تفسير سورة آل عمران

  1. سور القرآن الكريم
  2. آل عمران
3

﴿لَّقَدۡ سَمِعَ اللَّهُ قَوۡلَ الَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ الۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الۡحَرِيقِ﴾ [آل عمران:181]


لقدْ سَمِعَ اللهُ قولَ اليَهودِ عندَما قالوا إنَّ اللهَ فقيرٌ ونحنُ أغنياء، وذلكَ لمّا طَلبَ سُبحانَهُ منْ عِبادهِ أنْ يُنفِقوا مِنْ أموالِهمْ ليدَّخِرَها لهمْ ويَجزيَهمْ عليها خَيرَ الجزاءِ يومَ القيامة، فقالَ عزَّ مِنْ قائل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، قالتْ يَهود: "يا محمَّد، افتَقرَ ربُّك، يسألُ عبادَهُ القَرْضَ"! في كُفرٍ وسُوءِ أدَبٍ معَ ربِّ الكَون!

يقولُ سُبحانَهُ مُهَدِّداً بما يَنتظرُهم: سنَكتُبُ قولَهمْ هذا ونُحاسِبُهم عليه، فلا هو مَنسِيٌّ ولا هوَ مُهْمَل، إلى جانبِ آثامٍ عَظيمةٍ أخرَى لهم، كقتلِهمْ أنبياءَ الله. وهمْ يَتباهَوْنَ بهذهِ الجرائمِ المنكَرةِ التي تَقشَعِرُّ منها الأبدَان، وتَنبِذُها الفِطَرُ السَّليمة. وسنَجزِيهمْ على ذلكَ شرَّ الجزاء، عَذاباً كبيراً مُخيفاً لا يَعرِفُ قدْرَهُ وكيفيَّتَهُ إلا الله!

﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَأَنَّ اللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّامٖ لِّلۡعَبِيدِ﴾ [آل عمران:182]


وهذا كلُّهُ بسببِ ما اقتَرفتْهُ أيديكمْ منْ أعمالٍ شَنيعةٍ أيُّها اليَهود، وهوَ جَزاءٌ حَقّ، لا ظُلمَ فيهِ ولا قَسوة، واللهُ لا يَظلِمُ عَبيدَه، فلا يوقِعُ بهمْ عَذاباً لا يَستَحِقُّونه، على الرَّغمِ منْ أنَّهم عَصَوا ربّاً، وهمْ عَبيد.

﴿الَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ النَّارُۗ قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِي بِالۡبَيِّنَٰتِ وَبِالَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [آل عمران:183]


إنَّهمُ اليَهود، الذينَ زَعَموا أنَّ اللهَ قدْ أخذَ منهمْ عَهداً كما هوَ في كتبِهم، ألاّ يُؤمِنوا بنبيٍّ حتَّى يَكونَ مِنْ مُعجِزاتهِ أنَّ أحَداً مِنْ أتباعهِ لا يَتصدَّقُ بصَدَقةٍ مَقبولَةٍ إلاّ ونَزلتْ نارٌ منَ السَّماءِ فأكلتْها، في عَلامةٍ على قَبولها.

فقلْ لهم: لقدْ سبقَ أنْ بعَثَ اللهُ إليكمْ رُسُلاً مِنْ قَبلي مُؤيَّدينَ بمُعجِزات، منها ما ذَكرتمْ مِنْ قَرابينَ تأكلُها النَّار، ولكنَّكمْ لم تَقبلوا منهم، فلِمَ كذَّبتُموهمْ وقَتلتُموهم، إنْ كنتُمْ صادقينَ في دَعواكمْ بأنَّكم تَتَّبعونَ الحقَّ وتَنقادونَ للرُّسُل؟

﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ جَآءُو بِالۡبَيِّنَٰتِ وَالزُّبُرِ وَالۡكِتَٰبِ الۡمُنِيرِ﴾ [آل عمران:184]


- فإذا كذَّبوكَ ولم يَتَّبعوا ما أُرسِلْتَ به، فلكَ أسوَةٌ بمَنْ سَبقكَ مِنَ الأنبياءِ الذينَ كذَّبَتْهمْ يَهود، وكذَّبوا ما جاؤوا بهِ مِنْ مُعجِزاتٍ وخَوارِق، وتَوجيهاتٍ إلهية، وكُتبٍ مُنْزَلَة، بيِّنةٍ جَليَّة.

﴿كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ الۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدۡخِلَ الۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ الۡغُرُورِ﴾ [آل عمران:185]


فلا تَحزَنْ أيُّها الرسُول، فإنَّ كلَّ نفسٍ مَيِّتةٌ لا مَحالة، وبعدَها دارٌ يَتميَّزُ فيها المُحْسِنُ عنِ المُسِيء، ويُجازي اللهُ الخلائقَ بأعمالِهم، كثيرِها وقَليلِها، كبيرِها وصَغيرِها، فلا يُظْلَمُ أحدٌ مِثقالَ ذرَّة.

فمنْ بَعُدَ عنِ النّار ونجا منها وأُدخِلَ الجنَّةَ فقدْ فازَ وظفرَ ببُغيتِه، وما لذَّاتُ الحياةِ الدُّنيا وزَخارفُها إلا مَتاعٌ قَليلٌ زَائل.

﴿۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ الَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ الۡأُمُورِ﴾ [آل عمران:186]


- وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ يُؤذَوْنَ مِنْ قِبَلِ المشرِكينَ واليَهودِ حينَ قُدومِهمُ المدينة، فأُمِروا بالعفوِ والصَّبر: سوفَ تُمتَحَنونَ أيُّها المسلِمونَ في أموالِكم بالنَّقص، وفي أنفسِكم بالأمراضِ والجِراحِ وما إليها - وقدْ أخذَ المشرِكونَ أموالَهمْ وعذَّبوهمْ في مكَّةَ - وسَتسمَعونَ منَ اليهودِ والنصارَى ومنْ المشرِكينَ كلاماً وهِجاءً مُؤذياً، منَ الطَّعنِ في الدِّين، والتَّحقيرِ والاستِهزاء، والتَّحريضِ على القَتل، فإذا صَبرتمْ على أذاهُم، وعَفوتُمْ عنهم، واشتَغلتمْ بطاعةِ اللهِ وطلبِ رِضوانِه، فإنَّ ذلكَ مِنْ خيرِ الأمورِ وأفضلِها، حتَّى تَتقَوَّوا وتُرهِبوهُم.

﴿وَإِذۡ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَاشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ﴾ [آل عمران:187]


لقدْ أخذَ اللهُ العهدَ والميثاقَ على أهلِ الكتابِ أنْ يُبَيِّنوا للنَّاسِ أمرَ الرسُولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كما علَّمهمْ أنبياؤهمْ وكما هو مسطَّرٌ في كتُبِهم، وألاّ يَكتُموه، حتَّى إذا أرسلَهُ اللهُ عَرفوهُ وتابَعوه، لكنَّهمْ طَرحوهُ وضَيَّعوهُ وتَركوا العَملَ به، واستَعاضوا بذلكَ الهدايا والمآكِلَ والرِّشا، حَظًّا دُنيوياً حَقيراً مُقابلَ أمرٍ عَظيمٍ يترتَّبُ عليهِ تَضليلُ أُمَمٍ وأجيالٍ على مدَى قُرونٍ وأحقاب... فبئستِ التجارةُ تجارتُهم، وبئسَ ما يَشتَرون.

قالَ قتادةُ رحمَهُ الله: هذا ميثاقٌ أخذَهُ اللهُ تعالَى على أهلِ العِلم. فمَنْ عَلِمَ شَيئاً فليُعلِّمه، وإيّاكم وكِتمانَ العِلم.

وقالَ ابنُ كثير: في هذا تحذيرٌ للعُلماءِ أنْ يَسلُكوا مَسلكَهم، فيُصيبَهم ما أصابَهم...

﴿لَا تَحۡسَبَنَّ الَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ الۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [آل عمران:188]


لا تَظُنَّنَّ الذينَ يَفرَحونَ بما اقتَرفوا مِنْ أفعالٍ سيِّئةٍ، ويُحِبُّونَ أنْ يُظهِروا للنَّاسِ أنَّ ما فَعلوهُ هوَ الحقّ، مثلما كانَ يَفعلُ اليَهودُ عندما يُسألونَ عنْ شَيءٍ مِنَ العلمِ الذي بأيدِيهم، فيُضَلِّلونَ الناسَ ويُجيبونَهمْ بكلامٍ فيهِ كَذِبٌ وتَحريف، ويَطلبونَ شُكرَ الناسِ لهمْ على إيمانِهمْ وأمانَتِهمْ في العِلم!! فلا تَظُنَّ أنَّهمْ بمَنجاةٍ منْ عِقابِ الله، ولسوفَ يُعَذِّبُهمْ عَذاباً مؤلماً مُوجعاً.

﴿وَلِلَّهِ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:189]


واعلَموا أنَّ كلَّ شيءٍ ممّا في السَّماواتِ والأرضِ هوَ مُلْكٌ لله، فهوَ المتصرِّفُ فيهما كيفَما يَشاء، والقادرُ على ما يَشاء، لا يُعجِزُه شَيءٌ ممّا يُريدُ فيهما، فاخشَوهُ ولا تخالِفوه، واحذَروا نِقمتَهُ وغَضَبَه.

﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَاخۡتِلَٰفِ الَّيۡلِ وَالنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي الۡأَلۡبَٰبِ﴾ [آل عمران:190]


إنَّ في خَلْقِ السماوات، بارتفاعِها واتِّساعِها، وما فيها منْ نُجومٍ وأفْلاك، والنظامِ الدقيقِ في سَيرِها، وتكامُلِ أنظمتِها وتنسيقِها، وعُمومِ نَواميسِها، والأرضِ وما فيها منْ أحياءٍ ونباتاتٍ شتَّى، وجِبالٍ شاهِقات، وبِحارٍ عَظيمة، ومَعادِنَ ومَنافِع، وفي تَعاقُبِ اللَّيلِ والنّهار، وكونِ كلٍّ منهما يَخلُفُ الآخَر، بحسَبِ طُلوعِ الشَّمسِ وغُروبِها، أو في تَفاوتِهما بازديادِ أحدِهما وانتِقاصِ الآخَر، كلُّ ذلكَ آياتٌ وأدِلِّةٌ عَظيمةٌ على أُلوهيَّةِ اللهِ ووَحدانيَّتِه، لمنْ عَقَلَ منَ النَّاسِ وأدركَ الأشياءَ على حقائقِها، وتجرَّدَ منْ شَوائبِ الوَهمِ والتَّقليد، فتَفكَّرَ، وصَدَّق، واعتَبر، وآمَن، واستَسلمَ للحَقّ.

﴿الَّذِينَ يَذۡكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191]


إنَّهمُ المؤمِنونَ إذاً، الذينَ لا يَكِلُّونَ ولا يَمَلُّونَ مِنْ ذكرِ الله، ولا يَغفُلونَ عنهُ في عامَّةِ أوقاتِهم، لمعرفتِهمْ بأنَّهُ الحقُّ الذي يَنبَغي ألاّ يُنسَى، ولخُشوعِهم، واطمئنانِ قلوبِهمْ بذكرِه، فيَذكرونَهُ قائمين، وقاعِدين، ومُضطَجِعِين، ويَتفكَّرونَ في عظمةِ خَلْقِ الله، الدالَّةِ على علمهِ وقُدرتهِ وعَظمتهِ وحِكمتِهِ سُبحانه، ويَتأمَّلونَ فيما خلقَ وبَثَّ في السَّماواتِ والأرضِ مِنْ بَديعِ صُنعِه، ويَقولون: ربَّنا ما خَلقتَ هذا الكونَ عَبَثاً وهَزْلاً، فأنتَ مُنَزَّهٌ عنِ النقائصِ والعَيْبِ والعَبَث، بلْ هوَ لحِكَمٍ عَظيمةٍ وأمورٍ جَليلَة، ليَعرِفَ الناسُ ربَّهمُ العَظيم، وليَعرِفوا بَديعَ صُنعِه، وليَعبُدوه، وليَجزيَ مَنْ آمنَ بالحقِّ بالحُسنى، ومَنْ كفرَ وأساءَ بالسُّوء.

اللهمَّ فإنَّا آمنّا بكَ إلهاً واحِداً وخالقاً عَظيماً لا شَرِيكَ لك، فأجِرْنا منَ النار، بهدايتِنا وتوفيقِنا إلى الأعمالِ الصَّالحة، وبرحمَتِك، ونَعوذُ بكَ أنْ نَكونَ ممّن يَكفرونَ بكَ وبنعمتِك.

﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ النَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ﴾ [آل عمران:192]


اللهمَّ إنكَ مَنْ أدخلتَهُ النارَ فقدْ أبعَدتَهُ منْ رحمَتِك، وأهنتَه، وأهلكتَه، ولا مُجِيرَ للظالمينَ - أمثالِهم - منكَ ولا نَصير، ولا مَحِيدَ لهمْ عنِ النار.

﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَاغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الۡأَبۡرَارِ﴾ [آل عمران:193]


ربَّنا إنَّنا سَمِعنا داعياً يَدعو إلى الإيمان، وهوَ نبيُّكَ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، أنْ آمِنوا بربِّكم، مالكِكمْ ومُتَولِّي أمورِكم، فامتَثلنا أمرَه، وأجبنَا نِداءَهُ واتَّبعناه، اللهمَّ فذاكَ إيمانُنا، وهذا دعاؤنا، فاغفِرْ لنا ذُنوبنَا، كبيرَها وصَغيرَها، وألحِقنا بعبادِكَ الصالحينَ الأبرَار، خُصَّنا بصُحبتِهم، واجعَلنا في جِوارِهم.

﴿رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ الۡمِيعَادَ﴾ [آل عمران:194]


اللهمَّ وأعطِنا ما وَعدتَنا منَ الثَّوابِ على ألسنةِ رُسُلِك، ولا تُبعِدْنا عنْ رحمتِكَ يومَ القيامةِ فنَهلِك، إنَّكَ لا تُخلِفُ ما وَعدتَ بهِ منَ الفَضلِ والرَّحمَة.

وتُستَحَبُّ قِراءَةُ الآياتِ (190-194) عندَ القيامِ منَ اللَّيل.

﴿فَاسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ اللَّهِۚ وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران:195]


فأجابَ اللهَ دُعاءَهم، أنِّي لا أُضِيْعُ عملَ أحَدٍ منكمْ مهما كانَ صَغيراً، بلْ يُوَفَّى كلٌّ جزاءَ ما عَمِل، الذكَرُ منكمْ والأُنثَى سَواء، فأنتُمْ مِنْ أصلٍ واحِد، والجميعُ يَنالُ ما يَستَحِقُّ مِنَ الثَّواب.

فالذينَ أُخرِجوا مِنْ ديارهِم وهاجَروا لمضايقةِ المشرِكينَ لهمْ وإلحاقِ الأذَى بهمْ والضَّررِ بأموالِهم، لا لشيءٍ سِوَى لاعتِناقِهم دينَ الإسلام، ثمَّ جاهَدوا في سبَيلِ الله، فمنهمْ مَنْ قاتلَ وأبلَى بلاءً حَسناً في قوَّةٍ وصَبر، وعَزمٍ وبُطولة، ورأى النَّصر، ومنهمْ مَنْ قاتَل حتَّى قُتِل، فهؤلاءِ سأغفِرُ جميعَ ذنوبِهم، وأُدخلُهمْ جَنّاتٍ تَجري في خِلالِها الأنهارُ، جزاءً عظيماً مِنْ ربِّهمُ الكريم، وعند اللهِ الجزاءُ الحسَنُ لكلِّ مَنْ آمنَ وعَمِلَ صالحاً.

﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الۡبِلَٰدِ﴾ [آل عمران:196]


لا تَنظُرْ إلى الكافِرينَ والعُصاةِ مِنْ أعداءِ الدِّينِ وما همْ فيهِ مِنْ مَظاهرِ النِّعمةِ والتَّرَفِ، والغِبْطةِ والمَكانة، ولا تَلتَفِتْ إلى تصرُّفِهمْ في البلادِ بالتجارةِ وأنواعِ المَكاسِب.

﴿مَتَٰعٞ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ الۡمِهَادُ﴾ [آل عمران:197]


فعمّا قَليلٍ يَذهَبُ ما همْ فيهِ مِنْ سُرور، ويَنتهي ما كانَ في أيدِيهمْ منْ مَتاع، ويَزولُ عنهمْ كلُّ شيءٍ كانوا عَليه، ويَبقونَ مُرتَهنينَ بأعمالِهمُ السيِّئة، التي تأخذُهمْ إلى جَهنَّم، ليَفترِشوا بُسُطاً مِنْ نار، وبئسَ الفِراشُ والمَصير!

﴿لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلٗا مِّنۡ عِندِ اللَّهِۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيۡرٞ لِّلۡأَبۡرَارِ﴾ [آل عمران:198]


وفي مُقابِلهمُ المؤمِنون، الذينَ سَمِعوا نِداءَ الإيمانِ فآمَنوا وثَبتُوا، وعَزمُوا على الأعمالِ الصَّالحةِ والتزَموا، فجَازاهمُ اللهُ جَنَّاتٍ واسِعات، تَجري في خِلالها الأنهارُ المتنوِّعَة، ضيافةً منَ الربِّ الكريم، والذي عندَ اللهِ ممّا ذُكِرَ مِنَ النَّعيم، ومنْ خُلودٍ دائمٍ ورِضوانٍ منَ الله، هوَ خَيرٌ لأوليائهِ المتَّقين، ممّا يَتقلَّبُ الفُجّارُ في المَتاعِ القَليلِ الزَّائل.

﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ خَٰشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشۡتَرُونَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ ثَمَنٗا قَلِيلًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الۡحِسَابِ﴾ [آل عمران:199]


وهناكَ طائفةٌ مِنْ أهلِ الكِتابِ يؤمِنونَ باللهِ حَقَّ الإيمان، ويؤمِنونَ بما أُنْزِلَ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إضافةً إلى إيمانِهمْ بالكُتُبِ المتقدِّمة، مثلَ المسلِمين، معَ خُشوعٍ وخَشيةٍ منَ الله، وطاعةٍ لهُ وتَذَلُّل، ولا يَكتُمونَ صِفَةَ رسولِ اللهِ ومَبعثَهُ ممّا يَقرَؤونَهُ في تلكَ الكتُب، وليسُوا مثلَ غيرِهمْ منْ أهلِ الكتابِ الذينَ يُحرِّفونَها مُقابِلَ هَدايا ورِشًا، أو يَكتُمونَ ما بها مِنْ بِشاراتٍ بالرسُولِ الكريم؛ حَسَداً وبَغياً وعِناداً، فمَنْ آمنَ منهمْ يَكونُ مِنْ خِيْرةِ أهلِ الكتابِ وصَفوتِهم، ولهمْ أجرُهمْ عندَ ربِّهمْ مثلَ بَقيَّةِ المؤمِنين، لا فرقَ بينَهم، واللهُ سَريعُ الحِساب، على كثرةِ عبادِه، وكثرةِ أعمالِهم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]


يا عبادَ اللهِ المؤمِنين، اصبِروا على دينِكمُ الذي ارتَضاهُ اللهُ لكم، في الشدَّةِ والرَّخاء، حتَّى تَموتوا عليه، فهوَ زادُكمُ الذي تَتمسَّكونَ بهِ حتَّى يَبْلُغَكمُ المـَقِيل.

وصابِروا أعداءَكمُ الذينَ يُحاولونَ دائماً أنْ يُزَعزِعُوا إيمانَكمْ ويَقضُوا عَليكم، فكونُوا أصبرَ منهمْ وأقوَى حتَّى تَغْلِبوهُم.

ورابِطوا في مواقعِ الجهادِ وفي الثغورِ المعرَّضةِ لهجومِ الأعداء، لا تَغْفُلوا عنْ هذا ولا تَستَسلِموا للرُّقاد.

ويأتي معنَى المرابطةِ هُنا أيضًا - مِنْ بابِ التنوُّعِ في التَّفسير -: المداومةُ على العبادةِ والثباتُ على طاعةِ الله.

واتَّقوا اللهَ في جميعِ أمورِكمْ وأحوالِكم، ولا تَغفُلوا عمّا أُمِرْتمْ به، حتَّى تَكونوا بهذا كلِّهِ منَ الفائزين، مُعَزَّزين في الدُّنيا، ومُكرَّمينَ في الآخِرَة.

مِنْ فضائلِ هذهِ السُّورَةِ الكريمَة، قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: "اقرَؤوا الزَّهراوَين: البَقَرَةَ وسُورَةَ آلِ عِمران، فإنَّهما تَأتيانِ يَومَ القيامَةِ كأنَّهُما غَمامَتان، أو كأنَّهما غَيَايَتان، أو كأنَّهما فِرْقَانِ مِنْ طَيرٍ صَوَافَّ، تُحاجَّانِ عَنْ أصحَابِهما". رواهُ مسلمٌ وغَيرُه. والغَمامَةُ والغيَايَة: السَّحابَة. والفِرْق: الطائفَةُ منَ الشَّيءِ المتفَرِّق. والطَّيرُ الصَّوَافّ: التي تَصُفُّ بأجنِحَتِها فلا تُحَرِّكُها.