جاءَ وفدٌ مِنْ نصارَى نَجرانَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُجادِلونَهُ في شأنِ عيسَى عليهِ السلام، وأنَّهُ الله، أو ابنُه، أو ثالثُ ثلاثةٍ مِنَ الآلهة، فلم يُسلِموا، ولم يَقتنِعوا بما أوردَ لهمُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منْ حُجَجٍ وأدلَّةٍ على أنَّهُ نبيٌّ مِنْ عبادِ الله، فدَعاهُمْ إلى المُباهَلة، كما في تَفسيرِ الآيةِ الكريمة:
فإذا جادلَكَ علماؤهمْ وخاصَموكَ في شأنِ عيسَى وأمِّهِ، بعدَما عَلِمتَ مِنْ أمرهِ وسَمِعوا منكَ ذلك، ولم يَرجِعوا عمّا هم فيهِ مِنْ ضَلال، فقلْ لهم: هَلُمَّ بنا فليَدْعُ كلٌّ منّا نفسَهُ وأبناءَهُ ونِساءَه، ثمَّ نَبتهلْ جميعاً ونَتضرَّعْ إلى اللهِ ليَجعلَ لعنتَهُ على الكاذِبينَ منّا ومنكمْ في أمرِ عيسَى.
فقالوا: حتَّى نَرجِعَ ونَنظرَ في أمرِنا ثمَّ نأتيكَ غَداً.
وفي الغدِ أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِ عليٍّ وفاطِمةَ والحَسنِ والحُسين، رضيَ اللهُ عنهم جميعاً، ونادَى كبيرَي وفدِ النصارى "السيِّدَ" و"العاقِبَ" ليَحضُروا المُباهَلة، يَعني الملاعَنة، فلم يَستَجيبا، ورَضُوا بإعطاءِ الجزية. وخَبرُ المباهَلةِ في صَحيحِ البُخاريّ.
وهذا الذي قَصَصْناهُ عليكَ يا نبيَّ اللهِ هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه، وليسَ أكاذيبَ النصارَى وافتراءاتِهم، فاللهُ واحِدٌ أحَدٌ لا شَريكَ له، لا ابنَ لهُ ولا أب، فلمْ يَلِدْ ولمْ يُوْلَد، وهوَ العَزيزُ القادرُ على كلِّ شَيء، الحَكيمُ العَالِم، لا أحدَ يُشاركهُ في القُدرةِ والحِكمَةِ حتَّى يُشارِكَهُ في الألوهيَّة.
وقُلْ يا نبيَّ الله: تعالَوا يا أهلَ الكتاب، مِنْ يهودٍ ونصارَى وغيرِهم، تعالَوا إلى أمرٍ عادلٍ مُنصِف، يَجمَعُ بينَنا وبينَكم، ونكونُ فيهِ أسوياء، لا يَختلفُ فيهِ الرُّسلُ والكتبُ المُنـزَلة: وهوَ ألاّ نَعبُدَ إلاّ الله، ولا نُشرِكَ في عِبادتهِ رَجلاً ولا صَنماً، ولا نَاراً ولا صَليباً، ولا أيَّ شَيءٍ يُكَدِّرُ الإخلاصَ في توحيدهِ وعبادتِه، وألاّ يُطيعَ أحدٌ منّا عَبداً في معصيةِ اللهِ مهما كانَ شأنُه، فلا يَسجدُ أحدُنا لغيرِ الله، ولا نُطِيعُ الأحبارَ والعلماءَ فيما أحدَثوا مِنْ تحليلٍ وتحريمٍ لم يشرِّعْهُ الله...فإذا أعرَضوا عنْ هذه الدعوةِ المُنصِفة، فقولوا أنتُمْ لهم: اشهَدوا بأنَّنا مُستَمرُّونَ على الإسلامِ الذي شَرعَهُ اللهُ لجميعِ أنبيائه، ومُخلِصونَ في توحيدهِ وعِبادتِه.
- لقدْ تجادَلتُمْ فيما بينَ أيديكمْ مِنْ كُتبٍ محرَّفةٍ تَعلمونَ ما فيها، فما بالُكمْ تَتكلَّمونَ فيما لا علمَ لكمْ بهِ ولا تَعرِفونَه. واللهُ هوَ الذي يَعلَمُ بذلك، فهوَ ممّا مضَى منْ عِلمِ الغَيب، وأنتُمْ لا تَعلَمونَه.
وإنَّ أحَقَّ الناسِ باتِّباعِ إبراهيمَ همُ الذينَ اتَّبعوهُ على نَهجهِ واحتَكموا إلى سُنَّتِه، وهذا النبيُّ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم الذي يَلتقي معَهُ في الدِّينِ الحقّ، ثمَّ الذينَ آمَنوا، الذينَ يَلتقونَ جميعاً على التوحِيد. واللهُ ناصرُ المؤمنينَ برسله.
وهناكَ مِنْ أهلِ الكتابِ مَنْ إذا ائتمَنتَهُ على مَبلغٍ مهما كانَ كثيراً فإنَّهُ يَردُّهُ إليكَ بأمَانة، لا يَنقُصُ منهُ شيئاً، ومنهمْ مَنْ إذا ائتمَنتَهُ على مبلغٍ قَليلٍ يَجْحَدُهُ ولا يَردُّهُ إليك، إلاّ إذا لازمتَهُ بالمُطالبةِ وكرَّرتَها عليه، وهذا لأنَّهمْ قالوا إنَّهُ لا حرجَ علينا أنْ نغُشَّ وندلِّسَ ونأكلَ أموالَ العَرب، وأنَّ دينَهمْ يَسمَحُ لهمْ بذلك. وهذا مِنْ خُلُقِ اليَهود، وهمْ يَتعاملونَ بهذا معَ كلِّ مَنْ لم يَكنْ يهوديًّا وليسَ معَ العربِ وحدَهم. وقدْ كذَبوا على اللهِ وعلى كِتابِه، وهم يَعلَمونَ ذلك، فإنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفَحشاء، ولم يُحِلَّ لأحدٍ أنْ يأكلَ مالَ آخَرَ بالباطِل، وإنَّما اليهودُ همُ الذينَ اختَلقوا هذا القَول، وهمْ أهلُ زُورٍ وبُهتان.
إنَّ الذينَ يَستَبدِلونَ بما عَهِدَ اللهُ إليهم، منَ الإيمانِ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم، وبما حَلَفوا بهِ منْ قولِهم: "واللهِ لنُؤمِنَنَّ بهِ ولنَنْصُرَنَّه"، يَستبدلونَ بهذا أثماناً زَهيدةً مِنْ حُطامِ الدنيا وعُروضِها الزائلة، فيَخونونَ العهدَ مُقابلَ ذلكَ ويَغْدِرونَ بالأمانة، فهؤلاءِ لا نَصيبَ لهمْ في نَعيمِ الآخِرَة، ولا يكلِّمُهمُ اللهُ بشَيءٍ يَسُرُّهم، ولا يَنظرُ إليهمْ نظرَ رَحمةٍ يومَ الحِساب، ولا يُثني عَليهمْ، ولا يُطَهِّرُهمْ مِنْ آثامِهمْ وذُنوبِهمُ المتراكِمة، بلْ يُعْرِضُ عنهمْ ويَسْخَطُ عليهمْ ويَقْذِفُ بهمْ إلى النارِ ليُعَذَّبوا فيها.
والآيةُ عامَّةٌ في هذا وغَيرِه، فقدْ وردَ في الصحيحِ أنَّها نزلتْ فيمَنْ يَحلِفُ باللهِ على شيءٍ ولا يُبالي، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ على يَمينٍ يَستَحِقُّ بها مالاً وهوَ فيها فاجِر، لَقِيَ اللهَ وهوَ عليهِ غَضبان". فأنزلَ اللهُ تصديقَ ذلك، كما رواهُ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ في صحيحِ البخاريِّ وغيرِه.
هذا رَدٌّ لمَنْ ذَكرَ أنَّ النبيَّ يُعْبَد، سواءٌ ما ذُكِرَ منْ أنَّ النصارَى قالوا ذلكَ في عيسَى بنِ مريمَ مِنْ أنَّهُ أمرَهمْ بعبادتِه، أو أنَّ بَعضاً منهمْ جاءَ مُستَفسِراً منَ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ما إذا كانَ يَدعوهُمْ لعبادتهِ كعبادةِ عيسَى عليهِ السلام! قالَ تعالَى ما مَعناه:
لا يَنبغي لإنسانٍ أنزلَ اللهُ عليهِ الكتابَ الناطِقَ بالحقّ، الذي فيهِ أمرٌ بتوحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ له، وآتاهُ عَقلاً وفَهماً، وأوحَى إليهِ وجعلَهُ نبيًّا، ثمَّ يَقولُ هذا الإنسان، وهوَ بَشَرٌ منْ عبادِ الله: كونُوا أيُّها الناسُ عِباداً لي لا عِبادا ًلله، أو أشرِكوني بالعِبادةِ مَعه. فهذا لا يَصلُحُ لنبيٍّ قولُه، ولا لأحدٍ منَ الناس، فإنَّ العِبادةَ ليستْ للعِباد، وإنَّما هي لخالقِ العِبادِ وحدَه.