﴿أَوۡ يَكُونَ لَكَ بَيۡتٞ مِّن زُخۡرُفٍ أَوۡ تَرۡقَىٰ فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤۡمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيۡنَا كِتَٰبٗا نَّقۡرَؤُهُۥۗ قُلۡ سُبۡحَانَ رَبِّي هَلۡ كُنتُ إِلَّا بَشَرٗا رَّسُولٗا﴾ [الإسراء :93]
أو يَكونَ لكَ بَيتٌ مِنْ ذَهَب، أو تَصعَدَ في السَّماءِ ونحنُ نَنظُرُ إلَيك، ولنْ نُصَدِّقَ صُعودَكَ فيها حتَّى تُنَزِّلَ منها عَلينا كِتابًا نقرَأُ فيهِ أمْرَنا باتِّباعِك.
قُلْ لهمْ تَعَجُّبًا: تعالَى اللهُ وتنَزَّهَ عمّا لا يَليقُ به، ما أنا إلاّ رَسولٌ مِنَ البشَر، والمُعجِزاتُ ليسَتْ منْ صُنعِ الرُّسُل، وليسَ منْ أدَبِهمْ معَ رَبِّهمْ أنْ يَطلبوها منهُ إذا لم يأذَنْ لهمْ بها. واللهُ أعلَمُ بعِبادِهِ وما يصلُحُ مِنْ إنزالِه عَليهم. وبينَها ما لا يُجابونَ إليه، كنُزولِ اللهِ والملائكة. وقدْ ترَكوا القُرآنَ وراءَ ظُهورِهمْ وهوَ المُعجِزَةُ الكُبرَى الكافيَةُ للدَّلالةِ على نبوَّةِ النَّبيّ.
﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ الۡهُدَىٰٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرٗا رَّسُولٗا﴾ [الإسراء :94]
وما منعَ أكثرَ النَّاسِ منَ الإيمانِ بالرَّسُولِ بعدَ أنْ جاءَهمُ الوَحيُ بذلكَ مَقرونًا بالمُعجِزات، إلاّ كونَهمْ مُستَبعِدينَ ومُنكِرينَ أنْ يَكونَ الرسُولُ مِنَ البشَر!
﴿قُل لَّوۡ كَانَ فِي الۡأَرۡضِ مَلَـٰٓئِكَةٞ يَمۡشُونَ مُطۡمَئِنِّينَ لَنَزَّلۡنَا عَلَيۡهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكٗا رَّسُولٗا﴾ [الإسراء :95]
قُلْ لهمْ في حِكمَة: لو وُجِدَ في الأرْضِ ملائكَةٌ يَمشُونَ كما يَمشي البشَر، ساكِنينَ فيها، لنزَّلنا عَليهمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسولاً مِنْ جِنسِهم، ليَفهَموا منهُ ويَتمَكَّنوا مِنْ مُخاطَبتِه. وكُلُّ يأنَسُ بجِنسِهِ ونَوعِهِ ويَميلُ إليه.
﴿قُلۡ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا﴾ [الإسراء :96]
قُلْ للمُشرِكين: كفَى أنْ يَكونَ اللهُ وحدَهُ شَهيدًا على صِدقِ رسَالَتي إليكم، وأنِّي بلَّغتُها، وأنَّكمْ عانَدتُمْ وكفَرتُم، وهوَ عالِمٌ بظَواهِرِ عبادِهِ وبَواطنِهم، بَصيرٌ بأقوالِهمْ وأفعالِهمْ وأسبابِ تصَرُّفاتِهم، فيَهدي مَنْ يتقَبَّلُ الحقَّ منهم، ويُضِلُّ مَنْ يُعانِدُ ويِرفُض.
﴿وَمَن يَهۡدِ اللَّهُ فَهُوَ الۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗاۖ مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا﴾ [الإسراء :97]
ومَنْ يَهدِهِ اللهُ إلى الحَقّ، بما عَلِمَ منْ نيَّتِهِم في تقَبُّلِ ذلك، فهوَ المُهتَدي حقًّا. ومَنْ يُضْلِلْهُ الله، بما عَلِمَ منْ نيَّتِهِم في ذلك، وهوَ إعراضُهمْ عنِ الحَقِّ وعدَمُ استِعدادِهمْ لتقَبُّلِه، فهمُ الضَّالُّونَ الذينَ لنْ تَجِدَ لهمْ أنصَارًا مِنْ دونِ اللهِ يَهدونَهمْ إلى الحَقّ، ويَدلُّونَهمْ على طَريقِ النَّجاة، ويَعصِمُونَهمْ منْ عَذابِ الله.
ونَحشُرُهمْ يَومَ القِيامَة - حينَ يُبعَثونَ مِنْ قُبورِهم - زاحِفينَ مُنكَبِّينَ على وُجوهِهم، عُميًا لا يُبصِرون، وبُكمًا لا يَنطِقون، وصُمًّا لا يَسمَعون، كما صَمُّوا وعَمُوا عنِ الحَقِّ في الدُّنيا، ورفَضوا السُّجودَ للهِ خالقِهم. ومَصيرُهمْ نارُ جَهنَّم، كُلَّما سكَنَ لَهيبُها زِدناهُمْ وَقودًا وجَمْرًا ليَستَمِرَّ عَذابُهمْ فيها.
وعِندَما تعَجَّبَ رَجُلٌ مِنْ مَشي الكافِرِ على وجهِهِ وسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْ ذلك، أجابَهُ قائلاً: "أليسَ الذي أمشاهُ على الرِّجْلَينِ قادِرًا على أنْ يُمْشِيَهُ على وَجهِهِ يَومَ القيامَة؟". رواهُ البُخاريّ.
قالَ ابنُ حجرٍ في "الفَتح": يؤخَذُ منْ مَجموعِ الأحاديث، أنَّ المُقَرَّبينَ يُحشَرونَ رُكبانًا، ومَنْ دونَهمْ منَ المُسلِمينَ على أقدامِهم، وأمَّا الكُفّارُ فيُحشَرونَ على وجوههِم.
﴿ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا وَرُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقٗا جَدِيدًا﴾ [الإسراء :98]
وذلكَ العَذابُ جزاؤهمُ الذي يَستَحِقُّونَه؛ بسببِ كُفرِهمْ بآياتِ الله، وإنكارِهمُ البَعث. وقالوا: أإذا كُنَّا عِظامًا باليَةً وتُرابًا، أنُبعَثُ مِنْ جَديدٍ ونَصيرُ أحياءً كما كُنّا؟
﴿۞أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۡ وَجَعَلَ لَهُمۡ أَجَلٗا لَّا رَيۡبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّـٰلِمُونَ إِلَّا كُفُورٗا﴾ [الإسراء :99]
ألا يَتفَكَّرُ هؤلاءِ المُشرِكونَ ويَعلمونَ أنَّ اللهَ الذي خلقَ السَّماواتِ والأرضَ، بعِظَمِهما وسَعَتِهما وشِدَّتِهما وإحكامِهما وما فِيهما، قادِرٌ على أنْ يَخلُقَهمْ أحياءً بعدَ أنْ كانوا أمواتًا، وهمْ أصغَرُ وأضعَفُ مِنهما؟ وقدْ جعلَ مَوعِدًا لمَوتِهمْ أو بَعثِهم، سيَأتيهمْ لا مَحالة، ولكنْ أبَى الكافِرونَ إلاّ جُحودًا بآياتِنا، وتَماديًا في باطلِهم.
﴿قُل لَّوۡ أَنتُمۡ تَمۡلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحۡمَةِ رَبِّيٓ إِذٗا لَّأَمۡسَكۡتُمۡ خَشۡيَةَ الۡإِنفَاقِۚ وَكَانَ الۡإِنسَٰنُ قَتُورٗا﴾ [الإسراء :100]
قُلْ لهؤلاءِ المُعانِدينَ المُكابِرين، الذينَ مَا يَزالونَ يُطالِبونَ بالمُعجِزاتِ كما يوافِقُ أهواءَهم، منْ بُيوتِ الذَّهَبِ والبَساتينِ والينابيعِ المُتفَجِّرَة، قلْ لهم: لو كنتُمْ تَملِكونَ خَزائنَ رزقِ اللهِ ونِعمِهِ الكثيرَة، لبَخِلتُمْ بها على عِبادِ الله، وامتَنَعتُمْ منْ إنفاقِها خَوفًا منْ أنْ يُصيبَكمُ الفَقْر، وكانَ الإنسَانُ بَخيلاً، قَليلَ الإنفَاق.
قالَ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ الله: اللهُ تعالَى يَصِفُ الإنسانَ منْ حَيثُ هو، إلاّ مَنْ وفَّقَهُ اللهُ وهَداه، فإنَّ البُخلَ والجَزَعَ صِفَةٌ له...
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا﴾ [الإسراء :101]
وقدْ آتَينا نبيَّ اللهِ موسَى تِسعَ مُعجِزاتٍ واضِحات، هي: العَصا، واليَدُ البَيضاءُ مِنْ غَيرِ سُوء، والطُّوفان، والجَراد، والقُمَّل، والضَّفادِع، والدَّم، وأخْذُ فِرعَونَ وقَومِهِ بالسِّنين، ونَقصِ الثَّمرات. واسألْ مؤمِني أهلِ الكتابِ عنْ ذلك، إذْ جاءَ موسَى آباءَهمْ بالنُّبوَّةِ مؤيَّدًا بالمُعجِزات، فقالَ لهمْ فِرعَون: إنِّي أظُنُّكَ يا موسَى قدْ سُحِرت، واختلَّ عَقلُك، ولذلكَ قُلتَ ما قُلت.
﴿قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا﴾ [الإسراء :102]
قالَ موسَى عليهِ السَّلامُ يَرُدُّ عَليهِ في ثَباتٍ واطمِئنان: لقدْ عَلِمْتَ يَقينًا يا فِرعَونُ أنَّ هذهِ الآياتِ العَظيمَةَ لا يَقدِرُ على الإتيانِ بها أحَدٌ مِنَ البشَر، وما أنزَلَها إلاّ خالِقُ السَّماواتِ والأرضِ ومُدَبِّرُهما، وهي ظاهِرَةٌ مَكشوفَة، مُنيرَةٌ للبَصائر. فلَستُ ساحِرًا ولا مُختَلَّ العَقل، وما أراكَ يا فِرعَونُ إلاّ هالِكًا، مادُمتَ مُكّذِّبًا بآياتِ اللهِ ورَسولِه.
﴿فَأَرَادَ أَن يَسۡتَفِزَّهُم مِّنَ الۡأَرۡضِ فَأَغۡرَقۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ جَمِيعٗا﴾ [الإسراء :103]
فعَزَمَ فِرعَونُ على اللُّجوءِ إلى القوَّةِ حِفاظًا على مُلكِه، فأرادَ أنْ يُخرِجَ موَسى وقَومَهُ منْ أرضِ مِصرَ ولا يُبقي منهمْ أحَدًا، ولكنَّهُ عُوقِبَ جَزاءَ تَكذيبِهِ وتَكبُّرِهِ عنْ قَبولِ الحقّ، فأغرَقناهُ ومَنْ معَهُ في البَحر، ونَجَّينا موسَى وقَومَه.
﴿وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ اسۡكُنُواْ الۡأَرۡضَ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ الۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا﴾ [الإسراء :104]
وقُلنا لبَني إسْرائيل مِنْ بَعدِ إهلاكِ فِرعَون: اسكُنوا أرضَ مِصرَ والشَّام، فإذا جاءَتِ السَّاعَةُ أتَينا بكمْ جَميعًا إلى المَوقِفِ مختَلِطين، أنتُمْ وعَدوُّكم، لنُجازيَ كُلاًّ بما عَمِل.
﴿وَبِالۡحَقِّ أَنزَلۡنَٰهُ وَبِالۡحَقِّ نَزَلَۗ وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [الإسراء :105]
لقدْ أنزَلنا هذا القُرآنَ بالحَقِّ والعَدل، ففيهِ حُكمُ اللهِ وأمرُهُ ونَهيُه، الذي لا يَكونُ إلاّ صِدقًا وعَدلًا، ونَزَّلناهُ على رَسُولِنا محمَّدٍ مَحروسًا مَحفوظًا، دونَ زيادَةٍ ولا نُقصان، وما أرسَلناكَ إلاّ رَسُولاً مُبَشِّرًا للمُطيعينَ بالثَّواب، ونَذيرًا للعاصِينَ منَ العِقاب.
﴿وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا﴾ [الإسراء :106]
وأنزَلنا القُرآنَ على محمَّدٍ رَسولِ اللهِ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا حسَبَ الوقائع، وليسَ دُفعَةً واحِدَة؛ لتَقرَأهُ على النَّاسِ على تُؤدَةٍ وتَرَسُّل، فإنَّهُ أكثَرُ عَونًا على الفَهم، وأيسَرُ للحِفظ، وأوقَعُ في النَّفسِ بعدَ الوَقائعِ والمَصالِح.
﴿قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِۦٓ إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ﴾ [الإسراء :107]
قُلْ لهؤلاءِ الكافِرين: آمِنوا بهذا القُرآنِ أو لا تُؤمِنوا به، فهوَ كَلامُ اللهِ وحَقٌّ في ذاتِه، وإيمانُكمْ بهِ لا يَزيدُهُ كَمالاً، وعدَمُ إيمانِكمْ بهِ لا يُقَلِّلُ منْ كَمالِهِ شَيئاً. إنَّ العُلماءَ العارِفينَ بالكتُبِ السَّماويَّةِ مِنْ قَبلِ أنْ يَنزِلَ القُرآن - وقدْ عرَفوا مَضمونَها وعَلاماتِ النبوَّةِ فيها - إذا يُتلَى عَليهمْ يُبادِرونَ إلى السُّجودِ على وجوهِهم؛ تَعظيمًا لأمرِ الله، وشُكرًا لهُ على ما أنعَمَ عَليهمْ منْ مَعرِفَةِ الحقِّ واتِّباعِه.
﴿وَيَقُولُونَ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعۡدُ رَبِّنَا لَمَفۡعُولٗا﴾ [الإسراء :108]
ويَقولون: تعالَى اللهُ رَبُّنا وتَنَزَّهَ عنْ إخلافِ وَعدِهِ الذي وعدَ بهِ أنبياءَهُ السَّابقينَ مِنْ بَعثِ هذا النبيِّ الأُمِّيّ، فإنَّ ما وعدَ بهِ حَقٌّ وصِدق، وواقِعٌ مُطابِق.
﴿وَيَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ يَبۡكُونَ وَيَزِيدُهُمۡ خُشُوعٗا۩﴾ [الإسراء :109]
ويَقَعونَ على وُجوهِهمْ ساجِدينَ لله، خضوعًا لهُ وشُكرًا لإنجازِ الوَعد، يَبكونَ مِنْ خَشيَةِ الله، ويَزيدُهمْ سَماعُ القُرآنِ إيمانًا وتَسليمًا، وعِلمًا ويَقينًا.
﴿قُلِ ادۡعُواْ اللَّهَ أَوِ ادۡعُواْ الرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ الۡأَسۡمَآءُ الۡحُسۡنَىٰۚ وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَابۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا﴾ [الإسراء :110]
قُلْ أيُّها الرَّسُول: اُدعوا اللهَ باسمِه، أو باسمِ الرَّحمن، فلا فَرقَ في ذلك، فهوَ ذو الأسماءِ الحُسنَى، والرَّحمنُ; واحِدٌ منْ أسمَائه.
ولا تَرفَعْ صَوتَكَ بالقُرآنِ في الصَّلاة، ولا تَخفِضْهُ بحَيثُ لا يُسمَع، وليَكنْ بينَ الجَهرِ والمُخافَتَة.
روَى الشَّيخانِ وغَيرُهما - واللَّفظُ لمُسلمٍ - عنِ ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عَنهما في هذهِ الآية، قال: نزَلَتْ ورَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتوارٍ في مَكَّة، فكانَ إذا صَلَّى بأصحابِه رفَعَ صَوتَهُ بالقُرآن، فإذا سَمِعَ ذلكَ المشرِكونَ سَبُّوا القُرآنَ ومَنْ أنزلَهُ ومَنْ جاءَ به، فقالَ اللهُ تعالَى لنبيِّه: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} فيسمعَ المشرِكونَ قِراءَتك، {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عنْ أصحابِك، أسمِعهمُ القُرآنَ ولا تَجهَرْ ذلكَ الجَهر، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}، يَقول: بينَ الجَهرِ والمُخافتَة.
﴿وَقُلِ الۡحَمۡدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمۡ يَتَّخِذۡ وَلَدٗا وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٞ فِي الۡمُلۡكِ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلِيّٞ مِّنَ الذُّلِّۖ وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا﴾ [الإسراء :111]
وقُل: الحمدُ للهِ والمَجدُ والثَّناءُ لهُ على وحدَانيَّتِهِ وتَنَزُّههِ عنِ الشَّريكِ والوَلَد، ولم يَكنْ لهُ شَريكٌ في أُلوهيَّتِه، ولم يَكنْ لهُ وليٌّ وناصِرٌ ليَرفعَهُ مِنْ ذُلّ، فهوَ عَزيزٌ بنَفسِه، عَظيمٌ في شَأنِه، قَويٌّ غالِبٌ على كُلِّ شَيء، ومَجِّدْهُ وعَظِّمْهُ تَعظيمًا، واثنِ عَليه، بحَمدِهِ، وذِكرِ صِفاتِهِ العُليا وأسمائهِ الحُسنَى.
في حَديثٍ صَحيحٍ رواهُ الترمذيُّ وغَيرُهُ عنْ عائشةَ رَضيَ اللهُ عَنها قالت: "كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَنامُ حتَّى يَقرأَ الزُّمَرَ، وبَني إسرائيل"، وهيَ سورَةُ الإسراء.
سورة الكهف - مكية - عدد الآيات: 110
18
﴿الۡحَمۡدُ لِلَّهِ الَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ الۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ﴾ [الكهف :1]
الحمدُ للهِ والشُّكرُ لهُ أوَّلاً وآخِرًا، الذي أنزلَ على عَبدِهِ ونَبيِّهِ محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلَّم) القُرآنَ العَظيم، الذي هوَ نِعمَةٌ عَليهِ خاصَّة، وعلى سائرِ النَّاسِ عامَّة، لا اختِلافَ فيهِ ولا التِواء، ولا زَيغَ فيهِ ولا هوًى، ولا لَبْسَ فيهِ ولا خَلط.
﴿قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ الۡمُؤۡمِنِينَ الَّذِينَ يَعۡمَلُونَ الصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا﴾ [الكهف :2]
بلْ هوَ مُستَقيمٌ واضِح، وهَديٌ جَليّ، مُصَدِّقٌ للكتُبِ السَّماويَّةِ السَّابِقَة، ناسِخٌ لشَرائعِها، ليُنذِرَ اللهُ بهِ مَنْ خالَفَهُ وكذَّبَهُ عُقوبَةً شَديدَةً مِنْ عِندِه، ويُبَشِّرَ بهِ المؤمِنينَ الصَّادِقين، الذينَ أتْبَعوا إيمانَهمْ بالعمَلِ الصَّالِح، أنَّ لهمْ ثَوابًا حسَنًا في الآخِرَة، هوَ الجنَّةُ ونَعيمُها.
﴿مَّـٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا﴾ [الكهف :3]
خالِدينَ فيها أبدًا، لايَحولُونَ عَنها ولا يَزولون.
﴿وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدٗا﴾ [الكهف :4]
وليُنذِرَ اللهُ بهذا القُرآنِ مَنْ أشرَكَ بهِ وجعلَ لهُ ولَدًا، كالمشرِكينَ الذينَ عَبدوا المَلائكةَ وقالوا إنَّها بَناتُ الله، وأهلِ الكتابِ الذينَ قالوا عنْ أنبياءَ أو غَيرِهمْ إنَّهمْ أبناءُ الله! سُبحانَهُ وتَعالَى.
﴿مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا﴾ [الكهف :5]
وليسَ لهمْ عِلمٌ بهذا الذي يَقولونَهُ أبدًا، ولا لآبَائهمْ وأجْدادِهم، عَظُمَتْ كَلِمَةً مُنكَرَةً ومُستَبشَعَةً تَصدُرُ عنْ أفواهِهم، ما يَقولونَ إلاّ كلامًا فاسِدًا لا مُستَنَدَ لهُ ولا صِحَّةَ فيه، بلْ هوَ كَذِبٌ واختِلاقٌ مِنْ عندِهم.
﴿فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا الۡحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف :6]
فلعلَّكَ أيُّها النبيُّ مُهلِكٌ نفسَكَ حُزنًا وأسَفًا مِنْ بَعدِ تَوَلِّيهمْ عنِ الإيمانِ بهذا القُرآنِ الجَليل.
﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى الۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ [الكهف :7]
لقدْ جَعلنا ما على الأرضِ مِنْ زِينَةٍ وجَمال، وأموالٍ وأولاد، اختِبارًا لهمْ وابتِلاء، لنَعلَمَ مَنِ الذي يُحسِنُ ويُخلِصُ ولا يَغتَرُّ بتلكَ الزِّينَةِ الفانيَة، ليَستَحِقَّ بذلكَ حُسنَ الجَزاءِ على حُسنِ العمَل.
﴿وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا﴾ [الكهف :8]
وسَوفَ نُبيدُ ما على هذهِ الأرضِ مِنْ حَياةٍ وزِينَة، فتُصبِحُ قبلَ يَومِ القيامَةِ سَطحًا يابِسًا لا يُنبِتُ شَيئاً.
﴿أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ الۡكَهۡفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف :9]
أمْ ظَنَنتَ أيُّها النبيُّ أنَّ أصْحابَ الكَهْفِ والرَّقيمِ كانوا أعجَبَ آياتِنا وأبيَنِها قُدرَة؟ بلْ يوجَدُ ما هوَ أعجَبُ مِنْ ذلكَ وأغرَب.
والكَهْف: غارٌ في الجبَل، والرَّقيم: لَوحٌ مَكتوبٌ عليهِ أسماءُ أصحابِ الكَهْفِ وخَبَرُهم.
وذُكِرَ أكثَرُ مِنْ ثلاثينَ مَوقِعًا في العالَمِ لأهلِ الكَهْف، وأنَّ الذي اكتُشِفَ في الأردُنِّ عامَ 1389 هـ، هوَ أكثَرُ الكُهوفِ مُطابقةً للمُواصَفاتِ الوارِدَةِ عنهُ في القُرآنِ الكريم.
﴿إِذۡ أَوَى الۡفِتۡيَةُ إِلَى الۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا﴾ [الكهف :10]
ولجأَ الفِتيَةُ إلى الكَهفِ ليَختَفوا فيه، وقدْ فَرُّوا مِنْ قَومِهمْ حتَّى لا يَفتِنوهمْ عنْ دينِهمْ ويُكرِهُوهمْ على الكُفر، فأَوَوا إليهِ ودَعَوا اللهَ قائلين: اللّهمَّ هَبْ لنا منْ عندِكَ هِدايَةً وفَضلاً، تَستُرُنا فيهِ وتَحفَظُنا مِنَ القَومِ الكافِرين، ويَسِّرْ لنا مِنْ هِجرَتِنا إليكَ خَيرًا وسَلامًا، ممّا فيهِ صلاحُ أمرِنا.
﴿فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي الۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا﴾ [الكهف :11]
فألقَينا عَليهمْ نَومًا ثَقيلاً، لا يَتَنبَّهونَ فيهِ إلى الأصوات، سَنواتٍ كثيرَة.