ثمَّ مَنَّ اللهُ عليكمْ بعدَ هذا الحزنِ بنُعاسٍ يَغشَى(25) جَماعةً منكمْ وهمْ في لِباسِ الحَرب، ليكونَ سَكَناً لهمْ وأمناً. وطائفةٌ أخرَى لا يَغشاهمُ النعاسُ منَ القلقِ والخَوفِ والجَزَعِ (وهمُ المُنافِقون) تُهِمُّهمْ نَجاةُ أنفسِهمْ فَقط، فذَهبتْ بهمْ نفوسُهمْ إلى ظُنونٍ سيِّئةٍ لا تُوافِقُ الحقّ، بلْ هيَ مِنْ ظُنونِ الجاهليَّة، وقالوا إنَّهُ قُصِمَ ظهرُ الإسلامِ بهذا، فلا قيامَ لهُ مِنْ بعدُ، ولا نصرَ لأهلهِ بعدَ اليوم!
وكانوا يَقولون: لقدْ دُفِعنا إلى المعركةِ دَفْعاً دونَ إرادةٍ لنا فيها.
فقلْ لهمْ أيُّها النبيّ: إنَّ الأمرَ كلَّهُ لله، فهوَ الآمِرُ الحاكِم، والكلُّ يؤدِّي واجبَهُ تُجاهَ دينهِ وربِّه، وهذا الذي قُمتُمْ بهِ هوَ أداءٌ للواجبِ المفرُوضِ عليكمْ نحوَ دينِكم. إنَّ نفوسَهمْ مَلأى بالهواجسِ والوسَاوس، لم تَكتمِلْ بحقيقةِ الإيمان، فهيَ ما زالتْ تَشكو منِ اعتِراضاتٍ واحتِجاجات، فيُخفُونَ حقيقةَ ما يريدونَ قولَهُ لك، وهو: لو كانَ الأمرُ بيدِنا لمَا استَجبنا نداءَ الرسُول، ولمَا حَضَرْنا المعركة، ولَما أصابَنا القتلُ والجِراحات.
فقلْ لهم: لو أنَّكمْ بَقِيتُمْ في بُيوتِكمْ ولم تَخرجوا إلى القِتال، وكان قَدَرُ المقتولِ منكمْ أنْ يكونَ مصرَعُهُ في مكانِ المعركة، لجاءَ إلى هناكَ وقُتِلَ فيه! فهوَ الأجَلُ الذي لا يَتقدَّمُ في حربٍ، ولا يتأخَّرُ في سِلم.
إنَّهُ الجهادُ الذي يَحتاجُ إلى عَزيمةٍ وصَبر، فيَكشِفُ ما في الصُّدور، ويُخرِجُ ما في القُلوب، وتَتبيَّنُ حقيقةُ كلِّ شخصٍ على ما كانَ يُخفيه، ويَتميَّزُ الخبيثُ منَ الطيِّب، ويَظهَرُ المؤمِنُ والمنافق، فهوَ الابتلاءُ والاختِبار، واللهُ عليمٌ بالأسرارِ الخفيَّةِ التي تَختلجُ في الصُّدور، ولا تَنكَشِفُ في النُّور.