تفسير سورة النساء

  1. سور القرآن الكريم
  2. النساء
4

﴿وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي الۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ الصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ الۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا﴾ [النساء:101]


وإذا سافرتُمْ في البِلاد، فلا حَرَجَ عَليكمْ مِنْ أنْ تُخَفِّفوا مِنْ عددِ رَكَعاتِ الصَّلاة، بتنصيفِ الرباعيَّةِ منها، إنْ خِفتُمْ أنْ يُلحِقَ الكافِرونَ الأذَى بكم، فهمْ أعداءٌ ظاهِرونَ لكم، ويَتحيَّنونَ الفُرَصَ ليغدِروا بكم.

وقَصْرُ الصَّلاةِ في السَّفرِ جائزٌ بإجماعِ الأمَّة، ولو لم يَكنْ خَوف، وهوَ رُخصةٌ منَ اللهِ تعالى لعبادِه، وكما قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بها عَليكم، فاقبَلوا صَدَقَتَهُ". رواهُ مسلمٌ في صَحيحِه.

﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا﴾ [النساء:102]


وهذا شُروعٌ في بَيانِ صَلاةِ الخَوف. فإذا كنتَ بينَ أصحابِكَ أيُّها النبيّ -والخِطابُ للجَميع - وأردتَ أنْ تُصَلِّيَ بهمْ إماماً، فاجعَلهمْ طائفتَين، طائفةً تُصلِّي معَك، والأخرَى تَكونُ تُجاهَ العدوِّ للحِراسَة، تأخُذُ معها سِلاحَها. فإذا سَجدَ القائمونَ معكَ وأتمُّوا الرَّكعَة، فليَنصَرِفوا إلى مَكانِ الذينَ كانوا يَحرُسون، وليأتُوا همْ فليُصَلُّوا معكَ الرَّكعَةَ الباقيةَ، وهيَ لهمُ الركعةُ الأولى، وليأخُذِ الذينَ حلُّوا مَكانَ السابقِينَ حَذَرَهمْ وأسلحتَهم. ويَعني أن الرسُولَ صلى الله عليه وسلم يكونُ قدْ صلَّى صلاتَهُ ثِنتَين، وكلٌّ منَ الطائفتينِ تُكْمِلُ ما بَقي، بعدَ أنْ صَلَّتْ كلُّ واحدةٍ منها رَكعَةً معَهُ صلى الله عليه وسلم.

ووردتْ بكيفيَّاتٍ أخرى.

والكافِرونَ يَتمنَّونَ لو تَغفُلونَ عنْ أسلحتِكمْ وأمتعتِكمْ ليَنالوا منكمْ غِرَّةً في صَلاتِكم، ليَحمِلوا عليكمْ حَملةً واحدةً ويَقضُوا عَليكم.

ولا حرجَ عليكمْ إنْ أصابَكم مَطرٌ أو كنتُمْ مرضَى أنْ تَضَعوا أسلحتَكمْ على الأرض، معَ التيقُّظِ والحَيْطَة، لتَكونُوا على أُهْبَةٍ إذا احتَجْتُمْ إليها، ولئلاّ يَهجُمَ عليكمُ العدوُّ غِيْلَة.

وقدْ أعدَّ اللهُ للكافِرينَ عَذاباً مُذِلاًّ يَنالُهم، فاهتمُّوا بأمورِكمْ أنتُم، وخُذوا بأسبابِ الحَيْطَة، حتَّى يَنصُرَكمُ اللهُ عليهمْ ويُعَذِّبَهمْ بأيدِيكم.

﴿فَإِذَا قَضَيۡتُمُ الصَّلَوٰةَ فَاذۡكُرُواْ اللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا اطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَۚ إِنَّ الصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى الۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا﴾ [النساء:103]


فإذا أدَّيتُمْ صَلاةَ الخَوفِ وفَرَغتُمْ منها، فأكثِروا مِنْ ذكرِ اللهِ وداوِموا عليه، في جميعِ أحوالِكم، قائمِين، وقاعِدين، ومُضطَجِعين، فذِكرُ اللهِ مَطلوبٌ في هذهِ الأحوالِ أكثر، وهوَ مَشروعٌ ومَرغوبٌ فيه مِنْ قَبل.

فإذا أمِنتُمْ واستَقرَرْتُم، فأدُّوا الصَّلاةَ في وقتِها، وأتِمُّوها بجَميعِ أركانِها وشُروطِها، إنَّ الصَّلاةَ مَفروضةٌ على المؤمِنينَ ومَحدودَةُ الأوقات، لا يَجوزُ إخراجُها عنْ أوقاتها، ولا بدَّ مِنْ إقامتِها حَضَراً وسَفَراً، وفي وقتِ الخَوف...

﴿وَلَا تَهِنُواْ فِي ابۡتِغَآءِ الۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء:104]


ولا تَضْعُفوا في طلَبِ عدوِّكمْ ولا تَتوانَوا في التعرُّضِ لهمْ ومُجابَهتِهمْ ومُقاتَلتِهم، فإنْ تَكونوا تألَمونَ مِنَ الجِراحِ والآلامِ التي تُصيبُكم، فإنَّهُ يَحْصُلُ لَهمُ الأمرُ نفسُه، فلماذا لا تَصبِرونَ معَ أنَّكمْ أولَى بالصَّبرِ منهم، فأنتُمْ تَرجُونَ مِنَ اللهِ المَثوبةَ العَظِيمةَ في الآخِرَة، أو النصرَ والعزَّةَ بإظهارِ الإسلامِ فوقَ جميعِ الأديان، وهُمْ لا يَرجُونَ ذلك، فأنتُمْ أولَى بالجِهادِ والصَّبرِ منهم. وكانَ اللهُ عَليماً بأعمالِكمْ وضَمائرِكم، حَكيماً فيما يَأمرُ ويَنهَى، ويَقضِي ويُقَدِّر.

﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ بِالۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ اللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا﴾ [النساء:105]


نحنُ نزَّلنا عليكَ القُرآنَ بالحقّ، فهوَ حقٌّ عَدْلٌ في خَبرهِ وحُكمِه، لتَقضيَ بينَ الناسِ بما عَرَّفكَ وأوحَى بهِ إليك. ولا تُجادِلْ عَمَّن عَرفتَ خيانتَهُ، كمنِ ادَّعَى ما ليسَ له، أو أنكرَ ما هوَ عليه.

وفي تَفصيلهِ وسَببِ نُـزولهِ خَبَرٌ طَويل.

﴿وَاسۡتَغۡفِرِ اللَّهَۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء:106]


واطلبِ المَغفِرَةَ مِنَ الله؛ لهَمِّكَ بالحُكمِ على ما لم تَتثبَّتْ منه، فإنَّ اللهَ يَغفِرُ لك، فهوَ كثيرُ المَغفِرَةِ والرَّحمَة.

﴿وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ الَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا﴾ [النساء:107]


ولا تُجادِلْ عمَّن خانَ نفسَهُ وخانَ الآخَرينَ بما جنَى وظَلم، فاللهُ لا يُحِبُّ الخائنينَ الآثِمين، الذينَ يَعصُونَ الله ويُلحِقونَ الأذَى والضَّررَ بالآخَرين.

﴿يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ الۡقَوۡلِۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا﴾ [النساء:108]


إنَّهمُ المنافِقون، الذينَ يَستَتِرونَ بقَبائحِهمْ وأعمالِهمُ الدنيَّةِ من النَّاسِ لئلاّ يُعرَفوا بذلك، لكنَّهمْ يُجاهِرونَ بها اللهَ خالِقَهمْ وهوَ أحَقُّ مِنْ أنْ يُستَحيا منهُ ويُخْشَى عِقابُه، وهوَ مَعهمْ إذْ يُدَبِّرونَ ما يُجافي الاستقامةَ والعَدل، وهوَ سُبحانَهُ عالِمٌ بأعمالِهمُ الظاهِرةِ والخافِيَة، لا يَخفَى عليهِ شَيء.

﴿هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ جَٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا فَمَن يُجَٰدِلُ اللَّهَ عَنۡهُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ وَكِيلٗا﴾ [النساء:109]


وهَبُوا أنَّكمْ بَذلتُمُ الجُهْدَ في المخاصَمةِ عنهمْ في هذهِ الحياةِ الدُّنيا وحصَلوا على مُبتغاهُمْ فيها، فمنْ يُحاجِجُ اللهَ عنهمْ يومَ القيامةِ وهوَ العالِمُ بخَفِيّات الأمور، ومَنْ يَتكفَّلُهمْ ويذُبُّ عنهمْ ويَتولَّى أمرَهمْ يَومَئذ؟!

﴿وَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء:110]


ومَنْ يَقتَرِفْ ذَنباً، كبيراً كانَ أو صَغيراً، يَسُوءُ بها غَيرَه، كسَرِقَتِه، أو يَظلِمُ بها نفسَه، كحَلِفٍ كاذِب، ثمَّ يَتُبْ منهُ ويَعُدْ إلى الحقّ، ويَطلبِ المَغفِرَةَ مِنْ ربِّه، فإنَّهُ عَفُوٌّ حَليم، يَقبَلُ تَوبتَهم، ويَغفِرُ لهمْ ويَرحَمُهم.

﴿وَمَن يَكۡسِبۡ إِثۡمٗا فَإِنَّمَا يَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ [النساء:111]


ومَنْ يَقتَرِفْ ذَنباً مِنَ الذُّنوبِ عنْ قَصد، فإنَّهُ يَجني بذلكَ على نفسِه، ويَجلُبُ لها الضَّررَ والوَبال، ويُعَرِّضُها للعَواقب، واللهُ عَليمٌ بما يَقتَرِفهُ النَّاس، حَكيمٌ بما يُقَدِّرهُ مِنْ عُقوبةٍ عَليهم.

﴿وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيٓـَٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓـٔٗا فَقَدِ احۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا﴾ [النساء:112]


ومَنْ يَعملْ عَملاً سيِّئاً أو يَقتَرِفْ ذَنباً كبيراً، ثمَّ يتَّهِمْ بهِ بَريئاً، فقدِ ارتكبَ فِعلاً بَغِيضاً، وكذَبَ على الغيرِ كَذِباً شَنيعاً، واقترَفَ ذَنباً عَظيماً، واضِحاً مُبِيناً.

﴿وَلَوۡلَا فَضۡلُ اللَّهِ عَلَيۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ وَالۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ اللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا﴾ [النساء:113]


ولولا فَضلُ اللهِ عليكَ ورَحمتهُ بكَ بما عَصمَكَ بهِ مِنَ الوَحي، مِنْ لزُومِ التثبُّتِ وبيانِ الحقّ، لكادَتْ طائفةٌ أنْ تُلَبِّسَ عليكَ الحقَّ وتُشَوِّشَ عليكَ الصَّحيح، وتَتسَبَّبَ في الحُكمِ على القَضيَّة خَطأ، بما زَيَّنوهُ لكَ وبَيَّتوا ما لا يُرضِي اللهَ منَ القَول. وما كانوا يَضرُّونكَ بهذا مِنْ شَيء، إنَّما ضَرَرُهُ يَرجِعُ إليهم، فقدْ عصَمكَ الله، وباؤوا همْ بالإثم.

وقدْ أنزلَ اللهُ عَليكَ القُرآنَ وعَصمَكَ به، وعلَّمكَ القضاءَ بالوحي، وعلَّمكَ منَ الأحكامِ ومِنْ عِلمِ الغَيب ما لم تَكنْ تَعلمُهُ قبلَ ذلكَ مِنْ خَفيّاتِ الأمور، وكانَ فضلُ اللهِ عليكَ كبيراً، بأنْ جعلكَ نَبيًّا، وفَضَّلكَ على سائرِ الخَلق، وأعطاكَ الشَّفاعةَ العُظمَى يومَ القِيامَة...

﴿۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ النَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ابۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ اللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:114]


لا خَيْرَ في كَثيرٍ مِنْ كلامِ الناسِ إلاّ إذا كانَ في حَثٍّ على الصَّدَقات، أو أمرٍ بالخَيراتِ والطَّاعات، أو تأليفٍ بينَ النَّاسِ بالمودَّةِ إذا فَسدَ ما بينَهم، ومَنْ يَفعلْ هذهِ الأشياءَ مُبتَغياً بها وجهَ اللهِ ومَرضاتَه، مُحتَسِباً ثوابَ ذلكَ عندَه، فسوفَ نَجزيهِ أجراً كبيراً وثَواباً جَزيلاً.

﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ الۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا﴾ [النساء:115]


ومَنْ يُخالِفْ رسولَ اللهِ ويَسْلُكْ غيرَ طَريقِ الشَّريعةِ التي جاءَ بها، عنْ عَمدٍ وتَقصُّدٍ، بعدَ ما ظهرَ لهُ الحقُّ ممّا حُكِمَ به، وعَرَفَ بذلكَ الأوامرَ والحُدود، ويَسْلُكْ طريقاً آخرَ غيرَ ما اجتَمَعَ عليه المؤمِنونَ واتَّفقوا عليه، نُخَلِّي بينَهُ وبينَ ما اختارَهُ لنفسِه، ونَكِلْهُ إلى نَفسهِ الآثِمة، ونُدْخِلْهُ جهنَّمَ فيُعَذَّبُ فيها، وبئسَ ما انتهَى إليهِ واستَقرَّ في مكانٍ كلُّهُ نارٌ وعَذابٌ.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِاللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا﴾ [النساء:116]


واللهُ لا يَغفِرُ ذَنْبَ مَنْ أشركَ بهِ أو كَفر، والشِّرْك يُحبِطُ الأعمالَ حتَّى لا يُبقي لصاحبِها حسَنة، وهوَ سبُحانَهُ يَغفِرُ ذنوبَ مَنْ شاءَ مِنْ عِبادهِ ما دامَ لم يُشرِكْ به، وإنَّ مَنْ أشرَكَ بهِ تعالَى شَيئاً فقدِ ابتعدَ عنِ الطريقِ الحقّ، وارتكبَ إثماً عظيماً، وأهلكَ نفسَهُ فخَسِرَ رحمةَ رَبِّهِ وجنَّتَه.

﴿إِن يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ إِنَٰثٗا وَإِن يَدۡعُونَ إِلَّا شَيۡطَٰنٗا مَّرِيدٗا﴾ [النساء:117]


وما يَعبُدُ هؤلاءِ المشرِكونَ مِنْ دونِ اللهِ إلاّ أصناماً مؤنَّثة، كاللاّتِ والعُزَّى ومَنَاة، ويُنادُونها لحوائجِهمْ هكذا! وما يَعبُدونَ بذلكَ إلا شَيطاناً بَغيضاً خارِجاً عنِ الطَّاعة، فهوَ الذي يُزَيِّنُ لهمْ عِبادتَها، فتكونُ طاعتُهمْ لهُ عِبادة!

﴿لَّعَنَهُ اللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنۡ عِبَادِكَ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا﴾ [النساء:118]


أبعدَ الله إبليسَ مِنْ رَحمتِه.

وقالَ إبليسُ اللَّعين: سآخُذُ مِنَ الناسِ حظًّا مُقدَّرًا وعَدداً مَعلوماً ممَّنْ يُطيعُونَني، وهمْ كثيرونَ جِدًّا {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف: 103]

﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ اللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا﴾ [النساء:119]


ولأُغْوِيَنَّهمْ وأُبْعِدَنَّهمْ عن الحقّ، ولأَعِدَنَّهمْ بالأمانيِّ الباطِلة، وأُزِيِّنَنَّ لهمْ طُولَ الأمَل، ولآمُرَنَّهمْ فليُقَطِّعُنَّ أو يُشَقِّقُنَ آذانَ الأنعام، وهوَ ما كانتْ تَفعَلُهُ العَربُ وتَجعلُهُ عَلامةً للبَحِيرةٍ والسائبةِ مِنَ النُّوق، والأُولَى التي وَلَدَتْ خَمسةَ أبطُنٍ تُعفَى منَ الانتِفاعِ بها، ولا تُمنَعُ مِنْ مَرْعًى ولا مَاء، والأخرَى المهمَلةُ التي تُسَيَّبُ لنَذْرٍ ونَحوِه. وقدْ أبطلَهما الإسلام.

ولآمُرَنَّهمْ فليُبَدِّلُنَّ خَلْقَ الله، صُورةً وصِفَة، بتَغييرِ فِطْرةِ اللهِ تعالَى، واستعمالِ الجوارحِ والقُوَى لغَيرِ وَظيفتِها، وتَغييرِ ما سَخَّرَهُ اللهُ للانتِفاعِ بهِ إلى غَيره، كعبادةِ الأحجارِ والحيَواناتِ وهيَ مسخَّرةٌ للإنسان، وكخَصي الحيَوانات، وكاللِّواط...

ومنْ يُوالي الشَّيطان، بإيثارِ ما يَدعو إليه على ما يَدعو إليه الله، فقدْ خَسِرَ خَسارةً بيِّنةً، ونَدِمَ نَدامةً كبيرة، ولا خَسارةَ أعظمُ مِنِ استِبدالِ النَّارِ بالجنَّة.

﴿يَعِدُهُمۡ وَيُمَنِّيهِمۡۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء:120]


فالشَّيطانُ يَعِدُهمْ بالفَوزِ والسلامة، ويُزَيِّنُ لهمُ الأمانيَّ الفارِغة، كطولِ البَقاءِ في الدُّنيا والنَّعيمِ فيها، وقدْ كذَبَ وافترَى، فليسَتْ مَواعيدهُ سِوَى وهْمٍ وغُرور، وخَيالٍ وأمَل.