تفسير سورة النساء

  1. سور القرآن الكريم
  2. النساء
4

﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ الَّذِي تَقُولُۖ وَاللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء:81]


وإذا حضرَ المنافِقونَ مجلِسَكَ أظهَروا الموافقةَ لكَ والطَّاعةَ لِما تَقول، فإذا خَرجوا وغابُوا عنك، زوَّرَتْ كلامَكَ جماعةٌ منهمْ - وهمْ رؤساؤهمْ - وجَعَلتْهُ خِلافَ ما تَقول، وعَزموا على شَرّ، واللهُ يَعلمُ بما يُسِرُّون، ويَكتبهُ ويُثْبِتهُ في صَحائفهمْ ليُجازِيَهمْ عَليها، فلا يُهِمَّنَّكَ أمرُهم، ولا تأبهْ بهمْ وبموقفِهم، واحْلُمْ عليهم، وفَوِّضْ أمرَكَ إلى اللهِ وثِقْ به، وكفَى بهِ ناصراً لك، ومُعيناً لمنْ توكَّلَ عليه، ولسَوفَ يَنتَقِمُ لكَ مِنهم.

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا﴾ [النساء:82]


– أفلا يَتأمَّلونَ ويَتمَعَّنونَ في القُرآنِ الكريمِ وكلِماتِه،ِ ومَعانيهِ ومُعجِزاتِه، وكيفَ أنَّهُ مُحْكَمٌ بَليغ، لا اختلافَ فيهِ ولا مُعارَضة، بلْ يُصَدِّقُ بَعضُهُ بَعضاً، ذلكَ أنَّهُ مُنْـزَلٌ منْ عندِ اللهِ الواحدِ الحقّ، ولو كانَ مِنْ عندِ غيرهِ لوجَدوا فيهِ مُخالفةً ومُعارَضةً بينَ آياتهِ ومَعانِيها، ففيهِ منَ الإخبارِ بالغيب، وما يُسِرُّهُ المنافقونَ، وتاريخُ أهلُ الكتابِ الكثير..

﴿وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ الۡأَمۡنِ أَوِ الۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي الۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَاتَّبَعۡتُمُ الشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [النساء:83]


وهناكَ صِنْفٌ مِنَ الناسِ إذا وَصَلتْهمْ أخبارٌ ممّا يوجِبُ الأمنَ والخَوف، مِن ظَفرٍ وغَنيمة، أو نَكبةٍ وهَزيمة، لم يَتحقَّقوها، بلْ أفشَوها، ولو كانتْ خالِيةً منَ الصحَّة، وقدْ يَزيدونَ فيها أو يَنقُصون، وهمْ لا يأبَهونَ بآثارِها على أصحابِها أو على المجتمعِ الذي تؤثِّرُ فيه الشائعاتُ المُغرِضَة، ولو أنَّهمْ تَحَقَّقوا منَ الخبَر، وجاؤوا يَسألونَ رَسولَ اللهِ أهوَ حَقٌّ أمْ باطِل، وسألوا أجِلَّةَ صحابتهِ عنْ ذلك، لعَلِموا تدبيرَ هذا الأمرِ الذي أخْبَروا به، لفِطنتِهمْ ومعرفتِهمْ وخِبرتِهمْ بالأمور، فيَعرفونَ كيفَ يتصَرَّفون، وما يأتونَ منهُ وما يَذَرون.

ولولا حِفْظُ اللهِ لكمْ ورأفتُهُ بكمْ لسِرتُمْ على نهجِ الشَّيطان، وتأثَّرتُمْ بما يُشِيعُهُ أنصارُهُ منَ الخطأ والضَّلال، ولم تَهتدوا إلى الصَّواب، إلا القليلُ منكم، وهمْ المستَنيرةُ عقولُهمْ بأنوارِ الإيمانِ الراسِخ، المُتعَمِّقونَ في معرفةِ الأحكام، الثَّابِتونَ على الحقّ.

وقدْ نزلتْ فيما أُشِيعَ منْ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ طلَّقَ زوجاتهِ وهوَ لم يَفعل، والذي سألَ الرسُولَ عليه الصلاةُ والسلامُ واستَنبطَ الأمرَ هوَ عمرُ رضي الله عنه، كما في الحديثِ الصَّحيح.

﴿فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ الۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ الَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا﴾ [النساء:84]


ولا تأبَهْ بخِذْلانِ المنافِقينَ وتَقصيرِ الآخَرين، فلا تُكَلَّفُ إلا المجاهَدةَ بنفسِك، ولا تُلزَمُ فعلَ غيرِك. فتَقدَّمْ إلى الجِهاد، ورغِّبِ المؤمنينَ فيهِ وحُثَّهمْ عليه، وعِظْهُم في إثمِ مَنْ تخلَّفَ عنه، وثوابِ مَنْ باشَرَه، فلربَّما انبَعثتْ بهذا هِمَمُ المُخلِصينَ، فقاوَموا وصابَروا ودافَعوا عنِ الإسلامِ وأهلِه. واللهُ أقوَى وأقدرُ، وأشدُّ تَعذيباً وإلحاقاً للأذَى بالكافِرينَ منهم.

﴿مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا﴾ [النساء:85]


ومَنْ يَسْعَ في أمرٍ يَترتَّبُ عليهِ خَيرٌ يكُنْ لهُ حَظٌّ وافرٌ مِنَ ثَوابِه، ومَنْ يَسْعَ في أمرٍ يَترتَّبُ عليهِ شرٌّ وإثمٌ يَكنْ عليهِ نَصيبٌ منَ الوِزْر، وكانَ اللهُ على كلِّ شيءٍ حافِظاً وشَهيداً.

﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء:86]


وإذا سَلَّمَ عليكمُ المُسلِمُ فرُدُّوا عليهِ تَحيَّةً أفضلَ منَ التحيَّةِ التي سلَّمَ بها عليكم، أو رُدُّوا عليهِ بمثلِ التحيَّةِ التي حَيّاكمْ بها، فالردُّ واجِب، والزيادةُ نَدْبٌ واستِحسان.

والسلامُ مِنْ أسماءِ اللهِ تَعالَى، فالابتداءُ بذِكْرهِ أو بصفةٍ مِنْ صفاتهِ رَغبةٌ في إبقاءِ السلامةِ على المُلقَى عليهِ التَّحيَّة، وفيهِ بِشارَةٌ بالسَّلامَة، والردُّ عليهِ تَبادُلٌ في هذا الدعاءِ الجَميل، وإشاعةٌ للسَّلامِ والمحبَّة.

واللهُ مُحاسِبُكمْ على كلِّ ما تَقولونَ وتَفعَلون، ومنْ ذلكَ ما أُمِرتُمْ بهِ منَ التحيَّةِ على إخوانِكم. على أنَّ الأمرَ بهِ أمرُ استِحباب.

﴿اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثٗا﴾ [النساء:87]


هوَ اللهُ وحدَه، لا يَستَحِقُّ العبادةَ سِواه، سوفَ يَحشُركُمْ جميعاً في صَعيدٍ واحدٍ يومَ القيامَة، وليسَ هناكَ أصدقُ منَ اللهِ في حَديثهِ وخَبَرِه، ووَعدهِ ووَعيدِه.

﴿۞فَمَا لَكُمۡ فِي الۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَاللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ اللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا﴾ [النساء:88]


فما بالُكمْ أيُّها المسلِمونَ قدْ صِرتُمْ فَريقينِ في مَوقِفِكمْ منَ المنافِقين، فمِنْ قائلٍ إنَّهمْ مُسلِمون، ومِنْ قائلٍ إنَّهمْ كفّار؟ وقدْ رَدَّهمُ اللهُ إلى الكُفرِ بعدَ الإيمانِ نَتيجةَ عِصيانِهمْ وضلالِهمْ ومُخالفتِهمُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم، فهلْ تُريدونَ بموقفِكمْ أنْ تَردُّوهمْ إلى الهُدَى وهمْ يُريدونَ الضَّلال؟ فإنَّ اللهَ إذا أضلَّ قوماً بحِكمتِه، لِما يَستَحِقُّونَهُ ولِما يَعرفُهُ مِنْ نيّاتِهمْ وعزائمِهمْ نحوَ الباطِل، فلنْ تَجِدوا لهمْ طَريقاً إلى الهُدَى والإيمان، كما لنْ تَجدوا حُجَّةً لهمْ مُقْنِعةً في سَببِ تَوجُّههِمْ إلى الضَّلالِ وتَفضيلهِ على الهُدَى.

﴿وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَاقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء:89]


إنَّهُمْ يُحِبُّونَ أنْ تَرجِعوا إلى الضَّلالِ فتكونونَ كفَّاراً مثلَهم، وما ذلكَ إلاّ لبُغضِهمْ وشدَّةِ عَداوتِهم لكم، ولغُلوِّهمْ وتمادِيهمْ في الكُفر، الذي طَمَسَ في قُلوبِهمْ نورَ الإيمانِ ونَقاءَ الفِطرة.

فلا تَثِقوا بأحدٍ منهم، ولا تُوالُوهم، ولا تَستَنصِروا بهمْ على الأعداءِ ما دامُوا كذلك، حتَّى تَتحَقَّقوا مِنْ إيمانِهمْ بهجرَتِهمْ للهِ ورسولِه، لا لغَرضٍ مِنْ أغراضِ الدُّنيا.

فإذا تَركوا الهِجرة، أو أظهَروا الكُفر، فخُذوهمْ أسرَى إذا قَدَرتُمْ عَليهم، واقتُلوهمْ أينما وَجدتُموهم، فإنَّ حُكمَهُمْ حكمُ سائرِ المشرِكينَ أسراً وقَتلاً - وقيل: المرادُ القَتلُ لا غير - ولا تُوالُوا منهمْ أحداً، بلْ جانِبوهمْ مُجانَبةً كلِّية، ولا تَقبلوا منهمْ نُصْرَةً ولا وِلاية.

﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ اعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا﴾ [النساء:90]


ويُستثنَى منَ القَتل: الذينَ يأتونَ قَوماً بَينَكُمْ وبَينَهُمْ مِيثاقٌ فيَدخُلونَ في العَهدِ بإرادتِهم، وآخَرونَ قدْ ضَاقتْ صدورُهمْ وبُغِّضَ قتالُكمْ عليهم، ولا يُريدونَ أنْ يُقاتِلوا قومَهمْ معَكمْ أيضاً. وقدْ لطفَ اللهُ بكم، ولو شاءَ لسلَّطهُمْ عليكمْ فقاتَلوكُمْ معَ قومِهم، ولكنَّهُ كَفَّهمْ عنكم. فإذا تَجنَّبوا حربَكمْ وقدَّموا إليكمْ يدَ الصُّلحِ وانقادُوا للسِّلم، فليسَ لكمْ أنْ تَقتُلوهم، ما دامَتْ حالُهمْ كذلك.

ورُويَ عنِ ابنِ عباسٍ أنَّ هذا منسوخٌ بقولهِ تعالَى في أوَّلِ سورةِ التوبة: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ}، والآيةِ الخامسةِ منها: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}.

وبالرجوعِ إلى تَفسيرِ هاتينِ الآيَتينِ يُوقَفُ على تَفصيلٍ في الأمر.

وكذا قيلَ في الآيةِ التالية...

﴿سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى الۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَاقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَـٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا﴾ [النساء:91]


وهناكَ صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الناسِ يُظهِرونَ لكمُ الإيمانَ ويَذكرونَ أنَّهمْ في طَرَفِكم، وإنَّما يُريدونَ بذلكَ ألاّ تَتعرَّضوا لهم، فيأمَنوا بذلكَ على دمائهمْ وأموالِهمْ وذَرارِيهمْ كما أمِنوا مِنْ قَومِهم، وهمْ في الحَقيقَةِ منافِقون، فكلَّما طلبَ منهمْ مشركو قُرَيشٍ العودةَ إلى الشِّركِ رجعوا إليهِ وانهَمكوا فيه. فإذا لم يَكفُّوا عنِ التعرُّضِ لكمْ بوجهٍ ما، ولم يُلقُوا إليكمُ الصُّلحَ والمهَادَنة، ولم يَكُفُّوا أنفسَهُمْ عنْ قتالِكم، فخُذوهمْ أُسرَاءَ واقتُلوهمْ أينما وجَدتُموهم، فقدْ جعلنا لكمْ عَليهمْ حُجَّةً بيِّنةً لقتالِهم، لظُهورِ عَداوتِهمْ ووضوحِ كُفرِهمْ وخُبثِهم.

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ اللَّهِۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ [النساء:92]


ولا يَحِلُّ لمؤمنٍ أنْ يَقْتُلَ أخاهُ المؤمنَ بأيِّ وجهٍ منَ الوجوه، إلاّ أنْ يَكونَ ذلكَ عنْ طريقِ الخطأ.

فإذا قتلَ مؤمناً بالخطأ فعقُوبتهُ أنْ يُعتِقَ رقَبةً مُؤمِنة، وأنْ يُعطيَ ورثتَهُ دِيَةَ القَتل، إلاّ أنْ يَعفوا عنه، فلا تَجِبُ عليه.

فإذا كانَ المقتولُ منْ قومٍ كفّارٍ مُحارِبين، وهوَ مُؤمن، ولم يَعرِفِ القاتلُ أنَّهُ مُؤمِن، فعقُوبتهُ الكفّارةُ دونَ الدِّيَة، وهيَ تَحريرُ رقَبةٍ مؤمِنة، فإنَّهُ لا وِراثةَ بين المؤمنِ المقتولِ وقومِه، لأنَّهمْ كفّار.

فإذا كانَ المقتولُ المؤمنُ مِنْ قومٍ كُفّارٍ بينَكمْ وبينهمْ عَهد، يَعني: أولياؤهُ أهلُ ذِمَّةٍ أو هُدْنَة، فلهمْ دِيَةُ قتيلِهم، معَ تحريرِ رقبةٍ مُؤمِنة، كما هوَ حُكْمُ سَائرِ المسلِمين.

فمَنْ لم يَقْدِرْ على عِتْقِ نَفسٍ مُؤمِنة، فعليهِ صومُ شَهرينِ مُتَتابِعين، يَسرُدُ صومَهما إلى آخرِ الشَّهرينِ دونَ أن يُفطِرَ بينَهما، وهيَ توبةُ القاتلِ خطأ إذا لم يَجِدِ العِتق.

وكانَ اللهُ عليماً بخَلْقهِ وما يَعمَلون، حَكيماً فيما دَبَّرَهُ لهمْ مِنْ شَرائعَ وأحكام.

﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:93]


ومَنْ يَقتُلْ أخاً مؤمِناً لهُ مُتعَمِّداً، بغيرِ حقّ، فقدِ ارتكبَ ذَنباً عَظيماً وإثماً كبيراً، وجَزاؤهُ الذي يَستَحِقُّهُ جهنَّم، خالداً فيها، معَ مَقْتِ اللهِ له، وغَضبهِ عليه، وانتِقامهِ منه، وإبعادهِ عنْ رحمتِه. وقدْ أعَدَّ لهُ في جهنَّمَ عَذاباً أليماً وعُقوبةً فَظيعة، لا يوقَفُ على قَدْرهِ ووَصْفِه!

والمقصودُ بالخلودِ في العذابِ للمسلمِ هوَ المكثُ الطويلُ لا الدَّوام، بدليلِ نصوصٍ أخرَى في القُرآنِ والسنَّة.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ السَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا﴾ [النساء:94]


أيُّها المؤمِنون، إذا سافرتُمْ في الغَزو، فتَثبَّتوا وتَعرَّفوا جيِّداً لِما تُقْدِمُونَ عليهِ ممّا طُلِبَ منكم، واعرِفوا ماذا ستَفعلونَ وماذا ستَتركون، ولا تَتعجَّلوا في أمرٍ دونَ تَدبيرٍ ورَوِيَّة، ولا تَقولوا لمَنْ حيّاكمْ بتحيَّةِ الإسلام، أو استَسلمَ فأظهرَ الانقيادَ لِما دُعيَ إليهِ مِنَ الإسلام: لستَ مؤمناً، بلْ قلتَ ذلكَ لئلاّ أقتُلَكَ مثلَ بقيَّةِ المحارِبينَ المشرِكين. فهلْ تُريدُونَ مِنَ الإقدامِ على هذا العملِ دونَ تَثبُّتٍ عَرَضاً مِنَ الدُّنيا قَليلاً وحُطاماً يَنفَدُ بعدَ قليل؟ فإنَّ ما أعدَّهُ اللهُ لكمْ جزاءَ جهادِكمْ هوَ خيرٌ منْ هذا بكثِير.

وقد كانتْ حالُكمْ في وقتٍ ما مثلَ حالِ هؤلاءِ الآن، الذينَ يتَّقونَ بأسَكم، فكنتُمْ ضُعفاءَ تُخفُونَ إيمانَكمْ وتَخْشَونَ فِتنةَ المشرِكين، فلطَفَ اللهُ بكمْ وأنقذَكمْ منهم، فتثبَّتوا وتَحقَّقوا إذا أقدَمتُمْ على أمر، فإنَّكمْ أصحابُ رسالةٍ رَحيمة، ومَسؤولونَ عمّا وُكِّلَ بكمْ مِنْ أعمَال، واللهُ مطَّلعٌ على أعمالِكمُ الظاهرةِ والخفيَّة، فيُجازيكمْ بها ويُحاسبُكمْ عليها، فلا تَتهاونوا في الأمورِ واحتاطُوا.

وفيها بيانُ صِحَّةِ إيمانِ مَنْ أظهرَ الإسلام، وإنْ كانَ في الباطنِ على خِلافِه، حيثُ أُمِرَ المسلِمون بإجرائهِ على أحكامِ المسلِمين.

﴿لَّا يَسۡتَوِي الۡقَٰعِدُونَ مِنَ الۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ اللَّهُ الۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى الۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ اللَّهُ الۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى الۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:95]


لا يَتماثَلُ في الأجرِ مَنْ أُذِنَ لهُ بالقُعودِ عنِ الجِهادِ ومَنْ جَاهدَ بنَفسهِ ومالِه، إلاّ أنْ يَكونَ هذا القُعودُ عنْ عُذرٍ مُبيحٍ لتركِ الجِهاد، كعَمًى وعَرجٍ ومَرَض، فقدْ فَضَّلَ اللهُ المجاهِدينَ عليهمْ دَرجةً كبيرة، لِما يُفْدُونَ بهِ أرواحَهمْ في سَبيلِ الله، ولِما يَبذلونَهُ منْ أموالٍ في سبيلِ تَقويةِ جَيشِ الإسلام، وكِلا الفريقينِ وعدَهمُ اللهُ المَثوبةَ الحُسنَى، وهيَ الجنَّة، لكنَّ درجةَ المجاهدينَ منهمْ على الآخَرينَ عَظيمةٌ جدّاً، فإحسانُ اللهِ إليهم، وتَكريمهُ إيّاهمْ في الجِنانِ العالياتِ أكبرُ وأجَلّ.

﴿دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا﴾ [النساء:96]


والمجاهدونَ لهمْ دَرَجاتٌ مُختلِفةٌ في الجنَّة، بحسَبِ جُهدهمْ وجِهادِهم.

وفي حَديثِ أبي هريرةَ الذي خَرَّجَهُ البُخاريّ: "إنَّ في الجنَّةِ مائةَ دَرجة، أعَدَّها اللهُ للمجاهِدينَ في سَبيلِ الله، ما بينَ الدرجتينِ كما بينَ السَّماءِ والأرض!

وهذا مِنْ فضلِ اللهِ عليهم، ومَغفرتهِ لذُنوبِهم، ورَحمتهِ بهم.

ومَنْ باعَ نفسَهُ لله، وفَدَّى دِينَهُ بروحِه، أثابَهُ أحسَنَ الجِنان.

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي الۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا﴾ [النساء:97]


إنَّ الذينَ قَبضتِ الملائكةُ أرواحَهم وهمْ مُقِيمُونَ في دارِ الشِّرك، ولم يَكونوا مُتمَكِّنينَ مِنْ إقامةِ شعائرِ دينِهم، وكانوا قادرِينَ على الهجرةِ ولم يُهاجِروا، قدْ ظَلموا أنفسَهم وارتَكبوا مُحَرَّماً. ولم يَقبَلِ اللهُ الإسلامَ بعدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَ بالهِجرة، ثم نُسِخَ بعدَ فتحِ مكة، فقالَ عليه الصلاةُ والسلام: "لا هِجرَةَ بعدَ الفَتح".

فكانَ المشركونَ يُخرِجونَ هؤلاءِ المسلِمينَ المقِيمينَ بينَهمْ إلى الحربِ ليُكثِروا بهمْ سَوادَهم، فيأتي السَّهمُ أحدَهم فيَقتُله، أو يُضْرَبُ عنقهُ فيُقتَل...كما في صحيحِ البخاريّ.

فقالتِ الملائكةُ لهمْ تَعييراً وتَقبيحاً: في أيِّ فريقٍ كنتُم، أفي المسلِمينَ أمْ في المشرِكين؟

فاعتَذروا وقالوا: كنّا عاجزينَ في أرضِ مكَّة!

فقالوا لهمْ مُكَذِّبينَ إيَّاهم: أمَا كانتْ أمامَكمْ أرضُ الإسلامِ فتَخرجوا مِنْ بينِ أهلِ الشِّركِ في مَكَّةَ إلى أهلِ الإسلامِ بالمدينة؟

فهؤلاءِ مَنْـزِلُهمْ جهنَّم، وبئسَ المصير. فقدْ ماتوا عاصِين، مُكثِرينَ مِنْ سوادِ المشرِكين.

﴿إِلَّا الۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا﴾ [النساء:98]


ويُستثنَى منهمُ المسَتضعَفون، منَ الرِّجالِ والنِّساء، وكذا منَ الأولاد، فهؤلاءِ يُعفَى عنهمْ لضَعفِهمْ عنِ الهجرة، بعدمِ قدرتِهمْ على التخلِّصِ منْ أيدي المشرِكين، وعدمِ معرفتِهمْ بالطريقِ أو الموضِعِ المهاجَرِ إليه.

﴿فَأُوْلَـٰٓئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا﴾ [النساء:99]


فهؤلاءِ عسَى اللهُ أنْ يَعفوَ عنهمْ بتركِ الهِجرة. والمقصودُ تَحُقُّقُ العَفو، لكنَّ التعبيرَ يُبقِي العبدَ على أملٍ وطمعٍ ورجاءٍ مِنْ ربِّه، وهوَ رَبٌّ كَريم، يَعفو عنِ النَّاس، ويَغفرُ ذنوبَهم، على كثرةِ ما يُخطِؤونَ ويُذنِبون.

﴿۞وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدۡ فِي الۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ الۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى اللَّهِۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء:100]


ومَنْ يُهاجِرْ في سَبيلِ اللهِ يَجِدْ في الأرضِ مُتَحَوَّلاً كثيراً ومَلجأً مُناسِباً يَأوي إليهِ ويَتَحَصَّنُ فيه، ويُوَسَّعُ عليهِ مِنْ حيثُ لا يَحتَسِب!

ومَنْ يَخْرُجْ مِنْ مَنـزلهِ مُهاجِراً إلى اللهِ ورسوله، ثمَّ يأتهِ الموتُ وهوَ في الطَّريق، قبلَ أنْ يَبلُغَ مُهاجَرَه، فقدْ ثبتَ لهُ عندَ اللهِ ثوابُ المهاجِر.

واللهُ كثيرُ المغفرةِ لذُنوبِ عبادهِ وسيِّئاتِهم، كثيرُ الرحمةِ بهم، يثُيبُهمْ على أعمالِهمْ ويزيدُهمْ مِنْ فَضلِه.