وهناكَ صِنْفٌ مِنَ الناسِ إذا وَصَلتْهمْ أخبارٌ ممّا يوجِبُ الأمنَ والخَوف، مِن ظَفرٍ وغَنيمة، أو نَكبةٍ وهَزيمة، لم يَتحقَّقوها، بلْ أفشَوها، ولو كانتْ خالِيةً منَ الصحَّة، وقدْ يَزيدونَ فيها أو يَنقُصون، وهمْ لا يأبَهونَ بآثارِها على أصحابِها أو على المجتمعِ الذي تؤثِّرُ فيه الشائعاتُ المُغرِضَة، ولو أنَّهمْ تَحَقَّقوا منَ الخبَر، وجاؤوا يَسألونَ رَسولَ اللهِ أهوَ حَقٌّ أمْ باطِل، وسألوا أجِلَّةَ صحابتهِ عنْ ذلك، لعَلِموا تدبيرَ هذا الأمرِ الذي أخْبَروا به، لفِطنتِهمْ ومعرفتِهمْ وخِبرتِهمْ بالأمور، فيَعرفونَ كيفَ يتصَرَّفون، وما يأتونَ منهُ وما يَذَرون.
ولولا حِفْظُ اللهِ لكمْ ورأفتُهُ بكمْ لسِرتُمْ على نهجِ الشَّيطان، وتأثَّرتُمْ بما يُشِيعُهُ أنصارُهُ منَ الخطأ والضَّلال، ولم تَهتدوا إلى الصَّواب، إلا القليلُ منكم، وهمْ المستَنيرةُ عقولُهمْ بأنوارِ الإيمانِ الراسِخ، المُتعَمِّقونَ في معرفةِ الأحكام، الثَّابِتونَ على الحقّ.
وقدْ نزلتْ فيما أُشِيعَ منْ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ طلَّقَ زوجاتهِ وهوَ لم يَفعل، والذي سألَ الرسُولَ عليه الصلاةُ والسلامُ واستَنبطَ الأمرَ هوَ عمرُ رضي الله عنه، كما في الحديثِ الصَّحيح.
وإذا سَلَّمَ عليكمُ المُسلِمُ فرُدُّوا عليهِ تَحيَّةً أفضلَ منَ التحيَّةِ التي سلَّمَ بها عليكم، أو رُدُّوا عليهِ بمثلِ التحيَّةِ التي حَيّاكمْ بها، فالردُّ واجِب، والزيادةُ نَدْبٌ واستِحسان.
والسلامُ مِنْ أسماءِ اللهِ تَعالَى، فالابتداءُ بذِكْرهِ أو بصفةٍ مِنْ صفاتهِ رَغبةٌ في إبقاءِ السلامةِ على المُلقَى عليهِ التَّحيَّة، وفيهِ بِشارَةٌ بالسَّلامَة، والردُّ عليهِ تَبادُلٌ في هذا الدعاءِ الجَميل، وإشاعةٌ للسَّلامِ والمحبَّة.
واللهُ مُحاسِبُكمْ على كلِّ ما تَقولونَ وتَفعَلون، ومنْ ذلكَ ما أُمِرتُمْ بهِ منَ التحيَّةِ على إخوانِكم. على أنَّ الأمرَ بهِ أمرُ استِحباب.
إنَّهُمْ يُحِبُّونَ أنْ تَرجِعوا إلى الضَّلالِ فتكونونَ كفَّاراً مثلَهم، وما ذلكَ إلاّ لبُغضِهمْ وشدَّةِ عَداوتِهم لكم، ولغُلوِّهمْ وتمادِيهمْ في الكُفر، الذي طَمَسَ في قُلوبِهمْ نورَ الإيمانِ ونَقاءَ الفِطرة.
فلا تَثِقوا بأحدٍ منهم، ولا تُوالُوهم، ولا تَستَنصِروا بهمْ على الأعداءِ ما دامُوا كذلك، حتَّى تَتحَقَّقوا مِنْ إيمانِهمْ بهجرَتِهمْ للهِ ورسولِه، لا لغَرضٍ مِنْ أغراضِ الدُّنيا.
فإذا تَركوا الهِجرة، أو أظهَروا الكُفر، فخُذوهمْ أسرَى إذا قَدَرتُمْ عَليهم، واقتُلوهمْ أينما وَجدتُموهم، فإنَّ حُكمَهُمْ حكمُ سائرِ المشرِكينَ أسراً وقَتلاً - وقيل: المرادُ القَتلُ لا غير - ولا تُوالُوا منهمْ أحداً، بلْ جانِبوهمْ مُجانَبةً كلِّية، ولا تَقبلوا منهمْ نُصْرَةً ولا وِلاية.
فإذا قتلَ مؤمناً بالخطأ فعقُوبتهُ أنْ يُعتِقَ رقَبةً مُؤمِنة، وأنْ يُعطيَ ورثتَهُ دِيَةَ القَتل، إلاّ أنْ يَعفوا عنه، فلا تَجِبُ عليه.
فإذا كانَ المقتولُ منْ قومٍ كفّارٍ مُحارِبين، وهوَ مُؤمن، ولم يَعرِفِ القاتلُ أنَّهُ مُؤمِن، فعقُوبتهُ الكفّارةُ دونَ الدِّيَة، وهيَ تَحريرُ رقَبةٍ مؤمِنة، فإنَّهُ لا وِراثةَ بين المؤمنِ المقتولِ وقومِه، لأنَّهمْ كفّار.
فإذا كانَ المقتولُ المؤمنُ مِنْ قومٍ كُفّارٍ بينَكمْ وبينهمْ عَهد، يَعني: أولياؤهُ أهلُ ذِمَّةٍ أو هُدْنَة، فلهمْ دِيَةُ قتيلِهم، معَ تحريرِ رقبةٍ مُؤمِنة، كما هوَ حُكْمُ سَائرِ المسلِمين.
فمَنْ لم يَقْدِرْ على عِتْقِ نَفسٍ مُؤمِنة، فعليهِ صومُ شَهرينِ مُتَتابِعين، يَسرُدُ صومَهما إلى آخرِ الشَّهرينِ دونَ أن يُفطِرَ بينَهما، وهيَ توبةُ القاتلِ خطأ إذا لم يَجِدِ العِتق.
وكانَ اللهُ عليماً بخَلْقهِ وما يَعمَلون، حَكيماً فيما دَبَّرَهُ لهمْ مِنْ شَرائعَ وأحكام.
والمجاهدونَ لهمْ دَرَجاتٌ مُختلِفةٌ في الجنَّة، بحسَبِ جُهدهمْ وجِهادِهم.
وفي حَديثِ أبي هريرةَ الذي خَرَّجَهُ البُخاريّ: "إنَّ في الجنَّةِ مائةَ دَرجة، أعَدَّها اللهُ للمجاهِدينَ في سَبيلِ الله، ما بينَ الدرجتينِ كما بينَ السَّماءِ والأرض!
وهذا مِنْ فضلِ اللهِ عليهم، ومَغفرتهِ لذُنوبِهم، ورَحمتهِ بهم.
إنَّ الذينَ قَبضتِ الملائكةُ أرواحَهم وهمْ مُقِيمُونَ في دارِ الشِّرك، ولم يَكونوا مُتمَكِّنينَ مِنْ إقامةِ شعائرِ دينِهم، وكانوا قادرِينَ على الهجرةِ ولم يُهاجِروا، قدْ ظَلموا أنفسَهم وارتَكبوا مُحَرَّماً. ولم يَقبَلِ اللهُ الإسلامَ بعدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَ بالهِجرة، ثم نُسِخَ بعدَ فتحِ مكة، فقالَ عليه الصلاةُ والسلام: "لا هِجرَةَ بعدَ الفَتح".
فكانَ المشركونَ يُخرِجونَ هؤلاءِ المسلِمينَ المقِيمينَ بينَهمْ إلى الحربِ ليُكثِروا بهمْ سَوادَهم، فيأتي السَّهمُ أحدَهم فيَقتُله، أو يُضْرَبُ عنقهُ فيُقتَل...كما في صحيحِ البخاريّ.
فقالتِ الملائكةُ لهمْ تَعييراً وتَقبيحاً: في أيِّ فريقٍ كنتُم، أفي المسلِمينَ أمْ في المشرِكين؟
فاعتَذروا وقالوا: كنّا عاجزينَ في أرضِ مكَّة!
فقالوا لهمْ مُكَذِّبينَ إيَّاهم: أمَا كانتْ أمامَكمْ أرضُ الإسلامِ فتَخرجوا مِنْ بينِ أهلِ الشِّركِ في مَكَّةَ إلى أهلِ الإسلامِ بالمدينة؟