﴿وَالۡفَجۡرِ﴾ [الفجر :1]
أُقسِمُ بالفَجر.
﴿وَلَيَالٍ عَشۡرٖ﴾ [الفجر :2]
واللَّيالي العَشرِ الأُوَلِ مِنْ شَهرِ ذي الحِجَّة.
في صَحيحِ ابنِ حِبَّانَ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ أيَّامٍ العمَلُ الصَّالحُ فيها أحَبُّ إلى اللهِ مِنْ هذهِ الأيَّامِ العَشرِ...". وهوَ في صَحيحِ البخاريِّ وغيرِهِ بألفاظٍ قَريبة.
وذكرَ بَعضُهمْ أنَّ المقصُودَ العَشرُ الأواخِرُ مِنْ شَهرِ رَمَضان.
﴿وَالشَّفۡعِ وَالۡوَتۡرِ﴾ [الفجر :3]
والشَّفْعِ، الذي ذُكِرَ أنَّهُ يَومُ عيدِ الأضحَى، لكونِهِ العاشِرَ، والوَتر: يَومُ عَرَفَة، لأنَّهُ التَّاسِع. وذُكِرَتْ أقوالٌ أُخرَى.
﴿وَالَّيۡلِ إِذَا يَسۡرِ﴾ [الفجر :4]
واللَّيلِ إذا سارَ ومضَى.
﴿هَلۡ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٞ لِّذِي حِجۡرٍ﴾ [الفجر :5]
هلْ فيما ذُكِرَ مِنَ القسَمِ اكتِفاءٌ لذي عَقلٍ ولُبّ، وإقناعٌ لمَنْ لهُ إدراكٌ وفِكر؟ نعم.
قالَ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ الله: هذا القسَمُ هوَ بأوقَاتِ العِبادَة، وبنَفسِ العِبادَة، مِنْ حَجٍّ وصَلاة، وغَيرِ ذلكَ مِنْ أنوَاعِ القُرَبِ التي يَتقَرَّبُ بها المُتَّقونَ المُطيعونَ لله، الخائفونَ منه، المُتواضِعونَ لدَيه، الخاشِعونَ لوَجهِهِ الكَريم.
﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ [الفجر :6]
ألمْ تَعلَمْ كيفَ فعلَ رَبُّكَ بقَبيلَةِ عَاد؟ وكانوا عُتاةً جبَّارينَ مُتمَرِّدين، مُكذِّبينَ للرسُل.
﴿إِرَمَ ذَاتِ الۡعِمَادِ﴾ [الفجر :7]
وهمْ عادٌ الأُوَل، وقدْ يُنسَبونَ إلى جَدِّهمْ إِرَم، أو أنَّهُ تَسميَةٌ للقَبيلَة، أو للمَدينة... صاحِبَةِ العِماد، لأنَّهمْ كانوا يَسكنونَ الخيام، التي تُرفَعُ بالأعمِدَةِ الشِّداد، وكانوا أشِدَّاءَ أيضًا. أو أنَّ العُمُدَ وَصفٌ للمَدينةِ إِرَم، أو لبِناءٍ بنَوه.
﴿الَّتِي لَمۡ يُخۡلَقۡ مِثۡلُهَا فِي الۡبِلَٰدِ﴾ [الفجر :8]
التي لم يُخلَقْ مثلُها في عِظَمِ جِسْمِ أفرادِها وقوَّتِهم، إذا كانَ المقصودُ قَبيلةَ عاد. أو أنَّها البِنايَة، أو المدِينة، ذاتُ البِناءِ العالي الرَّفيع، أو ذاتُ الأساطِين، التي لم يُخلَقْ مثلُها سَعَةً وحُسْنَ بُيوتٍ وبَساتينَ في بِلادِ الدُّنيَا.
وذُكِرَ في عَصرِنا أنَّها اكتُشِفَتْ تحتَ كُثبانِ الأحقَافِ في مِنطقَةِ ظَفَارِ بعُمَان.
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخۡرَ بِالۡوَادِ﴾ [الفجر :9]
وانظُرْ كيفَ فعلَ رَبُّكَ بقَبيلَةِ ثَمودَ قَومِ النبيِّ صالحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، وكانوا مُشرِكينَ مُعانِدينَ أقويَاء، يَقطَعونَ الصُّخورَ بالجِبالِ في وادي القُرَى، يَنحِتونَها ويَثقُبونَها ويُزَخرِفونَها، ويَجعَلونَها بُيوتًا. وما زالَتْ آثارُهمْ مَوجودَةً في "مَدائنِ صالحٍ" ببلادِ الحرَمَين.
﴿وَفِرۡعَوۡنَ ذِي الۡأَوۡتَادِ﴾ [الفجر :10]
وفِرعَونَ صَاحبِ الجُنودِ الذينَ كانوا يُقوُّونَ حُكمَه.
﴿الَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي الۡبِلَٰدِ﴾ [الفجر :11]
الذينَ ظلَموا وتجبَّروا في الأرْضِ بالكُفرِ والمعاصي.
﴿فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا الۡفَسَادَ﴾ [الفجر :12]
وعاثُوا فيها ظُلمًا وأذًى وفَسادًا.
﴿فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ﴾ [الفجر :13]
فأنزلَ اللهُ بهؤلاءِ المشرِكينَ المُفسِدينَ العُقوبَةَ وأنوَاعَ العَذاب.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالۡمِرۡصَادِ﴾ [الفجر :14]
إنَّ اللهَ يُراقِبُ أعمَالَ العِباد، يَسمَعُ ما يَقولون، ويرَى ما يَفعَلون، ويَعلمُ ما يُضمِرون، وسيُجازي كُلاًّ بما يَستَحِقّ.
﴿فَأَمَّا الۡإِنسَٰنُ إِذَا مَا ابۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ﴾ [الفجر :15]
فإذا اختبَرَ اللهُ الإنسَانَ بالغِنَى والعافية، فأكرَمَهُ بالمَال، ونَعَّمَهُ بما وسَّعَ عليهِ مِنْ زينَةِ الدُّنيَا، وجعلَ لهُ وَجاهَةً أو مَنصِبًا، اعتقَدَ أنَّ ذلكَ إكرامٌ مِنَ اللهِ له. وليسَ كذلك، بلْ هوَ ابتِلاءٌ وامتِحانٌ منه، ليَنظُرَ هلْ يَشكرُ أمْ يَكفُر، وهلْ يَعدِلُ أمْ يَظلِم، وهلْ يُطيعُ اللهَ أمْ يَعصيه؟
﴿وَأَمَّآ إِذَا مَا ابۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ﴾ [الفجر :16]
وأمَّا إذا ضيَّقَ اللهُ عليه، فابتَلاهُ بالفَقر، اعتبَرَ ذلكَ عُقوبَةً لهُ ومَهانَة، وأنَّ اللهَ لو لم يُرِدْ إهانتَهُ لَما ضيَّقَ عليهِ في رِزقِه! وإنَّما أرادَ امتِحانَه، ليَنظُرَ هلْ يَكونُ مؤمِنًا صابِرًا رَاضيًا بقَضاءِ الله، أمْ مُتضَجِّرًا جَزوعًا يائسًا، ضَعيفَ الإيمَانِ ساخِطًا؟
﴿كَلَّاۖ بَل لَّا تُكۡرِمُونَ الۡيَتِيمَ﴾ [الفجر :17]
كلاَّ لِما زعَمتُمْ مِنْ أمرِ الابتِلاء، فليسَ بَسطُ الرِّزقِ دَليلاً على الكرَامَة، وليسَ تَضييقُهُ دَليلاً على الإهانَةِ والإهمَال، بلْ لكمْ أفعالٌ أكثَرُ شَرًّا ممَّا ذُكِر، فإنَّ اللهُ يُكرِمُكمْ بكثرَةِ المَال، ولكنَّكمْ لا تَقومُونَ بحقِ العَطاء، ولا تُكرِمونَ اليَتيمَ بالإحسَانِ إليه.
﴿وَلَا تَحَـٰٓضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الۡمِسۡكِينِ﴾ [الفجر :18]
ولا يَحُثُّ بَعضُكمْ بَعضًا على إطعَامِ المسكِين، الذي لا يَجِدُ ما يأكُل.
﴿وَتَأۡكُلُونَ التُّرَاثَ أَكۡلٗا لَّمّٗا﴾ [الفجر :19]
وتأكلونَ الميرَاثَ بشَراهَةٍ وجشَع، وتَخلِطونَ بينَ الحَلالِ والحرَام، وتَجمَعونَ فيهِ بينَ نَصيبِكمْ ونَصيبِ غَيرِكم.
﴿وَتُحِبُّونَ الۡمَالَ حُبّٗا جَمّٗا﴾ [الفجر :20]
وتُحِبُّونَ جَمعَ المَالِ حُبًّا كثِيرًا طَاغيًا، لا يُبقي في نُفوسِكمْ مَكرُمَةً للإحسَانِ إلى اليَتامَى والمسَاكين.