﴿هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [يونس :56]
هوَ اللهُ الخالِقُ القَادِر، الذي يُحيي ويُميت، وإليهِ مَرجِعُكمْ ليُحاسِبَكمْ ويُجازيَكمْ على أعمالِكمْ يومَ القيامة.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [يونس :57]
أيُّها النَّاس، أقبِلوا على ما فيهِ خَيرٌ لكم، وقدْ أنزلَ اللهُ القُرآنَ العَظيم، وفيهِ تَذكِرةٌ مِنْ ربِّكم، ممّا يُلِينُ القُلوبَ بالتَّرغيبِ وذِكرِ حُسْنِ الثواب، وبالترهيبِ وبَيانِ سُوءِ العِقاب، وفيهِ دواءٌ منَ الجَهلِ والشُّبَهِ والشُّكوك، وهُدًى منَ الضَّلالة، ورَحمَةٌ وإحسَانٌ للمؤمِنينَ خاصَّة، فيَزيدُهمْ إيمانًا، ويُبَشِّرُهمْ بالجَزاءِ الحسَن.
﴿قُلۡ بِفَضۡلِ اللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ﴾ [يونس :58]
قُل: لِيَفرَحِ النَّاسُ بدينِ اللهِ والقُرآنِ الكريم، وبالإيمانِ واتِّباعِ الحقّ، فإنَّهُ أفضَلُ وأحسَنُ منْ هذا الذي يَحرِصُونَ عليهِ ويَجمعونَهُ منْ حُطامِ الدُّنيا وزخارِفِها وزَهرَتِها الفَانية.
﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى اللَّهِ تَفۡتَرُونَ﴾ [يونس :59]
وقُلْ لكُفّارِ مَكَّة: أرأيتُمْ هذا الرزْقَ الذي قدَّرَهُ اللهُ لكمْ لتَنتَفِعوا به، فجعَلتُمْ تُحَرِّمونَ أنواعًا منَ الحيَواناتِ والزُّروع، وتُحَلِّلونَ أخرَى، فهلْ أذِنَ اللهُ لكمْ بذلِك، أمْ أنَّكمْ تَكذِبونَ عليه، وتَقولونَ إنَّهُ مِنْ عندِ الله، وهوَ منْ عندِ أنفسِكم؟
﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الۡكَذِبَ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِۗ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ﴾ [يونس :60]
وما الذي يَظُنُّ المشرِكونَ المُكَذِّبونَ أنْ يُفعَلَ بهمْ يَومَ القِيامة، وقدْ حرَّموا وحَلَّلوا بأهوائهمْ وأضاليلِهم، التي لا مُستَندَ عَليها ولا دَليل؟ أيَحسَبونَ أنَّهمْ لا يُؤاخَذونَ على أفعَالِهمْ ولا يُعاقَبون؟
وإنَّ فَضلَ اللهِ على النَّاسِ عَظيم، ونِعمتَهُ عليهمْ لا تُقَدَّر، فزوَّدَهمْ بالعَقل، وسخَّرَ لهمْ ما في السَّماواتِ والأرض، وأرسلَ إليهمُ الرسُل، وأنزلَ عَليهمُ الكُتب، وأباحَ لهمُ الطيِّبَ النَّافِع، وحرَّمَ عليهمُ الخَبيثَ الضارّ، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَشكرونَ فضلَ الله، فيَتعامَلونَ بالخَبيثِ المُحرَّم، ويَتركونَ ما فيه فائدةٌ وشِفاء، ولا يَنتَفِعونَ بدِينِ الله.
﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي الۡأَرۡضِ وَلَا فِي السَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ﴾ [يونس :61]
وما تَكونُ في أمرٍ مِنَ الأمورِ أيُّها النبيّ، وما تَتلو مِنْ قُرآن، الذي هوَ منْ أعظَمِ شُؤونِك، ولا تَعمَلونَ أيَّ عمَلٍ منَ الأعمَالِ أيُّها النَّاس، إلاّ كُنّا شُهودًا عليكم، نَطَّلِعُ على أحوالِكم، ونَعلَمُ جَميعَ أمُورِكم، عندَما تَشرَعونَ فيها وتَخوضون، وما يَغيبُ عنْ ربِّكَ وَزنُ ذَرَّة، عالياً كانَ في السَّماء، أو أسْفلَ في الأرْض، وأصغرَ منْ ذلكَ أو أكبر، وكلُّ ذلكَ مُثبَتٌ في اللَّوحِ المَحْفوظ.
﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ اللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ [يونس :62]
ألا إنَّ أولياءَ اللهِ منْ عبادِهِ المُقرَّبينَ لا خَوفٌ عليهمْ يومَ القيامةِ عندَما يَخافُ النَّاسُ ويَجزَعون، بلْ همْ آمِنونَ فَرِحون، لا يَعتَريهمُ الهمُّ والحَزَن.
﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ [يونس :63]
وهمُ الذينَ آمَنوا حقَّ الإيمان، بكلِّ ما جاءَ مِنْ عندِ الله، ويَتَّقونَه، فيَمتَثِلونَ ما أمرَ به، ويَجتَنِبونَ ما نهَى عنه، ويَستَقيمونَ على الطَّاعةِ والامتِثال. وكلُّ مَنْ كانَ تَقيًّا فهوَ وَليّ.
﴿لَهُمُ الۡبُشۡرَىٰ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَفِي الۡأٓخِرَةِۚ لَا تَبۡدِيلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [يونس :64]
لهمُ البُشرَى الطيِّبةُ في الدُّنيا العَاجِلة، وفي الأخرَى الآجِلة.
وبُشراهُمْ في الدُّنيا "هيَ الرؤيا الصَّالِحة، يَراها الرجُلُ أو تُرَى له" كما في الحديثِ الصَّحيحِ الذي رَواهُ الحاكمُ وغَيرُه. و"رؤيا المؤمنِ جُزءٌ منْ ستَّةٍ وأربعينَ جُزءاً منَ النبوَّة". رواهُ البُخاريُّ في صَحيحه.
والرُّؤيا الصَّالِحةُ خَيرٌ وبَركة، ودَلالةٌ على التَّوفيقِ والفَوز، إنْ شاءَ الله.
وبُشراهُمْ في الآخِرةِ عندَما تَتلقّاهمُ الملائكةُ وتُبَشِّرُهمْ بالجنَّة: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة الحديد: 12].
ولا تَغييرَ لِقَولِ اللهِ تعالَى، ولا خُلْفَ لوَعدِه. وما وُعِدَ بهِ أولياءُ اللهِ منَ البُشرَى هوَ الفَلاحُ والنَّجاح، وهوَ الفَوزُ العَظيم، الذي لا فوزَ وراءَه.
﴿وَلَا يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّ الۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًاۚ هُوَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [يونس :65]
ولا تَغتمَّ منْ أقوالِ أعداءِ اللهِ المشرِكين، ولا تَتضايقْ مِنْ مَقالاتِهمُ الرَّديئة. إنَّ الغَلبَةَ والقُدرةَ كُلَّها لله، فلا يُقْهَرُ ولا يُغْلَب، وهوَ الذي يَحمي أولياءَهُ منْ كَيدِ الأعداء، ويَنتَقِمُ لهمْ ويَنصُرُهم، وهوَ السَّميعُ لِما يَقولونَ في حقِّك، عَليمٌ بأحوالِهمْ وما يُضمِرونَه.
﴿أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الۡأَرۡضِۗ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ﴾ [يونس :66]
ألا إنَّ جَميعَ مَنْ في السَّماواتِ والأرضِ مِنَ المَخلوقاتِ عَبيدٌ للهِ وتحتَ تَصرُّفه، وهؤلاءِ الشُّرَكاءُ الذينَ يَتوهَّمُ المشرِكونَ أنَّهمْ آلهة، ويَعبدونَها لِتَشفعَ لهمْ عندَ الله، ليسُوا شُركاءَ للهِ في شَيءٍ حَقيقةً، والذينَ يَعبدُونَها ليسُوا على يَقينٍ منْ ذلك، بلْ هُمْ يَتَّبِعونَ ظنَّهمُ الباطِل، وتَخمينَهمُ الفاسِد، فما هُمْ إلاّ كاذِبونَ مُفتَرونَ في ذلك.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ﴾ [يونس :67]
هوَ اللهُ الذي خلقَ لكمُ اللَّيلَ لتَستَريحوا فيهِ منْ تَعَبِ النَّهار، وتَهدَؤوا فيهِ وتَسكُنوا، وخَلقَ لكمُ النَّهارَ مُضِيئاً لتَسعَوا فيهِ وتَعمَلوا، ولا يَقدِرُ على هذا أحَدٌ غيرُ الله، وفي ذلكَ دَلائلُ على تَوحيده، وعلى قُدرتِهِ وعَظَمتِه، لمَنْ يَسمعُ هذهِ الأدلَّةَ ويَتدبَّرُها، ويَتنبَّهُ إليها ولا يَغفُلُ عنها.
﴿قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ هُوَ الۡغَنِيُّۖ لَهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۚ إِنۡ عِندَكُم مِّن سُلۡطَٰنِۭ بِهَٰذَآۚ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [يونس :68]
وقالَ المشرِكونَ إنَّ للهِ ولَدًا، كقَولِ الكافِرينَ إنَّ الملائكةَ بَناتُ الله، وقَولِ النصارَى إنَّ عيسَى بنَ مريمَ ابنُ الله، وقولِ اليهودِ إنَّ عُزَيرًا ابنُ الله! تَقدَّسَ اللهُ وتنزَّهَ عنْ ذلك، هوَ الغنيُّ عنْ كلِّ ما خَلقَه، ولهُ جميعُ ما في السَّماواتِ والأرض، وهمْ تحتَ سُلطانهِ وقَهرِه، ومُفتَقِرونَ إلى تَدبيرِه.
ليستْ لكمْ أيَّةُ حُجَّة، ولا تَملِكونَ أيَّ بُرهانٍ على قَولِكمْ إنَّ للهِ ولَدًا، سِوَى الكَذبِ والبُهتان.
أتقولونَ على اللهِ العَظيمِ شَيئاً لا تَعرِفونَه، ولستُمْ مُتأكِّدينَ منهُ ولا مُتَثَبِّتين؟
إنَّ اللهَ واحِدٌ أحَد، ليسَ ذا طَبيعةٍ بَشَريَّةٍ حتَّى يَتَّخِذَ منَ البَشَرِ ولَداً. فالبَشَرُ يولَدونَ ويَموتون، واللهُ لم يَلِد، ولا يَموت. والبشَرُ مُحتاجُونَ إلى الله، واللهُ ليسَ مُحتاجًا إلى أحَدٍ منهم.
﴿قُلۡ إِنَّ الَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ﴾ [يونس :69]
قُلْ أيُّها الرسُولُ الكريم: إنَّ الذينَ يَكذِبونَ على الله، ويَنسِبونَ إليهِ الشَّريكَ والولَد، لا يَنجُونَ مِنَ العِقاب، ولا يَفوزونَ بالنَّعيم.
﴿مَتَٰعٞ فِي الدُّنۡيَا ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الۡعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ﴾ [يونس :70]
إنَّ ما فيهِ المشرِكونَ اليَومَ في الحَياةِ الدُّنيا، ما هوَ إلاّ مَتاعٌ قَليل، ونَعيمٌ زائل، وسَوفَ تَنقَضي آجالُهمْ جَميعًا، ثمَّ إلينَا مَرجِعُهمْ يومَ القيامة، لِنُذيقَهمُ العَذابَ الأليمَ والشَّقاءَ المؤبَّد، بسَببِ كُفرِهمُ المستَمِرّ، وافترائهمُ الكذِبَ على الله.
﴿۞وَاتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ اقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ﴾ [يونس :71]
واقْصُصْ على المشرِكينَ الذينَ يُكَذِّبونكَ ويُخالِفونَك، خبَرَ رَسولِنا نوحٍ عليهِ السَّلامُ معَ قَومهِ الذينَ كَذَّبوه؛ ليَعتَبِروا، وليَحذَروا أنْ يُصيبَهمْ ما أصابَهم، فقدْ قالَ لقَومِه، وكانوا في بِلادِ العِراق، وقدْ لَبِثَ فيهمْ ألفَ سَنةٍ إلاّ خَمسينَ عامًا: إنْ كانَ عَظُمَ وشَقَّ عليكمْ طُولُ مَكثي بينَ ظَهرانَيكم، وتَذكيري إيّاكمْ بحُجَجِ اللهِ وبيِّناتهِ الدالَّةِ على تَوحيدِه، وببُطلانِ ما أنتُمْ عليهِ منَ الشِّرك، فإنَّني لا أُبالي بذلكَ منكم، ولا أنتهي عنْ دعوتِكمْ إلى الحقِّ والهُدَى، وفوَّضتُ أمرِي إلى الله، فهوَ ناصِري ومُؤيِّدي.
فاجتَمِعوا أنتُمْ وشُركاؤكمُ الذينَ تَعبدونَهم، ثمَّ لا تَجعَلوا أمرَكمُ الذي اجتَمعتُمْ عليهِ مَستورًا مَخفيًّا، بلْ أظهِروهُ واجهَروا به، فإذا زعَمتُمْ أنَّكمْ مُحِقُّون، فأدُّوا إليَّ ما انتهَتْ إليهِ مَشورَتُكم، ولا تُمهِلوني ولا تَستأذِنوني للأُهبَةِ والاستِعدادِ إذا أردتمُ الإضرارَ بي، فإنِّي لا أبالي بكم، ولا أخافُ منكم، ولا آبَهُ بظُنونِكمْ وتَخرُّصاتِكم، لأنَّكمْ لستُمْ على شَيء.
﴿فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَمَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ الۡمُسۡلِمِينَ﴾ [يونس :72]
فإذا كذَّبتُمْ وأعرضتُمْ عنْ طاعةِ الله، فإنِّي لم أطلُبْ منكمْ أجرًا مُقابِلَ تَذكيري ووَعظي إيَّاكمْ حتَّى أتَضرَّرَ مِنْ قَطعِهِ عنِّي، فأنا مُستَغْنٍ عنْ أموالِكم، بطلَبي الأجرَ والثوابَ على ذلكَ منَ اللهِ وحدَه، وأُمِرتُ أنْ أكونَ مُسلِماً مُخلِصاً، لا أبتَغي بالدَّعوةِ مالاً ولا غيرَه.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِي الۡفُلۡكِ وَجَعَلۡنَٰهُمۡ خَلَـٰٓئِفَ وَأَغۡرَقۡنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۖ فَانظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الۡمُنذَرِينَ﴾ [يونس :73]
فأصَرُّوا على تَكذيبِ نوح، فأنجَيناهُ ومَنْ آمنَ معَهُ في السَّفينة، وجَعلناهُمْ خَلَفًا في الأرضِ عنِ الذينَ أُغرِقوا في الطُّوفان، وأغرَقنا الذينَ كذَّبوهُ جَميعًا ولم نُبْقِ منهمْ أحَدًا. فانظُرْ ماذا كانتْ نتيجةُ مَنْ أنذَرناهُمْ وخَوَّفناهُم، الذينَ كفَروا برسَالةِ نبيِّهم، ولم يَنجَعْ فيهمُ الوَعظُ والتَّذكير، والإنذارُ والتَّحذير، فكانَ عاقِبتَهمُ الهلاكُ.
﴿ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم بِالۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِۦ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ نَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الۡمُعۡتَدِينَ﴾ [يونس :74]
ثمَّ بَعثنا منْ بعدِ نُوحٍ رُسُلاً إلى أقوامِهم، فجَاؤوهمْ بالمُعجِزاتِ والأدلَّةِ الواضِحات، فما كانوا لِيؤمِنوا بها، كما لم يؤمنِ السَّابقونَ برُسُلِهمْ وبرِسالاتِهم، بلْ كذَّبوهم، فطَبيعتُهمْ واحِدة، ومَوقِفُهمْ واحِد، وهوَ الكفرُ والعِناد، وعدَمُ التدبُّرِ والتفكُّر. وحسَبَ سُنَّةِ اللهِ تعالَى، فإنَّ مَنْ أغلَقَ قلبَهُ أمامَ نُورِ الإيمان، وحجَّرهُ بالعِناد، وغَلَّفَهُ بالاستِكبار، ومنعَ دُخولَ نَسْمَةِ الكلمةِ الطيِّبةِ إليه، فإنَّ اللهَ لا يَهديه.
﴿ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِم مُّوسَىٰ وَهَٰرُونَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦ بِـَٔايَٰتِنَا فَاسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمٗا مُّجۡرِمِينَ﴾ [يونس :75]
ثمَّ بَعَثنا منْ بعدِ أولئكَ الرسُلِ موسَى وأخاهُ هارونَ إلى فِرعَونَ وقَومِه، بحُجَجِنا ومُعجِزاتِنا، فتَكبَّروا وعانَدوا، وأبَوا اتِّباعَ الحقّ، وكانوا قَومًا كافِرينَ مُجرِمين، مُرتَكبينَ لذُنوبٍ عَظيمة.
﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الۡحَقُّ مِنۡ عِندِنَا قَالُوٓاْ إِنَّ هَٰذَا لَسِحۡرٞ مُّبِينٞ﴾ [يونس :76]
فلمّا رأوا المعجِزات، وهيَ حقٌّ ثابتٌ مِنْ عندِ الله، وليستْ بتخيُّلاتٍ وتمويهَات، وظهرَ أمرُها واضِحاً، قالوا في عِنادٍ وعُتوّ: إنَّ هذا سِحرٌ واضِحٌ بَيِّن.
﴿قَالَ مُوسَىٰٓ أَتَقُولُونَ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمۡۖ أَسِحۡرٌ هَٰذَا وَلَا يُفۡلِحُ السَّـٰحِرُونَ﴾ [يونس :77]
قالَ لهمْ نبيُّهمْ موسَى عليهِ السَّلام، مُنكِراً عليهمْ جَوابَهمْ ومَوقِفَهمُ السيِّء: أتقولونَ للحَقِّ الذي جاءَكمْ مِنْ عندِ ربِّكمْ إنَّهُ سِحر؟ أسِحرٌ هذا، والسِّحرُ ليسَ دِينًا، ولا مِنْهَجًا للهِداية، وليسَ فيهِ عَقيدَةٌ ودَعوَةٌ ربّانيَّة، وما كانَ السَّحرةُ لِيفوزوا بِحَقٍّ وصَلاح، وشَأنُهمُ الكَذِبُ والتَدْجِيل.
﴿قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الۡكِبۡرِيَآءُ فِي الۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ﴾ [يونس :78]
قالَ فِرعَونُ وَمَلَؤهُ لموسَى عليهِ السلام، وقدْ خافُوا على مَناصِبِهمْ وعَقائدِهمُ الفاسِدة: أجِئتَنا لتَصرِفَنا عنِ الذي وجَدنا عليهِ آباءَنا منْ عِبادةِ غيرِ الله، ويَكونَ لكَ ولأخيكَ هارونَ المُلْكُ والسُّلطانُ في أرضِ مِصر، وتَنفَرِدا بالعَظَمةِ والرئاسَةِ دونَنا؟! لا نُصَدِّقُكما فيما جِئتُما به، ولا نُتَّبِعُكما على دينِكما، مهما أتَيتُما بهِ منْ أدلَّةٍ ومُعجِزات!
﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ ائۡتُونِي بِكُلِّ سَٰحِرٍ عَلِيمٖ﴾ [يونس :79]
وقالَ فِرعَونُ لكُبراءِ دَولَتِهِ مِنْ ذوي مَشورَتَهِ، في غَطرَسةٍ وتَحَدٍّ لنبيِّ اللهِ موسَى: ائتُوني بكلِّ سَاحِرٍ منْ أرضِ مِصرَ يَكونُ حاذِقًا ماهرًا في فُنونِ السِّحر، ليُجابِهوا بهِ سِحرَ موسَى.
﴿فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰٓ أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم مُّلۡقُونَ﴾ [يونس :80]
فلمّا اجتمعَ السحَرَةُ في مَيدانِ التحَدِّي، قالَ لهمْ موسَى في ثَباتٍ وإيمان: أَلْقُوا الذي عندَكمْ منَ العِصيِّ والحِبالِ وما كانَ منْ أنواعِ السِّحر.
﴿فَلَمَّآ أَلۡقَوۡاْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئۡتُم بِهِ السِّحۡرُۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبۡطِلُهُۥٓ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصۡلِحُ عَمَلَ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [يونس :81]
فلمّا أَلْقَوا ما بأيدِيهم، وخيَّلوا للنَّاسِ صُوَرًا وأشْكالاً عَظيمةً روَّعَتهُم، قالَ لهمْ موسَى: إنَّ هذا الذي فَعلتُموهُ سِحرٌ للأنظَار، وهوَ تَخييلٌ وتَزييفٌ لا أصلَ لهُ منَ الحَقيقة، ولا يُضاهي شَيئاً منْ مُعجِزَةِ اللهِ الحَقيقيَّة، وسَوفَ يُظهِرُ اللهُ فَسادَهُ وبُطلانَهُ للنَّاس، واللهُ لا يُصلِحُ عملَ المُفسِدينَ الذينَ يُضَلِّلونَ الناس، ولا يؤيِّدُ أعمالَهمْ ولا يُدِيمُها، بلْ يُزيلُها ويُظهِرُ بُطلانَها.
﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ الۡمُجۡرِمُونَ﴾ [يونس :82]
ويُثَبِّتُ اللهُ الحقَّ ويُقَوِّيه، ولو كَرِهَ المُجرِمونَ ذلك، مِنَ السَّحَرَةِ والطُّغاةِ والمُكذِّبين، فَكراهَتُهمْ لا تُعَطِّلُ مَشيئةَ الله، ولا تَحُولُ دونَ إظهارِ الحقّ.
﴿فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي الۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ الۡمُسۡرِفِينَ﴾ [يونس :83]
وعلى الرَّغمِ منَ الأدلَّةِ الكافيةِ على صِدقِ رسالةِ موسَى عليهِ السَّلام، إلاّ أنَّهُ لم يؤمِنْ بهِ إلاّ أولادُ بَعضِ بَني إسْرائيل، وكانوا على خَوفٍ ووَجَلٍ منْ بَطْشِ فِرعَونَ ومُلاحقَةِ كِبارِ قَومِهِ لهم، خَوفًا منْ تَعذيبِهمْ لهمْ وصَرفِهمْ عنِ الدِّينِ الحقِّ الذي اعتَنقوه.
وكانَ فِرعَونُ مُتَكبِّرًا مُتَعَجرِفًا، وحاكِمًا طاغيةً مُتجَبِّرًا، ذا حُكومةٍ قويَّةٍ وبَطشٍ وإرهاب، مُتجاوِزًا الحدَّ في الظُّلمِ والفَساد، بسَفكِ الدِّماءِ والإهانةِ وبَثِّ الرُّعبِ والتكبُّرِ... حتَّى ادَّعَى الرُّبوبيَّة!
﴿وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ﴾ [يونس :84]
وقالَ موسَى لمؤمِني قومِهِ عندَما رأى تَخَوُّفَهم: يا قَوم، إذا كنتُمْ صَادِقينَ في إيمانِكم، مُتمَسِّكينَ بعَقيدتِكمْ حقّاً، ففَوِّضوا أمرَكمْ إلى اللهِ واعتَمِدوا عليه، فإنَّهُ كافيكُمْ كلَّ شَرٍّ وضُرّ، هذا إذا كنتُمْ مُستَسلِمينَ لقضاءِ الله، مُخلِصينَ له.
﴿فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلۡنَا رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلۡقَوۡمِ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [يونس :85]
فقالَ قَومُهُ المؤمِنون: اعتَمَدنا على الله، وأخلَصنا لهُ العِبادةَ والدُّعاء. اللهمَّ لا تُمَكِّنْ أعداءَنا منّا، ولا تُسَلِّطْهُمْ عَلينا، فيُعَذِّبونا ويَصرِفونا عنْ دينِنا، فإنَّهمْ جبَّارونَ ظَالِمون، لا يَعرِفونَ رَحمَة، ولا يُراعُونَ حقًّا.
﴿وَنَجِّنَا بِرَحۡمَتِكَ مِنَ الۡقَوۡمِ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [يونس :86]
وخلِّصْنا برَحمَتِكَ وإحسانِكَ منَ القَومِ الكافِرين، الذينَ لا يَتَّصِفونَ بإيمانٍ يَردَعُهم، ولا إحسانٍ يَمنَعُهم.