واتَّبَعَ اليهودُ الذينَ أَعْرَضُوا عنِ التوراةِ وخالَفوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، اتَّبعوا ما تَرويهِ الشياطينُ وتُخْبِرُ بهِ في مُلْكِ سُليمانَ، وتَكْذِبُ عليهِ وتقول: إِنَّهُ كانَ ساحراً، وإنَّ ما سُخِّرَ لهُ كانَ بما يَستخدمهُ منْ سحر. وكانَ عليه السلامُ نبيًّا كريماً قانِتاً، وما كانَ كافراً كما قالتْ يَهودُ أوِ الشياطينُ لَعَنَهُمُ اللهُ {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [سورة ص: 30]، ولكنَّ الشياطينَ همُ الذينَ كفَروا، حيثُ يُعَلِّمُونَ السِّحر. وَلَمْ يَنْزِلِ السِّحرُ على المَلَكَيْنِ هارُوتَ وَمَارُوتَ في بابل، بَلْ كانا هُناك لحكمةٍ لا نَعرفُها، وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبادَهُ بما شاء.
فإذا أَتاهُمَا مَنْ يريدُ تَعَلُّمَ السحرِ قالا لهم: إنَّما نحنُ هُنا فتنةٌ وابتِلاء، فلا تَعمَلوا بالسِّحر، فإنَّ منِ اعتَقدَ إباحتَهَ أو جَوازَ العملِ بهِ كَفَر، فيَتعلَّمونَ مِنْ علمِ السِّحرِ ما هوَ مَذموم، مِنْ شَرٍّ وأذًى، فَيُفَرِّقُون بينَ الزوجين، معَ ما جَعلَ اللهُ بينهما منْ محبَّةٍ ورَحمة. وهمْ لا يَتمكَّنونَ منَ الضررِ بأحدٍ إلاّ إذا قدَّرَ اللهُ وخلَّى بينَ السَّحَرةِ وما أرادوا، فإذا شاءَ سلَّطهمْ على المسحُور، وإذا لم يَشأ لم يُسَلِّطهم، فلا يَستطيعونَ مَضرَّةَ أحدٍ إلا بإذنِ الله.
وهكذا صَاروا يَتعلَّمونَ ما يَضرُّهمْ في دينِهمْ ولا ينفَعُهُم، لأنَّهمْ يَقصِدونَ بهِ الشرّ. وقدْ علمَ اليَهودُ الذينَ استَبدلوا السحرَ بالإيمانِ ومتابعةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، أنَّهمْ ليسَ لهمْ نصيبٌ عندَ اللهِ في الآخِرَة، فَبِئْسَتِ التجارةُ تجارَتُهم.
قال ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ في قصَّةِ هاروتَ وماروت: حاصِلُها راجِعٌ في تفصيلِها إلى أخبارِ بَني إسرائيل، إذْ ليسَ فيها حديثٌ مَرْفُوعٌ صَحيحٌ مُتَّصِلُ الإسنادِ إلى الصادقِ المصدوقِ المعصومِ الذي لا يَنطقُ عنِ الهوى. وظاهرُ سياقِ القرآنِ إجمالُ القصَّةِ مِنْ غيرِ بَسطٍ ولا إطنابٍ فيها، فنحنُ نُؤمنُ بما وردَ في القرآنِ على ما أرادهُ اللهُ تعالى، واللهُ أعلمُ بحقيقةِ الحال.