واللهُ يَدعو النَّاسَ إلى دارٍ لا يَعتَريها الزَّوال، وجنَّةٍ عاليةٍ سَالمةٍ منَ الآفات، واللهُ سُبحانَهُ يَهدي مَنْ يَشاءُ منْ عِبادهِ إلى صِراطهِ المُستَقيم، الذي يؤدِّي إلى الجنَّة، عندما يتَّجِهُ العَبدُ بقلبِهِ إلى ربِّه، ويَعزِمُ على اتِّباعِ ما جاءَ بهِ منَ الحَقّ.
للَّذينَ أحسَنوا العملَ في هذهِ الدُّنيا، المنزِلةُ الحُسنَى في الآخِرة، وهيَ الجنَّة، معَ إكرامِهمْ بزيادةٍ عَظيمةٍ في الثَّواب، وهيَ النظَرُ إلى وجهِ اللهِ الكريم، ولا يَغشَى وجوهَهُمْ غُبارٌ ولا سَواد، ولا كآبَةٌ ولا هَوان، كما يَعتَري وجوهَ الكفّارِ يومَ الحِساب، أولئكَ أهلُ الجنَّة، خالِدونَ فيها أبَدًا.
وتَقولُ هذهِ الأصْنامُ لعابِديها، في يومِ الموقِفِ الذي يُنطِقُ اللهُ فيهِ كلَّ شيء: اللهُ هوَ الشَّاهِدُ الحقُّ الكافي بينَنا وبينَكم، أنَّنا ما أمرناكمْ بعِبادَتِنا، وما كنّا نَشعُرُ بها ولا نَعلم، لأنَّنا ما كنّا نَسمَع، ولا نُبصِر، ولا نَعقِل.
في يومِ الحِساب، ومقامِ الحَشر، تُختَبَرُ كلُّ نَفس، وتَعلَمُ ما كسبَتْ منْ خَيرٍ وشَرّ، مُؤمِنةً كانتْ أو كافِرة. ورُدُّوا جَميعًا إلى رَبِّهمُ الحَكَمِ العَدْل، الصَّادقِ في رُبوبيَّته، لا ما اتَّخذَهُ المشرِكونَ أربابًا باطِلة، ليَحكُمَ فيهمْ وحدَهُ سُبحانَه، ويَجزِيَهمْ على أعمالِهم. وضاعَ عنهمْ وزالَ ما كانوا يَكذِبونَ في الدُّنيا مِنْ أنَّ أصنامَهمْ ستَشفَعُ لهمْ وتَنفَعُهمْ عندَ الله.
فكيفَ أُودِعَتِ الصِّفاتُ الظاهِرةُ لهذهِ الحيواناتِ والنَّباتاتِ في الحيَواناتِ المَنويَّةِ الدقيقَة، وفي الحُبوبِ الجافَّةِ الصَّغيرة؟ كيفَ تَنشأ الحياة، وما سِرُّ الجِيْناتِ والهَندسةِ الوراثيَّة؟
ومَنِ الذي يَقضي في هذا الكونِ على سَعَتِه، ويُدَبِّرهُ أحسَنَ تَدبير، في حِساباتٍ زمنيَّةٍ ومكانيَّةٍ دقيقَةٍ مُقَدَّرة، منها ما يَكونُ في أبعادٍ خياليَّةٍ بملايينِ السنواتِ الضوئيَّة! فمنِ المُتَصَرِّفُ فيها جَميعًا، ومَنِ الذي بيدهِ مَلَكوتُ كلِّ شيء؟ وكذا شُؤونُ البشَرِ، حياتُهم، ورِزقُهم، وعَمَلُهم...
فسَيقولُ المشرِكونَ بدونِ تَرَدُّد: هوَ الله. ولا تَنفَعُ المُكابِرَةُ والعِنادُ هُنا في شَيء.
فقُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: ألا تَخشَونَ اللهَ إذاً، ما دُمتُمْ عَرَفتُمْ أنَّ الموتَ والحياةَ بيدِه، والسَّمعَ والأبصارَ بقُدرَتِه... وكلُّ ما في الكَونِ مُلْكُهُ وتحتَ تَصَرُّفِه؟ ألَا تَترُكونَ الشِّركَ بعدَ عِلْمِكمْ هذا؟
قُلْ لهم: أنتُمْ تَعلَمونَ أنَّ شُرَكاءَكمْ لا يَقدِرونَ على هدايةِ أحَد، بلِ الذي يَهدي الضالّ، ويُنيرُ القلب، ويَشرَحُ الصدر، اللهُ العَزيزُ الحَكيم.
وقُلْ لهمْ في نتيجةٍ حَتميَّة: أيُّهما أحَقُّ بالاتِّباعِ إذاً: اللهُ الذي يَهدي النَّاس، أمِ الذي لا يَهتدِي إلى شَيء، ولا يُبصِر، ولا يَتحرَّك، ولا يَقدِرُ على الانتقالِ إلى مَكانٍ إلاّ أنْ يُحمَلَ ويُنقَل؟!
والذينَ كانوا يَعبُدونَ الأناسيَّ، كمَنْ يَعبدُ المسيحَ عيسَى بنَ مريم، والملائكة، لا يَهتدونَ بأنفُسِهم، ولا يَقدِرونَ على هِدايةِ أحَد، إلاّ بإذنِ اللهِ وتَوفيقِه.
فما لكمْ أيُّها المشرِكون، كيفَ تَحكُمونَ بالباطِل، وتَتَّخِذونَ شُركاءَ لله، بدونِ أيِّ دَليل، ولا عَقل، ولا مَنطِق، تُساوونَ في العِبادةِ بينَ اللهِ المُتعَال، والأصنامِ المصنُوعةِ مِنَ الحِجارة؟
وما كانَ هذا القُرآنُ العَظيم، بكَمالهِ وجَلالِه، في أخبارِهِ وأحكامِه، وفي إعجازهِ ونِظامِه، وفي منهَجهِ وأسرارِه، أنْ يَكونَ مَكذوبًا على الله، فَرقٌ واضِحٌ بينَهُ وبينَ كلامِ البَشر، ولا يَقدِرُ أحَدٌ على أنْ يأتيَ بمثلِه، أو بسورةٍ مِنْ مثلِه، فلا يَكونُ إلاّ مِنْ عندِ اللهِ سُبحانَه. فهوَ كتابٌ سَماويٌّ يُصَدِّقُ الكُتُبَ السَّماويَّةَ السَّابقة، وحَكَمٌ عليها، فيَذكرُ ما وقعَ فيها مِنْ تَحريفٍ وتَبديل، ويُبيِّنُ الحقائقِ والأحكام، لا يَشُكُّ في القُرآنِ طالِبُ حَقّ، لوضوحهِ وعُلوِّ شأنِه.
ومِنْ هؤلاءِ المشرِكينَ مَنْ يَستَمِعُ إلى كلامِكَ الحسَن، وإلى القُرآنِ الكريم، ولكنَّهمْ لا يَتدبَّرونَه، بلْ لا يُصْغُونَ إليهِ حتَّى يَستَفيدوا منه، فكأنَّهمْ لم يَسمَعوه، وعَطَّلوا بذلكَ حاسَّةَ السَّمعِ عندَهم، وأنتَ لا تَقدِرُ على إسماعِ الأصمّ، ولو ضمَّ إلى سمعهِ عقلَهُ الذي لا يَعقِلُ به، فقدْ أُصيبَ في عَقلِه، وفي جَميعِ حَواسِّه.
إنَّ اللهَ لا يَظلِمُ النَّاس، فقدْ خَلقَهمْ على الفِطرة، وزوَّدَهمْ بقُلوبٍ وعُقولٍ وحواسَّ يَتمكَّنونَ بها منَ الإيمانِ إذا لم يَطمِسوها بالعِنادِ والخِصام، إنْ شاءَ الله، وبعثَ إليهمُ الرسُلَ ليُبيِّنوا لهمْ ما يأتونَ وما يَتركون، وأرسَلَ معهمُ المعجِزاتِ حتَّى لا يَبقَى عندَهمْ شكٌّ في ذلك، ولكنَّهمْ لا يَستَعمِلونَ مَدارِكَهمْ لِما خُلِقَتْ له، ويُعرِضونَ عنْ قَبولِ الحقّ، ويُكَذِّبونَ الرسُل، فيَظلِمونَ أنفُسَهمْ بالكفرِ والمَعصِية، ويُعَرِّضونَها بذلكَ للعَذابِ يومَ القيامة، فلا يَلومُنَّ إلاّ أنفُسَهم.
قُلْ لهم: لا أقدِرُ على دَفعِ ضُرٍّ عنْ نَفسي، ولا جَلبِ نَفعٍ لها، إلاّ أنْ يَشاءَ اللهُ ذلكَ ويُقدِّرَني عليه، ولكلِّ جِيلٍ مُدَّةٌ مُقدَّرةٌ لأعمارِهم، فإذا انقضَى أجَلُهم، لا يَتقدَّمونَ عليهِ ساعةً ولا يَتأخَّرونَ عنه.
ثمَّ قيلَ للمُشرِكينَ الظَّالِمينَ يومَ القيامة، تَقريعًا وتَوبيخًا: ذوقُوا عَذابَ النارِ التي كنتُمْ تُكَذِّبونَ بها على الدَّوام، ولا تُحاسَبونَ إلاّ على أعمالِكمُ السيِّئة، ولا تُجزَونَ إلاّ عليها.
ألا إنَّ جَميعَ ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلْكٌ للهِ وحدَه. ألا إنَّ جَميعَ ما وعَدَ اللهُ بهِ كائنٌ لا مَحالة، ثابِتٌ واقِعٌ كما قالَ به، ومنهُ البَعثُ والجَزاء، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلمونَ ذلك؛ لغَفلتِهمْ واغتِرارِهمْ بظَواهرِ الأمُور، وسُوءِ استِعدادِهمْ للبَحثِ عنِ الحقِّ أو قَبوله.