ولمّا خرجَ طالوتُ مَلِكُ بني إسرائيلَ بجُنودهِ وبمنْ خرجَ معَهُ منْ بني إسرائيل، قالَ لهم: سيَختبرُكمْ ربُّكمْ ليرَى طاعتَكم، حيثُ تَقطعونَ نهراً -وكانَ عذباً ماؤهُ- فمنْ شَرِبَ منهُ فلا يَصحبْني في الحَرب، إلاّ ما كانَ مقدارَ كفِّ اليد، فلا بأسَ به، ومنْ لم يَشْرَبْ فليَصحَبْني في هذا الوَجه.
فشرِبَ أكثرُهم، وذُكِرَ أنَّهمْ كانوا عِطاشاً، وبقيَ القَليلُ الذي لم يَشرب، طاعةً لله.
وكانتِ الحكمةُ منْ هذا الابتلاءِ فَرْزَ الضعفاءِ المتذبذبينَ منَ الثابتينَ الأقوياء، فالذين شَربوا ما كانوا ذوي إرادةٍ وطاعة، فما كانوا يَصلُحونَ للحَربِ والقِتال، بل إنَّ فعلَهُمْ هذا يُنْبِئُ عنْ ضَعفٍ وعِلَّة، وأنَّهمْ سيَكونونَ عالةً على بقيَّةِ الجُند، وأنَّهمْ لضَعفِ إرادتِهمْ قدْ يَبثُّونَ الهلعَ وروحَ الهزيمةِ بينهم. ففَصلَهمْ مَلِكُهمْ ولم يسْمَحْ لهمْ بالمشاركةِ في الحربِ الكبيرةِ التي تَنتظرُهم.
فلمَّا استقلَّ طالوتُ بالجنودِ المؤمنينَ الباقينَ معَه، وقدْ صاروا إلى قِلَّة، وقابَلوا جيشَ جالوتَ الكبير، قالوا: لا قُدرةَ لنا على مُحاربتِهم؛ لكثرتِهم، فقالَ لهمْ عُلماؤهمْ والخُلَّصُ منهم، المؤمنونَ بلقاءِ اللهِ وحُسْنِ ثوابِه: إنَّ جماعةً قَليلةً، مُؤمِنةً في عَقيدتِها وعَزمِها وتوكُّلِها، تَستَمِدُّ قوَّتَها منَ اللهِ ووعدهِ بالنَّصرِ والجزاءِ، ستَغلِبُ فئةً كبيرةً عدوَّةً لا تَعتمدُ سِوَى على قوَّتِها الظاهرة، بإذنِ اللهِ وتيسيرِه، فلا تُغني كثرتُهمْ معَ خِذْلانِ اللهِ لهم، ولا تَضرُّ قِلَّةُ الفِئةِ المؤمنةِ معَ تأييدهِ ونَصرهِ لهم، وإنَّ اللهَ سيثبِّتُ الفِئةَ الصابرةَ ويَنصُرها، ويُمِدُّها بالمعُونةِ والتوفيق، فتقدَّموا ولا تَتوانَوا.
والمؤمنونَ مُختلفونَ في قوَّةِ اليقينِ وقوَّةِ الإرادة.