فكيفَ إذا جِئنا يومَ القيامةِ مِنْ كلِّ أمَّةٍ مِنَ الأممِ السابقة، وطائفةٍ مِنَ الطوائف، بِشَهيد، يَعني بنبيِّهم، يَشْهَدُ عليهمْ بما عَمِلوا، وجئنا بكَ أيُّها النبيُّ شاهداً تَشْهَدُ على أمَّتِك!
وفي الحديثِ الصحيحِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَكَى عندَما قُرِئتْ عليهِ هذهِ الآية. ولعلَّ السببَ في بكائهِ أنَّهُ لا بدَّ أنْ يَشْهَدَ عليهمْ بعَملِهم، وعَملُهمْ هذا قدْ لا يَكونُ حَسَناً، فيؤدِّي بهمْ إلى العَذاب. أو أنَّهُ بَكَى لأهوالِ يومِ القيامة... وسؤالهِ الشفاعةَ لأهلِ الموقِف...
أيُّها المؤمِنون، لا يَحِلُّ لكمْ أنْ تُصَلُّوا وأنتُمْ في حالِ سُكر، فلا تَدرونَ ما تَقولون.
وكانَ هذا مَرحلةً مِنْ مَراحلِ تَحريمِ الخَمر، ثمَّ نزلَ فيها مِنْ بعدُ بيانٌ شافٍ بتَحريمِها تَحريماً قَطعياً، في قولهِ تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة المائدة: 90].
ولا يَحِلُّ لكمْ أنْ تَدخُلوا المساجِدَ وأنتُمْ جُنُب، إلاّ إذا كنتُمْ مُجتازِينَ مِنْ بابٍ إلى بابٍ منْ غيرِ جُلوس، حتَّى تَغتسلوا منَ الجنابة.
وإذا كنتُمْ مَرضَى تَخافونَ معَهُ استعمالَ الماء، أو كنتُمْ مُسافِرين، أو جِئتُمْ مِنَ الغائطِ (يَعني قضاءَ الحاجة)، أو لامَستُمُ النساءَ - على اختلافٍ في مَعناها بينَ المفسِّرينَ وأئمَّةِ الفقهِ من معنَى الجِماعِ أو مَسِّ البَشَرة - ولم تَجدوا ماءً لتَتوَضَّؤوا أو تَغتَسِلوا به، فتَيمَّموا صَعيداً طيِّباً، وهوَ التُّرابُ الطاهِر، أو ما صَعَدَ مِنَ الأرضِ مِنْ تُرابٍ ورَمْلٍ وشَجَرٍ وحَجَرٍ ونَبات، على أقوالٍ بينَ العلماء، وذلكَ بأنْ تمسَحوا وجوهَكمْ وأيديَكمْ بهِ دونَ سائرِ الأعضاء.
واللهُ عَفوٌّ غَفور، فأباحَ لكمُ الصلاةَ بالتيمُّمِ عندَ فُقدانِ الماء في ظُروفٍ تَطرأ، تَوسِعةً عليكم، ورُخْصَةً لكم؛ رَحمةً ورَأفةً بِكم.
ألا تَنظرُ أيُّها النبيُّ وتَعْجَبُ مِنْ حالِ اليَهودِ الذينَ أُوتوا حَظاًّ مِنَ العلمِ بالكتابِ الذي أُنزِلَ عَليهم، فيُعْرِضونَ عمّا أَنْزَلَ اللهُ عَليك، ويَتركونَ ما بأيديهِمْ مِنَ العلمِ ليَشتَروا بهِ ثَمناً قَليلاً مِنْ مَتاعِ الدُّنيا، فيُحَرِّفونَ فيهِ ويُزَوِّرونَ منهُ مُقابِلَ رِشًا وهَدايا، معَ علمِهِمْ بما يُقْدِمونَ عليه!
ومعَ ضلالِهمْ هذا وتَكذيبِهمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وكتمِهمْ صفاتِه، يُريدونَ منكمْ أنْ تَضِلُّوا مثلَهم، فتَكفُروا كما كَفَروا، وتَترُكوا ما أنتمْ عليهِ مِنَ الهُدَى والعلمِ النافِع!
وهناكَ طائفةٌ منَ اليَهود، وهمْ عُلَماءُ الضَّلالِ مِنهم، يُفَسِّرونَ التورَاة على غَيرِ وجهِها الحقيقيّ، فيُؤوِّلونَ مَعناها أو يُحَرِّفونَ ألفاظَها عنْ قَصد، وإذا سَمِعوا كلاماً للرسولِ صلى الله عليه وسلم قالوا لهُ في كفرٍ وعِناد: سَمِعنا قولَكَ وعَصَينا أمرَك!! وقالوا مُستَهزئين: اسْمَعْ ما نَقولُ لا سَمِعت، وراعِنا، يحرِّفونَها بألسنتِهمْ عنْ مَعناها، فهي تَحتَملُ معنَى أمْهِلْنا وانظُرْ إلينا، ومعنَى الرُّعونة، وهيَ الهوَجُ والحُمْق، بقصدِ السبِّ والعَيب، والقَدحِ في الدَّينِ والسُّخريةِ منه.
ولو أنَّهمْ عندما سَمِعوا شَيئاً مِنْ أوامرِ الله، قالوا: "سَمِعنا وأطَعنا" بدلَ "سَمِعنا وعَصَينا"، وقالوا: "واسْمَعْ وانظُرْنا" بدلَ "واسْمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ وراعِنا"، لكانَ أنفعَ مِنْ قولِهمْ وأعدلَ وأصوب، ولكنَّهمْ لم يَقولوا ذلك، بل استمرُّوا في كُفرِهمْ وضَلالِهم، فخذلَهمُ اللهُ وأبعدَهمْ مِنْ رحمتهِ وهُداه، فلا يُؤمِنُ منهمْ إلاّ القَليل.
يا أهلَ الكتاب، آمِنوا بالذي أنزلناهُ على رسولِنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وهوَ القُرآن، فيهِ تَصديقٌ للأخبارِ التي في التَّوراةِ منَ البِشارات، ومنها البِشارةُ بنَبوَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، باسمهِ وبصفاتهِ ومكانهِ ووقتِ خُروجه، قبلَ أنْ نَمْحُوَ آثارَ وجوهٍ فنَرُدَّها إلى ناحيةِ القَفا، فتكونَ مَطمُوسةً على هيئةِ أدبارِها، تَشويهاً في الخِلْقةِ وفَضيحةً؛ عُقوبةً لهم على تَحريفِهمُ الكتابَ وعَدمِ تَصدِيقِهمْ بما أُمِروا بالإيمانِ به، أو نَطرُدَهمْ مِنْ رحمتِنا وهُدانا، كما لَعنّا أصحابَ السَّبت، الذينَ اعتَدوا في سَبتِهمْ بالحيلةِ في الاصطِيادِ، فلعنَهمُ اللهُ بمَسخِهم، فكِلا الصنفَينِ منَ اليهودِ مُشتَرِكانِ في اللَّعن، معَ اختلافِ شكلِ العُقوبة.
وقدْ تَحقَّقَ النوعُ الثاني منَ الوعيدِ الربّاني لهم، وهوَ اللَّعنُ بدلَ الطَّمْس، فهمْ مَلعُونونَ بكلِّ لسانٍ وفي كلِّ زَمان.
وإذا أمرَ اللهُ بأمرٍ فلا بدَّ مِنْ وقوعِه، لا يَستَطيعُ أحدٌ أنْ يَمنعَه.
واللهُ لا يَغفِرُ ذَنبَ مَنْ أشركَ به، فالشركُ يُحبِطُ الأعمالَ حتَّى لا يُبقِي لصاحبِها حَسنة، وهوَ سُبحانَهُ يَغفِرُ ذنوبَ مَنْ شاءَ مِنْ عبادهِ مادامَ غيرَ مُشرِكٍ به.
ومَنْ يُشرِكْ باللهِ فقدِ اختلقَ كَذِباً عَظيماً وارتكبَ إثماً كبيراً، يُستَحقَرُ دونَهُ جميعُ الذنوبِ والآثام.
والمرادُ بالشركِ مُطلَقُ الكفر. وكانَ اليهودُ وغيرُهمْ معَ تَحريفِهمْ وشِركِهمْ وكُفرِهِمْ يَطمَعونَ بالمغفِرة {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [سورة الأعراف: 169]، فبيَّنَ اللهُ تَعالَى أنَّهُ لا يُغْفَرُ لمَنْ يُشرِكُ به.
ألا تَنظرُ أيُّها الرسولُ إلى الذينَ أُوتوا حَظًّا منَ علمِ الكتابِ الذي بينَ أيديهمْ كيفَ يُؤمِنونَ بالأصنامِ والطَّواغيت، ممّا يُعبَدُ مِنْ دونِ الله، ويَقولونَ للمشرِكينَ إنَّكمْ أهدَى منَ المسلمين، وما أنتُمْ عليهِ منْ عبادةِ الأصنامِ أقوَمُ وأرشَدُ مِنَ الذي جاءَ به محمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم)؟ قالوا ذلكَ عِناداً وتَعصُّباً، وهمْ يَعلمونَ أنَّ ذلكَ باطِل!
وكانَ أحدُ أسيادِ اليهود، وهوَ كعبُ بنُ الأشرف، قدْ قالَ للمُشركينَ عندما قَدِمَ مكَّة: أنتُمْ خَير، كما جاءَ في أحاديثَ صَحيحَةٍ عدَّة.
وتَعاطُفُ اليهودِ ومُحالفتُهمْ للمشرِكينَ ضدَّ الرسالةِ الإسلاميةِ مَعروف.
أولئكَ الذينَ تَفوَّهوا بذلكَ الإثمِ المُبين، أبعدَهمُ اللهُ مِنْ رحمتهِ وخَذَلَهم، ومَنْ يَطرُدْهُ اللهُ فلا ناصِرَ لهُ ولا مُعينَ ليُنقِذَهُ مِنْ عَذابِه، بشفاعةٍ أو بغَيرِها، في الدُّنيا وفي الآخِرة.
وقدْ خَذَلَهمُ الله، فهُزِموا همْ والمشرِكون، وهمْ مَلعونونَ على طولِ الزَّمان.
– أمْ يَحسُدونَ نبيَّ اللهِ محمّداً صلى الله عليه وسلم على ما رَزقَهُ اللهُ منَ النبُوَّة، وجَعلَ رسالتَهُ خاتمَ الرِّسالات، ونَسخَتْ ما سَبقها مِنَ الأديان؟ وقدْ منعَهمْ حسَدُهمْ وحِقْدُهمْ عليهِ مِنَ الإيمانِ بهِ وبرسالتِه؟ ويَحسُدونَ معَهُ أصحابَهُ الذينَ آمَنوا بهِ وناصَروهُ وصارُوا أشدّاءَ عَليهم؟
ولماذا يَخصُّونَ النبيَّ محمَّدًا بالحسَد؟ فقدْ أعطَينا أسلافَهمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ النبُوَّةَ والمُلْكَ العَظيم، كداودَ وسُلَيمانَ وغَيرِهما عَليهمُ الصَّلاةُ والسَّلام، فلا يَبعُدُ أنْ يُؤتيَهُ اللهُ ما آتاهم، وهمْ أسلافُهُ وأبناءُ عَمِّه. وما الذي نَفعَهمْ مِنْ حسدِهمْ هذا؟
إنَّ اللهَ يوجِبُ عليكمْ أنْ تَؤدُّوا الأماناتِ إلى أصحابِها، أيَّ أمانةٍ كانت، وهيَ الأماناتُ الواجبةِ على الإنسان، مِنْ حُقوقِ اللهِ على عِبادِه، ومِنْ حُقوقِ العِبادِ بعضِهمْ على بَعض. فمَنْ لم يَفعلْ ذلكَ في الدُّنيا أُخِذَ منهُ في الآخِرَة، كما في الحديثِ الصَّحيح.
وإنَّ اللهَ يأمرُكمْ أنْ تَحكُموا بالعَدلِ إذا حَكمتُمْ بينَ الناس، ونِعْمَ الشيءُ الذي يَعِظُكمُ اللهُ به، وهوَ الحُكْمُ بالعَدل. وكانَ اللهُ سميعاً لجميعِ أقوالِكم، بَصيراً بكلِّ أفعالِكم.
أيُّها المؤمِنون، التَزِموا بما أمرَكمُ اللهُ بهِ ونَهاكُمْ عنه، وأطِيعُوا رسولَه، فإنَّهُ مُبَلِّغُ أحكامِ ربِّه، وأطِيعُوا أولي الأمرِ مِنكمْ بالمعرُوف، أي: إذا كانَ أمرُهمْ موافِقاً لأحكامِ الشريعةِ الإسلامية، وإلاّ فإنَّهمْ لا يُطاعُون، ففي الحديثِ قولهُ صلى الله عليه وسلم: "السَّمعُ والطَّاعةُ على المرءِ المسلمِ فيما أحَبَّ وكَرِهَ ما لم يُؤمَرْ بمَعصِية، فإذا أُمِرَ بمَعِصيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعة". رواهُ الشَّيخانُ وغيرُهما.
وإذا اختَلفتُمْ -أيُّها المؤمِنونَ- في شَيء، فراجِعوا فيهِ كتابَ اللهِ وسنَّةَ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، فما حَكَمَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ هوَ الحقّ، ومَنْ تَخطَّى الحقَّ وقعَ في الضَّلال. فالواجِبَ عليكمُ التَّحاكُمُ إليهِما، هذا إذا كنتُمْ حقّاً مُؤمِنينَ باللهِ واليومِ الآخِر. والتحاكُمُ إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّه، والرجوعُ في فَصلِ النـزاعِ ورَدِّ الخصوماتِ إليهما، خيرٌ وأحمَدُ عاقبةً وأحسَنُ مآلاً.
ألا تَعْجَبُ أيُّها النبيُّ مِنْ صَنيعِ هؤلاءِ الذينَ يَدَّعُونَ الإيمانَ بما أُنزِلَ عليكَ وبما أُنزِلَ على الأنبياءِ مِنْ قَبلِك، ومعَ ذلكَ يُريدونَ أنْ يَتحاكَموا في فَصلِ الخُصوماتِ إلى غيرِ كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِه؟
والطاغوتُ هوَ الشَّيطان، أو كلُّ مَنْ يَحكمُ بالباطل، وقدْ أُمِروا أنْ يَكفُروا به. فكيفَ يَتحاكَمونَ إليهِ وهمْ يُريدونَ الهِدايةَ بك؟! والشَّيطانُ يُريدُ إضلالَهمْ ليَنحرِفوا انحِرافاً بَعيداً عنِ الحقِّ حتَّى لا يَتحاكموا إليك!
وفي حديثٍ مُرْسَلٍ صحيحِ الإسنادِ أنَّها نَزلتْ في رجلٍ منَ الأنصارِ يَزعُمُ أنَّهُ مُسلم، كانتْ بينَهُ وبينَ يَهوديٍّ خُصومة، فاتَّفقا على أنْ يَتحاكما إلى كاهِنٍ مِنْ بَني جُهَينة.