﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِالۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ الۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي الصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ اللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة :1]
أيُّها المؤمِنون، أوفُوا بالعُهودِ الموجِبةِ عليكم، ممّا أحلَّ اللهُ وحرَّم، وما فَرَضَ وحَدَّ، وما تعامَلتُمْ بهِ معَ الناس.
وقدْ أحلَّ اللهُ لكمْ بَهيمةَ الأنعام، وهيَ الإبِل، والبقَر، والغنَم، والمـَعْز، إلا ما يُتلَى عليكمْ في القُرآن، في الآيةِ الثالثةِ منْ هذهِ السُّورة. ولا يَحِلُّ اصطيادُها ولا أكلُ لحمِها في حالِ الإحرامِ بالحجِّ أو العُمْرة.
واللهُ يَشْرَعُ ما يُريدُ منَ التَّحليلِ والتَّحريم، حَكيمٌ في جَميعِ ما يأمرُ بهِ ويَنهَى، فلا اعتراضَ عليه، ولا مُعَقِّبَ لحُكمِه.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهۡرَ الۡحَرَامَ وَلَا الۡهَدۡيَ وَلَا الۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ الۡبَيۡتَ الۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَاصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ الۡمَسۡجِدِ الۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الۡبِرِّ وَالتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الۡإِثۡمِ وَالۡعُدۡوَٰنِۚ وَاتَّقُواْ اللَّهَۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [المائدة :2]
أيُّها المؤمِنون، لا تَتهاونوا بما حرَّمَ اللهُ عليكمْ مِنْ أمورٍ تَخُصُّ مناسِكَ الحجِّ وعلاماتٍ يَعْرِفُ بها الحاجُّ أداءَ حجِّه، فلا تُحِلُّوا ما حرَّم اللهُ منها، ولا القِتالَ في الشَّهرِ الحرام، وهوَ ذو القَعدة، وذو الحِجَّة، والمحرَّم، ورَجَب. ولا تَتركوا إهداءَ النُّسكِ إلى بيتِ اللهِ الحرام، منْ بَعيرٍ وبَقرٍ وشِياه، ولا تَتركوا تقليدَها في أعناقِها، لتَتميَّزَ بهِ عنْ سائرِ الأنعام، ولتُعرَفَ ويتجنَّبها مَنْ أرادَها بسُوء.
ولا تَتعرَّضوا بسُوءٍ لمَنْ قَصَدَ البَيتَ الحرامَ (وكانَ بينهم مُشرِكون)، يُريدونَ بذلكَ الرِّزقَ والتِّجارة، أو التعبُّدَ لرضَى اللهِ – بزعمِهم -، فلا تَمنعوهمْ ولا تُخَوِّفوهم، فإنَّ مَنَ دخلَ البيتَ كانَ آمِناً.
ثمَّ نُسِخَ هذا بقولهِ تعالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا} [سورة التوبة: 28]، وقولهِ: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [سورة التوبة: 5].
فإذا تَحلَّلتُمْ منَ الإحرام، فقدْ أُبيحَ لكمُ الاصطياد.
ولا يَحملنَّكمْ عداوةُ وبُغْضُ قومٍ سبقَ أنْ مَنعوكمْ منَ البيتِ الحرامِ أنْ تَظلِموهمْ وتَعتَدوا عليهمْ بالقَتلِ وأخذِ الأموال.
ولْيُعِنْ بعضُكمْ بعضاً على فعلِ الخَيرات، وعلى الحِلْمِ والعَفو، وعلى الطَّاعةِ والخَشية، وفي التقوَى رضا الله، وفي البِرِّ بالناسِ رِضاهُم، وأجمِلْ بذلك إذا اجتَمعا في المرء.
ولا تَتعاوَنوا على الإثمِ والكفر، والظُّلمِ والمَعصية، والمُنكرِ والباطِل.
واتَّقوا اللهَ واخشَوْهُ في جميعِ أمورِكم، ومنها الأوامرُ والنواهي المذكورةُ سابقاً، فإنَّ عقابَهُ شديدٌ لمنْ خالفَهُ.
﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ الۡمَيۡتَةُ وَالدَّمُ وَلَحۡمُ الۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ اللَّهِ بِهِۦ وَالۡمُنۡخَنِقَةُ وَالۡمَوۡقُوذَةُ وَالۡمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِالۡأَزۡلَٰمِۚ ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ الۡيَوۡمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَاخۡشَوۡنِۚ الۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ اضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [المائدة :3]
حَرَّمَ اللهُ عَليكمْ أكلَ الحيَوانِ الذي ماتَ حَتْفَ أنفِه، والدمَ المسفوحَ منه، ولحمَ الخِنـزير، وكلُّهُ نَجَس، وذُكِرَ اللحمُ لأنَّهُ مُعظَمُ المقصُود، وما رُفِعَ الصوتُ بهِ لغَيرِ اللهِ عندَ ذَبحِه، كقولِهمْ باسمِ اللاّتِ والعُزَّى، والذي يموتُ بالخَنق، والذي يُضرَبُ حتَّى يموت، والذي يَتردَّى مِنْ مكانٍ عالٍ فيَموت، والذي يموتُ بسبَبِ نَطحِ غيرهِ له، وما عدا عليهِ السَّبُعُ فأكلَ بعضَهُ فماتَ بسبَبِ ذلك، إلا ما أدركتُمْ ذَبحَهُ ممّا ذُكِرَ قبلَ أنْ يَموت، منَ المُنخَنِقةِ والموقُوذةِ والمُترَدِّيةِ والنَّطِيحةِ وما أكلَ السَّبُع.
ويَحْرُمُ ما ذُبِحَ منها على النُّصُب، وهي أحجارٌ كانتْ منصوبةً حولَ الكعبة، وكانتِ العربُ تَفعَلهُ في الجاهليَّة.
وحَرَّمَ عليكمُ الاستِقسامَ بالأزلام، وهوَ طلبُ القَسْمِ والحُكْمِ مِنْ قِداحٍ كانَ يُكتَبُ على واحدٍ منها "افعَلْ"، وعلى الثاني "لا تَفعَلْ"، ولا شَيءَ على الآخَر، فيأتَمِرُ بها الجاهليّ، فإنْ كانتِ الفارغةَ أعاد.
والقِدْحُ قِطعةُ خَشَبٍ تُسَوَّى، لا ريشَ لها ولا نَصْل.
فالتعاملُ بالأزلامِ ضَلالٌ وجَهالةٌ وشِرْك، وإذا تردَّدَ المؤمنُ في أمرٍ تعبَّدَ واستَخار.
وقدْ قَوِيَ دينُ الإسلامِ واكتَمل، فلا مَطمَعَ لمُشرِكٍ في أنْ تَعودوا إلى الشِّركِ بعدَ اليوم، فلا تَخافوا منْ مخالَفتِكمْ إيّاهم، ولا مِنْ أنْ يَظهروا عليكم، بلْ خافوا مِنْ عُقوبتي إذا خالفتُمْ ما أمرتُكمْ به، وتمسَّكوا بحَبليَ المتينِ لأجعلَكمْ فوقَهمْ في الدُّنيا والآخِرَة.
وفي يومِ عَرَفةَ مِنْ حِجَّةِ الوَداعِ نَزلتْ هذهِ السُّورةُ العَظيمة، ومنها هذهِ الآيةُ الكريمة. اليومَ أكمَلتُ لكمْ دينَ الإسلام، فلا تَحتاجونَ إلى دِينٍ ولا مَذهبٍ سِواه، ولا تَحتاجونَ إلى نبيٍّ بعدَ نبيِّكمْ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فهوَ خاتمُ الأنبياء، ودينُكمْ آخِرُ الأديان، وناسخٌ لِما سبقَهُ منها، فلا يؤخَذُ حُكمٌ إلاّ منه.
والمقصودُ بالإكمال: إكمالُ الكُلِّيات، التي منها الأمرُ بالاستِنباطِ والقياس. وقدْ جمعَ القرآنُ جميعَ الأحكامِ جمعاً كلِّياً في الغالِب، وجُزئيًّا في المُهمّ.
وأتمَمْتُ عليكمْ نِعمتي بذلك، وأنجزتُ لكمْ وَعدي، بقولي: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [سورة البقرة :150]
واختَرتُ لكمُ الإسلامَ - أيُّها المسلِمونَ - دونَ الأديان، ورَضِيتُهُ لكم، فأقبِلوا عليهِ وتَمسَّكوا به، فإنَّهُ الحقُّ مِنْ ربِّكم، وفيهِ سَعادتُكم، وعِزُّكمْ ونَصرُكم، وهوَ ذُخرُكمْ يومَ الدِّين.
ومَنْ ألجأتْهُ الضَّرورةُ إلى أكلِ شَيءٍ مِنْ تلكَ المحرَّمات، كمَجاعةٍ تُطوَى منها البُطون، ويُخافُ معها الموتُ أو مبادِئه، غيرَ مائلٍ إلى المَعصيَة، فلا يأكلْ منها زيادةً عنْ حاجتِه، فإنَّ اللهَ لا يُؤاخِذُهُ بأكلِه، بلْ يَغفِرُ لهُ ذلك، وهوَ رحيمٌ بهِ حيثُ أباحَ لهُ المحرَّم عندَ حاجتِهِ إليه.
﴿يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ الۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَاذۡكُرُواْ اسۡمَ اللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَاتَّقُواْ اللَّهَۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الۡحِسَابِ﴾ [المائدة :4]
ويسألونَكَ عمّا أُحِلَّ لهم، فقلْ لهم: أحلَّ اللهُ لكمُ الطيِّبات، وهيَ ما لم تَسْتَخْبِثْهُ الطِّباعُ السَّليمةُ ولم تَنفِرْ عنه. وأحَلَّ لكمْ ما صادتْهُ الجوارِحُ المتعلِّمة، منَ السِّباعِ والطُّيور، كالكلابِ والصُّقور، معلِّمينَ إيّاها الصَّيد، فتُغرُونَها بذلك، وتُعَلِّمونَها آدابَ أخذهِ ممّا علَّمكمُ اللهُ مِنْ طُرُقِ التَّعليمِ والتأديب، فتَمضي إذا أُرْسِلَت، وتَقِفُ إذا مُنِعَت، وتعودُ إذا دُعِيَت، وتُمسِكُ الصيدَ لصاحبهِ لا لنَفسِها، فلا تأكلُ منهُ شَيئاً.
فكُلوا ما أمسَكتْهُ لكمْ مِنَ الصَّيد، ولا تأكلوا ممّا أكلَته، واذكروا اسمَ اللهِ عندَ إرسالِها إلى الصَّيد.
واتَّقوا اللهَ في شأنِ هذهِ المحرَّماتِ ولا تَقرَبوها، فهوَ يُؤاخِذُ بما جَلَّ ودَقّ، وهوَ سريعُ إتمامِ الحِسابِ إذا شَرَعَ فيه.
﴿الۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَالۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ الۡمُؤۡمِنَٰتِ وَالۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِالۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي الۡأٓخِرَةِ مِنَ الۡخَٰسِرِينَ﴾ [المائدة :5]
وكما أكملَ اللهُ الدّينَ وأتمَّ النِّعمةَ فيه، فقدْ أكملَ النِّعمةَ فيما أحلَّ لكمْ منَ الطيِّباتِ في الدُّنيا، فذبائحُ أهلِ الكتابِ حَلالٌ لكم، كما يَحِلُّ لكمْ إطعامُ أهلِ الكتابِ مِنْ ذبائحِكم.
وأحَلَّ اللهٌ لكمُ الزواجَ مِنَ الحرائر، مِنَ المؤمناتِ وأهلِ الكتاب، إذا أعطيتُموهنَّ صَداقَهُنّ، تَبتَغونَ بذلكَ إحصانَ أنفسِكمْ بالزواجِ الشرعيّ، غيرَ قاصِدينَ الزِّنا، ولا اتِّخاذِهنَّ عَشيقات.
ومَنْ يَكفرْ بالله، الذي يَجِبُ الإيمانُ به، وبسائرِ شَرائعِ الإسلام، فقدَ هلكَ ما عَمِلَهُ في الحياةِ الدُّنيا وخَسِرَ ثوابَ ذلكَ كلِّه، فصارَ مِنْ أهلِ النار، فإنْ كانَ كافِراً فلا يُعتَدُّ بعملهِ أصلاً، وإنْ كانَ مُسلِماً فارتدَّ وماتَ على الكُفر، فقدْ حَبِطَ ما عَمِلَهُ مِنْ حَسَناتٍ وأعمالٍ صالحةٍ قبلَ ذلك، فكانَ منَ الهالِكين.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى الصَّلَوٰةِ فَاغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى الۡمَرَافِقِ وَامۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى الۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَاطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ الۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ النِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَامۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [المائدة :6]
أيُّها المؤمِنون، إذا أردتمُ الصَّلاةَ فتَوضَّؤوا قبلَ أنْ تُؤدُّوها، وهوَ أنْ تَغسِلوا وجوهَكم، وأيديَكم معَ المرافِق، وأنْ تَمسَحوا رؤوسَكمْ بالماء، وأنْ تَغسِلوا أرجلَكمْ معَ الكعبين.
وإذا كنتُمْ مُجنِبينَ فاغتَسِلوا. وإذا كنتُمْ مرضَى ويَضرُّكمُ استِعمالُ الماءِ معه، أو كنتُمْ مُسافِرين، أو جئتُمْ مِنَ الغائطِ (أي قَضاءِ الحاجَة)، أو لامستمُ النساءَ - على الخلافِ الواردِ بينَ المفسِّرينَ والفُقهاءِ، مِنْ معنَى الجِماعِ أو مسِّ البَشَرة - ولم تَجدوا ماءً تَتوضَّؤون به، فتَيمَّموا تُراباً طاهِراً، أو ما صَعَدَ منَ الأرضِ منْ رَمْلٍ وحَجَرٍ وغَيرِه، على أقوال، فامسَحوا وجوهَكمْ به، ثمَّ أيديكمْ إلى المرافِق. ولا يُريدُ اللهُ أنْ يَجعلَ عليكمْ بالوضوءِ والتيمُّمِ ضِيقاً وحَرَجاً، ولكنْ يُريدُ بذلكَ تَطهيرَ أجسامِكمْ ونفوسِكم، فإنَّ الوضوءَ وما يَنوبُ عنهُ تُكَفَّرُ بهِ الخَطايا، وليُكمِلَ اللهُ بذلكَ نِعمتَهُ عليكمْ فيما شَرَعَهُ لكمْ منَ التوسعةِ واليُسرِ والرَّحمَة، ولعلَّكمْ تَتفكَّرونَ بذلكَ وتَشكرونَ اللهَ على ما رخَّصَهُ لكمْ وسهَّله عليكم، بطاعتِكمْ إيّاه.
﴿وَاذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمِيثَٰقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِۦٓ إِذۡ قُلۡتُمۡ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ وَاتَّقُواْ اللَّهَۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [المائدة :7]
واذكروا أيُّها المسلِمونَ نِعمةَ اللهِ عليكم، وهوَ الإسلام، والعهدَ الذي أخذَهُ منكمْ بالسَّمعِ والطَّاعة، كما قال تعالى: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سورة البقرة: 285]، أو ما كانوا يُبايعونَ بهِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عندَ إسلامِهم، منَ السَّمعِ والطَّاعة، في المَنْشَطِ والمَكْرَه. فاتَّقوا اللهَ ولا تَنسَوا النِّعمةَ الكبيرةَ التي أسبَغها عليكم، وأوفُوا بعَهدِ اللهِ الذي عاهدتُمْ به، واللهُ عَليمٌ بخَفايا الصُّدور، وبالخواطرِ والأسرارِ التي تَختلجُ في الضَّمائر، فاخشَوا اللهَ وأطيعُوه.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِالۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ اعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَاتَّقُواْ اللَّهَۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة :8]
– أيُّها المؤمِنون، قُوموا بالحقوقِ اللازمةِ عليكمْ عَدْلاً وصِدقاً، لا جَوراً وظُلماً، وبإخلاص، لا لرياءِ وسُمعة، ولا يَحمِلَنَّكم بُغضُ قومٍ على ظُلمِهمْ وعدمِ إقامةِ العدلِ فيهم، بلِ اعدِلوا فيهمْ وإنْ أساؤوا إليكم، وأنصِفوا فيهمْ وإنْ مَالوا وظَلموا، فإنَّ عدلَكمْ معهمْ أقربُ إلى رِضا اللهِ واتِّقاءِ عَذابِه.
قالَ الفخرُ الرازيُّ رحمَهُ الله: وفيهِ تَنبيهٌ عَظيمٌ على وجوبِ العَدلِ معَ الكفّار، الذينَ همْ أعداءُ اللهِ تعالَى، فما الظنُّ بوجوبهِ معَ المؤمِنين، الذينَ هم أولياؤهُ وأحبّاؤه؟! ا.هـ.
فواظِبوا على تقوى اللهِ وطاعتهِ والخوفِ منه، فإنَّهُ خَبيرٌ بأعمالِكمْ كلِّها، وسيُجازيكمْ عليها.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٞ﴾ [المائدة :9]
وَعدَ اللهُ الذينَ آمَنوا مِنكمْ وصَدقوا في إيمانِهم، وعَمِلوا الصَّالحاتِ فكانوا مُخلِصينَ فيها، مُتَحَرِّينَ موافقتَها الشَّريعة، أنْ يَغفِرَ لهمْ ذنوبَهم، ويُثيبَهمْ على أعمالِهمْ جنّات.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ الۡجَحِيمِ﴾ [المائدة :10]
والذينَ كفَروا بالله، وكذَّبوا بالآياتِ والمعجِزاتِ التي أيَّدَ بها رُسلَه، وهيَ واضِحةٌ بيِّنة، يَكونونَ منْ أهلِ جهنَّم، ماكثينَ فيها أبداً.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ هَمَّ قَوۡمٌ أَن يَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ فَكَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡۖ وَاتَّقُواْ اللَّهَۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [المائدة :11]
أيُّها المؤمِنون، اذكروا فضائلَ اللهِ ونِعَمَهُ المتَتاليةَ عليكم، وقدْ أرادَ قومٌ أنْ يَبْطِشوا بكمْ فيَقتُلوكمْ ويأخُذوا أموالَكم، فمنعَهمْ وكَفَّ شَرَّهم عنكم، ورَدَّ كيدَهمْ في نُحورِهم، واحذَروا اللهَ أيُّها المؤمنونَ أنْ تُخالِفوهُ فيمَا أمرَكم ونهاكُم، واشكروهُ على هذهِ النِّعم، وعلى ربِّهمْ فليَعتَمدِ المؤمنون، ولْيُفوِّضُوا إليهِ أمورَهمْ كُلَّها، فهوَ الذي يَدرأُ المَفاسدَ ويَجلُبُ المَصالح.
﴿۞وَلَقَدۡ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ اثۡنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗاۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمۡۖ لَئِنۡ أَقَمۡتُمُ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَيۡتُمُ الزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ اللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ [المائدة :12]
وقدْ أخَذَ اللهُ عهدَ بني إسْرائيل، وبَعثنا اثنَي عشرَ مِنَ العُرَفاءِ على قبائلِهمْ بالمبايعةِ والطَّاعةِ للهِ ولنبيِّهم، ذُكِرَ أنَّهُ لقتالِ الجبابرةِ في أرضِ فِلَسطين، وقالَ اللهُ لهمْ على لسانِ نبيِّهم: إنِّي معكم، إذا واظبتُمْ على الصَّلاة، ودَفعتُمْ زَكاةَ الأموال، وصَدَّقتُمْ جميعَ رُسُلي فيما يُخبرونَكمْ منَ الوحي، ونَصرتُموهُمْ وأعنتُموهُمْ على الحقّ، وأنفقتُمْ في سَبيلِ الله، ولأغفِرَنَّ ذنوبَكمْ وأسترُها عليكم، ولأدخِلنَّكمْ جزاءَ أعمالكمُ المرضيَّةِ جنّات، تَجري مِنْ تحتِ أشجارِها الأنهار. ومَنْ خالفَ الوعدَ ونقضَ الميثاق، فكفرَ بالله، وكذَّبَ رُسُلي، فقدِ ابتعدَ عنِ الهُدى، وأخطأ الطَّريقَ الحقَّ الذي طُلِبَ منهُ اتِّباعُها.
﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ الۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَاعۡفُ عَنۡهُمۡ وَاصۡفَحۡۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [المائدة :13]
فبسببِ نقضِهمُ العهدَ المؤكَّدَ الذي أُخِذَ عليهم، أبعدناهمْ عنْ رَحمتِنا، وطَردناهمْ منَ الهُدى؛ عقوبةً لهم، وجَعلنا قلوبَهمْ غَليظةً لا تَلين، تَنبو عنْ قبولِ الحقّ، ولا تَتَّعظُ بموعِظة. وكانوا يُحَرِّفونَ كلامَ اللهِ ويَفتَرونَ عليه، ويؤوِّلونَه، ويَحمِلونَهُ على غيرِ مُرادِه، وتَركوا قِسماً وافياً منَ التَّوراة فلمْ يَعمَلوا به.
ولا يزالُ هذا شأنَهمْ حتَّى صارَ المكرُ والخيانةُ عادةً لهم، فترَى منْ آثارِ ذلكَ غدرَهُمْ بكَ وأذاهُمْ لكَ ولأصحابِكَ الآن، إلا القليلَ منهم، وهمُ الذينَ أسلَموا. فاعفُ عنهم، وتَجاوزْ عمَّن أساءَ إليك، ما داموا على عهدِكَ ولم يَخونوك، فلعلَّهمْ يَهتدونَ بهذا الأسلوب، واللهُ يُحِبُّ مَنْ عفا وأحسَن، وتجاوزَ وتفضَّل.
ويبدو أنَّ الأكثرَ يَعتبرونَ الآيةَ مَنسوخة، بآيةِ السيفِ أو غيرِها، كما قالَ ابنُ الجوزيُّ في "النَّواسِخ"، لكنْ أوردَ قولَ ابنِ جريرٍ الطبريِّ: يَجوزُ أنْ يُعفَى في غَدْرةٍ فَعلوها ما لم يَنصِبوا حَرباً، ولم يَمتَنعوا مِنْ أداءِ الجزية والإقرارِ بالصَّغار، فلا يَتوجَّهُ النَّسخ.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ الۡعَدَاوَةَ وَالۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ﴾ [المائدة :14]
والذينَ ادَّعَوا أنَّهمْ نصارَى مُتابِعونَ لعيسَى بنِ مريمَ عليهِ السَّلام، وهمْ ليسُوا كذلك، أخَذنا منهمُ العهودَ والمواثيقَ بمتابعةِ الرسولِ ومناصَرتِه، والإيمانِ بأنبياءِ اللهِ كلِّهم، ومنهمْ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّهمْ خالَفوا ونَبذوا قِسْماً كبيراً ممّا عُلِّموهُ وذُكِّروهُ في التوراةِ والإنجيل، وصَاروا مثلَ اليهودِ مُناقِضينَ للمَواثيق، فكانَ جزاؤهمْ أنْ ألقَينا بينهمُ العَداوةَ والحِقدَ والتباغُض، حتَّى صارَ يَلعنُ بعضُهم بعضاً ويُكفِّرونَهم، ولا يَزالُ هذا شأنَهم حتَّى آخِرِ الدُّنيا، وسوفَ يُحاسِبُهمُ اللهُ على أعمالِهمْ وما نَسبوهُ إليهِ زُوراً وبُهتاناً، وما نَقضوهُ منَ العُهودِ والمواثيقِ التي أخذَها عليهم، ويُعذِّبهمْ على ذلكَ عذاباً شديداً.
﴿يَـٰٓأَهۡلَ الۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ الۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ﴾ [المائدة :15]
يا أهلَ الكتابِ منَ اليهودِ والنَّصارَى، لقدْ أرسلنا رسولَنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم إليكمْ وإلى العالمَينَ جميعاً بالحقِّ والهُدى، يُبيِّنُ لكمْ كثيراً ممّا كنتُمْ تُخفُونَ منَ التوراةِ والإنجيل، تَبديلاً وتَحريفاً، وتأويلاً وافتِراءً على الله، كصفةِ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليهِ وسلم، وكآيةِ الرَّجْم، وكبِشارةِ عيسى بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. ويُعْرِضُ عنْ كثيرٍ ممّا أخفَيتُموهُ فلا يُظْهِرُه. وقدْ جاءَكمْ نورٌ عظيمٌ منَ اللهِ تعالَى يُفَرَّقُ بهِ بينَ الحقِّ والباطل، هوَ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، والقُرآنُ الكريم، الواضِحُ البيِّنُ في آياتهِ وأحكامِه.
﴿يَهۡدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [المائدة :16]
يَهدي اللهُ بهذا القُرآنِ مَنْ أرادَ الحقَّ وابتغَى رِضَى اللهِ ومَسالِكَ النَّجاة، ويُنَجِّيهمْ مِنْ ظُلمَاتِ الكُفرِ والضَّلالِ إلى نورِ الهُدَى والإيمانِ بتوفيقهِ وهدايتِه، ويُرشدُهمْ إلى الإسلام، دينِ اللهِ الحقّ.
﴿لَّقَدۡ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الۡمَسِيحُ ابۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ الۡمَسِيحَ ابۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِي الۡأَرۡضِ جَمِيعٗاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [المائدة :17]
لقدْ كفرَ مَنْ قالَ منَ النَّصارَى إنَّ اللهَ هوَ المسيحُ عيسى بنُ مَريم.
وما هوَ إلاّ عبدٌ منْ عبادِ الله، نَفْسُهُ وجِسْمُه، يأكلُ ويَشرَبُ مثلَهم.
فقلْ لهمْ إبطالاً لزَعمِهمُ الفاسدِ هذا: مَنْ يَقدِرُ على مَنعِ أمرِ اللهِ إذا أرادَ أنْ يُميتَ عيسَى وأمَّهُ مَريم، بلْ وجميعَ مَنْ في الأرضِ مِنْ أحياء؟ فأينَ هيَ أُلوهيَّةُ عيسَى، وما الذي يَستَطيعُ أنْ يَفعلَه؟!
إنَّ جميعَ ما في الأرضِ والسَّماءِ وما بينَهما هوَ مُلْكٌ لله، ومنهمْ عيسَى عليهِ السَّلام، وهوَ الذي خلقَهُ كما خلقَ آدم، فيَخلُقُ ما يَشاءُ كما يَشاءُ، لا يَحُدُّ مِنْ إرادتهِ وقُدرتهِ شَيء، سُبحانَهُ ما أعظمَه!
﴿وَقَالَتِ الۡيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ الۡمَصِيرُ﴾ [المائدة :18]
وقالَ أهلُ الكتابِ منَ اليَهودِ والنَّصارَى: نحنُ مُقَرَّبونَ عندَ اللهِ قُرْبَ الأولادِ مِنْ والِدِيهم، ومَحبوبونَ لديه، فهوَ كالأبِ لنا في الحُنوِّ والعَطف، لاتِّباعِنا دينَه، وطاعتِنا إيّاه.
فقلْ لهمْ تَفنِيداً لدَعواهُم: فلمَ يُحاسِبُكمْ على أعمالِكمْ ويُعاقِبُكمْ على السيِّئِ منها؟ وكيفَ يَصِحُّ زعمُكمْ هذا وقدْ عاقَبَكمْ في الدُّنيا، وأعَدَّ جهنَّمَ لمنْ عصَى وخالَفَ أمرَه؟
بلْ أنتُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِه، كسائرِ بَني آدم، يَغفِرُ لمنْ شاءَ منكمْ فَضلاً منه، ويَجزيهمْ على أعمالِهمُ الصالحةِ خَيراً، ويُعَذِّبُ الكافِرينَ منكمْ باللهِ ورسلهِ ويَجزيهمْ سُوءاً وشَرًّا؛ عَدْلاً منه.
وأنتُمْ وسائرُ أفرادِ البشَرِ وما بينَ السَّماءِ والأرضِ مُلْكٌ للهِ وعَبيدٌ لهَ تحتَ قَهرهِ وسُلطانِه، يَتصرَّفُ فيها كما يَشاء، إحياءً وإماتة، إثابةً وتَعذيباً، وإليهِ المآبُ في يومِ الحِساب، فيُجازي كلاًّ منَ الُمحسنِ والمُسيءِ بما يَستَحِقّ.
﴿يَـٰٓأَهۡلَ الۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [المائدة :19]
يا أهلَ الكتاب، لقدْ أرسلنا إليكمْ رسولَنا محمَّداً صلى الله عليه وسلَّم، بعدَ انقطاعٍ منَ الرُّسلِ دامَ قُروناً، حتَّى لا تَحتَجُّوا وتَقولوا ما جاءَنا رسولٌ يُبَشِّرُنا بحُسنِ الثوابِ إنْ أصَبنا وأطَعنا، ويُنذِرُنا بالعُقوبةِ إنْ أخطأنا وعَصَينا، فقدْ جاءَكمُ البشيرُ النذيرُ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلَّم خاتماً لجميعِ أنبيائه، فلا عُذرَ لكمْ إذا لم تَتَّبعوه. واللهُ قادرٌ على كلِّ شَيء، ومنهُ إرسالُ الرسُل، ومُعاقَبةُ مَنْ لم يَتَّبعْهُم.
﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ اذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [المائدة :20]
واذكرُوا يا بَني إسرائيلَ عندما قالَ لكمْ نبيُّ اللهِ موسى عليه السَّلام: اذكروا فضلَ اللهِ ونِعمتَهُ عليكمْ عندما أرسلَ إليكمْ أنبياءَ كثيرينَ يُذَكِّرونَكمْ ويَدعونَكمْ إلى الحقّ، وجعلَكمْ في حالِ سَعةٍ وتَرَفُّه، وخَدَمٍ وحَشَم، وجعلَكمْ أفضلَ أهلِ زمانِكم، وأعطاكمْ آنذاكَ ما لم يُعطِ أحداً منَ الناس، مِنْ إغراقِ مَنْ ظلمَكم، وتَظليلِ الغَمامِ عليكم، وانفِجارِ الحجرِ لكمْ بالماء، وإنزالِ المَنِّ والسَّلوَى...