تفسير الجزء 11 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الحادي عشر
11
سورة التوبة (الآيات 93-129)
سورة يونس
سورة هود (1-5)

﴿وَاللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [يونس:25]


واللهُ يَدعو النَّاسَ إلى دارٍ لا يَعتَريها الزَّوال، وجنَّةٍ عاليةٍ سَالمةٍ منَ الآفات، واللهُ سُبحانَهُ يَهدي مَنْ يَشاءُ منْ عِبادهِ إلى صِراطهِ المُستَقيم، الذي يؤدِّي إلى الجنَّة، عندما يتَّجِهُ العَبدُ بقلبِهِ إلى ربِّه، ويَعزِمُ على اتِّباعِ ما جاءَ بهِ منَ الحَقّ.

﴿۞لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ الۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞ وَلَا ذِلَّةٌۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ الۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [يونس:26]


للَّذينَ أحسَنوا العملَ في هذهِ الدُّنيا، المنزِلةُ الحُسنَى في الآخِرة، وهيَ الجنَّة، معَ إكرامِهمْ بزيادةٍ عَظيمةٍ في الثَّواب، وهيَ النظَرُ إلى وجهِ اللهِ الكريم، ولا يَغشَى وجوهَهُمْ غُبارٌ ولا سَواد، ولا كآبَةٌ ولا هَوان، كما يَعتَري وجوهَ الكفّارِ يومَ الحِساب، أولئكَ أهلُ الجنَّة، خالِدونَ فيها أبَدًا.

﴿وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ الَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [يونس:27]


والذينَ عَمِلوا السيِّئات، فأشرَكوا بالله، وعَصَوا رسُلَه، ولم يمتَثِلُوا ما أمرَ اللهُ به، فإنَّ جزاءَهمُ العَدل، أنْ يُجازَوا على السيِّئةِ بمثلِها، ويَغشاهُمْ هَوانٌ عَظيم، معَ شُعورِهمْ بصَغَارٍ وإهانَة، لعِلمِهمْ بما اقتَرَفوه، وخَوفِهمْ منَ العِقابِ الذي يَنتَظِرُهم، ولا أحدَ يَمنعُ عنهمْ يومَئذٍ عَذابَ اللهِ وسَخَطَه، وقدْ تَلبَّدتْ وجوهُهمْ بالسَّواد، منَ الخِزي والنَّدامةِ والكآبة، حتَّى صارَتْ فاحِمةً قاتِمة، وكأنَّها أُلبِسَتْ قِطَعًا منَ الليلِ المُظلِمِ المُدْلَهِمّ، أولئكَ أهلُ النَّار، ماكِثونَ فيها أبَدًا.

﴿وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَآؤُكُمۡۚ فَزَيَّلۡنَا بَيۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِيَّانَا تَعۡبُدُونَ﴾ [يونس:28]


وذَكِّرْهُمْ أيُّها النبيّ: يومَ نَحشُرُ النَّاسَ جميعًا، مسلِمَهمْ وكافِرَهم، ثمَّ نقولُ للمُشرِكين: الزَموا مَكانَكمْ أنتُمْ وشُرَكاؤكمُ الأصْنام، ولا تَختلِطوا بالمؤمِنين. وفرَّقنا بينَهم، وقطَعنا ما كانَ بينَهمْ مِنَ التواصُلِ في الدُّنيا، حيثُ يَتبَرَّأُ كلُّ مَعبودٍ مِنْ دونِ اللهِ ممَّنْ عبَدَه. وقالَ شُرَكاؤهمُ الأصنَام، الذينَ اتَّخَذوهمْ شُرَكاءَ للهِ تعالَى: ما كنتُمْ تَعبُدونَنا بطَلَبِنا، وإنَّما كنتُمْ تُطيعونَ أهواءَكم، وتُوالُونَ الشَّيطان.

﴿فَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَٰفِلِينَ﴾ [يونس:29]


وتَقولُ هذهِ الأصْنامُ لعابِديها، في يومِ الموقِفِ الذي يُنطِقُ اللهُ فيهِ كلَّ شيء: اللهُ هوَ الشَّاهِدُ الحقُّ الكافي بينَنا وبينَكم، أنَّنا ما أمرناكمْ بعِبادَتِنا، وما كنّا نَشعُرُ بها ولا نَعلم، لأنَّنا ما كنّا نَسمَع، ولا نُبصِر، ولا نَعقِل.

قالَ صاحِبُ "روح المعاني": الأظهَرُ أنْ يُرادَ بالشَّرَكاءِ جميعُ ما عُبِدَ منْ دُونِ اللهِ تعالَى، مِنْ ذَوي العُقولِ وغَيرِهم. اهـ.

ويَنقَطِعُ طَمَعُ المشرِكينَ ممّا كانوا يَرجونَ منهمْ ويَعتَقِدونَ فيهم.

﴿هُنَالِكَ تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسٖ مَّآ أَسۡلَفَتۡۚ وَرُدُّوٓاْ إِلَى اللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ الۡحَقِّۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [يونس:30]


في يومِ الحِساب، ومقامِ الحَشر، تُختَبَرُ كلُّ نَفس، وتَعلَمُ ما كسبَتْ منْ خَيرٍ وشَرّ، مُؤمِنةً كانتْ أو كافِرة. ورُدُّوا جَميعًا إلى رَبِّهمُ الحَكَمِ العَدْل، الصَّادقِ في رُبوبيَّته، لا ما اتَّخذَهُ المشرِكونَ أربابًا باطِلة، ليَحكُمَ فيهمْ وحدَهُ سُبحانَه، ويَجزِيَهمْ على أعمالِهم. وضاعَ عنهمْ وزالَ ما كانوا يَكذِبونَ في الدُّنيا مِنْ أنَّ أصنامَهمْ ستَشفَعُ لهمْ وتَنفَعُهمْ عندَ الله.

﴿قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ السَّمۡعَ وَالۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ الۡحَيَّ مِنَ الۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ الۡمَيِّتَ مِنَ الۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:31]


قُلْ للمُشرِكين، مُحتَجًّا عليهمْ ببُطلانِ ما هُمْ عليهِ مِنَ الشِّرك: منِ الذي يُنزِلُ المطَرَ عليكمْ مِنَ السَّماء، ويَجعَلُ لكمُ الأغذيةَ في الأرض، وقدْ سَخَّرَها لكم، فكانتْ سبَباً لحياتِكم؟

ومَنْ يَقدِرُ على خَلقِ السَّمعِ والأبصارِ لكمْ غيرُه، في خَلْقِها البديع، وتَركيبِها الدَّقيق، ووظائفِها المُتكاملة؟

ومَنْ سِواهُ يُخرِجُ الحيَّ مِنَ الميِّت، والميِّتَ مِنَ الحَيّ، كخروجِ النبْتَةِ مِنَ الحَبَّة، والحَبَّةِ مِنَ النبْتَة، وخروجِ الفرْخِ مِنَ البيضَة، والبيضةِ مِنَ الطيرِ وغَيرِه؟

فكيفَ أُودِعَتِ الصِّفاتُ الظاهِرةُ لهذهِ الحيواناتِ والنَّباتاتِ في الحيَواناتِ المَنويَّةِ الدقيقَة، وفي الحُبوبِ الجافَّةِ الصَّغيرة؟ كيفَ تَنشأ الحياة، وما سِرُّ الجِيْناتِ والهَندسةِ الوراثيَّة؟

ومَنِ الذي يَقضي في هذا الكونِ على سَعَتِه، ويُدَبِّرهُ أحسَنَ تَدبير، في حِساباتٍ زمنيَّةٍ ومكانيَّةٍ دقيقَةٍ مُقَدَّرة، منها ما يَكونُ في أبعادٍ خياليَّةٍ بملايينِ السنواتِ الضوئيَّة! فمنِ المُتَصَرِّفُ فيها جَميعًا، ومَنِ الذي بيدهِ مَلَكوتُ كلِّ شيء؟ وكذا شُؤونُ البشَرِ، حياتُهم، ورِزقُهم، وعَمَلُهم...

فسَيقولُ المشرِكونَ بدونِ تَرَدُّد: هوَ الله. ولا تَنفَعُ المُكابِرَةُ والعِنادُ هُنا في شَيء.

فقُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: ألا تَخشَونَ اللهَ إذاً، ما دُمتُمْ عَرَفتُمْ أنَّ الموتَ والحياةَ بيدِه، والسَّمعَ والأبصارَ بقُدرَتِه... وكلُّ ما في الكَونِ مُلْكُهُ وتحتَ تَصَرُّفِه؟ ألَا تَترُكونَ الشِّركَ بعدَ عِلْمِكمْ هذا؟

﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الۡحَقُّۖ فَمَاذَا بَعۡدَ الۡحَقِّ إِلَّا الضَّلَٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ﴾ [يونس:32]


اللهُ وحدَهُ الذي يَخلُقُ ويُدَبِّرُ شَأنَ خَلْقِه، الإلهُ الحَقّ، الذي لا يَتعَدَّد، ولا يَستَحِقُّ العِبادةَ إلاّ هو، ومَنْ قالَ غيرَ هذا فقدْ ضلَّ وغَوَى، فكيفَ تُصرَفونَ عنِ الحَقِّ إلى الضَّلال، وكيفَ تُصرَفونَ عنْ عِبادتِهِ إلى عِبادةِ سِواه، وأنتُمْ تَعلَمونَ أنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ الإلهُ الحَقّ؟

﴿كَذَٰلِكَ حَقَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوٓاْ أَنَّهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [يونس:33]


وهكذا وجبَ حُكمُ اللهِ على الذينَ تَمرَّدوا وأصَرُّوا على الكُفر، وصَرَفوا أنفُسَهمْ عنِ الأدلَّةِ والبراهينِ العقليَّةِ الواضِحةِ والفِطرةِ السَّليمة؛ بأنَّهمْ أشقياءُ مِنْ أهلِ النَّار.

﴿قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبۡدَؤُاْ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥۚ قُلِ اللَّهُ يَبۡدَؤُاْ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ﴾ [يونس:34]


قُلْ للمُشرِكينَ الذينَ يؤمِنونَ ببَدءِ الخَلقِ ولا يؤمِنونَ ببَعثِه: هلْ مِنْ أوثانِكمْ مَنْ يَقدِرُ على إنشاءِ الخَلقِ منْ غَيرِ أصل، ثمَّ يُحييهِ بعدَ الموت؟ قُلْ لهم: إنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ القادِرُ على ذلك، فكيفَ تُصرَفونَ عنْ طَريقِ الرُّشدِ إلى الضَّلال، وكيفَ تُوَجَّهونَ عنِ التفكيرِ المستَقيمِ إلى المُعوَجَّ؟

﴿قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهۡدِيٓ إِلَى الۡحَقِّۚ قُلِ اللَّهُ يَهۡدِي لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى الۡحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ﴾ [يونس:35]


وقُلْ لهم: هلْ مِنْ أوثانِكمْ مَنْ يُرشِدُ إلى الحقّ، ويَضَعُ لهُ نِظامًا، ويَبعَثُ بهِ رَسولاً، ويوجِبُ عَليهمُ اتِّباعَه، ولا يَكونُ للنَّاسِ منهُ بدّ؟

قُلْ لهم: أنتُمْ تَعلَمونَ أنَّ شُرَكاءَكمْ لا يَقدِرونَ على هدايةِ أحَد، بلِ الذي يَهدي الضالّ، ويُنيرُ القلب، ويَشرَحُ الصدر، اللهُ العَزيزُ الحَكيم.

وقُلْ لهمْ في نتيجةٍ حَتميَّة: أيُّهما أحَقُّ بالاتِّباعِ إذاً: اللهُ الذي يَهدي النَّاس، أمِ الذي لا يَهتدِي إلى شَيء، ولا يُبصِر، ولا يَتحرَّك، ولا يَقدِرُ على الانتقالِ إلى مَكانٍ إلاّ أنْ يُحمَلَ ويُنقَل؟!

والذينَ كانوا يَعبُدونَ الأناسيَّ، كمَنْ يَعبدُ المسيحَ عيسَى بنَ مريم، والملائكة، لا يَهتدونَ بأنفُسِهم، ولا يَقدِرونَ على هِدايةِ أحَد، إلاّ بإذنِ اللهِ وتَوفيقِه.

فما لكمْ أيُّها المشرِكون، كيفَ تَحكُمونَ بالباطِل، وتَتَّخِذونَ شُركاءَ لله، بدونِ أيِّ دَليل، ولا عَقل، ولا مَنطِق، تُساوونَ في العِبادةِ بينَ اللهِ المُتعَال، والأصنامِ المصنُوعةِ مِنَ الحِجارة؟

﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ الۡحَقِّ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ﴾ [يونس:36]


وأكثرُ المشرِكينَ لا يَتَّبِعونَ في دِينِهمْ حُجَجًا ولو كانتْ واهية، بلْ هيَ ظُنونٌ وأوهامٌ وتَخيُّلاتٌ لا تَستَنِدُ إلى أسَاس، فهمْ يَظنُّونَ أنَّ للهِ شُركاء، ولكنْ لا يَتحقَّقونَ منه. وهكذا مُجادلاتُهمْ ومُحاوراتُهمُ التي يُدافِعونَ بها عنْ آرائهمْ ومُعتَقداتِهم، وإنَّ الظنَّ الفاسِدَ لا يُحَقِّقُ لهمْ شَيئاً مِنَ الحقّ، واللهُ عَليمٌ بأفعالِهمُ السيِّئة، وإعراضِهمْ عنِ الحقِّ المُبين.

﴿وَمَا كَانَ هَٰذَا الۡقُرۡءَانُ أَن يُفۡتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ الَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ الۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [يونس:37]


وما كانَ هذا القُرآنُ العَظيم، بكَمالهِ وجَلالِه، في أخبارِهِ وأحكامِه، وفي إعجازهِ ونِظامِه، وفي منهَجهِ وأسرارِه، أنْ يَكونَ مَكذوبًا على الله، فَرقٌ واضِحٌ بينَهُ وبينَ كلامِ البَشر، ولا يَقدِرُ أحَدٌ على أنْ يأتيَ بمثلِه، أو بسورةٍ مِنْ مثلِه، فلا يَكونُ إلاّ مِنْ عندِ اللهِ سُبحانَه. فهوَ كتابٌ سَماويٌّ يُصَدِّقُ الكُتُبَ السَّماويَّةَ السَّابقة، وحَكَمٌ عليها، فيَذكرُ ما وقعَ فيها مِنْ تَحريفٍ وتَبديل، ويُبيِّنُ الحقائقِ والأحكام، لا يَشُكُّ في القُرآنِ طالِبُ حَقّ، لوضوحهِ وعُلوِّ شأنِه.

﴿أَمۡ يَقُولُونَ افۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ وَادۡعُواْ مَنِ اسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [يونس:38]


أمْ يَقولُ المشرِكونَ إنَّ محمَّدًا اختلقَ القرآنَ مِنْ قِبَلِ نَفسِهِ وجاءَ بهِ مِنْ عِندِه؟ قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: إنْ كنتُمْ تَشُكُّونَ في كَونِ القُرآنِ مِنْ عندِ الله، فأتُوا بسُورةٍ واحِدَةٍ تُشبِهُ القُرآن، واستَعينوا بكلِّ مَنْ قَدِرتُمْ عليهِ منْ إنسٍ وجِنٍّ ليُساعِدوكمْ في ذلك، إذا كنتُم صَادِقينَ في أنَّني افتَرَيتُه. وإذا صَدَقتُمُ القَول، فإنَّكمْ ستَقولون: إنَّكَ بَشَرٌ مثلَنا، لا تَقدِرُ على أنْ تأتيَ بمثلِه، ولا نحنُ قادِرونَ على ذلك.

﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَانظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [يونس:39]


بلْ كذَّبَ المشرِكونَ بالقُرآن، فلمْ يَفهَموهُ ولم يُحيطوا بعِلمِه، ولم يَقِفوا على مَعانيهِ الجليلة، وإخبارِهِ بالغِيوب، ولم يَعلموا ما يؤولُ إليهِ عاقِبةُ أمرِهم، ولو أنَّهمْ تأمَّلوا مَصيرَ الأوَّلينَ لعرَفوا مَصيرَهم، فقدْ كذَّبتِ الأممُ الخاليةُ رسُلَهمْ مِنْ قَبل؛ عِنادًا وجَهلاً، فانظُرْ كيفَ كانَ آخِرُ أمرِهم، واحذَروا أنْ يُصيبَكمْ ما أصابَهم.

﴿وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِالۡمُفۡسِدِينَ﴾ [يونس:40]


ومنهمْ مَنْ يؤمِنُ بالقُرآنِ ويَنتَفِعُ بما أُرسِلْتَ بهِ أيُّها النبيّ، ومنهمْ مَنْ يَبقَى مُصِرًّا على كُفرِهِ فلا يَهتدي ولا يؤمِن، وهمُ المفسِدون، أتْباعُ الهوَى والفَساد، وربُّكَ أعلمُ بهم، وبما يُبطِنونَ منْ كُفرٍ وشَرّ.

﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓـُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ [يونس:41]


فإنْ كذَّبَكَ المشرِكونَ بعدَ إلزامِهمُ الحُجَّة، فتبرَّأْ منهم، وقُلْ لهم: لي عَملي وجَزاؤه، ولكمْ عَملُكمْ وجَزاؤه، وأنتُمْ لا تُؤاخَذونَ بعمَلي، ولا أنا أؤاخَذُ بعَملِكم.

﴿وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ الصُّمَّ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يَعۡقِلُونَ﴾ [يونس:42]


ومِنْ هؤلاءِ المشرِكينَ مَنْ يَستَمِعُ إلى كلامِكَ الحسَن، وإلى القُرآنِ الكريم، ولكنَّهمْ لا يَتدبَّرونَه، بلْ لا يُصْغُونَ إليهِ حتَّى يَستَفيدوا منه، فكأنَّهمْ لم يَسمَعوه، وعَطَّلوا بذلكَ حاسَّةَ السَّمعِ عندَهم، وأنتَ لا تَقدِرُ على إسماعِ الأصمّ، ولو ضمَّ إلى سمعهِ عقلَهُ الذي لا يَعقِلُ به، فقدْ أُصيبَ في عَقلِه، وفي جَميعِ حَواسِّه.

﴿وَمِنۡهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تَهۡدِي الۡعُمۡيَ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يُبۡصِرُونَ﴾ [يونس:43]


ومِن هؤلاءِ مَنْ يَنظُرُ إليكَ وهوَ يَرَى في سَمْتِكَ وخُلُقِكَ دَلائلَ النبوَّة، ولكنَّها أبصارٌ ظاهِرةٌ ليسَ وراءَها عِظةٌ وعِبرة، ولا استِبصارٌ في القَلب، أفأنتَ تُبصِّرُ العُميَ ولو ضَمُّوا إلى عدَمِ البَصرِ عدَمَ البَصيرة؟

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظۡلِمُ النَّاسَ شَيۡـٔٗا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾ [يونس:44]


إنَّ اللهَ لا يَظلِمُ النَّاس، فقدْ خَلقَهمْ على الفِطرة، وزوَّدَهمْ بقُلوبٍ وعُقولٍ وحواسَّ يَتمكَّنونَ بها منَ الإيمانِ إذا لم يَطمِسوها بالعِنادِ والخِصام، إنْ شاءَ الله، وبعثَ إليهمُ الرسُلَ ليُبيِّنوا لهمْ ما يأتونَ وما يَتركون، وأرسَلَ معهمُ المعجِزاتِ حتَّى لا يَبقَى عندَهمْ شكٌّ في ذلك، ولكنَّهمْ لا يَستَعمِلونَ مَدارِكَهمْ لِما خُلِقَتْ له، ويُعرِضونَ عنْ قَبولِ الحقّ، ويُكَذِّبونَ الرسُل، فيَظلِمونَ أنفُسَهمْ بالكفرِ والمَعصِية، ويُعَرِّضونَها بذلكَ للعَذابِ يومَ القيامة، فلا يَلومُنَّ إلاّ أنفُسَهم.

﴿وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ﴾ [يونس:45]


وذَكِّرْهمْ وأنذِرْهمْ أيُّها النبيّ، فإنَّهمْ يومَ يُجمَعونَ لموقفِ الحِساب، كأنَّهمْ لم يَبقَوا في الدُّنيا مِقدارَ سَاعةٍ مِنَ النَّهار، قضَوها في التعارُفِ بينَ بعضِهمُ البعض! إنَّها حياةٌ قَصيرَةٌ حقَّا، كانَ يَجِبُ أنْ تُقضَى في الطَّاعةِ والصَّلاح، ولكنَّهمْ كفَروا وكذَّبوا، فخَسِروا أنفُسَهمْ بعَدَمِ استِعدادِهمْ لهذا اليَومِ العَظيم، يومِ الجزاءِ والمُحاسَبةِ على الأعمال، وما كانوا مُهتَدِينَ لسُبُلِ النَّجاةِ والفَلاح، بلِ انحرَفوا، فسَقطُوا في النار {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة النمل: 90].

﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ الَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ﴾ [يونس:46]


وإمّا أنْ نُرِيَكَ أيُّها النبيُّ بعضَ الذي نُوجِبُ عليهمْ منَ العَذاب، فنَنتَقِمَ منهمْ في أثناءِ حياتِك، أو نتوَفَّاكَ ويَكونُ مصيرُهمْ إلينا يومَ القيامة، فنُعذِّبَهمْ يومَها أشدَّ العَذاب، واللهُ شَهيدٌ على أفعالِهمُ السيِّئةِ بَعدَك، ومُجازيهمْ عَليها.

﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولٞۖ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمۡ قُضِيَ بَيۡنَهُم بِالۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [يونس:47]


ولكُلِّ أمَّةٍ يومَ القِيامةِ رَسُولٌ تُنْسَبُ إليهِ وتُدْعَى به، وتُعْرَضُ على اللهِ بحَضرتِه، فإذا جاءَ رسُولُ كلِّ أمَّةٍ إلى الموقفِ ليَشهدَ عليهم، حُكِمَ بينَهمْ بعدَ شهادَتهِ بالعَدل، فيَنجو المؤمِنُ ويُعاقَبُ الكافِر، ولا يُظلَمُ أحَدٌ منهم، فلا يُعذَّبُ بغيرِ ذَنْب، ولا يُنْقَصُ مِنْ حسَناتِهِ شَيء.

﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [يونس:48]


ويَقولُ لكَ المشرِكونَ وكأنَّهمْ يَستَعجِلونَ العَذاب: متَى هذا الوعدُ الذي تَعِدُنا فيهِ بالعَذابِ يا محمَّد، إنْ كنتُمْ صَادقِينَ أنتَ وأصحابُك؟

﴿قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي ضَرّٗا وَلَا نَفۡعًا إِلَّا مَا شَآءَ اللَّهُۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۚ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَلَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ﴾ [يونس:49]


قُلْ لهم: لا أقدِرُ على دَفعِ ضُرٍّ عنْ نَفسي، ولا جَلبِ نَفعٍ لها، إلاّ أنْ يَشاءَ اللهُ ذلكَ ويُقدِّرَني عليه، ولكلِّ جِيلٍ مُدَّةٌ مُقدَّرةٌ لأعمارِهم، فإذا انقضَى أجَلُهم، لا يَتقدَّمونَ عليهِ ساعةً ولا يَتأخَّرونَ عنه.

﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُهُۥ بَيَٰتًا أَوۡ نَهَارٗا مَّاذَا يَسۡتَعۡجِلُ مِنۡهُ الۡمُجۡرِمُونَ﴾ [يونس:50]


وحَذِّرْهُمْ نِقمةَ اللهِ ووَعيدَه، وقُلْ لهم: أرأيتُمْ إنْ أتاكمْ عَذابُ الله، لَيلاً وأنتُمْ نائمون، أو نَهاراً وأنتُمْ مُشتَغِلون، فما الذي تَستَعجِلونَهُ منَ العَذابِ وفيهِ هَلاكُكم، أيُّها المشرِكونَ المجرِمون؟

﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنتُم بِهِۦٓۚ ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ كُنتُم بِهِۦ تَسۡتَعۡجِلُونَ﴾ [يونس:51]


أإذا وقعَ العَذابُ وحَلَّ بكمْ حَقيقةً آمنتُمْ بهِ حِينَئذ؟ آلآنَ آمنتُمْ بيَومِ البَعثِ والجَزاءِ على الأعمَال، وكنتُمْ منْ قبلُ تستَعجِلونَ هذا الوَعدَ منْ نَبيِّكمْ مُستَهزئينَ مُتَهكِّمين، مُستَبعِدينَ مُكَذِّبين؟

﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الۡخُلۡدِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ﴾ [يونس:52]


ثمَّ قيلَ للمُشرِكينَ الظَّالِمينَ يومَ القيامة، تَقريعًا وتَوبيخًا: ذوقُوا عَذابَ النارِ التي كنتُمْ تُكَذِّبونَ بها على الدَّوام، ولا تُحاسَبونَ إلاّ على أعمالِكمُ السيِّئة، ولا تُجزَونَ إلاّ عليها.

﴿۞وَيَسۡتَنۢبِـُٔونَكَ أَحَقٌّ هُوَۖ قُلۡ إِي وَرَبِّيٓ إِنَّهُۥ لَحَقّٞۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ﴾ [يونس:53]


ويَستَخبِرونَكَ أيُّها الرسُولُ قائلين: هلِ العَذابُ الذي وعَدتَنا بهِ حَقّ، والساعةُ آتيَةٌ لا شَكَّ فيها؟ فقُلْ لهم: نَعمْ واللهِ إنَّهُ لحَقٌ وصِدق، وسَوفَ يُعيدُكمُ اللهُ بعدَ فَنائكم، كما بدأ خَلْقَكم، وما أنتُمْ بقادِرينَ على الهرَبِ أو دَفعِ العَذابِ عَنكم.

﴿وَلَوۡ أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسٖ ظَلَمَتۡ مَا فِي الۡأَرۡضِ لَافۡتَدَتۡ بِهِۦۗ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الۡعَذَابَۖ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِالۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [يونس:54]


ولو كانَ لكُلِّ نَفسٍ أشرَكتْ ما في الدُّنيا مِنْ خَزائنَ وأمْوال، لبذَلَتْها كلَّها حتَّى تَنجوَ منَ العَذابِ الرَّهيبِ الذي نَزلَ بها، وأخفَوا ما أصابَهمْ منَ الأسَفِ والحَسْرَة، ومِنَ الهَمِّ والغَمِّ - على ما فَعلوهُ مِنْ ظُلمٍ وارتَكبوهُ منْ جَرائمَ - لمّا رأوا شِدَّةَ الأهْوال، وفَظاعةَ العَذاب، وجُوزوا على أعمَالِهمْ دونَ أنْ يَنالَهمْ ظُلم، فَلْيَندَموا، ولْيَستَغيثوا، فإنَّهمْ غيرُ خارِجينَ منَ النَّار.

﴿أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ وَعۡدَ اللَّهِ حَقّٞ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [يونس:55]


ألا إنَّ جَميعَ ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلْكٌ للهِ وحدَه. ألا إنَّ جَميعَ ما وعَدَ اللهُ بهِ كائنٌ لا مَحالة، ثابِتٌ واقِعٌ كما قالَ به، ومنهُ البَعثُ والجَزاء، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلمونَ ذلك؛ لغَفلتِهمْ واغتِرارِهمْ بظَواهرِ الأمُور، وسُوءِ استِعدادِهمْ للبَحثِ عنِ الحقِّ أو قَبوله.