومَكرُ أولئكَ المُفسِدينَ، المُشرِكينَ أو المُرائين، يَفسُدُ ويَبطُل، ولا يَبقَى لهُ أثَرٌ مِنْ خَير، فهوَ لم يُبْنَ على الشَّرعِ والطَّاعَة، وإنَّما بُنيَ على الهوَى والضَّلال.
إنَّها جَماداتٌ لا تَفقَهُ شَيئًا، وإذا دعَوتُموها لا تَسمَعُ دُعاءَكم، ولو أنَّها سَمِعَت – فرَضًا - فلا قُدرَةَ لها على إجابةِ طلَبِكم، فلا رُوحَ فيها ولا حيَاة، ويَومَ القِيامَةِ تَتبرَّأُ هذهِ الأصْنامُ منكم، حيثُ يُنطِقُها اللهُ فتتَكلَّمُ وتَقول: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [سورة يونس: 28]، أي: لم تَكونوا تَعبُدونَنا بطلَبِنا، وإنَّما كنتُمْ تُطيعُونَ أهواءَكم، وتُوالُونَ الشَّياطين. ولا يُنَبِّئُكَ بمِثلِ هذا الأمرِ مِثلُ خَبيرٍ بها، فهوَ العالِمُ بالغَيب، والمُطَّلِعُ على عَواقبِ الأمُور، وهوَ اللهُ سُبحانَه.
أيُّها النَّاس، أنتُمُ المُحتاجُونَ إلى الله، واللهُ غَنيٌّ بذاتِه، لا يَحتاجُ إلى شَيءٍ مِنْ عِبادَتِكمْ أو مُساعدَتِكم، وهوَ المَحمودُ في إحسانِهِ إليكمْ وإلى الخَلقِ أجمَعين.
ولا يَحمِلُ أحَدٌ ذَنْبَ آخَر، ولا يُعاقَبُ بذَنْبِ غَيرِه، وإذا دعَتْ نَفسٌ أثقَلَتْها الذُّنوبُ والآثامُ غيرَها إلى حَمْلِ ما عَليها مِنْ ذُنوبٍ يومَ القيامة، فإنَّها لا تَستَجيب، ولا يُحمَلُ عَنها شَيء، وإنْ كانَ طالِبُهُ مِنْ ذَوي قَرابتِه، فالكُلٌّ مَشغُولٌ بنَفسهِ وحَالِه. وهمْ قدْ حمَلوا أثقَالَ إضْلالِهمْ معَ أثقَالِ ضَلالِهمْ، والكلُّ مِن أوزارِهم، لا مِن أوزارِ غيرِهم(118).
وهؤلاءِ الكافِرونَ لا يَتَّعِظونَ بكَلامِك، لأنَّهمْ لا يُؤمِنونَ بالبَعثِ والحِسابِ على الأعمَال، إنَّما يَنفَعُ الوَعظُ والإنذارُ مَنْ يَخافونَ اللهَ وهمْ لم يرَوه، ويَخشَونَ عَذابَهُ وهوَ غائبٌ عَنهم، وواظَبوا على إقامَةِ الصَّلاةِ كما فرَضَها عَليهم.
ومَنْ أصلحَ نَفسَهُ وعَمِلَ عمَلاً حسَنًا، فإنَّ نَفعَهُ وثَوابَهُ يَعودُ عَليه، وإلى اللهِ المَرجِعُ والحِساب، فيُجازي كُلاًّ بما عَمِل، وبما يَستَحِقُّ مِنْ نَعيمٍ أو عَذاب.
(118) إذا كانَ المقصودُ يومَ القيامةِ فلا إشكالَ في الآية، وهو ما ذهبَ إليه ابنُ كثير وغيره.. قال: "وإنْ تَدْعُ نفسٌ مثقلَةٌ بأوزارها إلى أن تُساعَدَ على حملِ ما عليها من الأوزار، أو بعضه، {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} أي: وإن كان قريباً إليها، حتى ولو كان أباها أو ابنها، كلٌّ مشغولٌ بنفسهِ وحاله".
ووجَّهَهُ العلّامةُ الشوكاني بأوضحَ منه، فقال: المعنى لا تحملُ نفسٌ حملَ نفسٍ أخرى، أي: إثمها، بل كلُّ نفسٍ تحملُ وزرها. ولا تخالِفُ هذه الآيةُ قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [سورة العنكبوت: 13]؛ لأنهم إنما حمَلوا أثقالَ إضلالهم مع أثقالِ ضلالهم، والكلُّ من أوزارهم، لا من أوزارِ غيرهم، ومثلُ هذا حديث: "مَن سنَّ سنَّةً سيِّئة، فعليه وزرُها، ووزرُ مَن عملَ بها إلى يومِ القيامة"، فإن الذي سنَّ السنَّةَ السيئةَ إنما حملَ وزرَ سنَّتهِ السيِّئة".