﴿وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَاجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [يونس :87]
وأوحَينا إلى نبيِّ اللهِ موسَى وأخيهِ هارونَ أنِ اتَّخِذا للمؤمِنينَ منْ قَومِكما بُيوتًا تَكونُ معابِد يَتعَبَّدونَ فيها، واجعَلوا وجوهَ بيوتِكمْ إلى القِبلة - وكانوا يَتوجَّهونَ إلى الكَعبةِ في صَلاتِهم، وفي قولٍ إنَّ بيوتَهمْ قِبلتُهم -. وحافِظوا على إقامةِ الصَّلاةِ كما فُرِضَتْ عَليكم. وبَشِّرِ المؤمنينَ بالنَّصرِ في الدُّنيا، وبالأجرِ الكبيرِ في الآخِرَة.
﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ وَأَمۡوَٰلٗا فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا اطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَاشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ الۡعَذَابَ الۡأَلِيمَ﴾ [يونس :88]
ولمّا استَمرَّ فِرعَونُ وقومُهُ في الضَّلالِ والفَساد، وازدَادوا ظُلمًا وتَكبُّرًا، دعَا موسَى ربَّهُ قائلاً: اللهمَّ إنَّكَ أعطيتَ موسَى وكُبراءَ قَومِهِ زِينةَ الدُّنيا ومَتاعَها، وأموالاً كثيرةً في هذهِ الحياةِ الدُّنيا، ويَنشأُ عنْ ذلكَ إضلالُ النَّاسِ عنْ سَبيلِك، فيُذِلُّونَ الآخَرينَ بقوَّةِ مالِهم، أو يُغْرُونَهمْ بالبذَخِ والغِنَى الذي همْ فيه، فلا يَصمُدونَ أمامَ إغْراءِ الدُّنيا، فيَتَّبِعونَهم. اللهمَّ فأهلِكْ أموالَهم، وأذهِبْ غِناهُمْ وترَفَهُم، وأزِلْ عنهمْ هذهِ الوَسيلةَ الطَّاغيةَ في الظُّلم، والقوَّةَ المُغرِيَةَ في الفَساد، حتَّى لا يَنتَفِعوا بها، واجعَلْ قلوبَهمْ قاسِيةً مُستَغْلَقَة، ما دامُوا يَزدادونَ إصرارًا وعِنادًا في الكُفر، حتَّى يأتيَهمْ عذابُكَ الشَّديدُ الموجِعُ وهُمْ كذلك، ولنْ يُقبَلَ منهمُ الإيمانُ عِندَئذ.
﴿قَالَ قَدۡ أُجِيبَت دَّعۡوَتُكُمَا فَاسۡتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [يونس :89]
قالَ اللهُ تعالَى لموسَى وهارونَ عليهما السَّلام: قدْ أجابَ اللهُ دُعاءَكما - وكانَ هارونُ يَدعو بدُعاءِ أخِيه، أو يؤمِّنُ عَليه - فاستَقيما على طاعَتي، واثبُتا على أمْري، ولا تَسلُكا طريقَ الذينَ يَجهَلونَ الحقَّ فيَترَدَّدونَ ويَتخَبَّطون، فإنَّكما على حَقّ، وسَيأتيكمُ النَّصرُ الذي وعَدتُكمْ به.
﴿۞وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ الۡبَحۡرَ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡيٗا وَعَدۡوًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ الۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ الۡمُسۡلِمِينَ﴾ [يونس :90]
وخرجَ بَنو إسْرائيلَ معَ نبيِّهمْ موسَى مِنْ مصر، لكنَّ فِرعَونَ وحُشودًا حاشِدةً منْ جُنودِهِ مَضَوا إليهمْ ليُطارِدُوهمْ ويَقتلوهم.
وعَبَرنا ببَني إسْرائيلَ البحرَ، وأدركَهمْ فِرعَونُ وجُنودُهُ وهمْ في البَحر، لاحَقوهُمْ ليَقتُلوهمْ ظُلماً وعُدوانًا، لا لشَيءٍ إلاّ لإيمانِهم، فنجَّى اللهُ المؤمِنينَ إلى الطرَفِ الآخَرِ منَ البَحر، ومنَّ علَيهم بالنَّصر، وأغرقَ فِرعَونَ ومَنْ معَهُ فيه.
ولمّا غَمرَهُ الماءُ وعاينَ الموت، وعَلِمَ أنْ لا نَجاةَ له، قالَ مُعلِناً إيمانَه، حيثُ لا يُقْبَلُ الإيمانُ منْ أحَدٍ وهوَ في تلكَ الحال: آمَنتُ أنَّهُ لا إلهَ بحَقٍّ إلاّ الإلهُ الذي آمَنَتْ بهِ بَنو إسْرائيل، وأنا مِنْ جُملَةِ المسلِمينَ الذينَ أسلَموا نُفوسَهمْ إلى الله!
﴿ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [يونس :91]
آلآنَ تُؤمِنُ يا فِرعَونُ حيثُ لا مَجالَ لكَ للفِرارِ والاختِيار، بعدَ أنْ كنتَ عاصيًا مُستَكبِرًا، ضالاًّ مُفسِدًا، طاغيةً ظالِمًا؟
﴿فَالۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ النَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ﴾ [يونس :92]
فاليومَ نُلقي بجُثَّتِكَ الهامِدةِ على مُرتَفَعٍ مِنَ الأرض، لِتَكونَ عِبرةً وعِظةً للنَّاس، ليَعلَموا أنَّ مآلَكَ هوَ الموتُ مثلَ غيرِكَ مِنْ عَبيدِ الله، وأنَّكَ كنتَ مملوكًا مَقهورًا، لا رّبًّا قاهِرًا كما ادَّعَيت. وللهِ عِبَرٌ كثيرَةٌ في هذا الكون، يَعرِفُها العُقلاءُ المتَدَبِّرون، ولكنَّ أكثرَهمْ عنها غافِلون.
قالَ في "روح المعاني": لِتكونَ لمَنْ يأتي بعدَكَ مِنَ الأمم، إذا سَمِعوا حالَ أمرِكَ ممَّنْ شاهدَ حالَكَ وما عَراك، عِبرةً...
وذكرَ علماءُ للتَّشريحِ والآثارِ في عَصرِنا أنَّ جُثَّةَ فِرعَونَ ما زالتْ موجودةُ مُحنَّطة. وكانتْ سببًا لإسلامِ جرَّاحٍ عالَميٍّ مَشهور، أشرَفَ على الاهتمامِ بالجثَّةِ المهتَرئة، ووَجدَ في حَلْقِهِ أملاحًا، ممّا يَعني أنَّهُ ماتَ غَرَقًا في البحرِ كما ذُكِرَ في القُرآن، بينما لم تُذكَرْ كيفيَّةُ وفاتهِ في التَّوراةِ والإنجِيل... واللهُ أعلمُ بذلك.
﴿وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مُبَوَّأَ صِدۡقٖ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ فَمَا اخۡتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ الۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ﴾ [يونس :93]
ولقدْ أنزَلنا بَني إسْرائيلَ مَكانًا طيِّبًا وإقامةً آمِنة - ذُكِرَ أنَّهُ بلادُ مِصرَ والشَّام، ممّا يلي بيتَ المَقدِسِ ونَواحِيَه - ورَزقناهمُ الحَلالَ الطيِّب، واللَّذيذَ النافِعَ مِنَ الأطعِمة.
وما اختَلَفوا في أمورِ دينِهمْ أوَّلاً، بلْ كانوا مُتَّبِعينَ أمرَ رَسولِهم، ثمَّ اختَلَفوا بعدَ أنْ عَلِموا ما في التَّوراةَ ووقَفوا على أحكامِها بعدَ وفاتِه، وفسَّروها تَفسيراتٍ باطِلة، وأوَّلوها تأويلاتٍ بَعيدة، وتَخلَّوا عنِ العَقيدةِ الصَّحيحة، ولازَموا جانِبَ الخِلافِ والجَدَل، بَغْيًا وحَسَدًا بينَ بعضِهمُ البعض، حتَّى صَاروا فِرَقًا عَديدة. وإنَّ اللهَ سيَقضي بينَهمْ يومَ القيامةِ بحُكمهِ العَدل، في الذي كانوا يَختَلِفونَ فيه، ويُظهِرُ المُحِقَّ مِنْ غَيرِه.
﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسۡـَٔلِ الَّذِينَ يَقۡرَءُونَ الۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ الۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الۡمُمۡتَرِينَ﴾ [يونس :94]
فإنْ كنتَ في شَكٍّ مِنَ القَصَصِ المُنزَلةِ عليكَ في القُرآن، ومنها قِصَّةُ فِرعَونَ وموسَى، وأخبارُ بَني إسْرائيل، فاسألْ أهلَ الصِّدقِ ممَّنْ يَقرَؤونَ التَّوراةَ والإنجيلَ مِنْ أهلِ الكتاب، فإنَّها مُثبَتةٌ في كتُبِهم. لقدْ جاءَكَ الوحيُ الحقّ، والخبَرُ الصَّادق، والدِّينُ الخاتَم، فلا تَتردَّدْ فيما أنتَ فيه، ولا تكنْ منَ الشَّاكِّينَ في شَيءٍ مِنْ ذلك.
ولم يَشُكَّ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم، ولم يَسأل، ولكنَّ ما في الآيةِ تَثبيتٌ لهُ وتَنبيهٌ للمُسلِمينَ على أمُورِ دِينِهم. وقدْ نَزلتِ الآياتُ عليهِ في مكَّة، وكانَ يُلاقي عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ أذًى وشِدَّةً وتَعَنُّتًا مِنْ قَومِه، وارتدَّ عددٌ ممَّنْ آمنَ بعدَ حَادثِ الإسراء... وكذا الأمرُ في الآيةِ التَّالية.
﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الۡخَٰسِرِينَ﴾ [يونس :95]
ولا تَكنْ أيُّها الرسُولُ ممَّنْ كذَّبَ بآياتِ اللهِ وأدلَّتِه، فتَكونَ ممَّنْ خابَ وخَسِر.
وهذا ممّا لا يُتوقَّعُ منهُ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّهُ تَخويفٌ وتَرهيب، وتَعريضٌ بالشاكِّينَ المكَذِّبين، وفُرصَةٌ لمَنْ شَكَّ أنْ يَسألَ حتَّى يَتوَثَّقَ ويَتيقَّنَ مِنْ عَقيدَتِه، بدلَ أنْ يرتدَّ ويُكَذِّب.
﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [يونس :96]
إنَّ الذي لا يأخُذُ بأسبابِ الهُدَى لا يَهتدي، ومَنْ أغلقَ نوافِذَ القلبِ عنْ تَلقِّي ضياءِ الإيمانِ لا يؤمِن، وقدْ عَلِمَ اللهُ فيهمْ ذلك، فثبَتَ عليهمْ حُكمُهُ وقَضاؤهُ بأنَّهمْ يَموتونَ على الكُفر.
﴿وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ الۡعَذَابَ الۡأَلِيمَ﴾ [يونس :97]
ولو كَثُرَتْ عليهمُ الأدلَّةُ الواضِحة، وأُنزِلَتْ عليهمُ المُعجِزاتُ الكثيرَة، وجابَهَتهُمُ الحُجَجُ الدَّامِغة، فإنَّهمْ لا يؤمِنونَ بها، حتَّى يَنزِلَ بهمُ العَذابُ المؤلِمُ الشَّديد، عندَ ذلكَ يؤمِنون، ولكنَّهُ إيمانٌ لا يَنفَعُهم حينَذاك، فكأنَّهمْ لم يَتلَفَّظوا به.
﴿فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ الۡخِزۡيِ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ﴾ [يونس :98]
فهلاّ آمنَ أهلُ القُرَى - مِنَ الذينَ مَرَّ ذكرُهمْ - قبلَ أنْ يَنزِلَ بهمُ العَذابُ حتَّى يَنفَعَهمْ إيمانُهم، فإنَّ الإيمانَ عندَ نُزولِ العَذابِ لا يَنفَع، إلاّ قومَ النبيِّ يونُسَ عليهِ السَّلام، فإنَّهمْ لمّا آمَنوا عندَ رؤيةِ أماراتِ العَذاب، كشَفنا عنهمْ ما هُدِّدوا بهِ منَ العَذابِ المُخزي الذي كانَ سيَقَعُ بهمْ في الدُّنيا، وتُرِكوا ليَتَمَتَّعوا في الحياةِ حتَّى وقتِ انقِضاءِ آجالِهم.
﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي الۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ﴾ [يونس :99]
ولو شاءَ اللهُ أنْ يؤمِنَ النَّاسُ كلُّهمْ، لآمَنوا جميعًا ولم يَتخَلَّفْ منهمْ أحَد، ولكنَّهُ سُبحانَهُ شاءَ أنْ يَترُكَ لهمْ حُرِّيَّةَ الاعتِقادِ والاختِيار، بعدَ أنْ زوَّدَهُمْ بالعَقل، وبيَّنَ لهمْ طريقَ الخَيرِ والشرّ، ليَكونوا مَسؤولينَ عنِ اختيارِهم، أفأنتَ تُجبِرُ الناسَ ليؤمِنوا - أيُّها النبيُّ - ولم يُجْبِرْهمُ اللهُ على ذلك؟ فإنَّ هذا ليسَ لك.
﴿وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ اللَّهِۚ وَيَجۡعَلُ الرِّجۡسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ﴾ [يونس :100]
ولنْ تؤمِنَ نَفسٌ إلاّ بإذنِه وإرادَتِه، ولنْ يَكونَ هناكَ أمرٌ بخلافِ مَشيئتِهِ سُبحانَه، فلنْ تؤمِنَ نَفسٌ منَ النُّفوسِ التي عَلِمَ اللهُ أنَّها لنْ تؤمِن، ولنْ يَكفُرَ مَنْ كانَ في سَابقِ عِلمِهِ أنَّهُ لا يَكفُر، فهوَ العالِمُ مُسبَقًا بمَنْ فتحَ قلبَهُ للإيمان، وبمنِ استَكبرَ عنْ قَبولِ الحقِّ وأصَرَّ على الكُفر، فهذا كلُّهُ في سَابقِ عِلمِه.
وقالَ صاحِبُ الظِّلال: "المقصودُ أنَّها لا تَصِلُ إلى الإيمانِ إلاّ إذا سارَتْ وفقَ إذنِ اللهِ وسُنَّتِهِ في الوصُولِ إليهِ منْ طَريقهِ المرسُومِ بالسنَّةِ العامَّةِ [يَعني سُلوكَ مسالِكَ الهُدَى] وعندَئذٍ يَهديها اللهُ ويَقعُ لها الإيمانُ بإذنِه، فلا يَتِمُّ وُقوعُهُ إلاّ بقَدَرٍ خاصٍّ به، إنَّما الناسُ يَسيرونَ في الطَّريق، فيُقَدِّرُ اللهُ لهمْ عاقِبةَ الطريق، ويُوقِعُها بالفِعلِ جزاءَ ما جاهَدوا في اللهِ ليَهتَدوا".
ويَجعَلُ اللهُ الكُفرَ والضَّلالَ على الذينَ لا يَستَعملونَ عُقولَهمْ في فَهمِ آياتِ الله، فهوَ العادِلُ الحَكيم، الذي يَهدي مَنْ أقبلَ إليه، ويُضِلُّ مَنْ أبَى.
﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي الۡأٓيَٰتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ﴾ [يونس :101]
قُلْ لهؤلاءِ الكافِرين: تَفَكَّروا في خَلْقِ السَّماواتِ والأرض، وما بثَّ فيهما مِنْ بَديعِ صُنعِه، وعَجائبِ حِكمتِه، فهذهِ الأقمارُ والنُّجوم، واختِلافُ اللَّيلِ والنَّهار، والسَّحابُ والهَواء، والمطَرُ والثَّلج، والبَراري والبِحارُ وما فيها، والزُّروعُ والثِّمار، وأصنافُها وفوائدُها... ثمَّ الحيَوانُ وتَكوينُهُ، والأرْواحُ السَّاكنةُ فيه، والإنسانُ وتَفكيرُهُ وفَهمه، وجوارِحهُ وحواسُّهُ وحركاتُه...، وما لا يُحصَى مِنْ خَلقِ الله، وما فيهِ مِنْ حِكَمٍ وأسْرار... لكنَّ كلَّ هذا الكونَ وما فيه، والطبيعَةَ وما تَحكيه، والرُّسُلَ وما يُنذِرون، لنْ يُفيدَ قومًا لا يُريدونَ الإيمان.
﴿فَهَلۡ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثۡلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِهِمۡۚ قُلۡ فَانتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الۡمُنتَظِرِينَ﴾ [يونس :102]
فهلْ يَنتَظِرُ هؤلاءِ المُكَذِّبونَ إلاّ مثلَ ما نَزلَ منْ بأسِ اللهِ ونِقمتِهِ بمَنْ كذَّبوا رُسُلَهمْ مِنْ قَبل؟
وقُلْ للكافِرينَ مِنْ قَومِك: إذاً فانتَظِروا ما تأمُلونَ منْ هَلاكي، فإنِّي مُنتَظِرٌ هَلاكَكم.
﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيۡنَا نُنجِ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [يونس :103]
ثمَّ نُنَجِّي رسُلَنا والذينَ آمَنوا بهمْ عندَ نُزولِ العَذاب، ونُهلِكُ المكَذِّبينَ بهم، وكما أنجَينا المؤمِنينَ مِنْ قَبل، فكذلكَ نُنْجِيهمْ بعدَ كلِّ تَكذيب، حقًّا واجِبًا، كتبَهُ اللهُ على نفسِهِ الكريمة.
﴿قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي شَكّٖ مِّن دِينِي فَلَآ أَعۡبُدُ الَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنۡ أَعۡبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّىٰكُمۡۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [يونس :104]
قُلْ يا نبيَّ الله: أيُّها النَّاس، إنْ كنتُمْ في رَيبٍ منْ صِحَّةِ الدِّينِ الذي أدعوكُمْ إليه، وأتَعبَّدُ اللهَ على هَدْيه، فإنَّني لا أتركُهُ أبدًا، ولا أعبدُ الأصنامَ التي تَعبدُونَها مِنْ دونِ الله، ولكنْ أعبدُ اللهَ وحدَه، الذي بيدِهِ آجالُكم، أحياكم، ثمَّ يُميتُكم، ثمَّ يُحييكُمْ للحِسابِ والجَزاء، فهوَ الإلهُ الذي يَستَحِقُّ العبادة، وليسَ أصنامَكمُ التي لا تُحيي ولا تُميت، ولا تَضرُّ ولا تَنفَع. وأوجبَ اللهُ عليَّ أنْ أكونَ منَ المؤمِنين، فأنا عندَ أمرِه.
﴿وَأَنۡ أَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [يونس :105]
وأقِمْ وجهَكَ أيُّها الرسُولُ لدِينِ اللهِ المُستَقيم، المائلِ عنِ الأديانِ الباطِلةِ إلى دينِ الإسلام، واصرِفْ ذاتَكَ وكُلِّيتَكَ له، واجتَهِدْ في ذلكَ بأداءِ الفرائضِ وجَميعِ ما أمركَ اللهُ به، وأخلصِ العبادةَ له، ولا تَلتَفِتْ إلى اعتِقاداتِ المشرِكينَ الضالَّةِ وأعمالِهمُ السيِّئة.
﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [يونس :106]
ولا تَعبُدْ مِنْ دونِ اللهِ ما لا يَنفَعُكَ إنْ أطَعتَه، ولا يَضُرُّكَ إنْ تركتَه، فإذا فعلتَ ذلكَ كنتَ في عِدادِ المشرِكينَ الظَّالمين، الذينَ يَضرُّونَ بأنفسِهم، ويَستَحِقُّونَ عليهِ العَذابَ الأليم.
وهوَ تذكيرٌ وتَحذيرٌ للأمَّة، وتَرهيبٌ ووعيدٌ لمَنْ فَعلَ ذلك.
﴿وَإِن يَمۡسَسۡكَ اللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يُرِدۡكَ بِخَيۡرٖ فَلَا رَآدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ الۡغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس :107]
وإذا أصابَكَ اللهُ بسُوء، كشِدَّةٍ ومَرض، فلا يَستَطيعُ أحَدٌ أنْ يَرفعَهُ عنكَ إلاّ هو، وإذا أرادَ أنْ يُصيبَكَ بخَير، كرِزقٍ وعافِية، فلا أحَدَ مِنْ خَلقِهِ يَستطيعُ أنْ يُبعِدَ فضلَهُ عنك، فالخَيرُ والفَضلُ بيدهِ سُبحانَه، والعُقوبَةُ والضرُّ بيَدهِ كذلك، يُعطيها ويوْقِعُها بمَنْ شاءَ منْ عبادِه، بعَدْلهِ وحِكمَته، فهوَ وحدَهُ المستَحِقُّ للعِبادة، وهوَ الذي يَغفِرُ ذُنوبَ التَّائبينَ المُنيبين، ويَرحَمُهمْ إنْ أخلَصوا وصَدقُوا في تَوبتِهم، فلا يُعَذِّبُهم.
﴿قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ الۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ اهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ﴾ [يونس :108]
قُلْ يا نبيَّ الله: أيُّها النَّاس، لقدْ جاْءَكمُ الحقُّ مِنْ ربِّكم، وهوَ القُرآنُ العَظيم، ودِينُ اللهِ القويم، فمنِ اختارَ الهِداية، والإيمانَ والطَّاعَة، فإنَّ مَنفَعةَ هدايتِهِ تَعودُ على نفسِه، ومنِ اختارَ الضَّلالَ والكُفرَ والعِصيان، فوَبالُ اختيارِهِ يَعودُ على نَفسِهِ كذلك.
وقُلْ لهم: لستُ موَكَّلاً بكمْ حتَّى تَكونوا مُؤمِنين، ولا حافِظًا لكمْ لمَنعِكمْ منِ اعتِقادِ الباطل، إنَّما أنا بَشيرٌ ونَذير، ما عليَّ إلاّ البلاغ.
﴿وَاتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ وَاصۡبِرۡ حَتَّىٰ يَحۡكُمَ اللَّهُۚ وَهُوَ خَيۡرُ الۡحَٰكِمِينَ﴾ [يونس :109]
واتَّبِعْ في جَميعِ شُؤونِكَ ما أوحَى اللهُ بهِ إليك، وتَمسَّكْ بما أمرَكَ به، واصبِرْ على مَشاقِّ طَريقِ الدعوةِ ومُخالَفَةِ مَنْ ضَلّ، حتَّى يُظهِرَ اللهُ دينَه، وهوَ أحسَنُ مَنْ قضَى، وأعدَلُ مَنْ حَكَم، لا يُخطِئُ في حُكمِه، ولا يُرَدُّ قَضاؤه.
سورة هود - مكية - عدد الآيات: 123
11
﴿الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود :1]
الحروفُ المقَطَّعةُ لم يَرِدْ في مَعناها حديثٌ ثابِتٌ صَحيح.
القرآنُ الكريم، كتابُ اللهِ العَظيمُ الشَّأن، الذي أُحكِمَ بِناؤه، ودَقَّ لَفظُه، وأُحسِنَ نَظمُه، لا اختلافَ فيهِ ولا تَناقُض، ولا تَضارُبَ فيهِ ولا تَباعُد. ثمَّ فُصِّلَتْ آياتُه، وجُعِلَتْ مَوضوعاتُها في أمُورِ الناسِ وما يُهِمُّهمْ في دُنياهُمْ وآخِرَتِهم، فاشتملَتْ على العَقيدة، والأحكام، والقَصَص، والأخلاق، وما يَتفرَّعُ منها. فهوَ كلامٌ مُتقَنٌ حَكيم، نزلَ مِنْ عندِ الله، الحَكيمِ في أقوالِهِ وقَضائه، الخبيرِ بالأمُورِ وعواقِبِها، العالِمِ بما يُصلِحُ بهِ شُؤونَ عِبادِه.
﴿أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا اللَّهَۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ﴾ [هود :2]
وقدْ أنزلَ اللهُ كتابَه، وأحكمَ آياتِه، وبيَّنها لكم، لئلاّ تعبُدوا إلا إيّاه، ولِتَعرِفوا كيفَ تُخلِصونَ العِبادةَ له، فهي وظيفتُكمُ الأساسيَّةُ في الحياة.
وقُلْ للنَّاسِ أيُّها النبيّ: إنَّني مُرسَلٌ إليكمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ تعالَى، أُنذِرُكمْ عذابًا إذا أعرضتُمْ عنْ طاعتِه، وأًبَشِّركمْ ثوابًا إذا آمنتُم وأطَعتُم.
﴿وَأَنِ اسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ﴾ [هود :3]
واطلُبوا المَغفِرةَ منَ اللهِ لذُنوبِكم، وتوبُوا إليهِ منها، ولا تَعودوا إليها، ليَمنحَكمْ حياةً طيِّبة، فيها أمنٌ وعافِية، وسَكَنٌ ورَاحَة، حتَّى يأتيَ أجَلُكمُ المُقدَّرُ لكم، ولِيُعطيَ كلَّ ذي فَضلٍ وحسَنةٍ في الدُّنيا جَزاءَ فَضلِهِ وإحسانِهِ في الآخِرَة. فإذا أعرَضوا عنْ أمرِ الله، وأصَرُّوا على تَكذيبِ رَسولِ اللهِ ورسَالتِه، فقُلْ لهم: إنِّي أخافُ أنْ يَنالَكمْ يَومَ القِيامةِ عَذابٌ شَديدٌ لا مَفَرَّ لكمْ منه، ولا ناصِرَ لكمْ يَومَئذٍ يُخَلِّصُكمْ منه.
﴿إِلَى اللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [هود :4]
وسَوفَ تَموتون، ثمَّ يُحييكمُ الله، لتُرجَعوا إليهِ أخيرًا، فيُجازيكمْ على أعمالِكمْ يومَ البَعث، ويُخبِرُكمْ بمصيرِكمُ الذي هوَ نتيجةُ أعمالِكم، وهوَ القادِرُ على كلِّ شَيء، على خَلقِكم، وإماتَتِكم، وبَعثِكم، ثمَّ مُحاسبتِكم، وما يَترتَّبُ عليها.
﴿أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [هود :5]
إنَّ المُشرِكينَ إذا رأوْكَ تَقرأ كتابَ الله، أَثْنَوا صُدورَهمْ وأحنَوا رُؤوسَهمْ حتَّى يَتهرَّبوا مِنْ سَماعِه، تَخَفِّيًا مِنَ الله! ولِما يَعتَرِيهمْ مِنْ قَلقٍ وحَيرَة، وكأنَّهم يُحِسُّونَ في دَاخلِهمْ أنَّ هذا كلامُ الله، ويَخشَونَ إنِ استَمَرُّوا على سَماعهِ أنْ يُسلِموا! ألا فليَعلَمْ هؤلاءِ الغافِلون، أنَّهمْ إذا مضَوا إلى فُرُشِهمْ لينامُوا، وتغَطَّوا بأستارِهم، وتَفكَّروا بما يَجري لهمْ في أعماقِهم، فإنَّ اللهَ ناظِرٌ إليهم، عالِمٌ بما يُخفُونَ، وسِرُّهمْ عندَهُ كظاهرِهِم، وهوَ سُبحانَهُ عليمٌ بما تُخفيهِ الصُّدور، لا يَخفَى عليهِ شَيء.