تفسير سورة المائدة

  1. سور القرآن الكريم
  2. المائدة
5

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡـَٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ الۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا اللَّهُ عَنۡهَاۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ﴾ [المائدة:101]


أيُّها المؤمِنون، لا تَسألوا عنْ أشياءَ ممّا لا فائدةَ في البحثِ عنها، فإنَّهُ إذا ظهرَ لكمْ جوابُها غَمَّكمْ وساءَكمْ ذلك، وإذا سألتُمْ عنها في زمنِ نزولِ الوحي تَظهَرُ لكم، والعاقِلُ لا يَفعلُ ما يَغُمُّه، وقدْ عفا اللهُ عنْ أسئلتِكمُ السابقةِ بعدمِ التَّشديدِ عليكم، فلا تَعُودوا إليها، وهوَ سُبحانَهُ كثيرُ المَغفِرَةِ لذُنوبِ عبادِه، حَليم، يُغضِي عنْ معاصِيهمْ ولا يعاقِبُهمْ بمجرَّدِ ارتكابِها، بلْ يُبيِّنُ لهمْ ويُمهِلُهمْ حتَّى يَعرِفوا خَطأهم ويَتوبوا.

﴿قَدۡ سَأَلَهَا قَوۡمٞ مِّن قَبۡلِكُمۡ ثُمَّ أَصۡبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ﴾ [المائدة:102]


قدْ سألَ قومٌ قبلَكمْ أنبياءَهمْ مثلَ هذهِ الأشياء، فأُجيبوا عنها ثمَّ صَاروا بسببِها كافِرين، حيثُ لم يَعملوا بها؛ فأُهلِكوا. كما سألتْ ثمودُ صالحاً الناقَة.

﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ﴾ [المائدة:103]


ما أنزلَ اللهُ ولا أقرَّ بهذهِ الأشياء: البَحِيرة، وهي الناقةُ التي يُشَقُّ أذنُها ويُمْنَعُ دَرُّها للأصنام. والسائبة: يُسيِّبونَها لآلهتِهمُ المزعومةِ فلا يُحْمَلُ عليها شَيء. والوَصِيلة: الناقةُ التي تلدُ لأوَّلِ مرَّةٍ أنثَى، تَليها أنثَى أيضاً، ليسَ بينَهما ذكر، تُسَيَّبُ لطواغيتِهمْ كذلك.

والحام: إذ قضَى ضِرَابَه، يعني أتى الإناثَ ونَتجوا منهُ عَشَرةَ أبطن، أو عَدداً مُبهَماً، ودَّعوهُ للطواغيتِ كذلك، وأعفَوهُ منَ الحِمْل.

فهذا كلُّه أفعالٌ وحَالاتٌ مَردودةٌ ابتدعَتها الجاهليةُ ما شرَعها الله، ولكنَّ الكافِرينَ يَفعلونَ هذا ويَتقرَّبونَ به إلى الله، ويَقولون: اللهُ أمرَنا بذلك، وهمْ كاذِبونَ مُفتَرون، وأكثرُهمْ لا يَعقِلونَ أنَّ ذلكَ افتِراءٌ باطِل، لأنَّهمْ قلَّدوا فيهِ آباءَهم، فهوَ شأنُ الاتِّباعِ والتقليدِ الأعمَى.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَلَا يَهۡتَدُونَ﴾ [المائدة:104]


وإذا قيلَ للمُشرِكين: تعالَوا والتزِموا بما أنزلَ اللهُ مِنْ أحكامٍ في الحلالِ والحرام، وإلى الرسُولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلمَ الذي أُنزِلَتْ عليهِ هذهِ الأحكام، لتَقِفوا على حقيقةِ الحال، وتُمَيِّزوا الحرامَ منَ الحلال، أجابوا في عِنادٍ وضَلال: يَكفِينا ما وجَدنا عليهِ آباءَنا وأجدادَنا، ولا نَلتَفِتُ إلى غَيرهم، فمعَهمُ الحقُّ وكفَى!

ولكنْ لماذا يُقلِّدونَ آباءَهمْ هكذا بدونِ تَعَقُّلٍ ولا تَفكير؟ فإذا كانَ الآباءُ جَهَلةً ضالِّينَ مِثلَهم، لا يَفهَمونَ الحقَّ ولا يَعرِفونَ سَبيلَ الاهتداءِ إليه، فكيفَ يَتَّبِعونَهمْ والحالةُ هذهِ؟

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى اللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة:105]


أيُّها المؤمِنون، احفَظوا أنفسَكمْ وأصلِحوها بفِعلِ الخَيراتِ والابتِعادِ عنِ المعاصي، وابذُلوا في ذلكَ ما قَدَرْتُمْ منْ جُهدٍ وطاقَة، ولا يَضُرُّكمْ بعدَ ذلكَ ضلالُ مَنْ ضَلَّ وفَسادُ مَنْ فَسَدَ مِنَ النَّاس، إذا عَمِلتُمْ بما أُمِرتُمْ بهِ وكنتُمْ منَ المهتَدِين، ولا يؤاخذُكمُ اللهُ بذُنوبِ غَيرِكم، وإنَّ مَرجِعَكمْ جميعاً إلى اللهِ يومَ الحِساب، الضالُّ والمهتدي فيكم، فيُخبِرُ كلَّ عاملٍ بنوعِ عَملهِ وما يَترتَّبُ عليه من جزاء، إنْ خَيراً أو شَرًّا.

وليسَ في الآيةِ ما يَدُلُّ على تركِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عنِ المنكرِ إذا كانَ ذلكَ مُمكِناً، قالَ ابنُ عمرَ رضيَ اللهُ عنه: هذهِ الآيةُ لأقوامٍ يَجيؤونَ مِنْ بعدِنا، إنْ قالوا لم يُقْبَلْ منهم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الۡمَوۡتُ حِينَ الۡوَصِيَّةِ اثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي الۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ الۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ الصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ الۡأٓثِمِينَ﴾ [المائدة:106]


أيُّها المؤمِنون: إذا حضرَ أحدَكمُ الموتُ، وأوصَى بشَيء، فإنَّ فيما فُرِضَ عليكمْ أنْ يَشهدَ اثنانِ منكمْ بما أوصَى، يكونانِ مسلِمَيْنِ عادلَيْن.

أو أنْ يكونَ الشاهدانِ اثنينِ منْ غَيرِ المسلِمِين، إذا كنتُمْ مسافِرينَ وجاءَتْ مصيبةُ الموتِ فأوصَيتُمْ إليهِما، أو جعلتُموهما شاهِدَيْنِ لِمَا أوصيتُمْ به - فهذانِ شرطانِ لقَبولِ شَهادةِ غَيرِ المسلِم: الوصيَّة، والسفَر، ولم يَكنْ معَ الموصِي أحدٌ منَ المسلِمين - ثمَّ اتَّهمَهما بعضُ الورثةِ بالكذِبِ والخيانةِ فيما أُوصَيا بهِ أو دُفِعَ إليهما مِن مال، فاحبِسوهما بعدَ الصلاةِ وأوقِفوهما للسُّؤال، ولْيُقْسِما بالله - وهوَ سبحانَهُ مُعَظَّمٌ في جميعِ المِلَل- ولْيَقولا: نحنُ لا نَحلِفُ باللهِ كَذِباً على عِوَضٍ نأخذُه، أو حقٍّ نَجحَدُه، ولو كانَ المشهودُ لهُ ذا قرابةٍ منّا فلا نُحابِيه.

ولا نَكتُمُ الشَّهادة، فإذا كتَمناها أو حرَّفناها فإنَّنا عاصُونَ آثِمونَ مُستَحِقُّونَ للعِقاب.

ويَبدو أنَّ الحَلِفَ للشاهِدَينِ الكافِرين، أمّا المسلمانِ فلا يُحَلَّفان.

ونقلَ القرطبيُّ في تَفسيرهِ عنْ بعضِهم، أنَّ هذهِ الآياتِ الثلاثَ عندَ أهلِ المعاني مِنْ أشكلِ ما في القُرآن: إعراباً، ومعنى، وحُكماً!. فليُنظَرِ التفصيلُ في مَظانِّه.

﴿فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا اسۡتَحَقَّآ إِثۡمٗا فَـَٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسۡتَحَقَّ عَلَيۡهِمُ الۡأَوۡلَيَٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا اعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [المائدة:107]


فإنِ اطُّلِعَ على أنَّ الشاهِدَينِ الوصِيِّينِ استَوجبا فِعلاً ما بخيانتِهما وبحَلِفِهما كَذِباً، وظهرَ عليهما ذلكَ وتَحَقَّق، بأنْ وُجِدَ عندَهما مثلاً ما اتُّهما بهِ وادَّعيا أنَّهما اشتَرَياهُ منَ الميِّت، فآخرانِ منْ أولياءِ الميِّتِ يَقومانِ مَقامَ الشَّاهِدَين، ويَكونانِ منَ الذينَ استُحِقَّ لأجلِهمُ الإثم، يَعني منْ ورثةِ الميِّت، ويَكونانِ الأقربَيْنِ إليه، فيُقسِمانِ أنَّ حَلِفَهُما أحقُّ وأصدَقُ منْ حَلِفِ الشَّاهدَيْنِ السابِقَيْن، ولم نَتجاوزِ الحقَّ في هذا الحَلِف، ولم نَعتَدِ فيهِ على أحَد، فإذا اعتَدَينا في ذلكَ ظَلمنا أنفسَنا بتعريضِها إلى سَخَطِ اللهِ وعِقابِه.

﴿ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِالشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَآ أَوۡ يَخَافُوٓاْ أَن تُرَدَّ أَيۡمَٰنُۢ بَعۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡۗ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاسۡمَعُواْۗ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [المائدة:108]


ذاكَ الذي شَرعناهُ وحَكمنا به، مِنْ تَحليفِ الشاهِدَينِ غَيرِ المسلمَينِ وغَيرِ ذلك، هوَ أقربُ إلى أنْ يؤدِّيَ الشُّهودُ الشَّهادةَ على وجهِها؛ خوفاً منَ العِقاب، وهوَ أقربُ إلى أنْ يَخافوا ردَّ اليمينِ بعدَ يمينِهمْ على الورَثة، فيَحلفوا على خيانتِهمْ وكذبِهم، فيَخجَلوا على رؤوسِ الأشهادِ ويُغْرَموا، فيكونُ هذا الحُكمُ زَجْراً لهمْ منَ الحَلِفِ كَذِباً. فاخشَوا اللهَ وابتَعِدوا عنِ الحلفِ بالكذِبِ وعنْ خيانةِ الأمانَة، واسمَعوا مَوعظةَ ربِّكمْ وتَخويفَهُ وأطيعُوه، وهوَ سُبحانَهُ لا يَهدي الخارجينَ عنْ طاعتهِ ومخالفةِ شَريعتهِ إلى ما يَنفعُهمْ منْ سُبلِ الخيرِ ويؤدِّي بهمْ إلى طريقِ الجنَّة، لعدَمِ استِعدادِهمْ لقَبولِ ذلكَ أصلاً.

﴿۞يَوۡمَ يَجۡمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبۡتُمۡۖ قَالُواْ لَا عِلۡمَ لَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ الۡغُيُوبِ﴾ [المائدة:109]


وعندَما يَجمعُ اللهُ المرسَلينَ يومَ القيامةِ يَسألهم: بمَ رَدَّ عليكمْ قومُكمْ في الدُّنيا عندَما دعوتُموهمْ إلى طاعتي واتِّباعِ شَرعي؟ فيقولونَ ذاهلينَ منْ هَوْلِ ذلكَ اليوم، وتأدُّباً معَ الربِّ جَلَّ وعَلا: لا علمَ لنا إلاّ ما علَّمْتَنا، وأنتَ أعلمُ بهِ منّا، تَعلمُ ما غابَ ونحنُ لا نَعلمُ إلاّ ما نُشاهد.

﴿إِذۡ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابۡنَ مَرۡيَمَ اذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الۡقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ الۡكِتَٰبَ وَالۡحِكۡمَةَ وَالتَّوۡرَىٰةَ وَالۡإِنجِيلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ الطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ وَتُبۡرِئُ الۡأَكۡمَهَ وَالۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ الۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِالۡبَيِّنَٰتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ﴾ [المائدة:110]


وقالَ اللهُ تعالَى: يا عبدَ اللهِ ورسولَهُ عيسى بنَ مريم، تَذَكَّرْ إنعامي عليكَ بما أجريتُ على يدَيكَ منَ المُعجِزاتِ الخارِقة، وخَلقتُكَ بلا أبٍ لتكونَ آيةً على قُدرتي وإبداعي، وعلى والدتِكَ التي جعلتُكَ بُرهاناً على براءَتِها ممّا نسبَهُ المفتَرونَ إليها منَ الفاحِشة.

وأيَّدتُكَ بجِبريلَ يصدِّقُكَ ويؤازِرُك.

وجعلتُكَ نبيًّا داعياً إلى دينِه، وأنطقتُكَ منذُ صِغَرِك، فصِرتَ تُكلِّمُ الناسَ وأنتَ طفلٌ صغيرٌ في المَهد، كما تُكلِّمُهمْ وأنتَ كهلٌ تجاوزتَ الثلاثين.

وتذكَّرْ نِعمَتي عليكَ كذلكَ عندما علَّمتُكَ الكتابة، وآتيتُكَ الحِكمةَ لتُدرِكَ الصَّوابَ وتتَّبعَه، وتَضعَ الأمورَ في مواضعِها، وتكونَ منَ الحكماءِ الألبّاء.

وعلُّمتُكَ التوراةَ التي أُنزِلتْ على موسَى عليه السَّلام، والإنجيلَ الذي نزَّلناهُ عليك، وهوَ تَكمِلةٌ وإحياءٌ للتَّوراة.

وتُصَوِّرُ منَ الطينِ شكلَ طَير، ثمَّ تَنفخُ فيه، فيَطيرُ في السَّماء، بإذني وتَقديري.

وتُبرِئُ الأعمَى فيُصبِحُ مُبصِراً.

وتَشفِي المُبتلَى بالبَرَص.

وتَدعو الموتَى مِنْ قبورِهمْ فيَقومونَ بإذنِ اللهِ وإرادتِه.

وتَذكَّرْ كذلكَ إنعامي عليكَ عندَما مَنعتُ اليهودَ وصرفتُهمْ عنكَ حينَ همُّوا بقتلِك، وقدْ جئتَهمْ بالآياتِ البيِّناتِ والمُعجِزاتِ الواضِحات، التي تَدُلُّ على صدقِ نبوَّتِكَ وما أُرسلْتَ به، فقالَ الكافِرونَ منهم: ما هذا الذي جئتَ بهِ سِوَى سِحْرٍ وشَعوَذة.

﴿وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى الۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَاشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ﴾ [المائدة:111]


واذكرْ ممّا امتنَّ اللهُ بهِ عليكَ - أيُّها المسيحُ - حينَ أَلهَمْتُ الحَوَارِيِّين مِنْ أصحابِك، وهمْ صَفوةُ بَني إسرائيلَ والخُلَّصُ منهم، أنْ آمِنوا بي وبرسُولي عيسَى بنِ مريم، فقالوا: آمنّا واستَجَبنا، واشهَدْ بأنَّنا استَسْلَمنا لأمرِك، وأخلَصنا لدينِك.

﴿إِذۡ قَالَ الۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ابۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ السَّمَآءِۖ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [المائدة:112]


ومِنْ إنعامِ اللهِ عليكَ خَبَرُ المائدة، فاذكرْ ما قالَهُ الحواريُّونَ لك، وهمْ خالِصةُ أصحابِك: هلْ يَستَجيبُ لكَ ربُّكَ إنْ سألتَهُ أنْ يُنـزِلَ علينا سُفْرَةً عليها طعامٌ منَ السَّماء؟

فقالَ لهمْ عيسَى عليهِ السلام: اتَّقوا اللهَ ولا تَسألوا عنْ هذا، فقدْ يكونُ في ذلكَ فِتنَةٌ لكم، إنْ كنتُمْ مُوقِنينَ مُخلِصين، وقدْ سَبَقتْ لكمْ مُعجِزاتٌ كافية...

﴿قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَيۡهَا مِنَ الشَّـٰهِدِينَ﴾ [المائدة:113]


قالوا: ليسَ سؤالُنا للمُعجِزةِ فَقط، بلْ نُحِبُّ أنْ نأكلَ منها، وتَطمئنَّ قلوبُنا بازديادِ اليَقينِ إذا شاهَدْنا رِزْقاً يَنْـِزلُ علينا منَ السَّماء، ونَعْلَمَ عنْ مُشاهَدةٍ وعِيانٍ أنَّكَ صَدَقْتَ إيمانَنا بنُبوَّتِك، ولٍنَشْهَدَ أنَّها آيةُ صِدقٍ مِنْ عندِ الله، ودلالةٌ ظاهرةٌ على صِدْقِ نبوَّتك، ونُخْبِرُ بذلكَ مَنْ لم يَحضُرِ المائدة.

﴿قَالَ عِيسَى ابۡنُ مَرۡيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدٗا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةٗ مِّنكَۖ وَارۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ الرَّـٰزِقِينَ﴾ [المائدة:114]


قال عيسَى بنُ مريمَ عليهِ السَّلام، داعياً اللهَ في خُشوعٍ وتَضرُّع، بعدَ أنْ رأى أنَّ الحواريِّينَ أبَوا إلاّ أنْ يَدعوَ بذلك: اللهمَّ أنْزِلْ علينا مائدةَ طَعامٍ منَ السَّماء، نتَّخِذُ ذلكَ اليومَ الذي نَزلَتْ فيهِ عِيداً نُعَظِّمهُ نحنُ ومَنْ بعدَنا، وتَكونُ دليلاً وبُرهاناً على قُدرتِكَ وعلى إجابتِكَ دَعوتي، فيُصَدِّقونَ كلامِي وما أُرسِلْتُ به، واجعَلْهُ رِزقاً هَنيئاً، وأنتَ خيرُ مَنْ يَرزُق، فأنتَ خالقٌ الرِّزقِ ومُعطيه.

﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدٗا مِّنَ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [المائدة:115]


قالَ اللهُ تعالَى: إنِي مُنَـزِّلُ المائدةَ عليكم، فمَنْ يُكَذِّبْ بها منكمْ بعدَ تَنـزيلِها، فسوفَ أعذِّبهُ بسبَبِ كفرهِ بها عَذاباً شَديداً لا أُعَذِّبهُ أحداً منَ النَّاس.

واختلفتِ الآثارُ في نزولِ المائدةِ أو عدمِ نزولِها، فذُكِرَ أنَّ الحواريِّين خافوا منَ العذابِ فكفُّوا عنْ طلبِها فلمْ تَنـزِل.

وآثارٌ أخرَى تَذكُرُ نزولَها، فكانَ وعدُ اللهِ ووعيدُهُ صِدقاً، وأنَّ المكذِّبينَ بها مُسِخوا قِرَدةً وخنازير.

وذُكِرَ أنَّ خبرَ المائدةِ لم يَرِدْ في الإنجيل، ولو أنَّ المائدةَ نَزلتْ لذُكِرَتْ فيه، ولبقيَ ذلكَ العيدُ إلى يومِ القيامة.. لكنْ توجَدُ قِصَّةٌ عنِ المائدةِ في الأناجيلِ تُشبِهُ هذهِ في جوانبَ منها، أوردَها صاحبُ "الظلال".

وأكثرُ المفسِّرينَ على أنَّها نَزلت.

﴿وَإِذۡ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ اللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ الۡغُيُوبِ﴾ [المائدة:116]


ويقولُ اللهُ تعالَى لعيسَى بنِ مريمَ يومَ القيامةِ تَبكيتاً وتَقريعاً للنَّصارَى: أأنتَ قلتَ للنَّاس: اجعلُوني وأمِّيَ معبودَيْنِ لكمْ مِنْ دونِ الله؟

ويُجِيبُ عيسَى تَنـزيهاً وتَعظيماً لهَ تعالَى: سُبحانَكَ أنْ يَكونَ لكَ شَريك، لا يَنبغي ولا يَحِقُّ لي في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ أنْ أقولَ كلاماً باطِلاً لا أساسَ لهُ مِنَ الصحَّة، وإذا كنتُ قدْ قلتُ كلاماً مِنْ هذا القَبيلِ فقدْ أحطتَ بهِ وعَلِمتَهُ يا ربّ، تَعلمُ ما أُضْمِرَهُ في نَفسي فكيفَ بما أعلِنُه؟ ولا أعلَمُ بحقيقةِ أمرِكَ وما تُخفيه، وأنتَ تَعلَمُ ما كانَ في الماضي وما يكونُ في المستَقبل.

﴿مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ اعۡبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ﴾ [المائدة:117]


ما قلتُ للناسِ إلاّ ما أمرتَني بإبلاغِه: أنْ تَوَجَّهوا بالعبادةِ إلى اللهِ وحدَهُ ولا تُشرِكوا بهِ شَيئاً، فهوَ ربِّي وربُّكم، وكنتُ مُشاهِداً لأحوالِهمْ مِنْ إيمانٍ وكُفر، وأَعِظُهمْ ليَعملوا بموجبِ أمرِك، ولمّا قَبضتَني ورفَعتَني إلى السَّماء، كنتَ أنتَ الحفيظَ المراقِبَ عليهم، وأنتَ العالِمُ المطَّلعُ على قَولي لهمْ وما قالوا همْ بَعدي وغيرِ ذلك.

﴿إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [المائدة:118]


فإذا عَذَّبتَهْمْ فلا اعتراضَ على حُكمِك، فأنتَ المالِكُ المطلَق، المتصرِّفُ فيهمْ كيفَ شِئت، وهمْ عِبادُكَ في أسْرِ مُلكِكَ ويَستَحِقُّونَ ذلك، لأنَّهم خالَفوا أمرَك، وإذا غفرتَ لهمْ فليسَ عنْ عَجزٍ منكَ على تَعذيبِهم، فأنتَ القويُّ القادرُ على الثَّوابِ والعِقاب، الذي لا يُثيبُ ولا يعاقِبُ إلاّ عنْ حِكمةٍ وصَواب.

وأنتَ الفعّالُ لِما تَشاء، لا تُسألُ عمّا تَفعلُ وهمْ يُسألون.

﴿قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ الصَّـٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [المائدة:119]


قالَ اللهُ تعالَى يومَ يَجمَعُ الرُّسل: في هذا اليومِ يُفيدُ إيمانُ مَنْ كانَ في الدُّنيا صادقاً في إيمانهِ وتوحيده، لهمْ جزاءَ إيمانِهمْ وصِدقِهمْ جنّاتٌ عاليات، تَجري منْ خلالِ أشجارِها وفي أسافلِها أنهارُ العَسلِ واللبنِ وأنواعِ الأشْرِبة، مُقيمِينَ فيها أبداً، لا يَزولونَ عنها ولا يَحُولون، ويُفيضُ اللهُ عليهمْ رِضوانَهُ الذي لا غايةَ وراءَه، ويَرْضَونَ هم، فلا شَيءَ أعزُّ منْ رضوانهِ سُبحانَه، وهوَ الفَوزُ والفَلاحُ الذي لا أعظمَ منهُ ولا يُدانيهِ مَطْلَب.

﴿لِلَّهِ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَمَا فِيهِنَّۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرُۢ﴾ [المائدة:120]


كلُّ ما في السَّماواتِ والأرضِ وما بينَهما مُلْكٌ للهِ سبحانَهُ وتحتَ قَهْرهِ وسُلطانِه، وهوَ القادرُ على ما يَشاء، لا يُعجِزهُ شَيء، بلْ جَميعُ الأشياءِ مُنقادَةً لمشيئتهِ ومَسَخَّرةٌ بأمرِه.