تفسير سورة ص

  1. سور القرآن الكريم
  2. ص
38

﴿۞وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ الۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ الۡمِحۡرَابَ﴾ [ص:21]


وهلْ عرَفتَ خبرَ الخُصومِ عندَما عَلَوا سُورَ المِحرابِ الذي كانَ فيهِ داود؟

﴿إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَاحۡكُم بَيۡنَنَا بِالۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَاهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ الصِّرَٰطِ﴾ [ص:22]


إذْ دخَلوا عَليهِ فَجأة، فخافَ منهم، فقالوا له: لا تخَف، نحنُ خصمَانِ جارَ بَعضُنا على بَعض، فاقْضِ بينَنا بالحقِّ والعَدل، ولا تتَجاوَزْه، وأرشِدنا إلى طَريقِ العَدلِ والصَّواب.

﴿إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الۡخِطَابِ﴾ [ص:23]


قالَ أحَدُ المتخاصِمَين: إنَّ أخي هذا هوَ مُخاصِمي، لهُ تِسْعٌ وتِسعونَ نَعجَةً، وأنا ليَ نَعجَةٌ واحِدَة، فقالَ لي: اجعَلْ نَعجتَكَ هذهِ مِنْ نَصيبي، وشدَّدَ عليَّ في القَول، وغَلبَني في الخُصومَة.

﴿قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ الۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَاسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩﴾ [ص:24]


قالَ لهُ داودُ عَليهِ السَّلام: لقدْ جارَ عَليكَ عندَما طلبَ مِنكَ أنْ تَضُمَّ نَعجتَكَ إلى نِعاجِه، وإنَّ كثيرًا مِنَ الشُّرَكاءِ الذينَ تَختَلِطُ أموالُهمْ يَظلِمُ بَعضُهمْ بَعضًا، وخاصَّةً الأقوياءَ منهمْ مِنْ أهلِ الدُّنيا، إلاّ المؤمِنينَ الصَّالِحين، فإنَّهمْ يَبتَعِدونَ عنِ الظُّلمِ والعُدوان، وأمثالُ هؤلاءِ قَليلون.

وعَلِمَ داودُ أنَّنا اختبَرناه، فقدِ اختفَى الخَصمانِ مِنْ عندِه، ولعلَّهما كانا مَلَكَين، فتَذكَّرَ داودُ مَجلِسَ الحُكم، وأنَّهُ لم يُوَجِّهْ إلى الطَّرَفِ الآخَرِ سُؤالاً ولم يَستَفسِرْ منهُ عنْ سبَبِ ضَمِّ نَعجَةِ خَصمِهِ إلى نِعاجِه، وكانَ عَليهِ أنْ يتَثبَّتَ ويُكمِلَ أُصولَ القَضاء، فأسرَعَ إلى السُّجودِ لرَبِّهِ مُستَغفِرًا، ورَجعَ وتَاب.

وفي آخِرِ هذه الآيةِ سَجدَة. وقدْ جاءَ في حَديثٍ صَحيحٍ رواهُ ابنُ خُزَيمَةَ وغيرُه، قالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهما: جاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رَسُولَ الله، إنِّي رَأيتُ في هذهِ اللَّيلَةِ فيما يَرَى النَّائم، كأنِّي أُصَلِّي خَلفَ شَجرَة، فرَأيتُ كأنِّي قرَأتُ سَجْدَة، فسَجَدتُ، فرأيتُ الشجَرَةَ كأنَّها تَسجدُ بسُجودِي، فسَمعتُها وهي ساجِدَةٌ، وهيَ تَقول: اللهمَّ اكتُبْ لي عندَكَ أجرًا، واجعَلْها لي عندَكَ ذُخرًا، وضَعْ عَنِّي بها وِزْرًا، واقْبَلْها منِّي كما قَبِلْتَ مِنْ عَبدِكَ داود.

قالَ ابنُ عبَّاس: فرَأيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قرَأ السَّجدَةَ ثمَّ سجَد، فسَمِعتُهُ يَقولُ مثلَما قالَ الرَّجُلُ عنْ كَلامِ الشجَرَة.

﴿فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ﴾ [ص:25]


فغَفَرنا لداودَ ما بدَرَ منه، وإنَّ لهُ عندَنا يَومَ القيامَة قُربَةً وعُلوَّ مَنزِلَة، ومَرجِعًا حَسنًا ومُنقَلَبًا طيِّبًا.

﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي الۡأَرۡضِ فَاحۡكُم بَيۡنَ النَّاسِ بِالۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ الۡحِسَابِ﴾ [ص:26]


يا داودُ، إنَّا استَخلَفناكَ على المُلكِ في الأرْضِ لتُدَبِّرَ أمورَ العِبادِ بأمرِنا، فاحكُمْ بينَهمْ بالحقِّ والعَدلِ كما شرَعَ الله، ولا تتَّبِعْ هوَى النَّفسِ وشَهوتَها في الحُكم، فيَكونُ ذلكَ سبَبًا لصَرفِكَ عنْ شَريعَةِ الله، إنَّ الذينَ يَزيغُونَ عنِ الحقّ، لهمْ عَذابٌ مؤلِمٌ قاس، لأنَّهمْ تركوا الحُكمَ بالحقِّ والعَدل، ولم يَعمَلوا ليَومِ الحِساب.

﴿وَمَا خَلَقۡنَا السَّمَآءَ وَالۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ﴾ [ص:27]


وما خَلَقنا هذهِ السَّماواتِ العَظيمة، والأرضَ وما عَليها عبَثًا ولَعِبًا، فذلكَ عَقيدَةُ الكافِرينَ الذينَ يُنكِرونَ الحِسابَ والجَزاء، فالوَيلُ والهَلاكُ لهمْ مِنَ النَّارِ المُعَدَّةِ لهم.

﴿أَمۡ نَجۡعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ كَالۡمُفۡسِدِينَ فِي الۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ الۡمُتَّقِينَ كَالۡفُجَّارِ﴾ [ص:28]


أمْ نُسَاوي بينَ المؤمِنينَ الصَّالحينَ والمُجرِمينَ المُفسِدينَ في الأرْض؟ أمْ نُسَاوي بينَ المُطيعينَ المُخلِصينَ والكافِرينَ الفاجِرين؟ إنَّهمْ لا يَستَوون، فلا بُدَّ مِنْ قَضاءٍ عادِلٍ وحِسابٍ كامِلٍ يَومَ البَعث، ليُجزَى كُلٌّ بما عَمِل.

﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الۡأَلۡبَٰبِ﴾ [ص:29]


هذا كتابُ اللهِ للنَّاس، كثيرُ الخَيرِ والمَنفَعَةِ لهم، في أمورِ دينِهمْ ودُنياهُم، ليَتفَكِّروا في آياتِهِ ويَتفَهَّموا حِكَمَها وأسرارَها، وليَتَّعِظَ بها أصحابُ العُقولِ النيِّرَة.

﴿وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ نِعۡمَ الۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ﴾ [ص:30]


ووَهبْنا سُلَيمانَ لداودَ، بهجةً لهُ في حيَاته، ووارثًا لملكِهُ بعدَ مماتِه، وكانَ نبيًّا جَليلاً، وعَبدًا كثيرَ التَّوبَةِ والإنابَةِ إلى الله(129).

(129) الهبةُ عطاءُ الواهبِ بطريقِ الإنعام، لا بطريقِ العوضِ والجزاءِ الموافقِ لأعمالِ الموهوبِ له، فسليمانُ النعمةُ التامةُ على داود؛ لأن الخلافةَ الظاهرةَ الإلهيةَ قد كملتْ لداود، وظهرتْ أكمليتُها في سليمان، وكذا على العالمين؛ لما وصلَ منه إليهم من آثارِ اللطفِ والرحمة. وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه قال: أولادُنا من مواهبِ الله، ثم قرأ: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} [سورة الشورى: 49]. (روح البيان).

﴿إِذۡ عُرِضَ عَلَيۡهِ بِالۡعَشِيِّ الصَّـٰفِنَٰتُ الۡجِيَادُ﴾ [ص:31]


إذْ عُرِضَ عَلى سُلَيمانَ(130) في وَقتِ العَشيِّ الخَيلُ السَّريعَةُ الخَفيفَةُ في جَريها، وهوَ في مُلكِهِ وسُلطانِه.

(130) العَرض: الإِمرارُ والإِحضارُ أمامَ الرائي، أي: عرَضَ سُوَّاسُ خيلهِ إيّاها عليه. (التحرير).

﴿فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ الۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِالۡحِجَابِ﴾ [ص:32]


فانشغَلَ بها، فآبَ وقال: لقدْ آثَرتُ الانشِغالَ بهذهِ الخَيلِ عنِ ذِكرِ اللهِ حتَّى غابَتِ الشَّمس؟

﴿رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِالسُّوقِ وَالۡأَعۡنَاقِ﴾ [ص:33]


رُدُّوا الخَيلَ إليّ. فجعَلَ يَضرِبُ أعناقَها وسِيقانَها، لأنَّها شغَلَتْهُ عنِ الذِّكر.

ذكرَ مُفَسِّرونَ أنَّهُ يَعني ذَبحَها، وأنَّ ذلكَ كانَ جائزًا في شَريعَتِهم، وأنَّهُ تصَدَّقَ بلُحومِها للفُقَراء.

﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص:34]


وقدِ اختبَرنا سُليمانَ في مُلكِه، وألقَينا على كُرسيِّهِ جسَدًا. ذُكِرَ أنَّهُ شِقُّ رَجُل، أو شَيطان، ثمَّ رجَعَ إلى رَبِّهِ، فتابَ وأناب.

ولعَلَّهُ إشارَةٌ إلى ما في الصَّحيحَين - واللَّفظُ لمُسلِم - مِنْ قَولِهِ صلى اللهُ عَليهِ وسلَّم: "قالَ سُلَيمانُ بنُ داود: لأطُوفَنَّ اللَّيلَةَ على تِسعِينَ امرَأة، كُلُّها تأتي بفارِسٍ يُقاتِلُ في سَبيلِ الله، فقالَ لهُ صاحِبُه: قُلْ إنْ شَاءَ الله. فلمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ الله، فطافَ عَليهنَّ جَميعًا، فلمْ تَحمِلْ مِنهنَّ إلاّ امرَأةٌ واحِدَة، فجاءَتْ بشِقِّ رَجُل. وايْمُ الذي نَفسُ محمَّدٍ بيدِه، لو قالَ إنْ شَاءَ الله، لجَاهَدوا في سَبيلِ اللهِ فُرسانًا أجمَعون".

﴿قَالَ رَبِّ اغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ الۡوَهَّابُ﴾ [ص:35]


فالتَجأَ إلى رَبِّهِ مُستَغفِرًا وقال: اللهمَّ اغفِرْ لي ما بدَرَ منِّي، وأعطِني مُلكًا لا يَكونُ مِثلُهُ لأحَدٍ مِنَ البشَرِ مِنْ بَعدي، فأنتَ الذي تهَبُ ما تَشاءُ لمَنْ تَشاء.

﴿فَسَخَّرۡنَا لَهُ الرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ﴾ [ص:36]


فسَخَّرْنا لهُ الرِّيحَ وذَللَّناها لطاعَتِه، فكانتْ تَسيرُ بأمرِهِ سَهلَةً ليِّنَةً حيثُ أراد.

﴿وَالشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ﴾ [ص:37]


كما ذَلَّلنا لهُ الشَّياطينَ تُنَفِّذُ أوامِرَه، مِنْ بَنَّائينَ يَعمَلونَ لهُ ما شاءَ مِنَ المَحاريبِ والتَّماثيل، وغَوَّاصِينَ يَستَخرِجونَ لهُ اللَّآلِئَ مِنَ البَحر، وغَيرَ ذلكَ ممَّا يَشُقُّ على البشَرِ عمَلُه.

﴿وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الۡأَصۡفَادِ﴾ [ص:38]


وشَياطينَ آخَرينَ مَشدُودينَ في الأغلالِ والقُيود، ممَّنْ تمرَّدُوا وامتنَعُوا مِنَ العمَل، أو أسَاؤوا فيهِ ولم يُتقِنُوه.

﴿هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَامۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ﴾ [ص:39]


هذا عَطاؤنا لكَ ممَّا سَألتَهُ يا سُلَيمان، فأعطِ منهُ مَنْ شِئت، وامنَعْهُ مَنْ شِئت، لا حرَجَ عَليكَ في ذلكَ ولا حِساب.

﴿وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ﴾ [ص:40]


وإنَّ لهُ عِندَنا في الآخِرَةِ قُربَةً ومَنزِلَةً عاليَة، ومَرجِعًا كَريمًا طَيِّبًا.