فقالَ لأخيهِ هارونَ – النبيِّ - وهوَ يتهيَّأ للذَّهابِ إلى الجبلِ للمناجاة: كُنْ خَليفَتي في بَني إسْرائيلَ أثناءَ غيابي، وكُنْ مُرشِداً لهمْ إلى الطَّاعةِ والامتِثال، بالرِّفقِ والحِلمِ والإحسانِ ونبذِ الاختِلاف، ولا تُطِعْ سَبيلَ مَنْ سَلكَ الفسَادَ وعَصَى الله، ولا توافقْهُ على هَواه، بل اثبُتْ على ما فيهِ رضا الله، والتَزمِ الصِّراطَ المستَقيم.
سأُبعِدُ عنْ دَلائل ِ عَظمتي وأحكامِ شَريعتي الذينَ يَتكبَّرونَ على عبادِي ويُحاربونَ أوليائي بغيرِ الحَق؛ عقوبةً لهمْ على عِنادِهمْ واستِكبارِهم، فلا يَنتَفِعونَ بآياتي الجليلة، التي يَستأهِلُها المؤمِنونَ المصَدِّقونَ وحدَهم.
فإذا شاهدَ المتكبِّرونَ المُعجِزاتِ والدَّلائلَ على أيدي رُسلي لم يؤمِنوا بها، وإذا رأوا طَريقَ النَّجاة، والهُدَى والسدَاد، لم يَسلُكوها.
وإذا رَأوا طَريقَ الهَلاكِ والضَّلالِ اختارُوها لأنفسِهمْ ولم يَتركوها، لموافقتِها أهواءَهمْ وشَهواتِهم، وهذا لأنَّهمْ كذَّبوا بأدلَّتِنا الواضِحَةِ الصَّادقة، وحُجَجِنا البيِّنةِ الكاشِفة، المؤدِّيةِ إلى الحقِّ واليَقين، وقدْ كانوا ساهينَ عنِ التفكيرِ فيها والاتِّعاظِ بها.
والمكذِّبونَ بآياتِنا، المصِرُّونَ على الكُفرِ بها وبلقاءِ الدَّارِ الآخِرة، حيثُ موعِدُ الثوابِ والعِقاب، بَطَلَتْ أعمالُهمُ التي كانوا يَرجونَ الانتفاعَ بها، وهمْ لا يُجْزَونَ ولا يُحاسَبونَ إلاّ على ما كانوا عليهِ منَ الكُفرِ والمعاصي، التي استمرُّوا عليها.
وبعدَ أنْ ذهبَ موسَى إلى مُناجاةِ ربِّهِ في الجَبل، صنعَ لهمْ رَجُلٌ منَ السَّامِرَةِ في غيابهِ مِنْ حُليٍّ وزِينةٍ صورةَ عِجْلٍ مُجَسَّداً، يَعني تِمثالاً على شَكلِه، وجَعلَهُ على هَيئةٍ بحيث يُخرِجُ صوتاً كصَوتِ البقَر، وقالَ لهم: هذا هوَ إلهكُم! فالتفَّ عليهِ القومُ وصَاروا يَعبدونَه!!
ألا يرَى هؤلاءِ الجهَلةُ الضالُّونَ أنَّ هذا التمثالَ لا يَقدِرُ على الكلام، ولا أنْ يُرشِدَهمْ إلى خَير!! لقدِ اتَّخذوا ما صَنعوهُ بأيديهمْ إلهاً يَعبدونَه، فكانوا كافِرين، وعلى مُنكَرٍ عَظيم.
ولمَّا رجعَ موسَى عليهِ السلامُ مِنْ مناجاةِ ربِّه، وقدْ أخبرَهُ سبحانَهُ بما صَنعَ قومهُ مِنْ بعدِه، غَضِبَ غَضَباً شَديداً، وقالَ لهم: بئسَ الذي فَعلتُموهُ مِنْ عبادةِ العِجلِ في غيبَتي، فهلِ استعجلتُمْ بهذا عقوبةَ اللهِ ونِقمتَهُ بكم؟!
وألقَى ألواحَ التوراةِ التي جاءَ بها على الأرضِ مِنْ شدَّةِ غَضَبهِ على قَومِه، واتَّجهَ إلى أخيهِ هارونَ وكانَ نائبَهُ في القَومِ، وأخذَ بشَعرِ رأسهِ يَجُرَّهُ نحوَه، وهوَ يظنُّ أنَّهُ قَصَّرَ في نَهيهم، فأجابَهُ عليهِ السَّلامُ بأنَّهُ غُلِبَ على أمرِه، وقال: يا أخي، لقدِ استذلَّني عبَدَةُ العِجلِ ولم يُبالوا بي، لِقلَّةِ مَنْ بقيَ معي وأيَّدَني عليهم، حتَّى همُّوا أنْ يَقتلوني لمِا بَذلتُ منْ نُصحٍ في نَهيهمْ عنْ ذلك، فلا تأخُذْ بشعرِ رأسي ولا تَغضَبْ عليَّ حتَّى لا تُسِرَّ الأعداءَ وتُفرِحَهمْ بذلك، ولا تَجعلني في عِدادِ الظَّالمينَ المُجرِمين، ولا تَخلِطْني بهم.
إنَّ الذينَ اتَّخذوا العِجلَ إلهاً لهمْ يَعبُدونَهُ مِنْ دونِ الله، سيَلحَقُهمْ غَضَبُ اللهِ وعُقوبتُه، وذِلَّةٌ واستِكانةٌ إلى يَومِ القِيامة، كما أغضَبوا ربَّهمْ واستهانوا بأمرِه، وهذا هوَ جزاءُ الكاذِبينَ على الله، المفتَرينَ على دينِه.
الذينَ يتَّبِعونَ الرسُولَ محمَّداً صلى الله عليه وسلَّم، الذي أرسلَهُ اللهُ لتبليغِ دِينِه، النبيَّ الأميَّ الذي ما كانَ يَقرأ ولا يَكتب، وهذا مُعجِزةٌ لهُ صلى الله عليه وسلم، -وصِفةُ الأميَّةِ لا تُذكَرُ للمَدحِ لغَيرِه - وهوَ الذي يَجِدهُ أهلُ الكتابِ منَ اليهودِ والنصارَى مَكتوباً عندَهم، اسمَهُ وصِفَتَه، في التوراةِ والإنجيل، يأمرُ الناسَ بالخَيرِ والتقوَى ومكارمِ الأخلاقِ والعَملِ الصَّالح، ويَنهاهُمْ عنِ الشرِّ والشِّركِ وقَطعِ الأرحامِ والفَواحِش، ويُحِلُّ لهمْ طيِّباتِ الأطعِمَةِ والذبائحِ ممّا كانَ يُحَرِّمُهُ أهلُ الجاهليَّةِ دونَ حقّ، ويُحَرِّمُ عليهمْ ما خَبُثَ منها، كالمَيتةِ ولحمِ الخنزيرِ، ويُيسِّرُ عليهمْ أمورَ دينِهم، ويَرفَعُ عنهمْ ما يُثقِلُ كاهلَهم، وما فيهِ تَكاليفُ شاقَّة، وأوامرُ صَعبةٌ تطوِّقُهم، ممّا كانَ مَفروضاً على بَني إسرائيلَ عُقوبةً لهم.
فالذينَ آمَنوا برسالةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونبوَّته، ووقَّروه، ونَصروهُ في جِهادهِ ضدَّ الكُفرِ والشِّرك، واتَّبعوا الكتابَ الذي أنزلَهُ اللهُ عليه، أولئكَ همُ الفائزونَ في الدُّنيا والآخِرَة.
قُلْ أيُّها النبيُّ الكريم: أيُّها الناس، إنِّي مُرسَلٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ إليكمْ كافَّة، وليسَ للعرَبِ وحدَهم، هوَ اللهُ الذي لهُ مُلكُ السَّماواتِ والأرضِ وما بينَهما، لا إلهَ للكَونِ غيرُه، ولا مَعبودَ بحقٍّ سِوَاه، الذي يُحيي ويُميت، ولا يَقدِرُ على ذلكَ أحدٌ سِوَاه، فآمِنوا باللهِ الواحدِ الذي لا شَريكَ له، وبرسولهِ محمَّد، النبيِّ الأمِّيّ، كما هوَ مِنْ صِفَتهِ في التوراةِ والإنجيل، الذي يؤمِنُ بالله، وبما أنزلَهُ عليهِ وعلى سائرِ إخوانهِ منَ الرسُلِ مِنْ كُتبٍ ووَحي، واتَّبِعوهُ فيما يُخبِرُكمْ بهِ وما يَطلُبهُ منكم، لتَهتدوا وتَفوزوا، فإذا لم تتَّبعوهُ ضَللتُمْ وهَلكتُم.
ومِنْ بَني إسْرائيلَ طائفة، أو جَماعةٌ عَظيمة، يَتَّبِعونَ الحقَّ ويَهتدونَ به، وبهِ يَحكُمون، وبالعَدلِ يَقومون، ويُرشِدونَ الناسَ إليه. وهذا مُقابِلَ مَنْ عصَى منهم. وكانوا في عَهدِ موسَى، أو مِنْ بعده.