﴿۞يَـٰٓأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الۡكُفۡرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ الۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَاحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ اللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي الدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [المائدة :41]
أيـُّها الرسُولُ الكرِيم، لا تَتحَسَّرْ على هؤلاءِ الذينَ لا يَجدونَ فُرصةً للكفرِ إلاّ سارَعوا إليهِ وناصَروا أهلَه، وهمُ المنافِقونَ الذينَ يُظهِرونَ الإيمانَ بألسنتِهم، ولكنَّ قلوبَهمْ خاويةٌ منه، وكذا اليَهود، الذينَ يُسارِعونَ إلى ذلك.
إنَّهمْ جميعاً يَقبَلونَ الكذب، ويُبالِغونَ في قَبولِ كلامِ آخَرينَ لا يأتونَ مجلِسَك، حُبًّا ومُوالاةً لهم. ومِنْ صِفاتِهمْ أيضاً أنَّهم يُحَرِّفونَ الكلامَ ويُبدِّلونَهُ معَ علمِهمْ بما هوَ حقٌّ منه، ويَقولون: إنْ أفتاكُمْ محمَّدٌ بهذا فاعمَلوا بموجبِه، وإنْ أفتَى لكمْ بغَيرهِ فاحذَروا قبولَه.
وقدْ نزلتْ في يهوديَّينِ زَنَيا، وكانوا يَعرِفونَ أنَّ التوراةَ تَقضي برَجمِهما، ولكنَّهمْ لم يعمَلوا بها، فاتَّفقوا أنْ يَقبلوا حُكمَ الرسُولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنْ كانَ دونَ الرَّجْم، فاستَفسَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منهمْ عنِ الحكمِ في التَّوراة، فقالوا: إنهُ الجَلْد، ومازالَ بهمْ حتَّى اعترفَ أحدُهمْ بأنَّهُ الرَّجْم، فحَكمَ بذلك.
وإذا أرادَ اللهُ إضلالَ أحَدٍ أو إهلاكَه، فلنْ تَقدِرَ على دفعِ أمرِه، واللهُ لا يُريدُ تَطهيرَ قلوبِهمْ مِنْ رجسِ الكُفرِ وخُبثِ الضَّلالة؛ لفسادِ نيّاتِهم وشُرورِ ما في أنفسِهم، ولتكذيبِهمُ الحقَّ وإيثارِهمُ الباطلَ عليه!
ولهمْ في الدُّنيا عارٌ وفَضِيحة، كإظهارِ نِفاقِ المنافِقين، وخِزي اليهودِ بضَربِ الجِزيةِ عليهم، وقتلِهمْ ونَفيهم، ولهمْ جميعاً في الآخِرَةِ عَذابٌ هائلٌ دائمٌ لا يَنقَطع.
﴿سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَاحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَاحۡكُم بَيۡنَهُم بِالۡقِسۡطِۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الۡمُقۡسِطِينَ﴾ [المائدة :42]
إنَّهمُ اليَهود، المُكثِرونَ مِنْ قَبولِ الكذِب، والمُكثِرونَ منْ أكلِ الحَرام، كالرِّشا وغَيرِها. فإذا جاؤوا إليكَ في قَضيَّةٍ لتحكمَ بينَهم، فاحكمْ بينَهمْ بما أراكَ الله، أو اترُكْهُمْ غيرَ مُكتَرِثٍ بهم، فإنَّهمْ لا يَقصِدونَ بتحاكُمِهمْ إليكَ اتِّباعَ الحقّ، بلْ ما وافقَ هواهُم.
وإذا أعرضتَ عنهمْ فلنْ يَضرُّوكَ بشَيء، واللهُ يَحفظُكَ منْ ضرَرِهم.
وكانَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم مخيَّراً في أوَّلِ أمرِه، ثمَّ أُمِر بإجراءِ الأحكامِ عليهم، في قولهِ تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ...} [سورة المائدة: 49]، فلزِمَهُ الحُكمُ وزالَ التَّخيير. فالآيةُ بذلكَ تكونُ منسوخة.
وذهبَ الإمامُ أحمدُ إلى أنَّها غَيرُ مَنسوخَة، فالحاكِمُ بالخِيارِ إذا ارتفعَ إليهِ أهلُ الذمَّة.
وإذا حكمتَ بينهمْ فليَكنْ حُكمُكَ بالحقِّ والعَدلِ الذي أُمِرْتَ به، وهوَ ما تَضمَّنَتْهُ شريعةُ الإسلام، وإنْ كانوا همْ ظَلَمَةً أعداء، مُفتَرينَ غيرَ عادِلين. واللهُ يُحِبُّ العادلينَ في أحكامِهم، ويَرفعُ شأنَهم.
﴿وَكَيۡفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوۡرَىٰةُ فِيهَا حُكۡمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوۡنَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۚ وَمَآ أُوْلَـٰٓئِكَ بِالۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [المائدة :43]
وكيفَ يَطلبونَ منكَ حُكماً وهمْ لا يؤمنونَ بنبوَّتِكَ وصدقِ رسالتِكَ ولا يَلزَمُهمْ قَبولُه، والحالُ أنَّ الحُكمَ الذي يَبحثونَ عنهُ موجودٌ في التوراةِ كما أمرَ بهِ الله، وهمْ يَقولونَ إنَّهم مُتمسِّكونَ بها، ومعَ ذلكَ يَعدِلونَ إلى غَيرِها؟ فليسوا بذلكَ منَ المؤمِنينَ بكتابِهم؛ لإعراضِهمْ عنه.
﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَا التَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّـٰنِيُّونَ وَالۡأَحۡبَارُ بِمَا اسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ النَّاسَ وَاخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة :44]
إنّا أنزلنا التوراةَ فيها هِدايةٌ للنَّاس، ونورٌ يُبيِّنُ الحقّ، ويوضِّحُ للناسِ ما يحتاجونَ إليهِ منْ أحكامٍ ومُعامَلاتٍ وسُلوك، يَحكمُ بها الأنبياءُ مِنْ لَدُنْ موسَى حتَّى عيسَى عليهمُ الصلاةُ والسلام - وهمْ كُثر -، الذينَ أسلموا وجوهَهمْ لله، وسَلكوا طريقَ الهِدايةِ والصَّلاحِ كما طَلبَ منهمْ ربُّهم، وحكَموا بالتوراةِ لأجلِ اليهودِ وفيما بينَهم. وما كانوا يَخرجونَ عنْ حُكمها، ولا يُبَدِّلونَها ولا يُحَرِّفونَها، وكذلك العُبّادُ والعلماءُ منهمْ بما وُجِّهوا منْ قِبَلِ الأنبياء، ليُظهِروها ويَعملوا بها ويَحفَظوها منَ التَّغييرِ والتَّبديل، ولا يُخِلُّوا بأحكامِها، وكانوا حُفّاظاً رُقباءَ عليها. ثمَّ حَرَّفتِ اليهودُ الكثيرَ منها.
فلا تَخافوا الناس، وخافونِ، فإنَّ النفعَ والضُّرَّ بيَدي. ولا تَستبدِلوا بآياتي حُظوظاً دُنيويَّةً تافِهةً عنْ طريقِ الرشوةِ والجاهِ وما إليه، ومَنْ لم يَحكمْ بما أنزلَ اللهُ مِنَ الأحكامِ فإنَّهمْ منَ الكافِرين.
قالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما: مَنْ جَحدَ ما أنزلَ اللهُ فقدْ كفَر، ومَنْ أقرَّ بهِ ولم يَحكمْ فهوَ ظالِمٌ فاسِق.
وصحَّحَ الحاكمُ قولَ ابنِ عبّاسٍ في الآية: إنَّهُ ليسَ بالكُفرِ الذي يَذهبونَ إليه، إنهُ ليسَ كُفراً يَنقلُ مِنَ الملَّة، كُفرٌ دونَ كُفر.
قلت: هوَ توضيحٌ لجانبٍ مِنْ قولهِ السَّابق: مَنْ أقرَّ بهِ ولم يَحكمْ فهو ظالمٌ فاسق.
وبعدَ أنْ ذكرَ ابنُ جَريرٍ الطبريُّ أنَّ الآيةَ نَزلتْ في أهلِ الكتابِ خاصَّة، قال: وكذلكَ القولُ في كلِّ مَنْ لم يَحكمْ بما أنزلَ اللهُ جاحِداً به، هوَ باللهِ كافر، كما قالَ ابنُ عباس؛ لأنَّهُ بجحودهِ حُكْمَ اللهِ بعدَ علمهِ أنَّهُ أنزلَهُ في كتابِه، نظيرُ جُحودهِ نبوَّةَ نبيِّهِ بعدَ علمهِ أنَّهُ نَبيّ.
قلتُ: ومثلهُ مَنْ استَهزأ بشَريعَةِ الإسلامِ وأحكامِها، أو زعمَ أنَّها لا تَصْلُحُ للحُكم.
﴿وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ النَّفۡسَ بِالنَّفۡسِ وَالۡعَيۡنَ بِالۡعَيۡنِ وَالۡأَنفَ بِالۡأَنفِ وَالۡأُذُنَ بِالۡأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الظَّـٰلِمُونَ﴾ [المائدة :45]
وفرَضنا على بَني إسرائيلَ في التَّوراةِ أنَّ النفسَ المقتولةَ بغيرِ حقٍّ يُقتَصُّ لها بقَتلِ قاتلِها، والعَينُ تُفْقأ بالعَين، والأنفُ تُجْدَعُ بالأنف، والأذُنُ تُقْطَعُ بالأذُن، والسنُّ تُقلَعُ بالسنّ، وسائرُ الجروحِ يُقاسُ عليها في القِصاص، فيما يمكنُ القِصاصُ منه، كاليد، والرِّجْل، واللِّسان. وما لا يُمكِنُ القِصاصُ منه، ككَسرِ عَظم، أو جَرحِ لحم، ونحوِه، فلا قِصاصَ فيه، بلْ فيهِ حُكومةُ عَدل، فيُحْكَمُ لهُ بما يَستَحِقُّهُ مِنْ مال، وهوَ ما يُسَمَّى بالأَرْش، ويَعني دِيَةَ الجِراحة. وقدْ قدَّرَ أئمَّةُ الفقهِ أرشَ كلِّ جراحةٍ بمقاديرَ معلومة، تُنظَرُ في مَظانِّها.
فمَنْ عفا عنْ صاحبهِ ولم يَقتصَّ منه، فهو كفّارةٌ لذَنْبهِ بما شاءَ الله.
ومَنْ لم يَحكمْ بما أنزلَ اللهُ مِنْ هذهِ الأحكام، فإنَّهم مِنَ الظالمين.
وهذهِ الأحكامُ مُقَرَّرةٌ في شرعِنا أيضاً، قالَ اللهُ سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 179]. وقدْ مرَّ تفسيرُها.
﴿وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ابۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ التَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ الۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ التَّوۡرَىٰةِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ﴾ [المائدة :46]
وأتْبَعنا أنبياءَ بَني إسرائيلَ برسولِ اللهِ عيسَى بنِ مريم، مُؤمِناً بالتَّوراة، عامِلاً بما فيها، وأنزلنا عليهِ الإنجيلَ فيهِ هِدايةٌ إلى الحقّ، ونورٌ يُفَرِّقُ بينَ الحقَّ والباطِل، ويُزيلُ الشبُهات، ويَحُلُّ المشكِلات، مثلَ التوراة، فهوَ متَّبِعٌ لها، حاكمٌ بها، غيرُ مخالِفٍ لِما فيها، إلا القليلَ ممّا نُسِخَ بهِ بعضُ أحكامِ التَّوراة. والإنجيلُ كلُّهُ هِداية، وتَخويفٌ وزَجرٌ عنِ ارتكابِ المعاصي، لمنِ اتَّقَى اللهَ وخافَ عِقابَه.
﴿وَلۡيَحۡكُمۡ أَهۡلُ الۡإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة :47]
وواجبٌ على مَنْ أُوتوا الإنجيلَ أنْ يؤمِنوا بهِ ويَحكموا بما فيه، ويَعملوا به، وفيهِ البِشارةُ ببعثةِ محمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، والأمرُ باتِّباعهِ وتصديقِه، والانضواءِ تحتَ شَريعتِه، ومَنْ لم يَحكمْ بما أنزلَ اللهُ مِنْ أحكامٍ وأوامِر، فإنَّهمْ خارِجونَ عنْ أمرِ اللهِ وطاعتِه، تاركونَ الحقّ، مائلونَ إلى الباطِل.
﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ بِالۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ الۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَاحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَاسۡتَبِقُواْ الۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى اللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ﴾ [المائدة :48]
وأنزلنا عليكَ أيُّها النبيُّ القُرآنَ بالصِّدق، الذي لا شكَّ أنَّهُ مِنْ عندِ الله، مُصَدِّقاً ما سبقَهُ منَ الكتُبِ السَّماويَّة، وفيها ذكرُكَ والثناءُ عليك. والقُرآنُ أمينٌ عليها جميعاً، ورقيبٌ عليها وشَهيد، فيَشهدُ لها ويَحكمُ عليها، فهوَ آخِرُ الكتبِ وأشملُها، وأعظمُها وأحكمُها، ومحفوظٌ منَ التحريفِ والتَّبديل، فاحكُمْ بينَ الناسِ جميعاً - ومنهمْ أهلُ الكتاب، إذا ترافعوا إليك- بما أنزلَ اللهُ عليكَ في القُرآن، ولا تَتَّبعْ أفكارَهمُ الفاسِدة، وأهواءَهمُ الزائغةَ عمّا أنزلَ اللهُ عليكَ منَ الحقِّ والعَدلِ الذي لا مَحيدَ عنه.
وقدْ جعلنا لكلِّ أمَّةٍ منَ الأمَمِ سَبيلاً وسُنَّة، فالأديانُ كلُّها بُعِثَتْ متَّفقةً في التَّوحيد، معَ شرائعَ مختلفةٍ في الأحكامِ تُناسِبُ الناسَ وزمانَهم وبيئتَهم.
ولو شاءَ اللهُ لجعلَكمْ جماعةً واحدةً على دِيْنٍ واحدٍ في جَميعِ الأزمان، دونَ اختلافِ أحكام، لا يُنْسَخُ شَيءٌ منها، ولكنَّهُ سبحانَهُ شرعَ لكلِّ رسولٍ شِرْعة، ثمَّ عدَّلَ فيها للرسُولِ الذي بعدَهُ ما شاء، حتَّى نُسِخَتْ جميعُها برسالةِ الإسلامِ الخَاتمة، التي بُعِثَتْ لأهلِ الأرضِ جميعاً، ليَختَبِرَ عبادَهُ فيما شرعَهُ لهم، ويَنظُرَ المطيعَ منهمْ والعاصي، والمُذعِنَ والرافِض، والموافِقَ والمُخالِف. فيُثِيبَ ويُعاقِب، كلٌّ بحَسَبِ نيَّتهِ وعَزمهِ وعَملِه، في العُصورِ المختلِفة، بالشرائعِ المقرَّرة. فسارِعوا إلى الخيرات، وبادِروا إلى الحسناتِ والأعمالِ الصَّالحات، بطاعةِ اللهِ واتِّباعِ شرعِه، والتصْديقِ بكتابِه، واتِّباعِ أوامرِه.
واعلَموا أنَّكمْ جميعاً مُنقَلِبونَ إلى الله، ليَفصِلَ بينكمْ فيما كنتُمْ تَختلفونَ فيهِ في الدُّنيا منْ أمرِ الدِّين، ويعذِّبَ الجاحدَ المكذِّب بالحقّ، ويَجزيَ المؤمنَ المصدِّقَ بالإحسانِ والإكرام.
﴿وَأَنِ احۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَاحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَاعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ النَّاسِ لَفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة :49]
فاحكمْ بينَ أهلِ الكتابِ - إذا احتَكموا إليكَ - بما أنزلَهُ اللهُ عليكَ في القُرآن، ولا تتَّبعْ أهواءَهمُ الزائغةَ وأفكارَهمُ المنحرِفة، وكنْ على حَذَرٍ مِنْ أنْ يُدَلِّسَ عليكَ اليهودُ الحقَّ بخُبثِهم، ويَصرِفوكَ عنْ بعضِ ما أنزلَهُ اللهُ عليكَ منَ الحقّ، فإنَّهمْ كفَرةٌ خوَنةٌ لا يُؤمَنُ جانبُهم، ولا يَحتكِمونَ إليكَ ليؤمِنوا ويَرضَوا بحُكمِ الله، فإذا أعرَضوا عنْ حُكمِكَ وخالَفوا الشَّرع، فاعلمْ أنَّ اللهَ قدَّرَ ذلكَ عليهمْ ليُعاقبَهمْ على بَعضِ ذنوبِهمُ السَّالفة، ومنها تَولِّيهمْ وإعراضُهم عنْ حُكمِ الله. وهناكَ كثيرٌ منَ الناسِ خارِجونَ عنْ طاعةِ الله، بَعيدونَ عنِ الحقّ، يُفَضِّلونَ اتِّباعَ الهَوَى على مُتابعةِ الحقّ.
﴿أَفَحُكۡمَ الۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة :50]
فهلْ يُريدونَ بذلكَ أحكاماً جاهليَّةً ضالَّةً يَضعُها ناسٌ بعُقولِهمُ المحدودَة، وأفكارِهمُ المضطرِبة، وأهوائهمُ المغايرة، دونَ وحيٍ منَ اللهِ مُحْكَم؟ وأينَ يَجِدونَ حُكماً أفضلَ ممّا أنزلَهُ اللهُ على أنبيائه، في عَدلٍ وحقٍّ ورَحمة، لا يُرادُ بهِ سِوَى ذلك؟ هذا لمنْ تدبَّرَ الأمر، وتحقَّقَ بالنظَر، وعَلِمَ أنَّ اللهَ أحكمُ الحاكمين.
﴿۞يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الۡيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [المائدة :51]
أيُّها المؤمِنون، لا تُوالُوا أهلَ الكتابِ منَ اليهودِ والنَّصارَى، ولا تَبتغوا منْ عندِهمُ النصرَ والنُّصح، ولا تُصافُوهمْ ولا تُوادُّوهم ولا تُسِرُّوا إليهم، فإنَّ بَعضَهمْ أولياءُ بَعضٍ في العَوْنِ والنُّصرَة، فكلُّهمْ أعداءٌ للإسلام، ويدٌ واحدةٌ على المسلِمين، يُريدونَ مضرَّتَكمْ، ويَبغونَ كسرَ شوكتِكم، فكيفَ تُحِبُّونَهمْ وتُوالُونَهم؟
إنَّ مَنْ يَتولاّهم، فيُعينُهمْ ويَنتصرُ لآرائهم، ويَخذُلُ المسلِمين، هوَ في حُكمِهمْ ومِنْ جملتِهم، واللهُ لا يَهدي َمَن والَى الكافِرين، وناصرَ أعداءَه، فظلمَ نفسَهُ والآخَرين.
﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِالۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ نَٰدِمِينَ﴾ [المائدة :52]
فترَى الذينَ في قلوبِهمْ شَكٌّ ونِفاق، ممَّنْ يُوالُونَ اليَهود، ويُبادِرونَ إلى مَعونتِهمْ ومَودَّتهم، يَقولونَ في سَببِ موقفِهم: إنَّهمْ يَخشَونَ أنْ يَنتصِرَ الكافِرونَ على المسلِمين. فهمْ يوالونَ المسلِمينَ حتَّى تبقَى لهمْ يدٌ عندَهم، أو أنَّهمْ لا يَنقطِعونَ عنهمْ لمظنَّةِ حاجتِهمْ إلى أموالِهمْ في وقتِ جَدْبٍ وقَحْط!
أي أنهمْ يوالُونَ الفَريقَين، وموالاتُهم للمُسلمينَ خشيةَ ألّا يَتمَّ أمرُهم، فيدورَ الأمرُ عليهم، ويُصيبَهم مكروهٌ من الكفّار! وهذا مِن تَذبذُبِهمْ ونِفَاقِهم، وخَوفِهمْ على أنفُسِهم، وجعلِهمْ مَصلَحتَهمُ المؤقَّتةَ مبدأَهم.
فعسَى أنْ يَفتَحَ اللهُ عليكمُ أيُّها المسلِمون، فيَنصُرَكم، عندَ فتحِ مكَّة، أو فتحِ قُرَى اليهود، مثلِ خَيبرَ وفَدَك، أو إجلاءِ بني النَّضِير، أو قتلِ وسَبي ذَراريِّ بني قُرَيظة، أو يُتِمَّ أمرَ الإسلامِ فيُظهِرَهُ على الدِّينِ كلِّه، وتَبقَى القوَّةُ والعِزَّةُ والنُّصرةُ للمُسلِمين، فيُصبِحُ المنافِقونَ الموالونَ لليهود، نادمينَ مُتحَسِّرينَ على موالاتِهمْ لهم، حيثُ لم يَنفعْهُمْ موقفُهمْ هذا شيئاً، بلْ زادَ اللهُ مِنْ حَسرتِهمْ أنْ فَضحَهمْ وأظهرَ أمرَهمْ للمُسلِمين، بعدَ أنْ كانوا مَستورِين.
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَهَـٰٓؤُلَآءِ الَّذِينَ أَقۡسَمُواْ بِاللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُواْ خَٰسِرِينَ﴾ [المائدة :53]
وعندَ ذلك يَعْجَبُ المسلِمونَ مِنْ حالِهم، بعدَ إظهارِ نِفاقِ المنافِقين، ويَقولون: أهؤلاءِ همُ القومُ الذينَ أقسَموا أغلظَ قَسَمٍ باللهِ أنَّهمْ مُؤمِنون، وأنَّهمْ يُساعِدونَكمْ ويَنصرونَكمْ عندَ مقاتلةِ اليهودِ والمشرِكين، فظَهرتْ مواقفُهمُ العدائية، وبواطنُهمُ السيِّئة، وممالأتُهمْ لأعداءِ الإسلام؟ لقدْ بطلَ كلُّ خيرٍ عَمِلوه، فخَسِروا الدُّنيا بافتِضاحِهمْ وذُلِّهمْ وتَحَسُّرِهم، وخَسِروا الآخِرَةَ بفواتِ ثوابِ أعمالِهم، ودُخولِهمُ النار.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي اللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى الۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ اللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة :54]
أيُّها المؤمِنون، مَنْ يَرجِعْ منكمْ عنْ دينِ الإسلامِ إلى مِلَّة الكُفر، فلنْ يَضُرُّوا سِوَى أنفسِهم، وإنَّ اللهَ سيَسْتَبدلُ بكمْ مَنْ همْ خيرٌ منكمْ لهذا الدِّين، يُحِبُّهمُ الله، ويُحِبُّونَ الله ، فيَصْدُقونَ في إيمانِهم، ويُخلِصونَ في طاعتِهم، ويَمتثِلونَ أوامرَ ربِّهم، ويُحِبُّونَ إخوانَهمُ المؤمِنين، فيَتواضَعونَ لهم، ويُوالُونَهم، ويَرحَمونَهم، ويَتعاطَفونَ مَعهم، ويَتعاوَنونَ معهمْ على البِرِّ والخَيرِ والتقوَى، ويَكونونَ أشدّاءَ مُتَعزِّزينَ على أعداءِ اللهِ وخُصَماءِ الدِّين، منَ الكفّارِ الجاهلين، فيُعادُونَهمْ ويُغالِبونَهم، ويُقاتِلونَهمْ لنُصرةِ دينِ اللهِ وإعلاءِ كلمتِه، لا يَهابونَ أحداً مِنْ أعدائه، ولا يَحسَبونَ حِساباً للَومِ مُناصِرِيهمْ وخِذْلانِ موالِيهم، ولا يَرُدُّهُمْ عنْ هدفِهمْ وغايتِهمْ شَيء. وهذا منْ فضلِ اللهِ وتوفيقِه، ولُطفهِ وإحسانهِ لمنْ شاءَ مِنْ عبادِه، وهوَ سُبحانَهُ واسِعُ الفَضل، عليمٌ بمَنْ يَستحِقُّ هذا الفَضلَ والإكرامَ ومَنْ لا يَستحِقُّ منهم.
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ﴾ [المائدة :55]
فليسَ اليهودُ بمناصِريكمْ أيُّها المسلِمون، ولو عزَّزتُموهمْ وناصَرتُموهم، إنَّما الذي يَتولاّكمْ ويؤيِّدكمْ هوَ اللهُ الذي هَداكمْ لدينِه، ووليُّكمْ كذلكَ رسولهُ والمؤمِنون، الذينَ تَجِدونَ عِندَهمُ المحبَّةَ والمناصَرةَ والموالاة، الذينَ يُطيعونَ ربَّهمْ بإقامةِ شعائرهِ والمحافظةِ على أوامرِه، فيؤدُّونَ الصَّلاةَ ويواظِبونَ على إقامتِها للهِ وحدَه، ويؤدُّونَ زكاةَ أموالِهمْ للمحتاجينَ مِنْ إخوانِهمْ في الدِّين، وهمْ في أعمالِهمُ الجليلةِ وصفاتِهمُ الطيِّبةِ خاشِعونَ متواضِعونَ لله؛ لإحسانِهمْ وحُبِّهمْ لعَملِ الخير، ومسارعتِهمْ إلى رضَى اللهِ وطاعتِه.
﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ اللَّهِ هُمُ الۡغَٰلِبُونَ﴾ [المائدة :56]
ومنْ يتَّخذِ اللهَ ورسولَهُ والمؤمِنينَ أولياء، فيتوكَّلْ على اللهِ حقَّ التوكُّل، ويَمتَثِلْ أمرَ رسولِه، ويُوالي إخوانَهُ المسلِمينَ ويَنصُرهم، فإنَّهُ مِنْ حزبِ اللهِ وجماعةِ المؤمِنين، وإنَّ جُندَ اللهِ وأنصارَهُ همُ المنتَصِرون.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَالۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [المائدة :57]
أيُّها المؤمِنون، لا تتَّخِذوا أعداءَكمْ أولياءَ لكم، تُناصِرونَهمْ وتَبتغونَ العزَّةَ مِنْ عندِهم، منَ المشرِكينَ ومنْ أهلِ الكتاب، الذينَ يَستَهزئونَ بعقائدكمْ ويَسخَرونَ منْ أحكامِ دينِكم، ويتَّخذونَها لَعِباً وعَبَثاً؛ لخِفَّةِ عقولِهمْ وطَيشِهمْ وفسادِ أحلامِهم، واتَّقوا اللهَ بذلك، فلا تُوالُوهمْ ولا تُصادِقوهم، إنْ كنتُمْ مؤمِنينَ حقًّا، فإنَّ الإيمانَ يوجِبُ عليكمْ معاداتَهمْ لا موالاتَهم.
﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى الصَّلَوٰةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ﴾ [المائدة :58]
وإذا أذَّنْتُمْ للصَّلاةِ ودَعا بعضُكمْ بَعضاً لإقامةِ هذهِ الفَريضةِ العَظيمة، سَخِرَ أهلُ الكتابِ والمشرِكونَ منها واتَّخذوها لَعِباً وعَبَثاً، معَ أنَّها طاعةٌ للهِ وإفرادٌ لهُ سُبحانَهُ بالعِبادة، لكنَّهمْ سُفَهاءُ وحَمْقَى، لا يَعرِفونَ الحقَّ ولذلكَ يُعادُونه، أو همْ لا يُريدونَ أنْ يَعرِفوا ذلكَ فيَلعَبونَ ويَعبَثون، ولا يَستَعملونَ عقولَهمْ ليكونوا جادِّينَ راشِدين.
﴿قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ الۡكِتَٰبِ هَلۡ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلَّآ أَنۡ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلُ وَأَنَّ أَكۡثَرَكُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ [المائدة :59]
قلْ أيُّها النبيُّ الكريمُ لهؤلاءِ المستَهزئينَ مِنْ أهلِ الكِتاب: هلْ تُنكِرونَ عَلينا سِوَى ما نحنُ عليهِ مِنْ إيمانٍ بالله، وما أُنزِلَ عَلينا مِنْ وحيهِ على خاتَمِ أنبيائه، وما أُنزِلَ مِنْ كُتبٍ على الأنبياءِ مِنْ قبل؟ فإنَّ هذا ليسَ بمَطعنٍ ولا عَيبٍ فينا، بلْ هوَ الإيمانُ الحقُّ الذي يَجِبُ عليكمُ اتِّباعُه، ولكنَّ أكثرَكمْ مُتمرِّدٌ خارجٌ عنِ العَقيدَةِ الصَّحيحَة.
﴿قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ الۡقِرَدَةَ وَالۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة :60]
وقلْ لهمْ أيُّها النبيّ: هلْ أُخبِرُكمْ بمَنْ يَكونُ جزاؤهُ عندَ اللهِ شرًّا مِنَ الذي تَظنّونَهُ بالمسلِمينَ وبدينِهم؟ مَنْ أبعدَهُ مِنْ رحمتهِ فكانَ في عَذابٍ مُستَديم، ومَنْ غَضِبَ عليهِ مِنَ اليَهودِ فلا أملَ لهُ في رِضَى الله، ومَسَخَ بعضَهم فجعلَهمْ في صورةِ قِرَدةٍ وخَنازير، ومَنْ عبدَ غيرَ اللهِ منهم، كعِبادةِ العِجل، أو أفعالِ الكهنةِ ومَنْ صدَّقهم؛ فهؤلاءِ أسوأُ موضِعاً، وأبعدُ عنْ طريقِ الحقّ، وأشَدُّ عُقوبَة، فكيفَ تَستَهزؤونَ بمنْ أخلصَ العبادةَ للهِ وحدَه، وآمنَ بأنبيائهِ أجمَعين، وبالكتبِ المُنـزَلةِ عَليهم...؟