وإذا سَمِعَ هؤلاءِ وأمثالُهمْ ما نزلَ على الرسُولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلمَ مِنْ آياتِ القُرآن، ترَى الدموعَ تَسيلُ مِنْ عُيونِهم، وذلكَ لما عَرَفوا مِنَ الحقِّ الذي عندَهم، منَ البِشارةِ ببعثةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، مثلَما حدثَ للنجاشيِّ وقسِّيسينَ مِنْ حَولِه، ولم يَكونوا مثلَ اليهودِ بُهْتاً مُعانِدينَ ومُكَذِّبينَ مُحَرِّفين، بلْ قالوا في تواضُعٍ وخُشوع، وأوبَةٍ وإيمان: اللهمَّ إنّا آمنّا بما أنزلت، فاكتُبنا معَ مَنْ يَشهدُ بصحَّةِ هذا، واجعَلنا عندَكَ معَ أمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وممَّنْ يَشهَدونَ معهمْ بالحقّ.
قالوا: ولماذا لا نؤمِنُ باللهِ ولا نُنَـزِّههُ عن الشِّركِ كما هوَ في دينِ الإسْلام، ونؤمِنُ جَميعاً بما جاءَنا منَ الحقِّ والتوحيدِ الذي لا شائبةَ فيه، ونحنُ نَتمنَّى ونَرغَبُ أنْ يُدْخِلَنا ربُّنا جنَّته، ويَشمَلَنا برحمتهِ معَ عبادهِ المؤمِنينَ الصَّالحين؟
أيُّها المؤمِنون، لا تُحَرِّموا ما أحلَّ اللهُ لكمْ مِنَ اللَّذائذِ والمُشتَهيات، ولا تَتعدَّوا حدودَ ما أحلَّ لكمْ إلى ما حَرَّمه، واللهُ لا يُحِبُّ الظَّالمينَ المعتَدينَ حُدودَه، ولكنْ قِفوا عندَها والتزِموا بها.
وقدْ نزلتِ الآيةُ في رَجُلٍ حرَّمَ اللحمَ على نفسهِ لشَهوةٍ وجدَها عندَهُ في النِّساءِ إذا أكلَه.
لا يحاسبُكمُ اللهُ على حَلِفِكُمْ باللهِ إذا كانَ مِنْ غَيرِ قَصد، ممّا يَسبِقُ إليهِ اللسانُ منْ غَيرِ نيَّةِ قَسَم، أو ما كانَ القسَمُ على غلبةِ ظنٍّ عندَ آخرين، ولكنْ يحاسِبُكمْ عليه إذا كانَ عنْ قصدٍ ونيَّةٍ وتأكيد. فمَنْ حَنَثَ في يمينِه، يَعني أخطأ النَّتيجَة، أو لم يُنَفِّذْ ما قسمَ عليه، فإنَّ عقوبتَهُ أنْ يُطعِمَ عشرةَ مَساكين، مِنْ أعدلِ ما يُطعِمُ المرءُ أهلَه، أي ما يَكفي الشَّخصَ في اليومِ بشَكلٍ وسَط، نوعاً ومِقداراً.
أو أنْ يَكسوَ العددَ نفسَهُ منَ المسَاكين، ممّا يُطلَقُ عليهِ كِساء، كقَميص، أو سِروال، أو عَمامة.
أو أنْ يُعتِقَ عبدًا.
فمَنْ لم يَقدِرْ أو لم يَجدِ الأمورَ السابقة، فليَصُمْ ثلاثةَ أيّام، فإنَّ ذلكَ كَفّارةٌ لمنْ حَلَفَ وحَنَث، ومحوٌ لما ارتكبَ منْ سيِّئةٍ بسببِه.
وراعُوا حَلِفَكمْ إذا حَنَثْتُم، فلا تَتركوهُ مِنْ غَيرِ تَكفير.
وهكذا يبيِّنُ اللهُ لكمْ أحكامَ شَريعتهِ ويُوضِّحُها، فاشْكروهُ على نِعْمةِ هذا التعليمِ والبيان، الذي هوَ لخيرِكمْ وصالِحكم.
أيُّها المؤمِنون، اعلمُوا أنَّ الخمرَ وكلَّ ما هوَ مُسكِر، والقمارَ، والأصنامَ التي تُنْصَبُ للعِبادَةِ وتُذبَحُ عندَها القَرابين، والقِداحَ التي يُستَقْسَمُ بها(32)، كلَّ هذا خبيثٌ مُسْتَقذَرٌ وشرٌّ مِنْ عملِ الشيطان، فهوَ مِنْ تزيينهِ وتَسويلِه، فاتركوهُ لتَفوزوا.
(32) وردَ تعريفُ الأزلامِ عند تفسيرِ الآيةِ (3) من السورة بشكلٍ أوضح، وهو: الاستِقسامُ بالأزلامِ هوَ طلبُ القَسْمِ والحُكْمِ مِنْ قِداحٍ كانَ يُكتَبُ على واحدٍ منها "افعَلْ"، وعلى الثاني "لا تَفعَلْ"، ولا شَيءَ على الآخَر، فيأتَمِرُ بها الجاهليّ، فإنْ كانتِ الفارغةَ أعاد.
أيُّها المؤمِنون، لا تَقتلوا الصَّيدَ وأنتُمْ مُحْرِمون، ما يُؤكَلُ منهُ وما لا يُؤكَل، إلاّ ما بيَّنَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلَّمَ منَ الفَواسِقِ... وقاسَ عليها بعضُ العلماءِ حيواناتٍ أخرَى. ومَنْ قتلَهُ مِنكمْ عنْ قَصْدٍ وعَمْد، فيَجِبُ عليهِ مثلُ حَجمِ ذلكَ الصَّيدِ منَ الأنعام، ويَحكمُ بهذا المِثْلِ وتَقديرهِ رَجُلانِ لهما خِبرَةٌ في هذا الشَّأن، ويكونُ هذا الحيوانُ المقدَّرُ هدْيَاً يُرْسَلُ إلى الحرمِ ويُذْبَحُ هناك، ويُتَصَدَّقُ بلحمهِ على مَساكينِه، أو يُكَفِّرُ عنْ خطَئهِ هذا بإطعامِ مساكينَ بمقدارِ ذلكَ الحيوانِ الذي قَتله، أو يَصومُ بمقدارِ ذلك، كلُّ يومٍ عن مقدارِ ما يَكفي شَخصاً منَ الطعام.
والهَدْيُ والقَلائدُ أيضاً قيامٌ لهم، فهيَ ممّا يَخُصُّ مناسِكَ الحجّ، والهَدْي: النُّسُكُ التي تُهدَى للحَرَم، فتُذْبَحُ هناكَ ويُوَزَّعُ لحمُها على مَساكينِه. والقلائدُ كذلك، وهيَ البُدْنُ التي تُقلَّدُ بقلائدَ ليَعرِفَ الناسُ أنَّها للحَرَمِ فلا يَتعرَّضُ لها أحَد، وذُكِرَ أنَّ الثوابَ فيها أكثَر، والحجَّ بها أظهَر.
وهذا الذي يبيِّنُهُ اللهُ لكم، لتَعلَموا أنَّ تشريعَ هذهِ الأحكامِ التي فيها مَنافعُ دُنيويَّة وأُخرَويَّة، ودفعٌ لمضارَّ قبلَ وقوعِها، هوَ مِنَ الدلائلِ على حِكمَةِ اللهِ وإحاطتهِ بكلِّ شَيء، ما دقَّ منها وما جَلّ، فهوَ كامِلُ العِلم، لا يَنقُصُ ولا يَخفَى عليهِ شَيءٌ منه.
ليسَ على الرسُولِ إلاّ أنْ يُبَلِّغَ الرسالة، وليسَ لهُ الهدايةُ والتوفيقُ ولا الثَّواب، وقدْ أتَى بما وجبَ عليهِ مِنَ التَّبليغِ بما لا مَزيدَ عليه، فلا عُذرَ لكمْ إنْ لم تُطيعوا، ومَنْ خالفَ ولم يَمتَثلْ فقدْ عرَّضَ نفسَهُ للعِقاب.
ولا يَخفَى على اللهِ المطيعُ منكمْ مِنَ العاصي، ولا يَغِيبُ عنهُ شَيءٌ ممّا خفيَ في الصُّدور، أو ظهرَ منْ أعمالِ النفُوس، وبيدهِ الثوابُ والعِقاب، فيُعامِلُ كلاًّ بما يَستَحِقّ.