فاللهُ وَحدَهُ يُخَصُّ بالعِبادَةِ والإخلاصِ فيها له، فلا إلهَ إلاّ هو، والذينَ جعَلوا معَ اللهِ شُرَكاءَ يَقولون: نحنُ لا نَعبدُهمْ إلاّ ليُقَرِّبونا إلى الله، ويُوصِلوا أدعيَتَنا إليه، ويَشفَعوا لنا عِندَه، ليَنصُرَنا ويَرزُقَنا!
واللهُ يَقضي بينَهمْ وبينَ مَنْ أخلَصوا الدِّينَ للهِ يَومَ القِيامَة، ويَجزي كُلاًّ بما عَمِل، واللهُ لا يَهدي مَنْ كانَ قَصدُهُ الكَذِبَ، ولا مَنْ كانَ مُخاصِمًا عَنيدًا مُصِرًّا على الكُفر، الذي تَمادَى في الغَيّ، وتمرَّنَ في الضَّلالَة، حتَّى صارَ أعمَى البَصيرَة.
وإذا أصابَ الإنسَانَ بَلاءٌ وشِدَّة، مِنْ مرَضٍ وفَقرٍ وغَيرِه، دَعا اللهَ وحدَهُ في ذُلٍّ وخُضُوع، ورجعَ إليهِ خاشِعًا مُتضَرِّعًا، فإذا مَنحَهُ نِعمَةً مِنْ عندِهِ وزادَهُ فَضلاً، نَسِيَ ما كانَ يَدعُو بهِ ويَتضَرَّعُ إلى رَبِّهِ وهوَ في حالِ ضُرّ. والمؤمِنُ لا يَنسَى رَبَّهُ ولو كانَ في رَفاهية. وزادَ هذا الكافِرُ بنِعمَةِ رَبِّهِ فجعَلَ لهُ شُرَكاءَ في العِبادَة، ليُضِلَّ النَّاسَ عنِ التَّوحيدِ ويَصُدَّهمْ عنْ طاعَةِ الله، قُلْ لمَنْ كانَ هذا مِنهَجُه: تَمتَّعْ بكُفرِكَ قَليلاً في الدُّنيا إلى أنْ يَحينَ أجَلُك، فإنَّكَ مِنْ أهلِ النَّار(133).
(133) التمتع: الانتفاعُ المؤقت، والتقدير: تمتَّعْ بالسلامةِ من العذابِ في زمنِ كفرِكَ أو متكسِّباً بكفرِك، تمتعاً قليلاً، فأنت آيلٌ إلى العذاب؛ لأنك من أصحابِ النار. ووصفُ التمتعِ بالقليل؛ لأن مدةَ الحياةِ الدنيا قليلٌ بالنسبةِ إلى العذابِ في الآخرة. وصيغةُ الأمرِ في قوله: {تَمَتَّعْ} مستعملةٌ في الإِمهال، المرادِ منه الإِنذارُ والوعيد. (التحرير، باختصار).
أخبِرهمْ بقَولي أيُّها الرَّسُول: يا مَنْ آمَنَ مِنْ عِبادي، أطيعُوا اللهَ واجتَنِبوا مَعاصِيه، فإنَّ لمَنْ آمنَ في هذهِ الدُّنيا وأحسنَ أجرًا ومَثوبَةً حسَنَةً في اليَومِ الآخِر، وأرضُ اللهِ كَبيرَةٌ رَحبَة، وإذا ضُيِّقَ عَليكمْ في دينِكمْ ولم تَتمَكَّنوا مِنْ إقامَةِ شَعائرِ الله، فهاجِروا إلى حيثُ تَتمَكَّنونَ مِنْ ذلك، إنَّما يُجزَى الذينَ صبَروا على دينِهمْ ولم يَترُكوهُ لأذًى أصابَهم، أجرًا عَظيمًا لا يَعرِفُ قَدْرَهُ إلاّ الله.
فإذا كتبَ اللهُ على الكافِرينَ العَذاب، لكَونِهمُ اتَّبَعوا خُطُواتِ الشَّيطان، وعبَدوا الأوثَان، أتَقدِرُ على إنقاذِهمْ مِنَ الضَّلالِ الذي همْ فيه، والنَّارِ التي ستَكونُ مَصيرَهم؟
أمَّا الذينَ خافُوا رَبَّهم، فأحسَنوا لهُ الطَّاعَة، وابتعَدوا عمَّا نهَى، فلهمْ في الجنَّةِ مَنازِلُ عاليَة، بَعضُها فَوقَ بَعض، تَجري مِنْ تَحتِها الأنهار(134)، زيادَةً في جَمالِها ونَعيمِها، وهذا وَعدٌ مِنَ اللهِ لعِبادِهِ المؤمِنينَ المتَّقين، واللهُ يَقولُ الحقّ، ولا يُخلِفُ وَعدَه.
(134) جريُ الأنهارِ من تحتها [أي: من تحتِ الغرف]، من كمالِ حُسنِ منظرِها للمُطلِّ منها. ومعنى {مِنْ تَحْتِها}: أن الأنهارَ تمرُّ على ما يجاورُ تحتها، كما تقدَّم في قولهِ تعالى: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في آل عمران: 15، فأُطلِقَ اسمُ (تحت) على مُجاورة. ويجوزُ أن يكونَ المعنى: تجري من تحتِ أسسِها الأنهار، أي: تخترقُ أسسَها، وتمرُّ فيها وفي ساحاتها، وذلك من أحسنِ ما يُرَى في الديار، كديارِ دمشق، وقصرِ الحمراءِ بالأندلس، وديارِ أهلِ الترفِ في مدينةِ فاس، فيكونُ إطلاقُ (تحت) حقيقة. والمعنى أن كلَّ غرفةٍ منها يجري تحتها نهر، فهو من مقابلةِ الجمعِ ليُقسَّمَ على الآحاد، وذلك بأن يصعدَ الماءُ إلى كلِّ غرفة، فيجري تحتها. (التحرير والتنوير).