﴿ثُمَّ أَخَذۡتُ الَّذِينَ كَفَرُواْۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [فاطر :26]
فكذَّبوهم، وكفَروا برسَالاتِ رَبِّهم، فعاقَبتُهمْ بما يَستَحِقُّونَ مِنَ الهَلاكِ والدَّمار، فكيفَ رأيتَ إنكاري عَليهمْ وعُقوبَتي البَليغَةَ فيهم؟
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَٰتٖ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهَاۚ وَمِنَ الۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٞ وَحُمۡرٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٞ﴾ [فاطر :27]
ألمْ تَنظُرْ كيفَ أنزَلَ اللهُ المطَرَ مِنَ السَّحاب، فأخرَجَ بهِ أصنَافًا مِنَ الثَّمَراتِ المُختَلِفَةِ الألوَان، معَ أنَّها مِنْ تُربَةٍ واحِدَة، وتُسقَى بماءٍ واحِد؟ ومِنَ الجِبالِ طُرُقٌ وخُطَطٌ، بِيضٌ وحُمْر، وهيَ مُختَلِفَةُ الألوانِ كذلك، وجِبالٌ سَوداءُ داكِنَةُ اللَّون؟
﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى اللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ الۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر :28]
وكذلكَ ما خلقَ اللهُ مِنَ النَّاسِ، والدوابِّ، والأنعَام(119) ، فألوانُها مُختَلِفَة، على الرَّغمِ مِنْ أنَّ كُلاًّ منها يَعودُ إلى أصلٍ واحِد؟ إنَّما يَخشَى اللهَ حقَّ الخَشيَةِ العُلَماءُ العارِفونَ به، الذينَ يُديمُونَ التفَكُّرَ في خَلقِهِ وبَديعِ صُنعِه، ويَعلَمونَ أنَّهُ قادِرٌ على كُلِّ شَيء وأنَّهُ سُبحانَهُ لم يَخلُقْهمْ عبَثًا.
يَقولُ ابنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه: "ليسَ العِلمُ عنْ كَثرَةِ الحَديث، ولكنَّ العِلمَ عنْ كَثرَةِ الخَشيَة". يَعني أنَّ العالِمَ الحقيقيَّ هوَ الذي يَخافُ اللهَ ويَتَّقيه، فمَنْ لم يَكنْ كذلكَ فإنَّ عِلمَهُ غَيرُ مَقبولٍ عندَه.
واللهُ عَزيزٌ في مُلكِه، كامِلُ القُدرَة، لا يُقهَر، كثيرُ المَغفِرَةِ لذنوبِ التَّائبينَ مِنْ عِبادِه.
(119) {وَالدَّوَابِّ}: جمعُ دابَّة، وهي ما يدبُّ على الأرضِ من الحيوان، وغلبَ على ما يُركَبُ من الخيلِ والبغالِ والحمير، ويقعُ على المذكر. {وَالْأَنْعَامِ}: جمعُ نَعَم، محرَّكة، وقد يُسكَنُ عينه: الإبلُ والبقرُ والضأنُ والمعز، دونَ غيرها، فالخيلُ والبغالُ والحميرُ خارجةٌ عن الأنعام. (روح البيان).
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ﴾ [فاطر :29]
إنَّ الذينَ يُداوِمونَ على قِراءَةِ كتابِ اللهِ الكَريم، وحافَظوا على إقامَةِ الصَّلاةِ في وقتِها، وبأركانِها وشُروطِها، وأنفَقوا ممَّا رزَقناهُمْ في الطَّاعاتِ والقُرُباتِ في السرِّ والعَلانيَة، فأولئكَ يَرجُونَ ثَوابًا مِنْ عندِ اللهِ على تِجارَتِهمُ الطيِّبَةِ المُبارَكة، التي لا تَكسُدُ ولا تَفسُد.
﴿لِيُوَفِّيَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ غَفُورٞ شَكُورٞ﴾ [فاطر :30]
ليُوَفِّيَهمُ اللهُ ثَوابَ ما قَدَّموهُ مِنْ أعمَالٍ صالِحَة(120) ، ويَضاعِفَ في حسَناتِهمْ مِنْ رِحمَتِهِ وكرَمِه، واللهُ غَفورٌ لِما فرَطَ مِنْ ذُنوبِ المؤمِنينَ المُطيعِين، شَكورٌ لطاعاتِهمْ ولو كانتْ يَسيرَة، ويُجازيهمْ عَليها أحسَنَ الجزاء.
(120) {لِيُوَفِّيَهُمْ}: التوفية: جعلُ الشيءِ وافياً، أي: تامًّا، لا نقيصةَ فيه ولا غبن. (التحرير).
﴿وَالَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ مِنَ الۡكِتَٰبِ هُوَ الۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِۦ لَخَبِيرُۢ بَصِيرٞ﴾ [فاطر :31]
والذي أوحَينا إليكَ مِنَ القُرآنِ أيُّها الرسُولُ هوَ الحقُّ الذي لا شَكَّ فيه، المُصَدِّقُ للكتُبِ السَّماويَّةِ السَّابِقَة، واللهُ خَبيرٌ بأحوَالِ عِبادِه، بَصيرٌ بظَواهرِهمْ وبَواطنِهم، وبما يَستَحِقُّونَهُ مِنْ جَزاء.
﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا الۡكِتَٰبَ الَّذِينَ اصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِالۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ اللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ الۡفَضۡلُ الۡكَبِيرُ﴾ [فاطر :32]
ثمَّ جعَلنا القُرآنَ الكريمَ يَنتَهي إلى مَنِ اختَرنا مِنْ عِبادِنا، وهمْ أُمَّةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ومِنْ هذهِ الأمَّةِ مَنْ هوَ مُقَصِّرٌ في العمَلِ بالقُرآن، وبما أوجبَهُ اللهُ عَليه، فيُضِرُّ بنَفسِهِ عندَما يُعرِّضَها للعُقوبَة، ومنهمْ وسَطٌ في الأمر، فيُطيعُ تارَةً ويُخالِفُ أُخرِى، ومنهمْ مَنْ يُحرِزُ الفَضلَ ويَسبِقُ إلى الجَنِّة، بإذنِ اللهِ وتَوفيقِه، فيَعمَلُ الواجِباتِ ويَتركُ المحرَّمات، وإذْ خَصَّ اللهُ هذهِ الأُمَّةَ بالقُرآن، فإنَّهُ فَضلٌ عَظيمٌ منهُ عَليهم.
﴿جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ﴾ [فاطر :33]
ويَومَ القِيامَةِ يَدخُلونَ جنَّاتٍ أُعِدَّتْ لإقامَةٍ دائمَةٍ لا زَوالَ لها، يُزَيَّنونَ فيها بأساوِرَ مِنْ ذهَب، ويُؤتَونَ لؤلؤًا صَافيًا جَميلاً، ويَلبَسُونَ فيها الحَريرَ النَّاعِم.
﴿وَقَالُواْ الۡحَمۡدُ لِلَّهِ الَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا الۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ﴾ [فاطر :34]
ويَقولونَ إذا دخَلوا الجنَّةَ: الحَمدُ للهِ الذي أذهبَ عنَّا الأحزَانَ والهُموم، فقدْ كنَّا نَخافُ مِنْ عاقِبَةِ أمرِنا، واللهُ يَغفِرُ ذُنوبَ عِبادِهِ المؤمِنينَ التَّائبين، ويَشكرُ لهمْ طاعَتَهم، ويُجازيهمْ عَليها خَيرَ الجزاء.
﴿الَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ الۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ﴾ [فاطر :35]
الحَمدُ للهِ الذي أنزَلَنا دارَ الإقامَة، التي لا مَوتَ فيها ولا انتِقالَ عَنها، مِنْ فَضلِهِ ونعمَتِه، ولم تَكنْ أعمالُنا تُساوي ذلك، لا يُصيبُنا فيها تعَبٌ ومشَقَّةٌ، ولا إعياءٌ وفُتور.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ﴾ [فاطر :36]
والذينَ كفَروا نَصيبُهمْ نارُ جهنَّم، لا يَهلِكونَ فيها ليَستَريحوا، ولا يُخَفَّفُ عَنهمْ مِنْ عَذابِها، بلْ يَبقُونَ فيها هكذا يَحتَرِقونَ ويُعَذَّبون، وهذا جَزاءُ كُلِّ مَنْ عاندَ واستَكبَرَ عنْ قَبولِ الحقّ، وكذَّبَ برِسالاتِ اللهِ ورسُلِه.
﴿وَهُمۡ يَصۡطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا غَيۡرَ الَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ أَوَلَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ [فاطر :37]
وهمْ يَصيحونَ فيها ويَصرُخون، ويَجأرونَ إلى رَبِّهمْ ويَستَغيثونَ قائلين: ربَّنا أخرِجنا مِنَ هذهِ النَّار، وأعِدنا إلى الدُّنيا لنَعملَ الأعمالَ الحسَنة، غَيرَ الذي كُنَّا نَعمَلُهُ سابِقًا مِنَ الشِّركِ والمعاصي.
أوَ ما أعطَيناكمْ عُمُرًا كافيًا، ووَقتًا واسِعًا، وأمهَلناكمْ في الحيَاةِ الدُّنيا بما فيهِ الكِفايَة؟ ولو كنتُمْ ممَّنْ يتَّعِظونَ ويَنتَفِعونَ بكلامِ اللهِ وإنذارِ رسُلِه، لانتَفَعتُمْ بما بُلِّغْتُمْ بهِ مُدَّةَ عُمُرِكم، ولكنْ أبَيتُمْ واستَكبَرتُمْ عنِ اتِّباعِ الحقّ، فذوقُوا العَذابَ الذي تستَحِقُّونَه، فما للكافِرينَ مِنْ ناصِرٍ يَدفَعُ عَنهمُ العَذاب.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَٰلِمُ غَيۡبِ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [فاطر :38]
واللهُ عالِمٌ بما غابَ عنِ العِبادِ ممَّا في السَّماواتِ والأرْض، لا يَغيبُ عَنهُ شَيءٌ مِنْ ذلك، وهوَ عَليمٌ بما تُخفي صُدورُ النَّاس، وما تَنطَوي عَليهِ ضَمائرُهم، وسيُجازي كُلاًّ بما عَمِل.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ فِي الۡأَرۡضِۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ الۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ الۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا﴾ [فاطر :39]
اللهُ سُبحانَهُ هوَ الذي جعَلكمْ تَخلُفونَ قَومًا آخَرينَ في الأرْض، ليَنظُرَ كيفَ تَعمَلونَ فيها، هلْ تُعَمِّرونَها بالحقِّ والتَّوحيد، أو تُفسِدونَ فيها وتَكفُرون؟ فمَنْ كفرَ فعَليهِ وَبالُ كُفرِهِ وجَزاؤه، وكُلَّما ازدَادوا في كُفرِهم، ازدَادوا بذلكَ بُغضًا واحتِقارًا عندَ رَبِّهم، وزادُوا في خَسارَةِ أنفُسِهمْ يَومَ القِيامَة.
﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكٞ فِي السَّمَٰوَٰتِ أَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ كِتَٰبٗا فَهُمۡ عَلَىٰ بَيِّنَتٖ مِّنۡهُۚ بَلۡ إِن يَعِدُ الظَّـٰلِمُونَ بَعۡضُهُم بَعۡضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر :40]
قُلْ للمُشرِكينَ أيُّها الرسُول: أرَأيتُمْ هذهِ الأصْنامَ التي تَدَّعونَ أنَّها آلِهَة، وتَعبُدونَهمْ مِنْ دُونِ الله، أَرُوني ولو شَيئًا قَليلاً خلَقُوهُ في الأرْضِ ممَّا يَراهُ النَّاس، حتَّى يَستَحِقُّوا أنْ يُسَمَّوا آلِهَة! أمْ أنَّ لهمْ شَراكةً معَ اللهِ في خَلقِ السَّماواتِ حتَّى يَستَحِقُّوا ذلك؟ أمْ أنزَلنا عَليهمْ كتابًا نُخبِرُهمْ فيهِ بأنَّهمْ شُرَكاءُ لنَا فهمْ على حُجَّةٍ ظاهِرَةٍ مِنْ ذلك؟! لا يوجَدُ شَيءٌ مِنْ ذلكَ كُلِّه، إنَّما اتَّبَعَ المشرِكونَ أهواءَهمُ الزَّائغَة، وأفكارَهمُ المُنحَرِفَة، حيثُ غرَّرَ الأسلافُ بالأخلاف، وأضَلَّ الرؤساءُ أتباعَهم، وكانوا جَميعًا في بُطلانٍ وغُرور.
﴿۞إِنَّ اللَّهَ يُمۡسِكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ أَن تَزُولَاۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنۡ أَمۡسَكَهُمَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا﴾ [فاطر :41]
اللهُ سُبحانَهُ هوَ الذي يَحفَظُ السَّماواتِ والأرضَ حتَّى لا تَضطَرِبا ويَنفَرِطَ نِظامُهما فيَضمَحِلاّ، وإذا اختلَّ نِظامُهما وأشرَفَتا على الزَّوال، فلا يَقدِرُ على حِفظِهما وإبقائهمَا سِواه. واللهُ حَليمٌ إذْ لم يُعَجِّلْ عُقوبَةَ الكافِرين، بلْ أمهَلَهمْ وأنظرَهم، وهوَ واسِعُ المَغفِرَةِ لمنْ تابَ وأناب، فيغَفِرُ الذُّنوبَ ولو كانتْ كبيرَةً وكثيرَة.
﴿وَأَقۡسَمُواْ بِاللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَهُمۡ نَذِيرٞ لَّيَكُونُنَّ أَهۡدَىٰ مِنۡ إِحۡدَى الۡأُمَمِۖ فَلَمَّا جَآءَهُمۡ نَذِيرٞ مَّا زَادَهُمۡ إِلَّا نُفُورًا﴾ [فاطر :42]
وقدْ حلفَ المشرِكونَ قَبلَ مَبعَثِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، واجتهَدوا في الحَلِفِ باللهِ أبلغَ ما يَكون، أنَّهُ إذا بُعِثَ فيهمْ رَسُولٌ فلنْ يُكَذِّبوهُ ولنْ يُعانِدُوهُ كما فعَلتِ الأُمَمُ السَّابقَةُ معَ رسُلِهم، بلْ سيَكونونَ طائعينَ لهُ ومُناصِرِينَ إيَّاه، وبذلكَ يَكونُونَ أهدَى وأطوَعَ مِنْ جَميعِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ معَ أنبِيائهم، فلمَّا جاءَهمُ الرسُولُ محمَّدٌ مُؤيَّدًا بمُعجِزةِ القُرآنِ العَظيمَة، لم يَزِدْهمْ ذلكَ إلاّ بُعدًا عنِ الحقِّ وهُروبًا منه!
﴿اسۡتِكۡبَارٗا فِي الۡأَرۡضِ وَمَكۡرَ السَّيِّيِٕۚ وَلَا يَحِيقُ الۡمَكۡرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الۡأَوَّلِينَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحۡوِيلًا﴾ [فاطر :43]
استِكبارًا عنِ اتِّباعِ الحقِّ، وإفراطًا منهمْ في العِناد، وإمعانًا في العمَلِ السيِّءِ، والكَيدِ لرَسُولِ اللهِ، والصدِّ عنْ سَبيلِ الله، ولا يُحيطُ وَبالُ هذا الكَيدِ والعُدوانِ إلاّ بأهلِه، الذينَ خطَّطوا لهُ أو نفَّذوه، فما يَنتَظِرونَ إلاّ عُقوبةَ اللهِ لهمْ كما فَعلَ بالكافِرينَ المُكَذِّبينَ مِنْ قَبلِهم، فلنْ تَجِدَ لهذهِ السنَّةِ المتَّبَعَةِ في خَلقِهِ تغَيُّرًا وتبَدُّلاً، ولنْ تَجِدَ لها تحَوُّلاً وانتِقالاً.
﴿أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي الۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَكَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعۡجِزَهُۥ مِن شَيۡءٖ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي الۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمٗا قَدِيرٗا﴾ [فاطر :44]
أوَلمْ يُسافِروا ويَمرُّوا بآثارِ مَنْ قَبلَهمْ مِنَ القُرَى المُهلَكَةِ بسبَبِ تَكذيبِهمْ رسُلَهم؟ وكانوا أكثرَ قوَّةً منهم، وأكثرَ أموَالاً وأولادًا، ولكنَّ ذلكَ لم يُغْنِ عنهمْ شَيئًا أمامَ قوَّةِ اللهِ وإرادَتِهِ في الانتِقام، فلا يَفوتُهُ شَيءٌ ممَّا في السَّماواتِ والأرْض، فكلُّ ما فيهما تحتَ مَشيئَتِهِ وتَصرُّفِه، وهوَ عَليمٌ بما فيهما، قادِرٌ على الانتِقامِ ممَّنْ عَصاه.
﴿وَلَوۡ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهۡرِهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِۦ بَصِيرَۢا﴾ [فاطر :45]
ولو يُعاقِبُ اللهُ النَّاسَ بما فعَلوا مِنَ السيِّئاتِ والجَرائم، لَما أبقَى أحَدًا على ظَهرِ الأرْض، ولكنَّهُ حَليمٌ رَحيم، يُمهِلُهمْ ويُؤخِّرُهمْ إلى أجَلٍ مُحَدَّد، هوَ قِيامُ السَّاعَة، فإذا جاءَ هذا الوَعدُ الحقُّ حاسبَهمْ على أعمالِهم، وجازاهُمْ عَليها بما يَستَحِقُّونَ مِنْ ثَوابٍ أو عِقاب، واللهُ بَصيرٌ بأحوالِ عِبادِهِ وبما عَمِلُوهُ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، خَفيًّا كانَ أو مُعلَنًا.
سورة يس - مكية - عدد الآيات: 83
36
﴿يسٓ﴾ [يس :1]
حُروفٌ مُقَطَّعَةٌ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حَديثٌ صَحيح، واختلفَ المفسِّرونَ في دَلالَتِها.
﴿وَالۡقُرۡءَانِ الۡحَكِيمِ﴾ [يس :2]
أُقسِمُ بهذا القُرآنِ الذي أُحكِمَتْ آياتُه، وأُجِلَّ أمرُه، ورُفِعَ شَأنُه.
﴿إِنَّكَ لَمِنَ الۡمُرۡسَلِينَ﴾ [يس :3]
إنَّكَ نَبيٌّ مُرسَل، مَبعُوثٌ مِنْ قِبَلِ رَبِّ العالَمين.
﴿عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [يس :4]
على النَّهجِ السَّويِّ والطَّريقِ القَويم.
﴿تَنزِيلَ الۡعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ [يس :5]
مُنزَّلٌ مِنْ عندِ اللهِ ذي العِزَّةِ والقوَّة، الرَّحيمِ بعِبادِهِ المؤمِنين.
﴿لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمۡ فَهُمۡ غَٰفِلُونَ﴾ [يس :6]
لتُنذِرَ بهذا القُرآنِ قَومًا لم يُنذَرْ آباؤهمُ الأدْنَون، فهمْ جَميعًا غافِلونَ عنِ الهُدَى والإيمَان، بَعيدونَ عنِ الحقِّ والصَّواب.
﴿لَقَدۡ حَقَّ الۡقَوۡلُ عَلَىٰٓ أَكۡثَرِهِمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [يس :7]
لقدْ وجبَ العَذابُ على أكثَرِهم، بما عَلِمَهُ اللهُ مِنْ أحوالِهمْ ومَواقِفِهمْ مِنَ الدَّعوَة، فهمْ لا يُؤمِنونَ بها.
﴿إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى الۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ﴾ [يس :8]
لقدْ جعَلنا في أعناقِهمْ أغْلالاً(121) ، فأيديهمْ مَشدودَةٌ إليها تحتَ ذُقونِهم، وقدْ رفَعوا رُؤوسَهمْ قَسْرًا، ونظَرُهمْ إلى الأمام، فلا يقدِرونَ أنْ يلتَفِتوا بأعناقِهمْ إلى مصدَرِ النُّور، ولا يَستَطيعونَ أنْ يَبسُطوا أيديَهمْ بخَير، ولا يخفِضُونَ رُؤوسَهمْ للحقّ، فلا يُذعِنونَ للإيمَان.
(121) الأغلال: جمعُ غُلّ، بضمِّ الغين، وهو حلقةٌ عريضةٌ من حديد، كالقِلادة، ذاتُ أضلاع... (التحرير).
الغُلُّ ما أحاطَ بالعنقِ، على معنى التثقيفِ والتضييقِ والتعذيبِ والأسر، ومع العنقِ اليدان أو اليدُ الواحدة. هذا معنى التغليل. (ابن عطية).
﴿وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ﴾ [يس :9]
وجعَلنا مِنْ أمامِهمْ سدًّا مانِعًا، ومِنْ خَلفِهمْ سدًّا مانِعًا، فجعَلنا على أبصارِهمْ أغطيَة، فهمْ لا يَقدِرونَ على إبصارِ شَيءٍ مِنَ الهُدَى والنُّور، فنُفوسُهمْ قاتِمَة، وقُلوبُهمْ مُنغَلِقَة، وأسماعُهمْ مَسدودَة، وأعينُهمْ مُغَطَّاة.
﴿وَسَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [يس :10]
والأمرُ عندَهمْ سَواء، إنْ أنذَرتَهمْ بالقُرآنِ ووَعظتَهمْ بهِ أمْ لم تُنذِرْهم، فإنَّهمْ غَيرُ مُهيَّئينَ للإيمَان، وغَيرُ مُستَعِدِّينَ لقَبولِ الحقّ. ولِما عَلِمَ اللهُ فيهمْ مِنْ ذلك، فقدْ قضَى عَليهمْ بما يَستَحِقُّونَه.