تفسير سورة آل عمران

  1. سور القرآن الكريم
  2. آل عمران
3

﴿فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ اللَّهِ عَلَى الۡكَٰذِبِينَ﴾ [آل عمران:61]


جاءَ وفدٌ مِنْ نصارَى نَجرانَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُجادِلونَهُ في شأنِ عيسَى عليهِ السلام، وأنَّهُ الله، أو ابنُه، أو ثالثُ ثلاثةٍ مِنَ الآلهة، فلم يُسلِموا، ولم يَقتنِعوا بما أوردَ لهمُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منْ حُجَجٍ وأدلَّةٍ على أنَّهُ نبيٌّ مِنْ عبادِ الله، فدَعاهُمْ إلى المُباهَلة، كما في تَفسيرِ الآيةِ الكريمة:

فإذا جادلَكَ علماؤهمْ وخاصَموكَ في شأنِ عيسَى وأمِّهِ، بعدَما عَلِمتَ مِنْ أمرهِ وسَمِعوا منكَ ذلك، ولم يَرجِعوا عمّا هم فيهِ مِنْ ضَلال، فقلْ لهم: هَلُمَّ بنا فليَدْعُ كلٌّ منّا نفسَهُ وأبناءَهُ ونِساءَه، ثمَّ نَبتهلْ جميعاً ونَتضرَّعْ إلى اللهِ ليَجعلَ لعنتَهُ على الكاذِبينَ منّا ومنكمْ في أمرِ عيسَى.

فقالوا: حتَّى نَرجِعَ ونَنظرَ في أمرِنا ثمَّ نأتيكَ غَداً.

وفي الغدِ أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِ عليٍّ وفاطِمةَ والحَسنِ والحُسين، رضيَ اللهُ عنهم جميعاً، ونادَى كبيرَي وفدِ النصارى "السيِّدَ" و"العاقِبَ" ليَحضُروا المُباهَلة، يَعني الملاعَنة، فلم يَستَجيبا، ورَضُوا بإعطاءِ الجزية. وخَبرُ المباهَلةِ في صَحيحِ البُخاريّ.

﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الۡقَصَصُ الۡحَقُّۚ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [آل عمران:62]


وهذا الذي قَصَصْناهُ عليكَ يا نبيَّ اللهِ هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه، وليسَ أكاذيبَ النصارَى وافتراءاتِهم، فاللهُ واحِدٌ أحَدٌ لا شَريكَ له، لا ابنَ لهُ ولا أب، فلمْ يَلِدْ ولمْ يُوْلَد، وهوَ العَزيزُ القادرُ على كلِّ شَيء، الحَكيمُ العَالِم، لا أحدَ يُشاركهُ في القُدرةِ والحِكمَةِ حتَّى يُشارِكَهُ في الألوهيَّة.

﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِالۡمُفۡسِدِينَ﴾ [آل عمران:63]


فإذا أعرَضُوا عنِ التوحيدِ وأبَوا إلاّ الإشراك، بعدَ مُعاينةِ كلِّ الحُجَجِ والبراهين، فإنَّهمْ بذلكَ قَدْ أفسَدوا فِطرتَهم، ففسدَ بذلكَ عِلمُهم، وصارَتْ قُلوبُهمْ سَوداءَ مُغلَقة، واللهُ عليمٌ بهمْ وبجِنايتِهمْ هذه، لا يَفوتهُ شيءٌ ممّا فَعلوهُ وأورَثوهُ مِنَ الضلال، وسيَجزيهمْ شرَّ الجزاءِ على ذلك.

﴿قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ الۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ اللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ اشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران:64]


وقُلْ يا نبيَّ الله: تعالَوا يا أهلَ الكتاب، مِنْ يهودٍ ونصارَى وغيرِهم، تعالَوا إلى أمرٍ عادلٍ مُنصِف، يَجمَعُ بينَنا وبينَكم، ونكونُ فيهِ أسوياء، لا يَختلفُ فيهِ الرُّسلُ والكتبُ المُنـزَلة: وهوَ ألاّ نَعبُدَ إلاّ الله، ولا نُشرِكَ في عِبادتهِ رَجلاً ولا صَنماً، ولا نَاراً ولا صَليباً، ولا أيَّ شَيءٍ يُكَدِّرُ الإخلاصَ في توحيدهِ وعبادتِه، وألاّ يُطيعَ أحدٌ منّا عَبداً في معصيةِ اللهِ مهما كانَ شأنُه، فلا يَسجدُ أحدُنا لغيرِ الله، ولا نُطِيعُ الأحبارَ والعلماءَ فيما أحدَثوا مِنْ تحليلٍ وتحريمٍ لم يشرِّعْهُ الله...فإذا أعرَضوا عنْ هذه الدعوةِ المُنصِفة، فقولوا أنتُمْ لهم: اشهَدوا بأنَّنا مُستَمرُّونَ على الإسلامِ الذي شَرعَهُ اللهُ لجميعِ أنبيائه، ومُخلِصونَ في توحيدهِ وعِبادتِه.

﴿يَـٰٓأَهۡلَ الۡكِتَٰبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوۡرَىٰةُ وَالۡإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [آل عمران:65]


- يا أهلَ الكتاب، لِمَ يَدَّعي اليهودُ منكمْ أنَّ نبيَّ الله إبراهيمَ منهم، ولِمَ يَدَّعي النصارَى أنَّهُ منهم، كيفَ تدَّعونَ ذلكَ وقدْ كانَ زمنهُ قبلَ أنْ تَنْـزِلَ التوراةُ على موسَى، وقبلَ أنْ يَنْـِزلَ الإنجيلُ على عيسَى، ألاَ تَرونَ أنَّ هذهِ دعَوى مُخالِفةٌ للعَقل؟ ألاَ تفكِّرونَ في ذلك؟

﴿هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞۚ وَاللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران:66]


- لقدْ تجادَلتُمْ فيما بينَ أيديكمْ مِنْ كُتبٍ محرَّفةٍ تَعلمونَ ما فيها، فما بالُكمْ تَتكلَّمونَ فيما لا علمَ لكمْ بهِ ولا تَعرِفونَه. واللهُ هوَ الذي يَعلَمُ بذلك، فهوَ ممّا مضَى منْ عِلمِ الغَيب، وأنتُمْ لا تَعلَمونَه.

﴿مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّٗا وَلَا نَصۡرَانِيّٗا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [آل عمران:67]


والحقُّ أنَّ إبراهيمَ ما كانَ يَهوديًّا ولا نَصرانيًّا، ولكنَّهُ كانَ مُسلِماً، مائلاً عنْ كلِّ مِلَّةٍ إلى الإسلام، وما كانَ مُشرِكاً مثلَكم.

﴿إِنَّ أَوۡلَى النَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [آل عمران:68]


وإنَّ أحَقَّ الناسِ باتِّباعِ إبراهيمَ همُ الذينَ اتَّبعوهُ على نَهجهِ واحتَكموا إلى سُنَّتِه، وهذا النبيُّ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم الذي يَلتقي معَهُ في الدِّينِ الحقّ، ثمَّ الذينَ آمَنوا، الذينَ يَلتقونَ جميعاً على التوحِيد. واللهُ ناصرُ المؤمنينَ برسله.

﴿وَدَّت طَّآئِفَةٞ مِّنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ لَوۡ يُضِلُّونَكُمۡ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾ [آل عمران:69]


لقدْ حَسدتْكُمْ جماعةٌ مِنْ أهلِ الكتابِ لأنَّهمْ يَكرهونَ لكمُ الهِداية، وأبَغضَتكمْ يهودُ وودُّوا لو كنتُمْ ضالِّين مُنحرِفين، وبَذلُوا جُهودَهمْ لأجلِ إضلالِكم، وكادُوا ودَسُّوا وجادَلوا ولبَّسوا لإغوائِكم، ولكنَّ وبالَ ذلكَ يَعودُ عَليهم، فهمْ يُوقِعُونَ أنفسَهمْ بذلكَ في الضَّلال، غيرَ شاعِرينَ أنَّهمْ يَمكرونَ بأنفسِهم.

﴿يَـٰٓأَهۡلَ الۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ﴾ [آل عمران:70]


يا أهلَ الكتاب، لِمَ تَرُدُّونَ الحقائقَ وهيَ واضِحةٌ تماماً؟ لِمَ تَكفرونَ بآياتِ اللهِ وأنتُمْ تَعلمونَ صِدقَها، لِمَ تَنْبِذونَ الأدلَّةَ بعدَ أنْ تَحقَّقتُمْ أنَّها كافيةٌ ودامِغة؟

﴿يَـٰٓأَهۡلَ الۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ الۡحَقَّ بِالۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ الۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران:71]


يا أهلَ الكتاب، لماذا تُخفُونَ ما في كُتبِكمْ صفةَ الرسولِ محمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم؟ لماذا تَكتمونَ الحقَّ وتَخلِطونَهُ بالباطلِ وتُضَيِّعونَهُ عنْ عَمْدٍ وقَصْدٍ وأنتُمْ تَعرِفونَهُ جيِّداً؟

﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِالَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ النَّهَارِ وَاكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [آل عمران:72]


ومِنْ أساليبِ أهلِ الكتابِ في الكيدِ للإسلامِ وأهلِه، أنْ قالتْ جَماعةٌ منهم، ليَلْبِسوا بذلكَ على ضَعيفِي الإيمانِ ويَردُّوهمْ عنْ دينِ الإسلام: أظهِروا الإيمانَ في أوَّلِ النهار، وارجِعوا عنهُ في آخِرِه، فلعلَّ بعضَ الذينَ آمَنوا يَرتدُّونَ مَعكم، ويَقولون: إنَّ اليهودَ عندَهمْ عِلم، وإنَّهمْ رَجَعوا إلى دينِهمْ لاطِّلاعهمْ على نَقصٍ وعَيبٍ في دِينِ المسلِمين، وبذلكَ تَقعُ بَلبَلةٌ واضطِرابٌ في صَفِّهمْ وعَقيدةِ ناسٍ منهم!

﴿وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ الۡهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ الۡفَضۡلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [آل عمران:73]


ويَقولون: لا تَثِقوا إلاّ بأهلِ دينِكم، ولا تَطمئنُّوا إلاّ لمَنْ اتَّبعَ دينَكم، ولا تُظهِروا أسرارَكم إلاّ لجماعتِكم.

قلْ أيُّها النبيُّ الكريم: إنَّ الطريقَ الصحيحَ والَهْديَ القويمَ هوَ ما أنزلَهُ اللهُ على رسولهِ في فُرقانِه، ولا يُهدَى إليهِ إلاّ منِ ابتغَى الحقَّ وأخلصَ في التوجُّه إليه.

ويقولون: لا تُظهِروا ما عندَكمْ منَ العِلمِ الذي يؤيِّدُ دينَهم، فيَعرِفوا ذلكَ ويتَّخِذوهُ حُجَّةً ضدَّكمْ عندَ اللهِ يومَ القيامة، بالشَّهادةِ عليكم!

فقلْ لهم: إنَّ الأمورَ كلَّها بيدِ الله، وهوَ صاحِبُ الفضلِ والمِنَّة، والكرَمِ الواسِع، والنِّعَمِ العَظِيمة، فيُعطِيها مَنْ يَشاءُ وَيمنعُها مَنْ يَشاء.

﴿يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۗ وَاللَّهُ ذُو الۡفَضۡلِ الۡعَظِيمِ﴾ [آل عمران:74]


وهوَ سبحانَهُ يَخُصُّ مَنْ يَشاءُ مِنْ عبادهِ برحمتِه، وقدْ خَصَّ المؤمنينَ بفضلٍ كبيرٍ عندَما جَعلهمْ على ملَّةِ خليلهِ إبراهيمَ عليه السَّلام، وعلى دينِ أحَبِّ خَلقهِ إليهِ محمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم. وهوَ ذو إحسان ٍكبيرٍ وفَضلٍ عَميم، وَسِعَتْ رَحمَتُهُ كلَّ شَيء!

﴿۞وَمِنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي الۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران:75]


وهناكَ مِنْ أهلِ الكتابِ مَنْ إذا ائتمَنتَهُ على مَبلغٍ مهما كانَ كثيراً فإنَّهُ يَردُّهُ إليكَ بأمَانة، لا يَنقُصُ منهُ شيئاً، ومنهمْ مَنْ إذا ائتمَنتَهُ على مبلغٍ قَليلٍ يَجْحَدُهُ ولا يَردُّهُ إليك، إلاّ إذا لازمتَهُ بالمُطالبةِ وكرَّرتَها عليه، وهذا لأنَّهمْ قالوا إنَّهُ لا حرجَ علينا أنْ نغُشَّ وندلِّسَ ونأكلَ أموالَ العَرب، وأنَّ دينَهمْ يَسمَحُ لهمْ بذلك. وهذا مِنْ خُلُقِ اليَهود، وهمْ يَتعاملونَ بهذا معَ كلِّ مَنْ لم يَكنْ يهوديًّا وليسَ معَ العربِ وحدَهم. وقدْ كذَبوا على اللهِ وعلى كِتابِه، وهم يَعلَمونَ ذلك، فإنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفَحشاء، ولم يُحِلَّ لأحدٍ أنْ يأكلَ مالَ آخَرَ بالباطِل، وإنَّما اليهودُ همُ الذينَ اختَلقوا هذا القَول، وهمْ أهلُ زُورٍ وبُهتان.

﴿بَلَىٰۚ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الۡمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:76]


نعم، إنَّ أهلَ الوفاءِ بالعَهدِ والتُّقَى همُ الذينَ يُحِبُّهمُ اللهُ تَعالى، لا غَيرُهم. ولو وفَى أهلُ الكتابِ بعُهودِهمْ وتَركوا الخِيانةَ في أمرِ دِينِهم، فإنَّهمْ يَكتِسبونَ بذلكَ محبَّةَ الله، وإذا وَفَوا بالعُهود، فإنَّ أبرزَها وآكدَها هوَ ما أخذَ اللهُ عَليهمْ في كتابِهمْ منَ الإيمانِ بمحمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم. وتَقواهُمْ هوَ تَركُ الخِيانة، وعَدمُ الكذِبِ على الله، وتجنُّبُ تحريفِ التوراة.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ اللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [آل عمران:77]


إنَّ الذينَ يَستَبدِلونَ بما عَهِدَ اللهُ إليهم، منَ الإيمانِ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم، وبما حَلَفوا بهِ منْ قولِهم: "واللهِ لنُؤمِنَنَّ بهِ ولنَنْصُرَنَّه"، يَستبدلونَ بهذا أثماناً زَهيدةً مِنْ حُطامِ الدنيا وعُروضِها الزائلة، فيَخونونَ العهدَ مُقابلَ ذلكَ ويَغْدِرونَ بالأمانة، فهؤلاءِ لا نَصيبَ لهمْ في نَعيمِ الآخِرَة، ولا يكلِّمُهمُ اللهُ بشَيءٍ يَسُرُّهم، ولا يَنظرُ إليهمْ نظرَ رَحمةٍ يومَ الحِساب، ولا يُثني عَليهمْ، ولا يُطَهِّرُهمْ مِنْ آثامِهمْ وذُنوبِهمُ المتراكِمة، بلْ يُعْرِضُ عنهمْ ويَسْخَطُ عليهمْ ويَقْذِفُ بهمْ إلى النارِ ليُعَذَّبوا فيها.

والآيةُ عامَّةٌ في هذا وغَيرِه، فقدْ وردَ في الصحيحِ أنَّها نزلتْ فيمَنْ يَحلِفُ باللهِ على شيءٍ ولا يُبالي، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ على يَمينٍ يَستَحِقُّ بها مالاً وهوَ فيها فاجِر، لَقِيَ اللهَ وهوَ عليهِ غَضبان". فأنزلَ اللهُ تصديقَ ذلك، كما رواهُ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ في صحيحِ البخاريِّ وغيرِه.

﴿وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقٗا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِالۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ الۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ اللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران:78]


وإنَّ هناكَ جماعةً مِنْ أهلِ الكتاب، وكانوا يهوداً، يَميلونَ عنِ المُنْزَلِ إلى المحرَّفِ منَ الكتاب، بتَحريفِ اللَّفظَةِ في حرَكاتِ الإعرابِ تَحريفًا يَتغيَّرُ بهِ المَعنَى، إمعاناً في التَّزييف، أو تأويلاً للنصوصِ ولَيِّها؛ لتُوافِقَ أهواءَهم، وليوهِمُوا الجَهلةَ أنَّهُ حُكمُ اللهِ في كتابِه، وليسَ هوَ منْ عندِ الله، بلْ همْ كاذِبونَ مُفْتَرون، وهمْ يَعرِفونَ ذلكَ ويَتعمَّدونَه.

﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ اللَّهُ الۡكِتَٰبَ وَالۡحُكۡمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ الۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ﴾ [آل عمران:79]


هذا رَدٌّ لمَنْ ذَكرَ أنَّ النبيَّ يُعْبَد، سواءٌ ما ذُكِرَ منْ أنَّ النصارَى قالوا ذلكَ في عيسَى بنِ مريمَ مِنْ أنَّهُ أمرَهمْ بعبادتِه، أو أنَّ بَعضاً منهمْ جاءَ مُستَفسِراً منَ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ما إذا كانَ يَدعوهُمْ لعبادتهِ كعبادةِ عيسَى عليهِ السلام! قالَ تعالَى ما مَعناه:

لا يَنبغي لإنسانٍ أنزلَ اللهُ عليهِ الكتابَ الناطِقَ بالحقّ، الذي فيهِ أمرٌ بتوحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ له، وآتاهُ عَقلاً وفَهماً، وأوحَى إليهِ وجعلَهُ نبيًّا، ثمَّ يَقولُ هذا الإنسان، وهوَ بَشَرٌ منْ عبادِ الله: كونُوا أيُّها الناسُ عِباداً لي لا عِبادا ًلله، أو أشرِكوني بالعِبادةِ مَعه. فهذا لا يَصلُحُ لنبيٍّ قولُه، ولا لأحدٍ منَ الناس، فإنَّ العِبادةَ ليستْ للعِباد، وإنَّما هي لخالقِ العِبادِ وحدَه.

لكنَّ الحقَّ أنْ يقولَ هذا النبيُّ للناس: كونُوا حُكماءَ علماءَ حُلَماء، مُتَمسِّكينَ بطاعةِ اللهِ ودينِه، بمتابعتِكمْ ومثابرتِكمْ على تعليمِ الكتابِ وقِراءته ِوحِفظِه.

﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ الۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَالنَّبِيِّـۧنَ أَرۡبَابًاۚ أَيَأۡمُرُكُم بِالۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران:80]


وأنْ يقولَ النبيُّ للناسِ أيضاً: إنَّ اللهَ لا يأمرُكمْ قطُّ أنْ تَعبُدوا ملائكةً ولا أنبِياء، أيأمرُكمُ النبيُّ بعِبادةِ غيرِ اللهِ وهوَ كفر، والأنبياءُ إنَّما يأمُرونَ بالإيمانِ والإخلاصِ في العِبادة، وهوَ ما دَعاكمْ إليهِ نبيُّكمْ أيُّها المسلِمون، مِنْ عبادة ِاللهِ وحدَهُ لا شريكَ له؟