تفسير سورة الأعراف

  1. سور القرآن الكريم
  2. الأعراف
7

﴿وَإِذۡ أَنجَيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ الۡعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ﴾ [الأعراف:141]


وتذكَّروا كيفَ نجّاكمُ اللهُ منْ آلِ فِرعونَ بإهلاكِهم، وكانوا يُذيقونَكمْ أسوَأَ العَذابِ وأشَدَّه، فيَقتُلونَ مواليدَكمُ الذُّكور، ويُبقُونَ على بناتِكمْ للسُّخرةِ والخِدمة، وفي ذلكَ بلاءٌ لكمْ واختِبارٌ كبيرٌ منْ ربِّكم.

﴿۞وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ اخۡلُفۡنِي فِي قَوۡمِي وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [الأعراف:142]


وقدْ وعَدْنا موسَى أنْ نُكَلِّمَه، وأنْ نُنْزِلَ عليهِ كتابَ هدايةٍ وتَشريعٍ لبَني إسرائيل، فأمرناهُ بصيامِ ثلاثينَ يوماً، وأنْ يَزيدَ عليها عَشرةَ أيَّام، فاكتَملَ وقتُ وعدِ اللهِ لهُ أربعينَ ليلة.

فقالَ لأخيهِ هارونَ – النبيِّ - وهوَ يتهيَّأ للذَّهابِ إلى الجبلِ للمناجاة: كُنْ خَليفَتي في بَني إسْرائيلَ أثناءَ غيابي، وكُنْ مُرشِداً لهمْ إلى الطَّاعةِ والامتِثال، بالرِّفقِ والحِلمِ والإحسانِ ونبذِ الاختِلاف، ولا تُطِعْ سَبيلَ مَنْ سَلكَ الفسَادَ وعَصَى الله، ولا توافقْهُ على هَواه، بل اثبُتْ على ما فيهِ رضا الله، والتَزمِ الصِّراطَ المستَقيم.

﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ انظُرۡ إِلَى الۡجَبَلِ فَإِنِ اسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأعراف:143]


ولمّا جاءَ موسَى في الوَقتِ المحدَّدِ له، وكلَّمَهُ ربُّه، قالَ عليهِ السَّلام: ربِّي أرِني أنظُرْ إليك، قالَ اللهُ تعالَى: لا قُدرةَ لكَ على رُؤيتي في الحياةِ الدُّنيا، ولكنِ انظُرْ إلى جبلِ (طُورِ) سَيناءَ الذي هوَ أقوَى منك، فإذا ثبتَ في مكانهِ ولم يُفتِّتْهُ التجلِّي فسوفَ تَراني. فلمَّا تجلَّى اللهُ سُبحانَهُ للجبلِ جَعلَهُ مَدكوكاً مُتفتِّتاً مُستوياً بالأرضِ، وسقطَ موسَى مَغشيًّا عليهِ مِنْ هَولِ ما رَأى، فلمّا أفاقَ مِنْ غَشيتهِ، قالَ تَعظيماً لأمرِ الله: سُبحانَكَ ما أعظَمك، إنِّي تُبتُ إليكَ مِنْ أنْ أسألكَ مِنْ غَيرِ إذن، أو أنْ أسألَكَ الرؤية، وأنا أوَّلُ المؤمِنينَ منْ بَني إسْرائيل.

﴿قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّي اصۡطَفَيۡتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي فَخُذۡ مَآ ءَاتَيۡتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّـٰكِرِينَ﴾ [الأعراف:144]


قالَ اللهُ تعالَى: يا موسَى، إنِّي اخترتُكَ على النَّاسِ الموجودينَ في زمانِك، بأنْ أنزلتُ عليكَ أسفارَ التَّوراة، وبتَكليمي إيّاك، فخُذْ ما أعطيتُكَ مِنْ شَرفِ الاصطفاءِ والتَّفضيل، واشكرْ للهِ جليلَ نِعمَتهِ عَليك.

﴿وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي الۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [الأعراف:145]


وكتَبنا لهُ في ألواحِ التَّوراةِ مِن كُلِّ ما أُمِروا به ونُهوا عنه، مَواعِظَ وأحكاماً مُفَصَّلة، مُبيِّنةً للحلالِ والحرام، والحُدودِ والأحكام، منْ أمرٍ ونَهي، ومِن كلِّ ما تَحتاجُ إليهِ الأمَّةُ في دينِها، فخُذها بجِدٍّ وعَزمٍ على الطَّاعة، وأمُرْ بَني إسرائيلَ أنْ يأخُذوا أحسنَ ما فيها، وهوَ ما أوجبَهُ اللهُ عليهمْ فيها وهَداهُمْ إليه، ممّا فيهِ خيرُهمْ ونجاتُهم.

وستَرونَ عاقبةَ مَنْ خالفَ أمري وخرجَ عنْ طاعَتي كيفَ يَكونُ مَصرَعُه، فاحترِزوا ولا تتَّبعوا طُرقَ أهلِ الفِسقِ الخارِجينَ عنِ الطَّاعة.

﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ الۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ الرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ الۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ﴾ [الأعراف:146]


سأُبعِدُ عنْ دَلائل ِ عَظمتي وأحكامِ شَريعتي الذينَ يَتكبَّرونَ على عبادِي ويُحاربونَ أوليائي بغيرِ الحَق؛ عقوبةً لهمْ على عِنادِهمْ واستِكبارِهم، فلا يَنتَفِعونَ بآياتي الجليلة، التي يَستأهِلُها المؤمِنونَ المصَدِّقونَ وحدَهم.

فإذا شاهدَ المتكبِّرونَ المُعجِزاتِ والدَّلائلَ على أيدي رُسلي لم يؤمِنوا بها، وإذا رأوا طَريقَ النَّجاة، والهُدَى والسدَاد، لم يَسلُكوها.

وإذا رَأوا طَريقَ الهَلاكِ والضَّلالِ اختارُوها لأنفسِهمْ ولم يَتركوها، لموافقتِها أهواءَهمْ وشَهواتِهم، وهذا لأنَّهمْ كذَّبوا بأدلَّتِنا الواضِحَةِ الصَّادقة، وحُجَجِنا البيِّنةِ الكاشِفة، المؤدِّيةِ إلى الحقِّ واليَقين، وقدْ كانوا ساهينَ عنِ التفكيرِ فيها والاتِّعاظِ بها.

﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَلِقَآءِ الۡأٓخِرَةِ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡۚ هَلۡ يُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف:147]


والمكذِّبونَ بآياتِنا، المصِرُّونَ على الكُفرِ بها وبلقاءِ الدَّارِ الآخِرة، حيثُ موعِدُ الثوابِ والعِقاب، بَطَلَتْ أعمالُهمُ التي كانوا يَرجونَ الانتفاعَ بها، وهمْ لا يُجْزَونَ ولا يُحاسَبونَ إلاّ على ما كانوا عليهِ منَ الكُفرِ والمعاصي، التي استمرُّوا عليها.

﴿وَاتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِيِّهِمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٌۚ أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّهُۥ لَا يُكَلِّمُهُمۡ وَلَا يَهۡدِيهِمۡ سَبِيلًاۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ﴾ [الأعراف:148]


وبعدَ أنْ ذهبَ موسَى إلى مُناجاةِ ربِّهِ في الجَبل، صنعَ لهمْ رَجُلٌ منَ السَّامِرَةِ في غيابهِ مِنْ حُليٍّ وزِينةٍ صورةَ عِجْلٍ مُجَسَّداً، يَعني تِمثالاً على شَكلِه، وجَعلَهُ على هَيئةٍ بحيث يُخرِجُ صوتاً كصَوتِ البقَر، وقالَ لهم: هذا هوَ إلهكُم! فالتفَّ عليهِ القومُ وصَاروا يَعبدونَه!!

ألا يرَى هؤلاءِ الجهَلةُ الضالُّونَ أنَّ هذا التمثالَ لا يَقدِرُ على الكلام، ولا أنْ يُرشِدَهمْ إلى خَير!! لقدِ اتَّخذوا ما صَنعوهُ بأيديهمْ إلهاً يَعبدونَه، فكانوا كافِرين، وعلى مُنكَرٍ عَظيم.

﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِيٓ أَيۡدِيهِمۡ وَرَأَوۡاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمۡ يَرۡحَمۡنَا رَبُّنَا وَيَغۡفِرۡ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الۡخَٰسِرِينَ﴾ [الأعراف:149]


ولمّا نَدِموا على ما فَعلوا أشدَّ الندم، وعَلِموا أنَّهمْ كانوا على ضَلالٍ مُبينٍ في عِبادةِ العِجلَ، تابوا وأنابوا، وأدرَكوا أنَّهمْ قدِ اقتَرفوا إثماً كبيراً وعَملاً شَنيعاً، وقالوا: إذا لم يُدرِكنا ربُّنا برحمتهِ وعَفوِه، ويَتجاوَزْ عنْ خَطئنا ويتُبْ علينا، لنكونَنَّ منَ الهالِكين.

﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى الۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ابۡنَ أُمَّ إِنَّ الۡقَوۡمَ اسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ الۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ الۡقَوۡمِ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الأعراف:150]


ولمَّا رجعَ موسَى عليهِ السلامُ مِنْ مناجاةِ ربِّه، وقدْ أخبرَهُ سبحانَهُ بما صَنعَ قومهُ مِنْ بعدِه، غَضِبَ غَضَباً شَديداً، وقالَ لهم: بئسَ الذي فَعلتُموهُ مِنْ عبادةِ العِجلِ في غيبَتي، فهلِ استعجلتُمْ بهذا عقوبةَ اللهِ ونِقمتَهُ بكم؟!

وألقَى ألواحَ التوراةِ التي جاءَ بها على الأرضِ مِنْ شدَّةِ غَضَبهِ على قَومِه، واتَّجهَ إلى أخيهِ هارونَ وكانَ نائبَهُ في القَومِ، وأخذَ بشَعرِ رأسهِ يَجُرَّهُ نحوَه، وهوَ يظنُّ أنَّهُ قَصَّرَ في نَهيهم، فأجابَهُ عليهِ السَّلامُ بأنَّهُ غُلِبَ على أمرِه، وقال: يا أخي، لقدِ استذلَّني عبَدَةُ العِجلِ ولم يُبالوا بي، لِقلَّةِ مَنْ بقيَ معي وأيَّدَني عليهم، حتَّى همُّوا أنْ يَقتلوني لمِا بَذلتُ منْ نُصحٍ في نَهيهمْ عنْ ذلك، فلا تأخُذْ بشعرِ رأسي ولا تَغضَبْ عليَّ حتَّى لا تُسِرَّ الأعداءَ وتُفرِحَهمْ بذلك، ولا تَجعلني في عِدادِ الظَّالمينَ المُجرِمين، ولا تَخلِطْني بهم.

﴿قَالَ رَبِّ اغۡفِرۡ لِي وَلِأَخِي وَأَدۡخِلۡنَا فِي رَحۡمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرۡحَمُ الرَّـٰحِمِينَ﴾ [الأعراف:151]


قالَ موسَى عليهِ السَّلامُ داعياً ربَّهُ لمّا تبيَّنَ عُذْرُ أخيه: اللهمَّ اغفرْ لي ما صَنعتُ بأخي واتَّهمتُهُ به، وتجاوَزْ عنهُ إنْ كانَ قدْ قَصَّر في الإنكار، وأدخِلنا في رَحمتِكَ الواسِعَةِ في الدُّنيا والآخِرَة، فأنتَ أرحمُ مَنْ رَحِم.

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الۡعِجۡلَ سَيَنَالُهُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَذِلَّةٞ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي الۡمُفۡتَرِينَ﴾ [الأعراف:152]


إنَّ الذينَ اتَّخذوا العِجلَ إلهاً لهمْ يَعبُدونَهُ مِنْ دونِ الله، سيَلحَقُهمْ غَضَبُ اللهِ وعُقوبتُه، وذِلَّةٌ واستِكانةٌ إلى يَومِ القِيامة، كما أغضَبوا ربَّهمْ واستهانوا بأمرِه، وهذا هوَ جزاءُ الكاذِبينَ على الله، المفتَرينَ على دينِه.

والذلُّ هوَ هزائمُهمْ وما تعرَّضوا لهُ مِنْ قَتل، وضُرِبَ عليهمْ مِنْ جِزية، وعاشوا تحتَ حُكمِ الآخَرين.

وقالَ صاحبُ الظِّلال: علمَ اللهُ أنَّ الذينَ اتَّخذوا العِجلَ لنْ يَتوبوا توبةً مَوصولة، وأنَّهمْ سيَرتكِبونَ ما يُخرِجُهمْ مِنْ تلكَ القاعِدة، وهكذا كان، فقدْ ظلَّ بَنو إسْرائيلَ يَرتَكِبونَ الخطيئةَ بعدَ الخطيئة، ويُسامِحُهمُ اللهُ المرَّةَ بعدَ المرَّة، حتَّى انتَهَوا إلى الغضَبِ الدائم، واللَّعنةِ الأخيرةِ.

﴿وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّـَٔاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِهَا وَءَامَنُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [الأعراف:153]


والذينَ ارتَكبوا السيِّئات، صَغيرةً كانتْ أو كبيرة، حتَّى لو كانَتْ كُفراً، ثمَّ تابوا عنها، ونَدِموا، وعَزَموا على عَدمِ العَودةِ إليها، وآمَنوا إيماناً صَحيحاً، فإنَّ ربَّكَ يَغفِرُ لهم، ويَتوبُ عليهم، ويَرحَمُهم.

قالَ الفَخرُ الرازيّ: وهذا مِنْ أعظمِ ما يُفيدُ البِشارةَ والفرحَ للمُذنِبين.

﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الۡغَضَبُ أَخَذَ الۡأَلۡوَاحَۖ وَفِي نُسۡخَتِهَا هُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ هُمۡ لِرَبِّهِمۡ يَرۡهَبُونَ﴾ [الأعراف:154]


ولمّا سكنَتْ سَوْرةُ الغضَبِ عندَ موسَى، أخذَ ألواحَ التوراةِ التي كانَ قدْ ألقاها، وكُتِبَ فيها ما هوَ بيانٌ للحقّ، وهِدايةٌ للناسِ منَ الضَّلال، ورحمةٌ بهمْ منَ العَذاب، وإرشادٌ لهمْ إلى ما فيهِ الخيرُ والصَّلاح، لمنْ يخشَوْنَ اللهَ ويحبُّونَ أنْ يتَّبعوا هَديه، ويخضَعوا لأحكامِه.

﴿وَاخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِينَ رَجُلٗا لِّمِيقَٰتِنَاۖ فَلَمَّآ أَخَذَتۡهُمُ الرَّجۡفَةُ قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِيَّـٰيَۖ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآۖ إِنۡ هِيَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهۡدِي مَن تَشَآءُۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغۡفِرۡ لَنَا وَارۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَيۡرُ الۡغَٰفِرِينَ﴾ [الأعراف:155]


واختارَ موسَى مِنْ بَني إسرائيلَ سَبعينَ رَجُلاً، ليَحضروا في وقتٍ معيَّنٍ وعدَهمُ اللهُ فيه، بمكانٍ ما، ربَّما لإعلانِ التَّوبةِ وطلبِ المغفِرَةِ لبَني إسْرائيل، ولكنَّهمْ هناكَ طَلبوا رؤيةَ اللهِ ليُصَدِّقوا موسَى فيما جاءَهمْ بهِ مِنَ الفَرائضِ في الألواح! فأخذَتْهمُ الرعْدةُ وصُعِقوا، فتوَجَّهَ نبيُّ اللهُ موسَى إلى ربِّهِ في تَذلُّلٍ وخُضوع، يُريدُ رفعَ غَضبهِ ومَقتهِ عنهم، وقال: اللهمَّ ربَّنا إنَّكَ لو أرَدتَ إهلاكَهمْ لأهلكتَهمْ قبلَ هذا الوقت، منْ قِبَلِ فِرعَونَ أو عندَ عبادتِهمُ العِجل، ولكنَّكَ تَجاوزتَ ورحِمْت، فاعفُ عنهمْ بعفوِكَ وكَرَمِك، وإيّايَ كذلك.

أتُهلِكُنا يا ربَّنا بما اقترَفَهُ السُّفهاءُ منّا، مِنْ عِبادةِ العِجل، أو عنادِهمْ وسوءِ أدبِهمْ معَ جلالِكَ وعظمتِك. والذي وقعَ منهمْ ما هو إلاّ ابتِلاءٌ واختِبارٌ منك، فهَدَيتَ بذلكَ مَنْ شِئتَ منهمْ وعَصَمْتَهم، وأضلَلتَ آخَرينَ منهمْ يَستَحقِّونَ الضَّلال. أنتَ يا اللهُ ناصِرُنا وحافِظُنا، والقائمُ بأمورِنا، فاغفِرْ لنا ما اقترَفنا، وارحَمْنا برحمتِك، فأنتَ خيرُ مَنْ غَفرتَ ورَحِمْت، ولا يَغفِرُ الذنوبَ إلاّ أنت.

وفيهِ استِعطافُ موسَى لرأفةِ اللهِ ورحمتِه، وتَبرُّؤٌ مِنْ فِعلِ السُّفهاء.

﴿۞وَاكۡتُبۡ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي الۡأٓخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَآ إِلَيۡكَۚ قَالَ عَذَابِيٓ أُصِيبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَآءُۖ وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأعراف:156]


اللهمَّ واقسِمْ لنا في هذهِ الحياةِ الدِّنيا جِماعَ الخَيرِ والعافيَة، والتوفيقَ لطاعتِكَ ورِضاك، وكذا في الحياةِ الأخرَى، لنفوزَ بالمثوبةِ الحُسنَى، إنّا تُبنا إليك.

قالَ اللهُ ما معناه: عُقوبَتي وعَذابي مِنْ شَأني، أصيبُ بهِ مَنْ أشاءُ دونَ تدخُّلٍ منْ غَيري، وليَ الحِكمَةُ والعَدلُ في ذلكَ كلِّه.

ورحمَتي عَظيمةٌ شامِلةٌ عامَّة، فسأثبتُها لعِباديَ المؤمِنين، وأخُصُّ بها الذينَ يَبتعِدونَ عنِ الشِّركِ والمعَاصي، ويَخافونَ يومَ الحِساب، ويَخشَونَ عُقوبةَ الله، ويَدفعونَ زكاةَ أموالِهمْ للفُقراءِ والمسَاكين، ويؤمِنونَ بآياتِنا كلِّها.

﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الۡأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي التَّوۡرَىٰةِ وَالۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِالۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ الۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ الۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَالۡأَغۡلَٰلَ الَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الأعراف:157]


الذينَ يتَّبِعونَ الرسُولَ محمَّداً صلى الله عليه وسلَّم، الذي أرسلَهُ اللهُ لتبليغِ دِينِه، النبيَّ الأميَّ الذي ما كانَ يَقرأ ولا يَكتب، وهذا مُعجِزةٌ لهُ صلى الله عليه وسلم، -وصِفةُ الأميَّةِ لا تُذكَرُ للمَدحِ لغَيرِه - وهوَ الذي يَجِدهُ أهلُ الكتابِ منَ اليهودِ والنصارَى مَكتوباً عندَهم، اسمَهُ وصِفَتَه، في التوراةِ والإنجيل، يأمرُ الناسَ بالخَيرِ والتقوَى ومكارمِ الأخلاقِ والعَملِ الصَّالح، ويَنهاهُمْ عنِ الشرِّ والشِّركِ وقَطعِ الأرحامِ والفَواحِش، ويُحِلُّ لهمْ طيِّباتِ الأطعِمَةِ والذبائحِ ممّا كانَ يُحَرِّمُهُ أهلُ الجاهليَّةِ دونَ حقّ، ويُحَرِّمُ عليهمْ ما خَبُثَ منها، كالمَيتةِ ولحمِ الخنزيرِ، ويُيسِّرُ عليهمْ أمورَ دينِهم، ويَرفَعُ عنهمْ ما يُثقِلُ كاهلَهم، وما فيهِ تَكاليفُ شاقَّة، وأوامرُ صَعبةٌ تطوِّقُهم، ممّا كانَ مَفروضاً على بَني إسرائيلَ عُقوبةً لهم.

فالذينَ آمَنوا برسالةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونبوَّته، ووقَّروه، ونَصروهُ في جِهادهِ ضدَّ الكُفرِ والشِّرك، واتَّبعوا الكتابَ الذي أنزلَهُ اللهُ عليه، أولئكَ همُ الفائزونَ في الدُّنيا والآخِرَة.

﴿قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا الَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَـَٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الۡأُمِّيِّ الَّذِي يُؤۡمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [الأعراف:158]


قُلْ أيُّها النبيُّ الكريم: أيُّها الناس، إنِّي مُرسَلٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ إليكمْ كافَّة، وليسَ للعرَبِ وحدَهم، هوَ اللهُ الذي لهُ مُلكُ السَّماواتِ والأرضِ وما بينَهما، لا إلهَ للكَونِ غيرُه، ولا مَعبودَ بحقٍّ سِوَاه، الذي يُحيي ويُميت، ولا يَقدِرُ على ذلكَ أحدٌ سِوَاه، فآمِنوا باللهِ الواحدِ الذي لا شَريكَ له، وبرسولهِ محمَّد، النبيِّ الأمِّيّ، كما هوَ مِنْ صِفَتهِ في التوراةِ والإنجيل، الذي يؤمِنُ بالله، وبما أنزلَهُ عليهِ وعلى سائرِ إخوانهِ منَ الرسُلِ مِنْ كُتبٍ ووَحي، واتَّبِعوهُ فيما يُخبِرُكمْ بهِ وما يَطلُبهُ منكم، لتَهتدوا وتَفوزوا، فإذا لم تتَّبعوهُ ضَللتُمْ وهَلكتُم.

﴿وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰٓ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِالۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ﴾ [الأعراف:159]


ومِنْ بَني إسْرائيلَ طائفة، أو جَماعةٌ عَظيمة، يَتَّبِعونَ الحقَّ ويَهتدونَ به، وبهِ يَحكُمون، وبالعَدلِ يَقومون، ويُرشِدونَ الناسَ إليه. وهذا مُقابِلَ مَنْ عصَى منهم. وكانوا في عَهدِ موسَى، أو مِنْ بعده.

﴿وَقَطَّعۡنَٰهُمُ اثۡنَتَيۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمٗاۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ إِذِ اسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥٓ أَنِ اضۡرِب بِّعَصَاكَ الۡحَجَرَۖ فَانۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ اثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۚ وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡهِمُ الۡغَمَٰمَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡهِمُ الۡمَنَّ وَالسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾ [الأعراف:160]


وفرَّقنا بني إسْرائيلَ وصيَّرناهمْ اثنتَي عشرةَ أمَّةً مِنْ قَبائلهم. وأوحَينا إلى نبيِّهمْ موسَى عندَما طَلَبَ منهُ قومهُ الماءَ مِنَ العطَشِ وهمْ في التِّيه، أنِ اضرِبِ الحَجرَ بعَصاك، فانفجرتْ منهُ اثنتا عَشرةَ عَيناً؛ مُعجِزةً له، لكلِّ قبيلةٍ منَ القبائلِ المذكورةِ عَينٌ خاصٌّ بها قدْ عرفَتْها.

وقدْ أنعَمنا عليهمْ وهمْ في ظُروفٍ شَديدةٍ في التِّيه، فظلَّلنا عليهمُ السَّحابَ الأبيضَ ليَقيَهُمْ حرَّ الشَّمسِ المُحرِق، وكانَ يَسيرُ الغَيمُ بسَيرِهم، ويَقِفُ بوقوفِهم!

وأنزلنا عليهمْ طَعاماً شَهيّاً لا يَتعَبونَ في تَحصيله، وهوَ المَنّ، الذي يَجدونَهُ على الأشجَار حُلواً كالعَسل، وطائرُ السُّمانَى، القريبُ المنال، فكُلوا هذا الطعامَ الطيِّبَ المستَلذَّ هَنيئاً مَرِيئاً.

ومَا أَدخَلوا بعِصيانِهمْ نَقصًا في مُلكِنا وسُلطانِنا، فنحنُ أعزُّ مِن أنْ نُظلَم، ولكنَّ بَني إسرائيلَ جَحدوا نِعمتَنا، وأَضَرُّوا بأنفُسِهم، فكانتْ عاقبةُ ظلمِهمْ على أنفسِهم.