﴿يَٰقَوۡمِ ادۡخُلُواْ الۡأَرۡضَ الۡمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ﴾ [المائدة :21]
وقالَ لهمْ موسَى عليه السَّلام: ادخُلوا الأرضَ المقدَّسة - وهيَ أريحا أو القُدس - التي قدَّرها وقَسَمها اللهُ لكمْ في ذلكَ الوَقت. وكانتْ بأيديهمْ في زَمانِ يعقوبَ عليهِ السَّلام، ثمَّ تملَّكها العَمالقةُ بقيَّةُ قومِ عاد. ولا تَجبُنوا عنِ الجهاد، ولا تَرجِعوا عنْ مَقصِدِكُمْ خوفاً منَ الجبابِرَة، فتَعودوا خاسِرين.
﴿قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوۡمٗا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ﴾ [المائدة :22]
فقالَ بَنو إسْرائيل: يا موسَى، إنَّ فيها قوماً شَديدِي البطش، لطولِهمْ وعِظَمِ خِلْقَتهمْ وقوَّةِ أجسادِهم، ولا يُمكنُ مقاومتُهم، ولنْ ندخلَ هذهِ الأرضَ المقدَّسةَ ما دامُوا فيها، فلا طاقةَ لنا بإخراجِهمْ منها، فإذا خَرجوا منها دَخلناها.
﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ اللَّهُ عَلَيۡهِمَا ادۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ الۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [المائدة :23]
قالَ رَجُلانِ مؤمِنانِ ممَّنْ لهمْ وَجاهةٌ ومَهابةٌ عندَ الناس، يَخافونَ اللهَ ولا يَخافونَ أعداءَه، ممَّنْ أنعمَ اللهُ عليهما بالإيمانِ والشَّجاعةِ والثَّبات: ادخلوا بابَ مدينتِهم، وفاجِؤوهمْ ولا تمُهِلوهم، فإذا دخلتُمْ عليهمُ الباب، وتوكَّلتمْ على اللهِ واتَّبعتمْ أمرَه، وهجمتُمْ عليهمْ وضايقتُموهمْ في الحَرب، أيَّدَكمْ وأظفرَكمْ بهم.
﴿قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ﴾ [المائدة :24]
فقالوا غيرَ مُبالينَ بقولِهما، مُصِرِّينَ على قولهمْ في النُّكولِ عنِ الجِهادِ ومُخالفةِ الرسُول: يا موسَى، لنْ نَدخُلَ هذهِ الأرضَ أبداً ما دامَ الجبابِرَةُ ماكثينَ فيها. وقالوا في استِهانةٍ وسُوءِ أدَبٍ معَ اللهِ ورسُوله: اذهَبْ أنتَ وربُّكَ فقاتِلاهمْ وأخرِجاهمْ حتَّى ندخُلَها، ونحنُ هنا قاعدونَ مُنتَظِرون!!
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِي وَأَخِيۖ فَافۡرُقۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ الۡقَوۡمِ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [المائدة :25]
قال موسَى عليهِ السَّلامُ في استِكانةٍ وخُضوعٍ لربِّهِ عزَّ وجلَّ لمّا رأى عنادَ بَني إسْرائيلَ وقَسوةَ قلوبِهمْ ونُكولَهمْ عنِ القِتال: يا ربّ، إنهُ لا يُجيبُ أحدٌ إلى ما دعوتَ إليهِ إلاّ أنا وأخي هارون، فافصِلْ بينَنا وبينَ هؤلاءِ الخارجينَ عنْ طاعتِكَ بقَضائكَ العادِل.
﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي الۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى الۡقَوۡمِ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [المائدة :26]
قالَ اللهُ تعالَى ما مَعناه: فإنَّ هذهِ الأرضَ المقدَّسةَ مُحَرَّمةٌ عليهمْ أربعينَ سَنة، لا يَدخلونَها، ويَسيرونَ مُتَحيِّرينَ في الأرض، يَمشونَ كلَّ يومٍ ولا يَهتدونَ إلى الطَّريق، ولا تَحزَنْ لِما أصابَهم يا موسَى ولا تأسَفْ عليهم، فإنَّهمْ يَستَحِقُّونَ هذا العِقاب.
﴿۞وَاتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ابۡنَيۡ ءَادَمَ بِالۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ الۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الۡمُتَّقِينَ﴾ [المائدة :27]
واقْصُصْ على بَني إسْرائيلَ قِصَّةَ ولدَيْ آدمَ قابِيلَ وهابِيل، بشكلٍ جليٍّ لا لَبْسَ فيه، ليَعرِفوا عاقبةَ البَغي والحسَدِ والظُّلم، وذلكَ عندما أرادَ قابيلُ أنْ يَستأثِرَ بنصيبِ هابيلَ منَ الزَّواج، فأبَى الآخَر، وأبَى آدمُ كذلك، وقابيلُ مُصِرّ، فقالَ أبوهما: قرِّبا قُرباناً، فمَنْ تُقُبِّلَ منهُ تزوَّجَها. فتُقُبِّلَ مِنْ هابيلَ ولم يُتَقَبَّلْ مِنْ أخيهِ الظَّالم، فقالَ لهُ لفَرْطِ حَسدهِ مِنْ قَبولِ قُربانِه: سأقتُلُك، فقالَ لهُ هابيل: إنَّما يَتقبَّلُ اللهُ القُربانَ مِنْ عبادهِ المُطيعينَ المخلِصين.
﴿لَئِنۢ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقۡتُلَنِي مَآ أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [المائدة :28]
وإذا مَددتَ إليَّ يَدكَ يا قابيلُ لتَقتُلَني، فلنْ أمدَّ يَديَ إليكَ لأقتُلَك، ولنْ أقابِلَ ما تَهُمُّ بهِ مِنْ فِعلٍ شَنيعٍ بمثلِه، بلْ أصبِرُ وأحتَسِب، وأستَسلِمُ خَوفاً منَ اللهِ ومنْ عقوبتِه.
﴿إِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ النَّارِۚ وَذَٰلِكَ جَزَـٰٓؤُاْ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [المائدة :29]
إنِّي أريدُ باستِسلامي هذا أنْ تَتحمَّلَ إثمَ قَتلي وإثمَكَ الذي عليكَ قبلَ ذلك، فيَكونَ جزاءَك النارُ، وهوَ جزاءُ الباغينَ الظَّالمين.
﴿فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ الۡخَٰسِرِينَ﴾ [المائدة :30]
فحسَّنَتْ لهُ نفسُهُ السيِّئةُ قتلَ أخيه، فقتَلهُ، على الرَّغمِ مِنَ الموعظةِ التي سَمِعَها منه، فخَسِرَ أعظمَ خَسارة، في الدُّنيا والآخِرَة.
وفي الصحيحين: " لا تُقْتَلُ نفسٌ ظُلماً إلاّ كانَ على ابنِ آدمُ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دمِها، وذلكَ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتل".
وهذا حديثٌ خَطير، فليَعتبرْ كلُّ مَسؤول، وقائدٍ وزَعيم، فإنَّ لهُ أو عَليه كلُّ مَنْ قالَ بمقالهِ أو عَمِلَ بعمَلِهِ حتَّى يومِ الدِّين.
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي الۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا الۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ النَّـٰدِمِينَ﴾ [المائدة :31]
وبقيَتْ جُثَّتهُ على الأرضِ لا يَدري قابيلُ ما يَفعلُ بها، فبعثَ اللهُ غُراباً يَحفِرُ الأرضَ أمامَهُ بمِنقارهِ وبرِجْلهِ، ووارَى في الحُفرةِ غُراباً مَيتاً - ومازالَ هوَ شأنَ الغرابِ - ليُعلِّمَهُ اللهُ بذلكَ كيفَ يَدْفِنُ أخاه. فقالَ قابيل: يا هلاكي ويا مَوتي، أعجَزْتُ أنْ أكونَ مثلَ هذا الغُرابِ فلا أهتَدي إلى ما اهتدَى هوَ إليه، فأُخفيَ جَسَدَ أخي تحتَ الأرضِ وأواريَهِ بالتُّراب؟ فواراه، وصارَ نادِماً مُتَحَسِّراً على قتلِه.
﴿مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي الۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا النَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِالۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي الۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ﴾ [المائدة :32]
وبسبَبِ مفَاسدِ هذهِ الجِنايةِ، مِنْ قتلِ ابنِ آدمَ أخاهُ ظُلماً وعُدواناً، قَضَينا على بَني إسرائيلَ في التَّوراة، أنَّ مَنْ قتلَ نَفساً بغَيرِ قِصاص، أو بغيرِ فَساد، فاستحلَّ قتلَها بغَيرِ سبَبٍ ولا جِنابة، ككفرٍ، أو زِناً، أو نَحوِ ذلك، فكأنَّما قتلَ الناسَ كلَّهم، وعليهِ وِزْرُها!
وكانَ الحسدُ مَنشأَ هذهِ الجِناية، وهوَ غالِبٌ على بَني إسرائيلِ. ومعَ ما نزلَ عليهمْ مِنْ تَعظيمِ القَتل، فقدْ كانوا أشدَّ طُغياناً فيه، فقدْ أقدَموا على قتلِ الأنبياءِ والرسُل، ممّا يَدُلُّ على غايةِ قَساوةِ قلوبِهم، ونهايةِ بُعدِهمْ عنْ طاعةِ اللهِ تعالى، وبسبَبِ ذلكَ شُدِّدَ عليهمْ وعُظِّمَ مِنْ أمرِ القَتلِ عندَهم.
ومَنْ تورَّعَ عنْ قتلِ النَّفس، أو تسبَّبَ في إبقائها واستنقاذِها مِنْ أسبابِ الهَلاك، فكأنَّما حازَ ثوابَ سلامةِ النَّاسِ كلِّهم!
ولقدْ جاءَتْهُمْ رسلُنا بالحُجَجِ الواضِحَة، والبراهينِ الناطِقَة، تأكيداً لوجوبِ ما فرَضنا عليهم، ومعَ كلِّ ذلكَ فقدْ كانَ الكثيرُ منهمْ مُسرِفاً في القَتلِ، غيرَ مُبالٍ به، معَ ارتِكابِهمْ محرَّماتٍ أُخرَى، وإفسادِهمْ في الأرض.
﴿إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي الۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ الۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي الدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة :33]
هذا حُكْمُ مَنْ قَطعَ الطريقَ وأخافَ السَّبيلَ وارتكبَ أنواعَ الشرّ. والآيةُ عامَّةٌ في المشرِكينَ وغَيرِهمْ ممَّنْ جنَى هذهِ الجِنايات.
وقدْ نزَلتِ الآيةُ في قَومٍ أكرمَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وأحسنَ إليهم، ثمَّ قَتَلوا وسَرَقوا، وكفَروا وحارَبوا... فقُطِّعتْ أيديهمْ وأرجلُهم.
والحاكمُ يَختارُ مِنْ هذهِ الأحكامِ ما يناسبُ الجريمة. وقالَ الإمامُ البغوي: "ذهبَ الأكثَرونَ إلى أنَّ هذهِ العُقوباتِ على تَرتيبِ الجرائمِ لا على التخيير".
فإنَّما عُقوبةُ مَنْ يُحارِبونَ دِينَ الله، ورسولَه، وأولياءَه، ويُفسِدونَ في الأرض، أنْ يُقتَلوا إذا قَتَلوا، أو يُصْلَبوا معَ القتلِ إذا قَتَلوا وأخَذوا الأموال، أو تُقطَعَ أيديَهمُ اليُمنَى وأرجلَهمُ اليُسرَى لمَنِ اقتصرَ على أخذِ المال، أو يُنْفَوا مِنْ أهلِهمْ بالحَبسِ إنْ أخافُوا وسعَوا في الفسادِ ولم يَقْتُلوا ولم يَسرِقوا.
وما فُصِّلَ مِنَ الأحكامِ عَذابٌ وهَوانٌ وفَضيحةٌ لهمْ في الدُّنيا، ولهمْ إضافةً إلى ذلكَ عَذابٌ شَديد، وعُقوبةُ عَظيمةٌ في الآخِرَة.
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُواْ عَلَيۡهِمۡۖ فَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [المائدة :34]
فإذا تابوا مِنْ عَمَلِهمْ هذا وسلَّموا أنفسَهمْ قبلَ أنْ تَقبِضوا عليهم، فلا عُقوبةَ عَليهم، واللهُ يَغفِرُ لهمْ ويَرحمُهم.
ومَنْ قالَ إنَّ الآيةَ فيمَنْ كفروا، فإنَّ معنَى "تاب" هنا: تَرَكَ الشِّرْكَ وآمَن، فلا عُقوبةَ عليهم؛ لأنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قبلَه.
وأمّا إذا كانتْ في المسلِمين، فإنَّ حقَّ اللهِ يَسقُطُ عنهم، أمّا حقوقُ العِباد، مِنْ قِصاصٍ ومال، فلا يَسقُطُ إلاّ إذا عَفَوا.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ الۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [المائدة :35]
أيـُّها المؤمِنون، أقبِلوا على طاعةِ اللهِ وذَروا ما نَهاكُم عنه، واطلُبوا القُرْبَ منهُ بالعملِ بما يُرضيه، مِنِ امتِثالٍ وضَراعة، وقُرَبٍ وطاعة، وقاتِلوا أعداءَ اللهِ منَ الكفّارِ والمشرِكين، الذينَ حاربوا اللهَ ورسولَه، وآثرُوا الضَّلالَ على الهُدَى، لتكونُوا ممَّنْ يَفوزونَ بالأجرِ العَظيم يومَ الدِّين.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [المائدة :36]
ولو كانَ لكلِّ مَنْ كفرَ مُلكُ ما في الأرضِ منْ ذَخائرَ وأموَال، وضِعْفُه، ليَفتَدوا بها أنفسَهم منْ عَذابِ يومِ القيامة، لم يُقبَلْ ذلكَ منهم، فلا مَفَرَّ لهمْ منَ العُقوبة، ولهمْ عذابٌ قاسٍ، جزاءَ كفرِهمْ ومحاربتِهمْ أهلَ الدِّينِ الحقّ.
﴿يُرِيدُونَ أَن يَخۡرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنۡهَاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّقِيمٞ﴾ [المائدة :37]
وهمْ يُحاوِلونَ أنْ يَخرُجوا منَ النار، للكَرْبِ الذي همْ فيه، وللألمِ الذي يُصيبُهمْ وشدَّتِه، ولكنْ لا سَبيلَ لهمْ إلى ذلك، فهمْ باقُونَ في العَذاب، لا مَحيدَ لهمْ عنه.
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ اللَّهِۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [المائدة :38]
ومَنْ سَرق، مِنْ ذَكَرٍ أو أنثَى، فعلى الحاكمِ أنْ يَقطعَ يمينَ كلٍّ منهما مِنْ الرُّسْغِ (مَفْصِلِ ما بينَ الساعِدِ والكَفّ)، جزاءَ صَنيعِهما السيِّءِ في أخذِ أموالِ الناسِ بأيديهما بغَيرِ حقّ؛ عُقوبةً مِنْ عندِ اللهِ على ذلك، وهوَ سُبحانَهُ عَزيزٌ في انتِقامهِ مِنَ المعتَدينَ الظَّالمين، حَكيمٌ فيما يَشْرَعُ ويُقَدِّر مِنْ عُقوبة.
وفي القَطعِ شُروطٌ بيَّنتْها السنَّة، مِنْ بلوغِ مِقدار ِالسَّرقةِ نِصاباً معيَّناً، وأنْ يكونَ مِنْ حِرْز، وشروطٌ أخرَى للتَّنفيذِ ضبَطها الفقهاء، تُنظَرُ في مَظانِّها.
ولا أملَ في القَضاءِ على جَريمةِ السَّرقةِ إلاّ بهذهِ العُقوبة، وتُنْظَرُ الدراساتُ الجنائيةُ المُعدَّةُ فيها، وبيانُ مدَى انتشارِها وازديادِها وصُعوبةُ ردعِ أصحابِها، على الرَّغم مِنَ العقوباتِ المقدَّرةِ لها، مِنْ غَيرِ القَطع، وهيَ اعتداءٌ آثِمٌ على حقوقِ النَّاس، ونَهبٌ لأموالِهمُ التي حصَّلوها بجهدٍ وتعَبٍ على مدَى سَنوات...
﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيۡهِۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة :39]
فمَنْ تابَ مِنَ اللُّصوصِ بعدَ ظُلمِهِ النَّاسَ بسَرقةِ أموالِهم، وأصلحَ أمرَه، بأنْ أعادَ إلى الناسِ ما سَرقَهُ منهم، أو أعطاهمْ بَدلَها، أو استحلَّها منْ أصحابِها، أو أنفقَ قيمتَها في سبيلِ اللهِ إنْ لم يَعرفْهُم، فإنَّ اللهَ يَقبَلُ توبتَهُ ولا يُعَذِّبهُ في الآخِرَة، فهوَ يَغفِرُ ذُنوبَ عِبادِه، ويَرحمُهم.
قالَ القُرطبيُّ في تَفسيرِه: القَطعُ لا يَسقُطُ بالتَّوبَة، وقالَ عطاءُ وجَماعَة: يَسقطُ بالتَّوبَةِ قَبلَ القُدرَةِ على السَّارِق...
﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ اللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [المائدة :40]
ألم تَعلمْ أيـُّها الإنسانُ أنَّ اللهَ لهُ مُلكُ السَّماواتِ والأرض، ومُلكُ ما بينهما، ولهُ الاستيلاءُ القاهرُ عليهما ومَنْ فيهما، فيَتصرَّفُ فيهما كما يَشاء، بحِكمتِه، ويعذِّبُ منْ يَشاءَ بما يَستَحِقّ، ويَغفِرُ لمنْ يَشاءُ بعَفوهِ وكرَمِه، وهوَ القادرُ على العُقوبةِ والمغفِرَة، لا يَقدِرُ أحدٌ على مَنعِهِ مِنْ ذلكَ ولا مِنْ كيفيَّتِه؟