تفسير سورة المائدة

  1. سور القرآن الكريم
  2. المائدة
5

﴿وَلَوۡ كَانُواْ يُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مَا اتَّخَذُوهُمۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ [المائدة:81]


ولو أنَّ هؤلاءِ الموالِينَ للمشرِكينَ يؤمِنونَ باللهِ حقَّ الإيمان، ويؤمِنونَ بخاتَمِ أنبيائهِ محمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلَّم، وبما أنزلَهُ عليهِ منَ القُرآنِ الكريم، لَما اتَّخذوهمْ أولياءَ يُناصِرونَهمْ ضدَّ دينهِ وأوليائه، ولكنَّ كثيراً منهمْ خارِجونَ عنْ طاعةِ الله، معانِدونَ للحقِّ الذي أوجبَ اتِّباعه، مخالفونَ لوحيهِ المُنْـزَل.

﴿۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الۡيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ﴾ [المائدة:82]


ستَجِدُ أشدَّ النَّاسَ عداءً للمؤمِنينَ اليهودَ والمشرِكين.

أمّا اليهود: فلعِنادهمْ وجُحودهم، وتضاعُفِ كُفرِهمْ، واتِّباعِهمُ الهوَى، وكذبِهمْ وافتِرائهم، وتمرُّدِهمْ على الحقّ، حتَّى قَتلوا أنبياء، وهمُّوا بقتلِ رسولِنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم غيرَ مرَّةٍ وسَحَروه، ووَضعوا في ديِنهمْ توجيهاتٍ بإيذاءِ مَنْ يُخالِفُهم!

والمشرِكونَ يُماثلونَهمْ في صِفاتٍ عدَّة، وقدْ غلبَ عليهمُ التقليدُ فسَدُّوا منافذَ الفِكرِ والفِطرةِ في نفوسِهم، فلازَموا الكفر، وفتَنوا المؤمنينَ عنْ دينِهم، وحارَبوا الدِّينَ الحقَّ بكلِّ ما أُوتوا منْ قوَّة..

وستَجِدُ أقربَ الناسِ مَودَّةً للمؤمِنين - منْ بينِ مِلَلِ الكُفرِ - الذينَ زَعَموا أنَّهمْ نصارَى مِنْ أتباعِ المسيح، وذلكَ لرأفةٍ في قلوبِهمْ ورِقَّة، وفيهمْ علماءُ ورُهبانٌ وعُبّادٌ يتَّصفونَ بالعلمِ والعِبادةِ والتواضُع، وهؤلاءِ لا يَستكبرونَ عنِ الانقيادِ للحقِّ إذا عَرَفوهُ وفَهِموه. ولعلَّ التعبيرَ للكثيرِ مِنْ هؤلاء، أو أكثرِهم.

قالَ القاضي البيضاويّ: فيهِ دليلٌ على أنَّ التواضُعَ والإقبالَ على العِلمِ والعمَل، والإعراضَ عنِ الشَّهوات، مَحمودٌ وإنْ كانَ مِنْ كافِر.

قلت: وهناكَ فُرصةٌ طيِّبةٌ لدعوةِ هذه الفئةِ إلى الإسْلام، وأمَلٌ في إسلامِهم.

والآيَةُ مُرتَبِطَةٌ بما بَعدَها.

﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ الدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكۡتُبۡنَا مَعَ الشَّـٰهِدِينَ﴾ [المائدة:83]


وإذا سَمِعَ هؤلاءِ وأمثالُهمْ ما نزلَ على الرسُولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلمَ مِنْ آياتِ القُرآن، ترَى الدموعَ تَسيلُ مِنْ عُيونِهم، وذلكَ لما عَرَفوا مِنَ الحقِّ الذي عندَهم، منَ البِشارةِ ببعثةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، مثلَما حدثَ للنجاشيِّ وقسِّيسينَ مِنْ حَولِه، ولم يَكونوا مثلَ اليهودِ بُهْتاً مُعانِدينَ ومُكَذِّبينَ مُحَرِّفين، بلْ قالوا في تواضُعٍ وخُشوع، وأوبَةٍ وإيمان: اللهمَّ إنّا آمنّا بما أنزلت، فاكتُبنا معَ مَنْ يَشهدُ بصحَّةِ هذا، واجعَلنا عندَكَ معَ أمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وممَّنْ يَشهَدونَ معهمْ بالحقّ.

﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن يُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الۡقَوۡمِ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [المائدة:84]


قالوا: ولماذا لا نؤمِنُ باللهِ ولا نُنَـزِّههُ عن الشِّركِ كما هوَ في دينِ الإسْلام، ونؤمِنُ جَميعاً بما جاءَنا منَ الحقِّ والتوحيدِ الذي لا شائبةَ فيه، ونحنُ نَتمنَّى ونَرغَبُ أنْ يُدْخِلَنا ربُّنا جنَّته، ويَشمَلَنا برحمتهِ معَ عبادهِ المؤمِنينَ الصَّالحين؟

﴿فَأَثَٰبَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [المائدة:85]


فجازاهمُ اللهُ بسبَبِ قولِهمْ هذا، وعلى تَصدِيقِهمْ واعتِرافِهمْ بالحقّ، جنّاتٍ عاليات، تَجري مِنْ تحتِ أشجَارِها ومسَاكنِها أنهارُ الماءِ والعَسلِ والخمرِ واللبن، معَ خلودٍ دائمٍ وسعادةٍ تامَّة، فهذا جزاءُ مَنِ اتَّبعَ الحقَّ وأذعنَ له، دونَ معاندةٍ ولا استِكبار.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ الۡجَحِيمِ﴾ [المائدة:86]


والذينَ خالَفوا وعصَوا، وكذَّبوا بآياتِ القرآن، فإنِّ مصيرَهمْ إلى الجَحيم، فهمْ أهلُها المستَحِقُّونَ لها، جزاءَ عنادِهمْ وكُفرِهمْ وتَكذيبِهمْ ما هوَ حقّ.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الۡمُعۡتَدِينَ﴾ [المائدة:87]


أيُّها المؤمِنون، لا تُحَرِّموا ما أحلَّ اللهُ لكمْ مِنَ اللَّذائذِ والمُشتَهيات، ولا تَتعدَّوا حدودَ ما أحلَّ لكمْ إلى ما حَرَّمه، واللهُ لا يُحِبُّ الظَّالمينَ المعتَدينَ حُدودَه، ولكنْ قِفوا عندَها والتزِموا بها.

وقدْ نزلتِ الآيةُ في رَجُلٍ حرَّمَ اللحمَ على نفسهِ لشَهوةٍ وجدَها عندَهُ في النِّساءِ إذا أكلَه.

﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗاۚ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ﴾ [المائدة:88]


وكُلوا الحلالَ الطيِّب ممّا رزقَكمُ الله، ولا تُسرِفوا، وذَروا ما حرَّمَه، إنْ كنتُمْ مؤمِنين. وإنَّ أكلَ الطيِّباتِ واللَّذائذِ الحَلالِ لا يُنافي التقوَى والعملَ الصالح.

﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَاحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [المائدة:89]


لا يحاسبُكمُ اللهُ على حَلِفِكُمْ باللهِ إذا كانَ مِنْ غَيرِ قَصد، ممّا يَسبِقُ إليهِ اللسانُ منْ غَيرِ نيَّةِ قَسَم، أو ما كانَ القسَمُ على غلبةِ ظنٍّ عندَ آخرين، ولكنْ يحاسِبُكمْ عليه إذا كانَ عنْ قصدٍ ونيَّةٍ وتأكيد. فمَنْ حَنَثَ في يمينِه، يَعني أخطأ النَّتيجَة، أو لم يُنَفِّذْ ما قسمَ عليه، فإنَّ عقوبتَهُ أنْ يُطعِمَ عشرةَ مَساكين، مِنْ أعدلِ ما يُطعِمُ المرءُ أهلَه، أي ما يَكفي الشَّخصَ في اليومِ بشَكلٍ وسَط، نوعاً ومِقداراً.

أو أنْ يَكسوَ العددَ نفسَهُ منَ المسَاكين، ممّا يُطلَقُ عليهِ كِساء، كقَميص، أو سِروال، أو عَمامة.

أو أنْ يُعتِقَ عبدًا.

فمَنْ لم يَقدِرْ أو لم يَجدِ الأمورَ السابقة، فليَصُمْ ثلاثةَ أيّام، فإنَّ ذلكَ كَفّارةٌ لمنْ حَلَفَ وحَنَث، ومحوٌ لما ارتكبَ منْ سيِّئةٍ بسببِه.

وراعُوا حَلِفَكمْ إذا حَنَثْتُم، فلا تَتركوهُ مِنْ غَيرِ تَكفير.

وهكذا يبيِّنُ اللهُ لكمْ أحكامَ شَريعتهِ ويُوضِّحُها، فاشْكروهُ على نِعْمةِ هذا التعليمِ والبيان، الذي هوَ لخيرِكمْ وصالِحكم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا الۡخَمۡرُ وَالۡمَيۡسِرُ وَالۡأَنصَابُ وَالۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ الشَّيۡطَٰنِ فَاجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [المائدة:90]


أيُّها المؤمِنون، اعلمُوا أنَّ الخمرَ وكلَّ ما هوَ مُسكِر، والقمارَ، والأصنامَ التي تُنْصَبُ للعِبادَةِ وتُذبَحُ عندَها القَرابين، والقِداحَ التي يُستَقْسَمُ بها(32)، كلَّ هذا خبيثٌ مُسْتَقذَرٌ وشرٌّ مِنْ عملِ الشيطان، فهوَ مِنْ تزيينهِ وتَسويلِه، فاتركوهُ لتَفوزوا.

(32) وردَ تعريفُ الأزلامِ عند تفسيرِ الآيةِ (3) من السورة بشكلٍ أوضح، وهو: الاستِقسامُ بالأزلامِ هوَ طلبُ القَسْمِ والحُكْمِ مِنْ قِداحٍ كانَ يُكتَبُ على واحدٍ منها "افعَلْ"، وعلى الثاني "لا تَفعَلْ"، ولا شَيءَ على الآخَر، فيأتَمِرُ بها الجاهليّ، فإنْ كانتِ الفارغةَ أعاد.

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ الۡعَدَٰوَةَ وَالۡبَغۡضَآءَ فِي الۡخَمۡرِ وَالۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة:91]


إنَّما يُريدُ الشَّيطانُ بتَعاطي هذهِ المحرَّماتِ أنْ يُوقِعَ بينَكمُ العَداواتِ والأحقادَ والمفاسِدَ والشُّرور، فالخمرُ تُذهِبُ العَقل، والمُسكِرُ يُعَربِدُ ويَسُبُّ ويَتشاجر، وقدْ يقعُ على محارمهِ أو يَقتلُ آخرينَ وهوَ لا يَدري، فإذا صحا نَدِم. والمقامرُ يُقامِرُ على الأهلِ والمال، وقدْ لا يُبقي لنَفسهِ شَيئاً، ثمَّ يُصبِحُ عدوًّا لمنْ قامرَه، وحَزيناً مُغتاظاً، وقدْ يَتشرَّدُ ويَتسوَّل... والأنصابُ والأزلامُ شِركٌ لا يُقْدِمُ عليها إلاّ مَنْ تركَ التوحيدَ واستسلمَ للجاهليَّةِ المُنكَرةِ والتخلُّفِ العقَديِّ الأعمى.

ويُريدُ الشَّيطانُ بتَزيينهِ الإقدامَ على هذهِ المُنكراتِ أنْ يُبعِدَكمْ عنْ ذِكْرِ الله، فإنَّها كلَّها تُلهي عنْ الذِّكر، وتُشَوِّش على المُسْكرِ القراءةَ إنْ صلَّى، فيَنطِقُ بالكفر وهوَ يُريدُ قراءةَ القُرآن. وإذا قامرَ وحَصَّلَ مالاً حَراماً فَرِحَ حتَّى البَطَر، وإذا خَسِرَ حَزِنَ وانقبضَ حتَّى كادَ أنْ يقتلَ نفسَهُ أو غيرَه. وفي أثناءِ ذلكَ يَكونُ مُترقِّباً ومُفكِّراً بحيلةٍ يَغلِبُ بها صاحبَهُ ويَقْهَره. فأينَ يكونُ السكِّيرُ والمقامِرُ مِنْ ذكرِ الله؟ فانتَهوا وتوقَّفوا عنها، فإنَّها مُنكَرٌ حَرامٌ لا يَحِلُّ لمسلمٍ تَعاطيها.

وكانتْ هذهِ الآيةُ آخِرَ حَلْقةٍ في أسلوبٍ تَدريجيٍّ ربّانيٍّ لتحريمِ الخَمرِ وما إليها، وقالَ الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهمْ بعدَ نُزولها: انتهَينا يا ربّ. وأهْرَقوا ما عندَهمْ مِنْ خَمْر.

﴿وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الۡبَلَٰغُ الۡمُبِينُ﴾ [المائدة:92]


فأطيعُوا اللهَ ورَسولَه، والتزِموا بما شُرِعَ لكمْ مِنَ الحلالِ والحرام، ومنهُ اجتِنابُ الخمرِ والمَيْسِرِ وما إليهما، واحذَروا المخالفةَ والعِصيان، فإذا أبَيتُمْ وأعرَضتم، فقدْ قامتِ الحُجَّةُ عليكم، وقدْ قامَ رسولُنا بوظيفتِهِ فبلَّغَ وأنذَر، ولم يَبقَ بعدَ ذلكَ إلاّ العِقاب.

﴿لَيۡسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [المائدة:93]


نَزَلَ تحريمُ الخَمرِ وقدْ ماتَ مِنَ الصَّحابةِ مَنْ كانَ يَشربُها، فسُئلَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم عنْ ذلك، فنزلتِ الآية.

ليسَ على مَنْ آمنَ وعَمِلَ صالحاً إثمٌ وحرَجٌ فيما شَرِبوا منَ الخمرِ وأكلوا مِنْ مالِ الميسرِ إذا اتَّقَوا الشِّركَ وآمَنوا وصَدَّقوا وعَمِلوا صَالحاً، ثمَّ اتَّقَوا اللهَ فداوموا على ذلكَ ولم يَشربوا الخمرَ بعدَ تحريمِها، ولم يَلعَبوا بالميسرِ بعدَ تحريمه، بلِ ازدادوا إيماناً، ثمَّ اتَّقَوا ما حرَّمَ اللهُ عليهمْ وابتَعدوا عنْ مَعاصيه، وأحسَنوا في عملِهمْ وعِبادتِهم، واللهُ يُحِبُّ منِ اتَّصفَ بصفةِ الإحسان، ويُثيبُهمْ عليها.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ الصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِالۡغَيۡبِۚ فَمَنِ اعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [المائدة:94]


أيُّها المؤمِنون، سيَختَبرُكمُ اللهُ في شَيءٍ ممّا يُصادُ في البرِّ وأنتُمْ مُحْرِمون، ممّا يَسْهُلَ صَيدهُ بأيديكُم، أو بِرماحِكم، ليَنظُرَ منْ يُطيعُ منكمْ ومنْ يَعصي، في سِرِّهِ وجَهرِه. فمنْ صادَ بعدَ هذا الإعلامِ وهوَ مُحْرِمٌ فقدْ خالفَ أمرَ اللهِ واستَوجبَ عقوبتَهُ الشَّديدة، باعتدائهِ عنْ مُكابرة، أو عدمِ مبالاتهِ بأمرِ الله.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ الصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ الۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنۡهُۚ وَاللَّهُ عَزِيزٞ ذُو انتِقَامٍ﴾ [المائدة:95]


أيُّها المؤمِنون، لا تَقتلوا الصَّيدَ وأنتُمْ مُحْرِمون، ما يُؤكَلُ منهُ وما لا يُؤكَل، إلاّ ما بيَّنَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلَّمَ منَ الفَواسِقِ... وقاسَ عليها بعضُ العلماءِ حيواناتٍ أخرَى. ومَنْ قتلَهُ مِنكمْ عنْ قَصْدٍ وعَمْد، فيَجِبُ عليهِ مثلُ حَجمِ ذلكَ الصَّيدِ منَ الأنعام، ويَحكمُ بهذا المِثْلِ وتَقديرهِ رَجُلانِ لهما خِبرَةٌ في هذا الشَّأن، ويكونُ هذا الحيوانُ المقدَّرُ هدْيَاً يُرْسَلُ إلى الحرمِ ويُذْبَحُ هناك، ويُتَصَدَّقُ بلحمهِ على مَساكينِه، أو يُكَفِّرُ عنْ خطَئهِ هذا بإطعامِ مساكينَ بمقدارِ ذلكَ الحيوانِ الذي قَتله، أو يَصومُ بمقدارِ ذلك، كلُّ يومٍ عن مقدارِ ما يَكفي شَخصاً منَ الطعام.

وهذهِ العقُوباتُ جزاءُ مَعصيةِ مَنْ صادَ وهوَ مُحْرِم ولم يَتقيَّدْ بأمرِ الله. وعفا اللهُ عمَّنْ صادَ وهوَ مُحْرِمٌ قبلَ أنْ يَنـزِلَ التَّحريم، ومَنْ عادَ فخالَف، فإنَّ اللهَ يَنتَقِمُ منهُ في الآخِرَة.

واللهُ غالِبٌ لا يُغالَبُ ولا يُقْهَر، شديدٌ فيَنتقِمُ ممَّنْ تعدَّى حدودَهُ وأصرَّ على مخالفةِ أوامرِه، لا يَستَطيعُ أحدٌ أنْ يَمنعَهُ مِنِ انتقامِه، ولا عُقوبةِ مَنْ أرادَ عقوبتَهُ.

﴿أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ الۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ الۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ [المائدة:96]


أُحِلَّ لكمْ أيُّها المُحْرِمونَ صيدُ ما في الماء، وما قذفَهُ لكمُ البَحرُ مَيتاً، يَستمتِعُ بهِ المقيمُونَ منكمْ يأكلونَهُ طريًّا، ويَنتفِعُ بهِ المسافِرونَ بجانبِ البَحر، ويَتقوَّتونَهُ قديداً مُمَلَّحاً.

وحُرِّمَ عليكمْ صيدُ البَرِّ ما دمتُمْ مُحْرِمين، إلاّ ما استثنتْهُ السنَّةُ مِنْ جوازِ قتلِ الفواسِق، وألحقَ بها بعضُ العلماءِ حيواناتٍ مؤذيةً قياساً عليها.

واتَّقوا اللهَ فيما نَهاكمْ عنهُ مِنَ الصَّيدِ والمحرَّماتِ السَّابِقَة، وسوفَ تُحشَرونَ إليه، ولا خلاصَ لكمْ منَ المحاسبةِ والجزاءِ عندَهُ يومَذاك.

﴿۞جَعَلَ اللَّهُ الۡكَعۡبَةَ الۡبَيۡتَ الۡحَرَامَ قِيَٰمٗا لِّلنَّاسِ وَالشَّهۡرَ الۡحَرَامَ وَالۡهَدۡيَ وَالۡقَلَـٰٓئِدَۚ ذَٰلِكَ لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة:97]


لقدْ جَعَلَ اللهُ الكعبةَ - البيتَ الحرامَ - قُوامَ أمرِ الناسِ ومصلحتَهم، دُنياً ودِيناً. فهوَ سبَبُ إصلاحِ أمورِهمْ وجَبرِها، وهوَ مأمَنٌ ومَلجأ لهم، ومَجْمَعٌ لتجارتِهم، ومَهوَى أفئدتِهم، يَقصِدونَهُ للحجِّ مِنْ كلِّ فَجٍّ عَميق، فهوَ أحدُ أركانِ الدِّين.

وكذلكَ جعلَ الشَّهرَ الحرامَ قياماً لهم، والمرادُ جِنسُ الشَّهرِ الذي يَصِحُّ عَقْدُ نيَّةِ الحجِّ فيه، وهي: رَجَب، وذو القَعْدة، وذو الحِجَّة، والمُحَرَّم.

والهَدْيُ والقَلائدُ أيضاً قيامٌ لهم، فهيَ ممّا يَخُصُّ مناسِكَ الحجّ، والهَدْي: النُّسُكُ التي تُهدَى للحَرَم، فتُذْبَحُ هناكَ ويُوَزَّعُ لحمُها على مَساكينِه. والقلائدُ كذلك، وهيَ البُدْنُ التي تُقلَّدُ بقلائدَ ليَعرِفَ الناسُ أنَّها للحَرَمِ فلا يَتعرَّضُ لها أحَد، وذُكِرَ أنَّ الثوابَ فيها أكثَر، والحجَّ بها أظهَر.

وهذا الذي يبيِّنُهُ اللهُ لكم، لتَعلَموا أنَّ تشريعَ هذهِ الأحكامِ التي فيها مَنافعُ دُنيويَّة وأُخرَويَّة، ودفعٌ لمضارَّ قبلَ وقوعِها، هوَ مِنَ الدلائلِ على حِكمَةِ اللهِ وإحاطتهِ بكلِّ شَيء، ما دقَّ منها وما جَلّ، فهوَ كامِلُ العِلم، لا يَنقُصُ ولا يَخفَى عليهِ شَيءٌ منه.

﴿اعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الۡعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [المائدة:98]


واعلَموا أيُّها النَّاس، أنَّ اللهَ الذي أحاطَ علمُهُ بكلِّ شَيء، وعَلِمَ سرائرَ أعمالِكمْ وعلانيتَها، وأحصاها عليكمْ ليُجازيَكمْ بها، هوَ شَديدُ العقابِ لمن انتهكَ مَحارِمَهُ أو أصرَّ على عِصيانه. وهوَ غَفورٌ لذُنوبِ مَنْ أنابَ إليه وأطاعَه، رَحيمٌ بهِ فلا يُعاقِبُه.

﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الۡبَلَٰغُۗ وَاللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ﴾ [المائدة:99]


ليسَ على الرسُولِ إلاّ أنْ يُبَلِّغَ الرسالة، وليسَ لهُ الهدايةُ والتوفيقُ ولا الثَّواب، وقدْ أتَى بما وجبَ عليهِ مِنَ التَّبليغِ بما لا مَزيدَ عليه، فلا عُذرَ لكمْ إنْ لم تُطيعوا، ومَنْ خالفَ ولم يَمتَثلْ فقدْ عرَّضَ نفسَهُ للعِقاب.

ولا يَخفَى على اللهِ المطيعُ منكمْ مِنَ العاصي، ولا يَغِيبُ عنهُ شَيءٌ ممّا خفيَ في الصُّدور، أو ظهرَ منْ أعمالِ النفُوس، وبيدهِ الثوابُ والعِقاب، فيُعامِلُ كلاًّ بما يَستَحِقّ.

﴿قُل لَّا يَسۡتَوِي الۡخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ كَثۡرَةُ الۡخَبِيثِۚ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَـٰٓأُوْلِي الۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [المائدة:100]


قلْ أيُّها النبيّ: لا يَتعادَلُ الحَلالُ والحَرام، ولا يَستوي الحسَنُ والردِيء، ولا الصَّالحُ والطَّالح، ولو سَرَّكَ كثرةُ الخَبيثِ منه، فالقَليلُ منَ الحلالِ النافِع، خَيرٌ منَ الكثيرِ الحرامِ الضارّ. وفي الحديثِ الصحيح: " ما قَلَّ وكفَى، خيرٌ ممّا كثرَ وألهَى". فاتَّقوا اللهَ وآثِروا الطيِّبَ على الخَبيثِ وإنْ قَلّ، فالمحمُودُ القَليلُ خَيرٌ منَ المذمومِ الكثير، فأقبِلوا على ما أحلَّ اللهُ لكمْ مِنَ الطيِّباتِ يا أصحابَ العُقولِ الراجِحةِ والأفهامِ المستَنيرةِ واقنَعوا بها، لتَنالوا السَّعادةَ في الدُّنيا والفوزَ في الآخِرَة.