تفسير سورة النساء

  1. سور القرآن الكريم
  2. النساء
4

﴿وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا﴾ [النساء:21]


وكيفَ تأخُذونَ الصَّداقَ منهنَّ وقدْ حدَثَ بينَكمْ وبينَهنَّ الخَلوةُ والجِماع، وأخذنَ منكمْ عَهداً وَثيقاً، وهوَ حقُّ الصُّحبةِ والمعاشَرةِ الطيِّبة، كما قالَ اللهُ تعالى في شأنِهنّ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، أو أنَّ المقصودَ بالميثاقِ الغَليظِ عقدُ الزواج.

﴿وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا﴾ [النساء:22]


ولا يَحِلُّ لكمْ أنْ تَنْكِحوا ما نَكحَهُ آباؤكمْ كما كانَ يُفْعَلُ في الجاهلية؛ تَكرِمةً لهم، وإعظاماً واحتِراماً أنْ توطَأ زوجاتهُم مِنْ قِبَلِ أبنائهم، إلاّ ما كانَ سلفَ منهُ في الجاهليَّة، فهوَ مَعفوٌّ عنه. فإنَّ هذا العملَ مَمقوتٌ مَبغوضٌ وسَبيلٌ سيِّء. وقدْ كانَ مَمقوتاً مُستحقَراً حتَّى في الجاهليَّة.

﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ الۡأَخِ وَبَنَاتُ الۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّـٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَـٰٓئِبُكُمُ الَّـٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ الَّـٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَـٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ الۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء:23]


حُرِّمَ عَليكمُ الزواجُ مِنْ أمَّهاتِكم، وبناتِكم، وأخواتِكم، وعمّاتِكم، وخالاتِكم، وبناتِ الأخ، وبناتِ الأُخت.

كما تَحْرُمُ عليكمْ أمَّهاتُكمُ اللَّواتي أرضَعنَكم، وأخواتُكمْ منَ الرَّضاعة.

ويَحْرُمُ عليكمُ الزواجُ مِنْ أمَّهاتِ زوجاتِكم (بمجرَّدِ العَقدِ على بناتِهنّ)، وبناتِ زوجاتِكم، فيَحْرُمُ عليكمُ الزواجُ ببناتِهنَّ بعدَ الدخولِ بأمَّهاتهنّ، فإذا لم تَكونوا دَخلتُمْ بأمَّهاتِهنَّ فلا حَرجَ منَ الزواجِ ببناتِهنّ، وسَواءٌ كانتْ تلكَ البناتُ في بيوتِكمْ أمْ لا.

ولا يَحِلُّ لكمُ الزَّواجُ مِنْ زوجاتِ أبنائكمُ الذينَ وَلَدْتُموهُمْ مِنْ أصلابِكم. بخِلافِ الأبناءِ الأدعياءِ (المُتَبَنِّين) فلا حرَجَ في ذلك.

ويَحْرُمُ عليكمْ في الزواجِ الجمعُ بينَ الأُختَين، إلا ما كانَ مِنْ أمرِ الجاهليَّة، فإنَّ اللهَ قدْ عَفا عَنكم، وغَفرَ لكم؛ رَحمَةً بكم.

﴿۞وَالۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا اسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ الۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ [النساء:24]


ويَحْرُمُ عليكمُ الزَّواجُ بالنِّساءِ ذواتِ الأزواج، إلاّ ما مَلكتُموهنَّ بالسبي، فيجوزُ لكمْ وَطؤهنَّ ولو كانَ لهنَّ أزواجٌ في دارِ الحرب، بعدَ استِبرائهنّ، وهوَ انقضاءُ عِدَّتهنّ، لأنَّ بالسَّبي يَرتفِعُ النكاحُ بَينهنَّ وبينَ أزواجِهنَّ السابِقين. وهذا التحريمُ كتبَهُ اللهُ عليكمْ فالتَزِموا شَرْعَه.

وأحَلَّ اللهٌ لكمْ عدا مَنْ ذُكِرْنَ مِنَ المحارِم.

قالَ صاحبُ "روحِ المعاني": وفي إيثارِ اسمِ الإشارةِ (ذلكمْ) على الضَّمير، إشارةٌ إلى مشاركةِ مَنْ في معنَى المذكوراتِ للمذكوراتِ في حُكمِ الحُرمة.

يَعني ما حرَّمَهُ اللهُ على لسانِ نبيِّهِ منْ عدمِ الجمعِ بينَ الزوجةِ وعمَّتِها، وبينَها وبينَ خالتِها.

وقالَ الفخرُ الرازيُّ في تفسيرِه: ثَبتَ في أصُولِ الفقهِ أنَّ ذِكْرَ الحُكمِ معَ الوَصفِ المناسِبِ لهُ يَدلُّ بحسَبِ اللفظِ على كونِ ذلكَ الحُكمِ معلَّلاً بذلكَ الوَصف، فثبتَ أنَّ قولَهُ: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} يَدلُّ على كونِ القَرابةِ القَريبةِ مانِعةً منَ الجمعِ في النِّكاح، وهذا المعنَى حاصلٌ بينَ المرأةِ وعمَّتِها أو خالتِها، فكانَ الحُكمُ المذكورُ في الأختَينِ مذكوراً في العمَّةِ والخالةِ مِنْ طريقِ الدَّلالة، بلْ هاهنا أولَى، وذلكَ لأنَّ العَمَّةَ والخالةَ يُشبِهانِ الأمَّ لبِنتِ الأخِ ولبِنتِ الأخت، وهما يُشبِهانِ الولدَ للعَمَّةِ والخالَة، واقتِضاءُ مثلِ هذهِ القَرابةِ لتركِ المضارَّةِ أقوَى منِ اقتِضاءِ قَرابةِ الأُختيَّةِ لمنعِ المضارَّة، فكانَ قولهُ تعالَى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} مانعاً منَ العمَّةِ والخالَةِ بطريقِ الأَولى...

وقالَ مِنْ بعد: وإذا عرفتَ هذا فنقول: قولهُ: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} المرادُ منهُ ما وراءَ هؤلاءِ المذْكورات، سواءٌ كنَّ مَذكوراتٍ بالقَولِ الصَّريح، أو بدلالةٍ جَليَّة، أو بدلالةٍ خَفيَّة، وإذا كانَ كذلكَ لم تَكنِ العَمَّةُ والخالَةُ خارِجةً عنِ المذْكورات.

قلت: لعلَّهُ يُفهمُ منْ كلامِ الرازيِّ أنَّ الآيةَ مُجْمَلةٌ والحديثُ مبيِّنٌ لها، بينَما أفادَ ابنُ الجوزيِّ أنَّها على عُمومٍ خَصَّهُ الحديث. والنتيجةُ واحِدة.

قالَ ابنُ الجوزيِّ في "نواسخِ القرآن": هذا عندَ عمومِ العلماءِ لَفظٌ عامٌّ دَلَّهُ التَّخصِيصُ بنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ تُنكَحَ المرأةُ على عمَّتِها وعلى خالَتِها.

وأوردَ الرَّازيُّ أدلَّةً أخرَى في الموضوع، وأصنافاً أخرَى منَ التحريمِ في طُروءِ حالات... تُنْظَرُ في تَفسيرِه، وفي تَفسيرِ القرطبيّ.

فاطلُبوا الزَّواجَ بأموالِكمْ حتَّى أربَع، أو ما شِئتُمْ منَ الجَوارِي السَّرارِي، بالطَّريقِ الشرعيّ، مُتَعَفِّفِين، غيرَ زانِين.

فإذا تزوَّجتُمْ وسامَحتْكمُ الزوجاتُ في الصَّدَاق، أو وَضَعْنَ لكمْ منهُ شَيئاً، فلا بأسَ عليكمْ وعَليهنَّ في ذلك.

واللهُ عليمٌ بما يَصْلُحُ لكمْ في أمورِ الزَّواج، حَكيمٌ فيما شَرَعَهُ لكمْ منَ التحليلِ والتحريمِ فيه.

﴿وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ الۡمُحۡصَنَٰتِ الۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ الۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَاللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى الۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ الۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ الۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [النساء:25]


ومَنْ لم يَكنْ ذا سَعَةٍ وغِنًى ليَتزوَّجَ منَ المؤمِناتِ الحَرائر، فليَنكِحِ الإماءَ المؤمناتِ اللاتي يَملِكُهنَّ المؤمِنون. واللهُ أعلمُ مِنكمْ بمراتبِ إيمانِكم، فليَكنِ الإيمانُ مَطمَحَ نظَرِكم، فرُبَّ أمَةٍ أكثرُ إيماناً مِنْ غيرِها منَ الحرائر. وأنتُمْ وفتَياتُكمْ بعضُكم مِنْ بعض، إمّا بالدِّينِ وإمّا بالنَّسَب، فتزوَّجوا مِنهنَّ بعدَ إذنِ أوليائهنّ، يَعني مَنْ له ولايةُ تَزويجِهنّ، بعدَ أنْ تَدفعوا مُهورَهنَّ عنْ طِيْبِ نَفس، دونَ أنْ تَبخَسوا منهُ شيئاً، ولا أنْ تَستَهينوا بهنَّ لكونِهنَّ إماءً مَملوكات، وهنَّ عَفائفُ لا زَانياتٌ ولا ذَواتُ أصدِقاء، فإذا تَزوَّجنَ وزَنين، فعَليهنَّ مِنَ العُقوبةِ نِصْفُ ما على الحرائرِ الأبكار، ولا رَجْمَ عليهنّ؛ لأنَّهُ لا يُنتَصف.

ويَعني أنَّ عُقوبتَهنَّ لا تَزيدُ بالزَّواج، فيُقامُ عَليهنَّ الحدُّ إنْ زَنَين، وهوَ خمسونَ جَلْدة، أبكاراً كُنَّ أمْ مُتزوِّجات. وفيهِ اختلافُ عُلماء.

وزواجُكمْ بالإماءِ المؤمِناتِ بالشُّروطِ السابقَةِ لمنْ خافَ الزِّنا بسببِ غَلَبةِ الشَّهوةِ عليه، ولو صَبرتُمْ عنْ نِكاحِهنَّ فهوَ أفضَلُ لكم، لأنَّهُ لو صارَ لكمْ مِنهنَّ أولادٌ لكانوا أرقّاء، ولا يَخْلُصْنَ للأزواجِ خُلوصَ الحرائر، فهنَّ يُستَخدَمنَ سفَراً وحَضَراً، ويَقْدِرُ سَيِّدُهُنَّ أنْ يَبيعَهنَّ للحاضرِ والبادي. وفي ذلكَ مَشقَّةٌ على أزواجِهنّ. كما أنَّهنَّ مُبتذَلات، وداخِلاتٌ خارِجات، ولا يَكادُ يَتحمَّلُ منهنَّ ذلكَ غَيور.

واللهُ يَغفِرُ لمنْ لم يَصبِرْ عنْ نِكاحِهنّ، رحيمٌ بكم، فلذلكَ رخَّصَ لكمْ ما رخَّص.

والجمهورُ على أنَّهُ لا يجوزُ للمسلمِ الزواجُ منَ الإماءِ ما دامَ قادراً على الزواجِ منَ الحرائر، ويَصبِرُ عنِ الزواج، وخالَفَهمُ الحنفيَّةُ في ذلك... واتَّفقوا على أنَّ مَنْ كانَ متزوِّجاً حُرَّة، لم يَجُزْ لهُ أنْ يتزوَّجَ بالأمَة...

﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ﴾ [النساء:26]


يُريدُ اللهُ أنْ يُبيِّنَ لكمْ بهذا ما أُحِلَّ لكمْ وما حُرِّمَ عليكم، ويُرشِدَكمْ إلى مَناهجِ المهتَدينَ منَ الأنبياءِ والصَّالحينَ مِنْ قَبلِكم، وأنْ يَقبَلَ توبتَكمْ إذا تُبتُمْ إليه عمّا يَقعُ منكمْ مِنَ التَّقصيرِ والتَّفريطِ فيما كُلِّفتُمْ بهِ من الأحكام، واللهُ عليمٌ بأحوالِكمْ وبما تحتاجُونَ إليه، حكيمٌ بما شَرعَهُ لكم، مُراعياً بذلكَ مَصالِحَكم.

﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:27]


واللهُ يُريدُ أنْ يَتقبَّلَ توبتَكم، فتوبوا إليهِ ليتوبَ عليكمْ ويَرضَى عنكم، ويُريدُ الفاسِقونَ وأتباعُ الشياطينِ منَ الكافِرينَ والمشركينَ أنْ تَزيغوا عنِ الحقِّ إلى الباطِلِ لتَكونوا مثلَهم.

﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ الۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا﴾ [النساء:28]


ويُريدُ اللهُ أنْ يُخَفِّفَ عنكمْ منَ الشرائعِ والتكاليفِ في أمورِ النِّكاحِ وغَيرِه، ولذلكَ أباحَ لكمُ الزَّواجَ منَ الإماء... ليُناسِبَ ذلكَ ضَعْفَ الإنسانِ في نَفسهِ وفي عَزمهِ وهمَّتِه، في أمرِ النساءِ خاصَّة، حيثُ لا صَبرَ لهُ عنهنّ.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِالۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا﴾ [النساء:29]


أيُّها المؤمنون، لا يأكلْ بَعضُكمْ أموالَ بعضٍ بما يُخالِفُ الشَّرع، كالرِّبا والقِمار، وأنواعِ المكاسبِ غَيرِ الشرعيَّة، ولكنِ اقصِدوا الطرقَ الشرعيَّة، كالتِّجارة، في تداولِ أموالِكمْ بينَ بعضِكمُ البعضِ عنْ تَراضٍ منكم.

ولا تُهلِكوا أنفسَكمْ ولا تُخاطِروا بها بارتِكابِ الآثامِ وتَعاطي المعاصي، كأكلِ الأموالِ بالباطِلِ وغَيرهِ ممّا تَستَحِقُّونَ بهِ العِقاب. وكان اللهُ رحيماً بكمْ عندما نَهاكمْ عنْ أكلِ الحرامِ وإهلاكِ النَّفس.

﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنٗا وَظُلۡمٗا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء:30]


ومَنْ يَقترِفْ ما نَهاهُ اللهُ عنهُ منَ المحرَّماتِ السابِقة، مُتَعدِّياً في ذلكَ حدودَ اللهِ ومُتجاسِراً على انتهاكِها، فسوفَ نُدخِلهُ النارَ المُحرِقة، وهذا هيِّنٌ على اللهِ تعالى، فلا يَمنعُهُ منْ عقابهِ مانِع، ولا يَدفعهُ عنهُ دافِع.

﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا﴾ [النساء:31]


إذا اجتَنبتُمْ كبائرَ الذنوبِ التي نُهِيتُمْ عنها، غَفرنا لكمْ صغائرَها، وأدخلناكمْ مَكاناً حَسَناً، هوَ جنَّةُ اللهِ التي أعدَّها لعِبادهِ المؤمِنين.

﴿وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا اكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا اكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ اللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا﴾ [النساء:32]


في حَديثٍ صَحيحٍ رواهُ الترمذيُّ والحاكمُ وأحمدُ، أنَّ أمَّ سَلَمةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: يَغزو الرِّجالُ ولا تَغزو النِّساء، وإنَّما لنا نِصفُ الميراث: فأنزلَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالَى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}.

أي: ولا تَتمنَّوا ما أعطاهُ اللهُ تَعالَى بَعضَكمْ وميَّزَهُ بهِ عَليكم، فلِكلٍّ منَ الرِّجالِ والنِّساءِ نَصيبُهُ الذي قَسَمَهُ اللهُ له، فهيَ قِسْمَةٌ صَادِرَةٌ مِنْ حَكيمٍ خَبير، وعلى الكلِّ أنْ يَرضَى بما قُسِمَ له، ولا يَتمنَّى حَظَّ الآخَرِ ولا يَحْسُدُهُ على ذلك، واسألوا اللهَ مِنْ إحسانهِ وإنعامِه، فإنَّ ما عندَهُ كثيرٌ لا يَنْفَدُ أبَداً، كريمٌ وَهّاب، عَليمٌ بمَنْ يَستَحِقُّ فَضلَهُ فيُعطيه، ممَّنْ لا يَستَحِقُّهُ فيَمنَعُه، ولذلكَ جَعلهمْ مَراتبَ بِحكمَتِه، بحَسَبِ استعدادِهمْ وتَفاوتِ قابليَّتِهم.

﴿وَلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ الۡوَٰلِدَانِ وَالۡأَقۡرَبُونَۚ وَالَّذِينَ عَقَدَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَـَٔاتُوهُمۡ نَصِيبَهُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا﴾ [النساء:33]


ولكلٍّ جَعلنا وَرَثةً يَرِثونَ أنصبتَهمْ مِنْ تَرِكةِ الوالدَينِ والأقرَبينَ بحَسَبِ استِحقاقِهمْ لها، والذينَ تَحالفتُمْ معهمْ ليَرِثَ بعضُكمْ بعضاً قبلَ نزولِ هذهِ الآية، فأعطوهمْ حظَّهمْ منَ الميراث، وما عُقِدَ مِنْ مُحالفةٍ بعدَ ذلكَ فلا تأثيرَ له، فقدْ أُلْغِيَ حَظُّهمْ مِنَ الميراث. واللهُ مُطَّلِعٌ على كلِّ شيء، ومِنْ جملةِ ذلكَ حالُكمْ في المنعِ والإيتاء.

وكانَ قبلَ ذلكَ يُحالِفُ الرَّجلُ الرَّجلَ ويَقول: تَرِثُني وأرِثُك. فنسَخَتْها آيةُ الموارِيثِ {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ} [سورة الأنفال:75].

﴿الرِّجَالُ قَوَّـٰمُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَالصَّـٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُۚ وَالَّـٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهۡجُرُوهُنَّ فِي الۡمَضَاجِعِ وَاضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا﴾ [النساء:34]


ومِنْ أسبابِ استِحقاقِ الرِّجالِ أكثرَ مِنَ النساءِ في الميراث، أنَّ لهمُ القَوَامةَ عَليهنَّ. وهيَ القيامُ بالمصالحِ والتدبيرِ والتأديب، وذلكَ بما فضَّلَ اللهُ الرجالَ على النساءِ في أمورٍ عِدَّةٍ مُستَنْتَجةٍ ومُشاهَدة، ولذلكَ كانتِ النبوَّةُ مُختَصَّةً بالرِّجال، وفيهمْ مِنَ الصِّفاتِ والخصائصِ ما يُؤهِّلُهمْ لأعمالٍ ووظائفَ لا تَقْدِرُ عليها النِّساء، أو أنَّها غيرُ مُناسِبةٍ لهنَّ أصلاً، كالجِهاد، والإمامةِ الكبرى، والأَذان، والخُطبة، والشَّهادةِ في الحدودِ والقِصاص، وتَحَمُّلِ الدِّيَةِ في القَتلِ الخطأ، والوِلايةِ في النِّكاحِ والطَّلاقِ والرَّجعة، وعددِ الأزواج، وجوانبَ كثيرةٍ في الحزمِ ورَزانةِ الرأي. وكذلكَ بما يُنفقونَ مِنْ أموالِهم، منَ المهرِ والنفَقةِ على النِّساءِ وعلى الأسرَةِ جميعِها، وأمورٍ أخرَى أوجبَها اللهُ عليهمْ في كتابهِ وسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم.

والصالحاتُ مِنهُنَّ مُطيعاتٌ للهِ تَعالَى وقائماتٌ بحقوقِ أزواجِهنّ، ويَحفظْنَ أنفسَهنَّ عمّا يَشينُها أثناءَ غيابِ أزواجِهِنَّ عَنهنّ، ويَحْفَظْنَ أموالَهم، وكلَّ ما يَجِبُ عليهنَّ حِفْظُه، وذلكَ بما حَفِظَ اللهُ لهنَّ عليهمْ منَ المهرِ والنفَقة، والقيامِ بحفظِهنَّ والذبِّ عنهنّ.

والنِّساءُ اللَّواتي تَظنُّونَ أو تَتخَوَّفونَ عِصيانَهنَّ وتَرَفُّعَهُنَّ عنْ مُطاوعتِكم، وبُغْضَهُنَّ لكم، أي متَى ظَهرتْ لكمْ إشاراتٌ وأماراتٌ تَدلُّ على هذا الموقِفِ مِنهنّ، فانصَحُوهنَّ وخَوِّفُوهنَّ عاقبةَ ما يُقْدِمْنَ عليه، فإذا لم تَنفَعْ مَعَهنَّ النصيحةُ فلا تَبيتُوا مَعهنَّ على فُرُشِهنَّ ولا تُجامِعوهنّ، واترُكوهنَّ مُفرَدات، فإنَّ ذلكَ شَديدٌ عَليهنّ، فإذا لم يَرتدِعْنَ بأسلوبِ الموعِظةِ والهِجْران، فلكمْ أنْ تَضْرِبوهنَّ ضَرباً غيرَ مؤذٍ كثيراً، بحيثُ لا يَتْرُكُ فيهنَّ عَيباً ظاهِراً، فيَكونُ ضَرْبَ أدَبٍ لا ضَرْبَ انتِقام، فالمقصُودُ الإصلاح. ويَتجَنَّبُ ضَرْبَ الوَجهِ والمَهالِك، يَعني المواضِعَ المـَخُوفَة، كما يَتجنَّبُ المواضِعَ المُستَحسَنةَ لئلاّ يُشَوِّهَها. والأَولَى الاكتِفاءُ بالتَّهديدِ وعدَمُ الضَّرب، لِمَا قالَتْهُ عائشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: "ما ضرَبَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيئًا قَطُّ بيدهِ، ولا امرَأةً، ولا خادِمًا، إلاّ أنْ يُجاهِدَ في سَبيلِ الله". رواهُ مُسلِم.

فإنْ أطعنَكمْ وعُدْنَ إلى ما كُنَّ عليهِ منَ العِشرةِ الطيِّبةِ مَعكم، فدَعُوهنَّ ولا تُؤذُوهنَّ ولا تَهجُروهنّ، بلْ سامِحوهنَّ وعاشِروهنَّ بالمعرُوف، واحذَروا ظُلمَهنّ، فإنَّ اللهَ وليُّهنّ، وهوَ أقدرُ عَليكمْ مِنكمْ على مَنْ تحتَ أيديكم، وهوَ يَنتَقِمُ على مَنْ بَغَى عليهنَّ ولو بعدَ حِين.

﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَابۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا﴾ [النساء:35]


فإذا خِفتُمْ تَفاقُمَ الأمر، وزيادةَ النـزاعِ والخُصومةِ بينَ الزَّوجين، وظهورَ النُّفورِ بَينهما واضحاً، وخِفتُمْ تَباعُدَ عِشرتِهما وصُحبتِهما، بعدَ فَشلِ الأساليبِ السابِقة، فأرسِلوا -للإصلاحِ بينهما - رَجلاً عدْلاً عارِفاً حسَنَ السياسةِ منْ أهلِ الزَّوج، وآخرَ مثلَهُ مِنْ أهلِ الزَّوجة. فإذا كانَ في نيِّةِ الحكَمَينِ الإصلاحُ وعَزَما عليهِ ورَغِبا فيه، فإنَّ اللهَ سيُسَهِّل لهما أمرَ الصلحِ ويوفِّقُ بينهما.

واللهُ عليمٌ بظواهرِ الناسِ وبواطنِهم، خَبيرٌ بما يُصلِحُ شُؤونَهم ويُوَفِّق بينَهم.

﴿۞وَاعۡبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِالۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي الۡقُرۡبَىٰ وَالۡيَتَٰمَىٰ وَالۡمَسَٰكِينِ وَالۡجَارِ ذِي الۡقُرۡبَىٰ وَالۡجَارِ الۡجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالۡجَنۢبِ وَابۡنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا﴾ [النساء:36]


ووحِّدوا اللهَ وأطيعُوه، ولا تُشرِكوا بهِ شَيئاً مِنْ مَخلوقاتِه، فهوَ وحدَهُ الخالقُ المُنعِمُ المستحِقُّ للعبادة.

وأحسِنوا إلى الوالدين: بِرًّا بهما وعَطفاً عليهما.

وأحسِنوا إلى ذي قُرباكُم، مِنْ أخٍ وعمٍّ وخالٍ ومَنْ إليهم.

وإلى اليتامَى، الذينَ فَقدوا حنانَ آبائهِمْ وكَسبَهمْ وهمْ صِغار، فأحسِنوا إليهمْ وحِنُّوا عليهم.

وإلى المساكين، الذينَ لا يَجدونَ ما يَكفيهم.

والجارِ مِنْ ذَوي قَرابتِكم، والجارِ البَعيد، الذي ليسَ بينَكمْ وبينَهُ قرابَة، والرفيقِ في السفر، أو الذي يَصحَبُكَ يَرجو نَفعَكَ ورِفْدَك.

وابنِ السبيل، وهوَ المسافِرُ المنقَطع، أو الضَّيف.

والأرقَّاء، الذينَ جَعلهمُ اللهُ أسرَى في أيديكم، فأحسِنوا إليهمْ خاصَّة، ولا تُكَلِّفوهمْ فوقَ طاقتِهم.

واللهُ لا يُحِبُّ المتَكبِّرَ المعْجَبَ بنفسِه، الذي يَفْخَرُ على الناسِ بغَيرِ الحقّ، ويرَى أنَّهُ خَيرٌ منهم، ويأنَفُ مِنْ أقاربهِ وجيرانِه، وهوَ عندَ اللهِ حقيرٌ وعندَ الناسِ بَغيض.

﴿الَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ النَّاسَ بِالۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا﴾ [النساء:37]


الذينَ يَبْخَلونَ بأموالِهمْ ولا يُنفِقونَها فيما أمرَهمُ اللهُ به، مِنَ الإحسانِ إلى اليتامَى والمساكينِ والجيرانِ والضِّيفان، ويَجحَدونَ نعمةَ اللهِ عليهم، فلا تَظهرُ على حالِهمْ ولا في نفقَةٍ لهمْ وبَذل، وقدْ تَفضَّلَ اللهُ بها عليهمْ ليَمتَحِنَهمْ بها، فالذينَ يَجحَدونَها ويُخفونَها فلا يُظهرونَها عندَ حاجةِ الناسِ إليهم، فقدْ كفَروا بنعمةِ اللهِ عليهم، فلهمْ يومَ القيامةِ عَذابٌ يُهينُهمْ كما أهانوا نعمتَهُ عليهمْ بالبُخلِ والكَتْم.

﴿وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ النَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ الشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا﴾ [النساء:38]


والذينَ يُنفِقونَ أموالَهمْ ليَراهمُ النَّاس، وللافتِخار، ليُقال: ما أسخاهُمْ وما أجوَدَهم، وهمْ غيرُ مُؤمِنينَ بالله، وهوَ مانحُ الثوابِ ومُقَدِّرُ العِقاب، ولا يُؤمِنونَ باليومِ الآخِر، الذي يُثابُ فيهِ المرءُ على أعمالهِ أو يعاقَبُ عَليها، ولذلكَ لا يَتحرَّونَ في إنفاقِهمْ مَرضاةَ اللهِ وثوابَه، وقدْ حَمَلهمْ على هذا تسويلُ الشيطانِ لهم، فحَسَّنَ لهمُ القَبائح، ومَنْ كانَ الشيطانُ صاحبَهُ ومُلهِمَهُ فإنَّهُ بئسَ الصاحِب، لأنَّهُ يَدعوهُ إلى المعصيةِ المؤدِّيةِ إلى النار.

﴿وَمَاذَا عَلَيۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُۚ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمۡ عَلِيمًا﴾ [النساء:39]


وما الذي كانَ يَجري لهمْ لو سَلكوا الطريقَ الصحيحَ فآمَنوا باللهِ خالقِهم، وآمَنوا بيومِ القيامة، الذي يُثابُ فيهِ المرءُ على ما أحسنَ فيُكرَم، ويُعاقَبُ على ما أساءَ فيُعَذَّب، ليَخافَ الناسُ فيُحسِنوا سُلوكَهم، ثمَّ أنْفَقوا ممّا رزقَهمُ اللهُ مِنْ مالٍ وتَفضَّلَ بهِ عليهمْ لوجههِ الكريم، لا للمُباهاةِ والافتِخار، فيعتَدِلوا ويَنفعوا بدلَ أنْ يَبْخَلوا ويَضرُّوا؟ وكانَ اللهُ عليماً بأحوالِهمْ في البَذْلِ والمَنْع، والإصلاحِ والإفساد.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:40]


واللهُ لا يَظْلِمُ عَبيدَهُ مِقدارَ ذَرَّة، فلا يَنْقُصُ منَ الأجر، ولا يَزيدُ في العِقابِ شيئاً، بلْ يُوفيهِ لهمْ كما هوَ عليهِ ويَزيدُهمْ مِنْ فِضلِه، وإذا كانتِ الحسَنةُ مِقدارَ ذرَّةٍ(27) ضاعَفَ ثوابَها لصاحبِها وأعطاهُ مِنْ عندهِ عَطاءً جزيلاً.

(27) وهي النملةُ الصغيرةُ الحمراء، التي لا تكادُ تُرى من صغرها، أو الصغيرُ جدًّا من أجزاءِ التراب، أو ما يظهرُ من أجزاءِ الهباءِ المنبثّ، الذي تراهُ في البيتِ من ضوءِ الشمس، وهو الأنسبُ بمقامِ المبالغة. (روح البيان).