تفسير سورة الأعراف

  1. سور القرآن الكريم
  2. الأعراف
7

﴿وَإِذۡ قِيلَ لَهُمُ اسۡكُنُواْ هَٰذِهِ الۡقَرۡيَةَ وَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ وَقُولُواْ حِطَّةٞ وَادۡخُلُواْ الۡبَابَ سُجَّدٗا نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطِيٓـَٰٔتِكُمۡۚ سَنَزِيدُ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [الأعراف:161]


واذكرْ لليَهودِ قولَنا لأسلافِهم: ادخُلوا هذهِ القرية - لعلَّها بيتُ المَقدِسِ - وأقيموا فيها، وكُلوا مِنْ مَطاعمِها وثِمارِها ما شِئتُمْ في رغَدٍ وهَناء، وقولوا عندَ دخولِكمْ "حِطَّة": حُطَّ عنّا ذنوبَنا واغفِرْ لنا، وليكنْ دخولُكمْ مِنْ بابِها في تواضُعٍ وخُشوع، فإذا فعلتُمْ ذلكَ غَفَرنا لكمْ ذنوبَكم، وزِدْنا المُحسِنينَ منكمْ إحساناً.

﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ قَوۡلًا غَيۡرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِجۡزٗا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظۡلِمُونَ﴾ [الأعراف:162]


لكنَّ فريقاً ظالماً منهمْ خالَفوا وعَصَوا، فبدَّلوا ما أُمِروا بهِ مِنَ الخضوعِ بالقَولِ والفِعل، فبدَلَ أنْ يَدخُلوا سَاجِدينَ مَستَغفِرين، دَخلوا بهيئةٍ أخرَى مُخالِفة، وقالوا قولاً آخرَ غيرَ الذي أُمِروا به؛ مُخالَفةً وعِناداً.

فأنزَلنا على الظَّالمينَ المُعانِدينَ عَذاباً منَ السَّماء؛ لفِسقِهمْ وعِصيانِهم.

﴿وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ الۡقَرۡيَةِ الَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ الۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِي السَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ﴾ [الأعراف:163]


واسْألِ اليَهودَ وذَكِّرْهمْ بما يُخفونَهُ مِنَ التوراةِ ممّا فيهِ تجاوزُهمْ لحدودِ الله، عنِ القريةِ التي كانتْ على سَاحلِ البَحر، فكانوا يَعتدونَ فيها يومَ السَّبت، وهوَ مُعَظَّمٌ عندَهمْ لا يَجوزُ العملُ فيه، فابتُلوا بوَفرةِ الحيتانِ في ذلكَ اليوم، حتَّى تَبدوَ ظاهرةً على وجهِ الماء، ولا تأتيهمْ في غَيرِ هذا اليوم. كذلكَ نَختبِرُهمْ بسَببِ فِسقِهمْ وخُروجِهمْ عنْ طاعةِ الله، ليَظهرَ منهمْ ما يَظهر، فنُجازيهمْ عليه.

﴿وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا اللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف:164]


وقالتْ فِرقَةٌ منهمْ لأخرَى، كانتْ تُنكِرُ عليهمْ عَملَهمْ هذا وتُحَذِّرُهمْ عُقوبةَ الله: لماذا تَنهَونَ هؤلاءِ العاصِينَ المُخالِفينَ أمرَ اللهِ وقدِ استَحقُّوا الهَلاكَ مِنْ قِبَلِ ربِّهم، أو أنَّهُ سيُعذِّبُهم عَذاباً مُوجِعاً مُؤلماً، فلا فائدةَ مِنْ تذكيرِكمْ إيّاهم.

قالوا: نُنكِرُ عليهمْ ذلكَ حتَّى نُعْذَرَ عندَ اللهِ ونُبرِئَ ذِمَّتنا، لمِاَ أُخِذَ عَلينا مِنَ النَّهي عنِ المنكَر، ولِيُعلَمَ أنَّا لَسنا معهمْ ولا نوافِقُهمْ على فعلِهمْ هذا، ولعلَّهمْ بهذا الإنكارِ يتذكَّرون، فيَنتَهونَ ويَتوبون.

﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا الَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ السُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ﴾ [الأعراف:165]


فلمّا لم يُبالوا بالنصِيحة، وأعرَضوا عمّا ذُكِّروا به، أنقَذْنا مِنْ بينِهمُ الجَماعةَ التي كانتْ تُذَكِّرُهمْ وتَنهاهمْ عنْ عَملِهمُ السيِّئ، وأخذنا المعتَدينَ منهمْ بعَذابٍ شَديد؛ بسبَبِ فِسقِهمُ المستَمِرّ.

﴿فَلَمَّا عَتَوۡاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنۡهُ قُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ﴾ [الأعراف:166]


فلمّا لم يَرتَدِعوا بما عذَّبناهم، واستَكبَروا عنْ قَبولِ الحقّ، وأصَرُّوا وعانَدوا ولم يَنتَهوا عمّا نُهوا عنه، عاقَبناهمْ وقُلنا لهم: كونوا قِرَدَةً أذلَّةً صَاغِرين، مُحقَّرينَ مُهانين.

﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ الۡعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [الأعراف:167]


وقدْ أعلمَ ربُّكَ أنَّهُ سيَبعَثُ على اليَهودِ حتَّى انتهاءِ الحياةِ الدُّنيا مَنْ يُذيقُهمْ أشدَّ العذاب؛ بسببِ مخالفتِهمُ المستمرَّةِ لأوامرِ الله، وإنَّ اللهَ لسَريعُ العُقوبةِ لمنْ شاءَ أنْ يعاقِبَهُ في الدُّنيا، وهوَ يَغفِرُ لمنْ تابَ إليه، ويَرحَمُ مَنْ آمَن.

﴿وَقَطَّعۡنَٰهُمۡ فِي الۡأَرۡضِ أُمَمٗاۖ مِّنۡهُمُ الصَّـٰلِحُونَ وَمِنۡهُمۡ دُونَ ذَٰلِكَۖ وَبَلَوۡنَٰهُم بِالۡحَسَنَٰتِ وَالسَّيِّـَٔاتِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [الأعراف:168]


وفرَّقنا اليَهودَ في مَناطقِ الأرضِ وشتَّتنا أمرَهم، وجعلناهُمْ طوائفَ وفِرقًا، منهمُ المؤمِنونَ الصَّالحونَ المتابِعونَ للرسُل، ومنهمُ الكفَرةُ والفاسِقونَ المخالِفونَ لهم.

وقدْ بَلوناهمْ واختَبرناهمْ بالخِصبِ والعافيَة، وبالجَدْبِ والشدَّة، لكي يَرجِعوا إلى طاعةِ ربِّهمْ ويَنتَهوا عمّا نُهوا عنه.

﴿فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ الۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ الۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَالدَّارُ الۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [الأعراف:169]


فجاءَ مِنْ بعدِهمْ جيلٌ انتَقلتْ إليهمُ التوراةُ مِنْ آبائهم، فصارُوا يأخُذونَ الرِّشا مُقابِلَ أقضيةٍ جائرةٍ ويَقولونَ إنَّ حُكمَها مِنَ التوراة، وأخَذوا يُزَوِّرونَ ويُحَرِّفونَ فيها بما يوافِقُ أهواءَهمُ الزائغة وآراءَهمُ الفاسِدة، لا يُبالونَ بحَلالٍ ولا حَرام، ولا حَقٍّ ولا باطِل، والمهمُّ عندَهمُ المالُ ومَتاعُ الدُّنيا، ثمَّ يَقولونَ بعدَ هذهِ الأفعالِ الشَّنيعة: إنَّ اللهَ سيَتجاوزُ عنّا ولا يُعَذِّبُنا! وإذا جاءَتْهُمْ صَفقةٌ ماليَّةٌ فاجِرةٌ منَ الغَد، عَادوا إلى ما كانوا عليه، لحرصِهمْ على الدُّنيا، وإصرارِهمْ على الذُّنوب، وكذبِهمْ في طَلَبِ المغفِرة، غيرَ تائبينَ ولا مُقلِعينَ عنها.

أمَا أُخِذَ منهمْ ميثاقٌ ووعدٌ مؤكَّدٌ منَ التوراةِ ألاّ يَقولوا على اللهِ إلاّ ما قالَهُ حقًّا، وأنْ يُبَيِّنوهُ للناسِ كما هو، فلا يَزيدوا ولا ينَقُصوا، وقدْ دَرَسوا التوراةَ وعَلِموا ذلك، وهمْ يَذكرونَهُ جيِّداً، وإنَّ طَلَبَ المثوبةِ الحُسنَى في الدَّارِ الآخِرَةِ بدلَ عَرَضٍ زائلٍ مِنْ أعراضِ الدُّنيا، أحسَنُ وأفضلُ لِمَنِ اتَّقَى اللهَ وخافَ عِقابَهُ وثَبتَ على الحقِّ كما أمرَه، أفلا تَعقِلونَ ذلكَ فتَتدبَّرون، وتَفهَمونَ فتَعتبِرون، وتَعلَمونَ أنَّ النَّعيمَ المُقيمَ خيرٌ منَ العَذابِ الأليم؟!

﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالۡكِتَٰبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ الۡمُصۡلِحِينَ﴾ [الأعراف:170]


والذينَ يَتمَسَّكونَ بكتابِ اللهِ ويَعتَصِمونَ بحبلِهِ المتين، ولا يَتزَحزَحونَ عمّا أمرَهمُ اللهُ به، وأقامُوا الصَّلاةَ المفروضةَ عليهم، التي هيَ أهمُّ أركانِ الدِّينِ بعدَ الشَّهادَتين -وفيهِ الإشارةُ إلى مَنْ أسلمَ منْ أهلِ الكتابِ - فإنّا لنْ نُضيعَ عملَهمُ الصَّالح، بلْ نُجازيهمْ عليها أحسنَ الجزاء.

﴿۞وَإِذۡ نَتَقۡنَا الۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةٞ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُۥ وَاقِعُۢ بِهِمۡ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَاذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف:171]


واذكرْ لليَهودِ أيضاً ما أرعَبنا بهِ أسْلافَهمْ عندما رفَعنا فوقَهمْ الجبل، حتَّى صارَ كأنَّهُ غَمامةٌ أو سَقِيفةٌ فوقَهم، وتَيقَّنوا أنَّهُ سيَسقُطُ عليهم، لأنَّهمْ أبَوا قَبولَ التوراةَ والأخذَ بأحكامِها، فخافُوا واستَكانُوا وقَبِلوا، فقُلنا لهم: خُذوا ما آتَيناكمْ منَ التوراةِ بجِدٍّ واجتِهاد، وعَزمٍ على العَملِ به، والانقيادِ لمِا فيه، لتَكونوا بذلكِ منَ المؤمِنينَ الصالِحين.

﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ﴾ [الأعراف:172]


واذكرْ أيُّها النبيُّ للناسِ أنَّ اللهَ استَخرجَ ذُرِّيةَ بني آدمَ مِنْ أصلابِهم، وأشهدَ كلَّ واحدٍ منهمْ على أنفسِهمْ أنَّ اللهَ ربُّه ومَليكُه، ففَطَرهمْ بذلكَ على الإيمان، وجَبَلهمْ على التَّوحيد، وأقرُّوا بذلكَ للهِ وشَهِدوا عليه؛ حتَّى لا تَقولوا يومَ القيامةِ إنَّنا ما كنّا نَعرِفُ الإيمانَ والتوحيد.

﴿أَوۡ تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أَشۡرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةٗ مِّنۢ بَعۡدِهِمۡۖ أَفَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الۡمُبۡطِلُونَ﴾ [الأعراف:173]


أو تَقولوا يومَ القيامة: إنَّ آباءَنا همُ الذينَ أشرَكوا، وهمُ الذينَ سَنُّوا هذا الطَّريقَ قَبلَنا، وما نحنُ إلا ذُرِّيةٌ مِنْ بعدِهم، وجَدناهمْ يَفعلونَ ذلكَ فتابَعناهمْ عليهِ وقلَّدناهُمْ فيه، فتَجعَلوا هذا عُذراً لكمْ وتَقولوا: أتؤاخِذُنا وتُعَذِّبُنا بجِنايةِ آبائنا المشرِكين، الآخذينَ بالبَاطل؟ فليسَ لكمْ أنْ تَحتَجُّوا بذلكَ وقدْ أخذَ اللهُ منكمُ الميثاقَ على التوحِيد.

﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الۡأٓيَٰتِ وَلَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [الأعراف:174]


وكذلكَ نبيِّنُ الحُجَجَ والبراهينَ ليتدبَّرَها الناس، ويَرجِعوا عمَّا هُمْ عليهِ منَ الإصرارِ على الكُفرِ والباطِل، إلى نورِ الإيمانِ والتَّوحيد.

﴿وَاتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ الَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَانسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ الشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ الۡغَاوِينَ﴾ [الأعراف:175]


واقرأ عليهمْ خبرَ ذلكَ الرَّجُلِ مِنْ بَني إسرائيل، الذي أنعَمنا عليهِ وآتَيناهُ عِلماً وفَضلاً، ولكنَّهُ كفرَ بنِعمتِنا وآياتِنا التي خَصَصناهُ بها ونَبذَها وراءَ ظهرِه، فلَحِقَهُ الشَّيطانُ وغَلبَهُ على أمرِه، فكانَ منَ الضالِّين الهالِكين، بعدَ أنْ كانَ مِنَ المُهتَدين.

﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى الۡأَرۡضِ وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ الۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّـٰلِكَ مَثَلُ الۡقَوۡمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَاقۡصُصِ الۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:176]


ولو شِئنا لرفَعنا دَرجتَهُ ومَنْزِلَتَهُ بتلكَ الآيات، ولكنَّهُ مالَ إلى الدُّنيا ولَذَّاتها، فغرَّتْهُ وألهتْهُ عنِ الحقّ، فانقادَ إليها وسايرَ هواهُ ومُناه، ورغبتَهُ وشهوتَه، ومَثَلهُ في ذلكَ كمَثَلِ الكلب، الذي إنْ زجرتَهُ ونهرتَهُ لَهَث، وإنْ لم تَزجُرْهُ بقيَ كذلكَ يَلْهَث! فهذهِ طبيعتُه، وكذلكَ الرجلُ الذي غَرِقَ في هواهُ وصُمَّ عنْ سَماعِ الحقّ، إنْ دعوتَهُ إليهِ أو لم تَدْعُهُ لم يَنتَفِعْ بموعظَتِك، أو ساءتْ حالهُ فكانَ مُضْطَرِبَ القَلب، دائمَ القَلق، كحالِ الكلبِ في لُهاثِه.

ذلكَ مَثَلُ أهلِ مكَّة، الذينَ كانوا يَتمنَّونَ هادياً يَهديهم، فلمّا جاءَهمُ الصَّادقُ المصدوقُ صلى الله عليهِ وسلمَ كذَّبوه، أو كمَثَلِ اليَهود، الذينَ كانوا يُبَشِّرونَ بمبعَثِ رسُول، ويَذكرونَ صِفاتِه، والقُرآنَ الذي معه، فلمّا جاءَهُمْ بتلكَ الصِّفاتِ كفَروا به.

فاذكرْ هذهِ الأمثالَ والقَصَصَ ليَتفكَّرَ الناسُ ويَتدبَّروا ما فيها، ليَعتبروا ويَنْزَجِروا عن الباطلِ الذي همْ عليه.

﴿سَآءَ مَثَلًا الۡقَوۡمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَأَنفُسَهُمۡ كَانُواْ يَظۡلِمُونَ﴾ [الأعراف:177]


بئسَ مَثَلاً مَثَلُ المُكَذِّبينَ بآياتِنا الذينَ شُبِّهِوا بالكِلاب، وكانوا يَظلِمونَ أنفسَهمْ بأنواعِ المعاصي والسيِّئات، والخلودِ إلى الهوَى والضَّلال، فإنَّ وبالَ عَملِهمْ هذا على أنفسِهم.

﴿مَن يَهۡدِ اللَّهُ فَهُوَ الۡمُهۡتَدِيۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡخَٰسِرُونَ﴾ [الأعراف:178]


مَنْ هَداهُ اللهُ إلى صِراطهِ المستَقيم، ويَسَّرَ لهُ طريقَ الهُدَى والرَّشاد، ووفَّقَهُ لِفعلِ الخَيرات، فهوَ المهتدِي المتَّبِعُ للحَقّ، ومَنْ أضَلَّهُ وخَذلَهُ، فقدْ خابَ وخَسِر.

وللهِ الحِكمَةُ في ذلك، فلا يَظلِمُ أحداً، ولا يُجبِرهمْ على إيمانٍ أو كُفر، بلْ يَهدي مَنْ يجاهدُ ليَهتديَ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [سورة العنكبوت: 69]، ويُضِلُّ مَنْ يَبغي الضَّلالَ لنفسِه.

﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ الۡجِنِّ وَالۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَالۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡغَٰفِلُونَ﴾ [الأعراف:179]


ولقدْ خَلقنا للنارِ وهيَّأنا لها كثيراً مِنَ الإنسِ والجِنّ، وهمُ المُصِرُّونَ على الكُفرِ والضَّلال، الرافِضونَ للحَقِّ رغمَ وضُوحِه، فلَهمْ قُلوبٌ لم يَستَعمِلوها لمعرفةِ الخَيرِ والهُدَى، ولا ليَفقَهوا دلائلَ الإيمان. ولهمْ أعينٌ لم يَستَعمِلوها لتبصُّرِ آياتِ اللهِ الكونية، ولا لمعرفةِ خالقِ الشَّواهدِ الحسِّية، ولهمْ آذانٌ لا يَسمَعونَ بها كلامَ اللهِ الحقّ، ولا مَواعِظَهُ وزَواجِرَهُ في كتابهِ الكريم، الذي أنزلَهُ لهدايةِ عبادِه. فأولئكَ كالحيَوانات، قدْ عطَّلوا ما وهبَهمُ اللهُ مِنَ الحواسِّ المُدرِكة، ولم يَستَخدِموها لوظائفها الحقِيقيَّة، فصَاروا كالحيَواناتِ التي لا تَعقِل، بلْ همْ أضلُّ منها، فهيَ تُمَيِّزُ بينَ كثيرٍ منَ المضارِّ والمنافع، فلا تُقْدِمُ عليها حتَّى لا تَهلِك، وهؤلاءِ الكفّارُ غَفَلوا عمّا يُصلِحُهمْ في الدُّنيا ويُخَلِّصُهمْ منْ وعيدِ اللهِ وعِقابهِ في الآخِرَة.

﴿وَلِلَّهِ الۡأَسۡمَآءُ الۡحُسۡنَىٰ فَادۡعُوهُ بِهَاۖ وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلۡحِدُونَ فِيٓ أَسۡمَـٰٓئِهِۦۚ سَيُجۡزَوۡنَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف:180]


وللهِ أحسنُ الأسماءِ وأجَلُّها؛ لأنَّها تُنبِئُ عنْ أحسَنِ المعاني وأشرَفِها، فادعوهُ بهذهِ الأسماءِ الجلِيلة، ودَعُوا الذينَ يَميلونَ ويَنحرِفونَ فيها عنِ الحقِّ إلى الباطِل، كما يَفعَلهُ المشرِكون، فسَمَّوا بها آلهتَهمُ المزعُومة، فحرَّفوا اسمَ "الله" وسمَّوا بهِ "اللاّت"، واسمَ "العَزيز" فسمَّوا به "العُزَّى". وإنَّ مَنْ أَلحَدَ في أسماءِ اللهِ وانحرفَ بها عنِ القَصد، يُنْزِلُ بهمْ عقوبتَه، كمنْ نفَى معانيَها أو حرَّفَها.

وأسماؤهُ سُبحانَهُ توقيفيَّة، لا يجوزُ للمرءِ أنْ يُكوِّنها أو يَخترِعَها مِنْ عندِه، فلا يُقالُ لهُ - مثلاً - "عاقِل" و"فَقيه"، بلْ يُدعَى بأسمائهِ المذكورةِ في القرآنِ والحديثِ الصَّحِيح.