تفسير الجزء 28 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الثامن والعشرون
28
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم

سورة الصف - مدنية - عدد الآيات: 14

61

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۖ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [الصف:1]


نزَّهَ اللهَ ووَحَّدَهُ كُلُّ المخلوقاتِ في السَّماواتِ والأرْض، وهوَ الغالِبُ الذي لا يُغلَب، الحكيمُ فيما يَشرَعُ ويُقدِّر.

فالمَخلوقاتُ كلُّها مُسَبِّحةٌ مُقَدِّسَةٌ لذاتِهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، قَولاً وفِعلاً، طَوْعًا وكَرْهًا، بلسَانِ الحَال، أو بلسانِ المَقال {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: 44].

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾ [الصف:2]


أيُّها المؤمِنون، لماذا تَقولونَ قَولاً، وتَعِدُونَ وَعدًا، ثمَّ لا تَفُونَ بهِ ولا تَلتَزِمون؟

كانَ ناسٌ مِنَ المؤمِنينَ قَبلَ أنْ يُفرَضَ الجِهادُ يَقولون: لوَدِدْنا أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ دَلَّنا على أحَبِّ الأعمَالِ إليهِ فنَعمَلَ به، فأخبرَ اللهُ نبيَّهُ أنَّ أحبَّ الأعمال: إيمانٌ بهِ لا شَكَّ فيه، وجِهادُ أهلِ مَعصيَتِهِ الذينَ خالَفوا الإيمَانَ ولم يُقِرُّوا به. فلمَّا نزلَ الجِهادُ كَرِهَ ذلكَ ناسٌ مِنَ المؤمِنينَ وشَقَّ عَليهمْ أمرُه. فنزَلَتِ الآيات. قالَهُ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهما. (والجوابُ في الآيةِ العاشِرة، فما بعدها).

﴿كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾ [الصف:3]


إنَّ اللهَ يَبغُضُ بُغضًا شَديدًا أنْ تَعِدوا بشَيءٍ مِنْ عندِ أنفُسِكمْ ثمَّ لا تَفُونَ به.

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ﴾ [الصف:4]


إنَّ اللهَ يُحِبُّ الذينَ يَصُفُّونَ أنفُسَهمْ عندَ القِتالِ صَفًا مُستَقيمًا، مُتكامِلاً ومُتَناسِقًا، كأنَّهمْ بُنيانٌ مُلتَصِقٌ بَعضُهُ ببَعض، قدْ رُصَّ وأُحكِمَ في بِنائهِ فليسَ فيهِ فُرجَةٌ ولا خَلَل.

﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِي وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [الصف:5]


واذكُرْ لأصحابِكَ أيُّها الرسُول، ممَّنْ كَرِهَ الجِهاد، قَولَ نَبيِّ اللهِ موسَى لقَومِه، وقدْ دَعاهُمْ إلى قِتالِ الجبابِرَة: يا قَوم، لمَ تؤذُونَني بالمُخالفَةِ والعِصيانِ وأنتُمْ تَعلَمونَ عِلمًا قَطعيًّا أنِّي مُرسَلٌ مِنَ اللهِ إليكم، والرسُولُ يُصَدَّقُ ويُطَاع. وكانوا قدْ قالوا لهُ عليهِ السَّلام: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}! [سورة المائدة: 24]. فلمَّا عصَوا ومالُوا عنِ اتِّباعِ الحقِّ وهمْ يَعرِفونَه، وآذَوا نبيَّهمْ بذلك، صرَفَ اللهُ قُلوبَهمْ عنِ الهُدَى وخذلَهم، لاختيارِهمُ العَمَى والضَّلال، واللهُ لا يوفِّقُ لإصابَةِ الحقِّ مَنْ خَرَجَ عنِ الطَّاعَة، وأصرَّ على الضَّلال، ولم يَسلُكْ مَسالِكَ الهُدَى.

﴿وَإِذۡ قَالَ عِيسَى ابۡنُ مَرۡيَمَ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيۡكُم مُّصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي اسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِالۡبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ﴾ [الصف:6]


واذكُرْ قَولَ نَبيِّ اللهِ عيسَى بنِ مَريمَ - آخِرِ أنبِياءِ بَني إسرَائيل -: يا بَني إسرَائيل، إنِّي نَبيٌّ مُرسَلٌ إليكمْ مِنْ عندِ الله، مُصَدِّقًا بذلكَ لِما بينَ يَديَّ مِنَ التَّوراة، التي بشَّرَتْ بي، وأنا أُبَشِّرُ برَسُولٍ يأتي مِنْ بَعدي اسمُهُ أحمَد. فلمَّا جاءَهمْ بالمُعجِزاتِ كفَروا بها، وقالوا: إنَّ هذا الذي جاءَ بهِ سِحرٌ ظاهِر، وليسَ مُعجِزَةً تدلُّ على صِدقِ نبوَّتِه!

وللرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أسماء، قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: "إنَّ لي أسمَاء، أنا مُحَمَّد، وأنا أحمَد، وأنا الماحي الذي يَمحو اللهُ بيَ الكُفر، وأنا الحاشِرُ الذي يُحشَرُ النَّاسُ على قدَمي، وأنا العاقِبُ". رَواهُ الشَّيخانِ في صَحِيحَيهما واللَّفظُ للبخاريّ. والعاقِب: الذي ليسَ بعدَهُ نَبيّ.

والأنبياءُ حَمَّادُون، ونَبيُّنا أحمَدُهم، أي أكثَرُهمْ حَمدًا، وأعظَمُهمْ في صِفَةِ الحَمد. عَليهمُ الصَّلاةُ والسَّلام.

كما ثبَتَ في الصَّحيحِ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُفتَحُ عَليهِ في المَقامِ المَحمودِ - يَومَ القيامَةِ - بمَحامِدَ لم يُفتَحْ بها على أحَدٍ قَبلَه.

﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ افۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الۡكَذِبَ وَهُوَ يُدۡعَىٰٓ إِلَى الۡإِسۡلَٰمِۚ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الصف:7]


وليسَ هُناكَ أظلَمُ ممَّنْ يَكذِبُ على الله، بتَكذيبِ رسُلِهِ وتَسميَةِ آياتِهِ سِحرًا، وعِبادَةِ شُرَكاءَ معَهُ وهوَ يُدْعَى إلى التَّوحيدِ والإخْلاص. واللهُ لا يُرشِدُ هؤلاءِ الظَّالِمينَ، الذينَ تَجاوَزوا الحقَّ واتَّبَعوا الباطِل، وأمثالَهم، إلى ما فيهِ هُداهُم؛ لعدَمِ استِعدادِهمْ لذلك، وعدَمِ تَوجُّهِهمْ إليه.

﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِـُٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ الۡكَٰفِرُونَ﴾ [الصف:8]


يُحاوِلونَ أنْ يُبطِلوا الحقّ، وأنْ يوقِفوا انتِشارَ الإسْلام، كمَنْ يَنفُخُ بفَمِهِ الشَّمسَ ليُطفِئَ شُعاعَها! وسَوفَ يَنشُرُ اللهُ دِينَه، وتَصِلُ أنوارُهُ إلى أنحَاءِ الأرْض، كما تَصِلُ إليها أشِعَّةُ الشَّمس، ولو كَرِهَ الكافِرون، وحاوَلوا مَنعَهُ بكُلِّ ما يَستَطيعونَ مِنْ مَالٍ وإعْلام، وجُندٍ وسِلاح.

﴿هُوَ الَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِالۡهُدَىٰ وَدِينِ الۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ الۡمُشۡرِكُونَ﴾ [الصف:9]


هوَ اللهُ الحقّ، الذي بعثَ نبيَّهُ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بالقُرآنِ ليَهتَديَ بهِ النَّاس، وبالدِّينِ الثَّابتِ الصَّحيحِ ليُظهِرَهُ على سائرِ الأديَان، بنَسخِهِ إيَّاها، والإبقَاءِ عَلى دِينِ الإسْلام.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ﴾ [الصف:10]


هذا جَوابٌ عمَّا سألَهُ الصَّحابَةُ عنْ أحَبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تَعالَى ليَفعَلوه.

أيُّها المؤمِنون، هلْ أُرشِدُكمْ إلى تِجارَةٍ جَليلَةِ الشَّأن، تَربَحونَ فيها رِضَى الله، وتَنجُونَ بها مِنْ عَذابِ النَّار؟

﴿تُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [الصف:11]


تُؤمِنونَ باللهِ ورَسُولِهِ بصِدقٍ وإخْلاص، لا شِركَ فيهِ ولا رِياء، وتُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ بأموالِكمْ وأنفُسِكمْ لإعْلاءِ كَلمتِه، فالإيمانُ والجِهادُ خَيرٌ لكمْ على الإطْلاق، إنْ كنتُمْ مِنْ أهلِ العِلمِ والإيقَان.

﴿يَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَيُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ ذَٰلِكَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [الصف:12]


فإنْ آمَنتُمْ وجاهَدتُم، يَغفِرِ اللهُ ذُنوبَكم، ويَرحَمْكم، ويُسكِنْكُمْ جنَّاتٍ واسِعات، تَجري مِنْ خِلالِ أشجارِها الأنهَارُ بأنواعِها، وقُصورًا عاليةً طَيِّبةً في جَنَّاتِ إقامَةٍ دائمَة، وذلكَ هوَ الفَوزُ والفَلاحُ، والسَّعادَةُ الدَّائمَة.

﴿وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرٞ مِّنَ اللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ وَبَشِّرِ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الصف:13]


ونِعمَةٌ أُخرَى تُحِبُّونَها، هيَ بُشرَى لكم: نَصرٌ مِنَ اللهِ على المُشرِكين، وفَتحٌ مِنْ عندِه، في القَريبِ العاجِل، وبَشِّرِ المؤمِنينَ أيُّها الرسُولُ بالنَّصرِ في الدُّنيا، وبالمَثوبَةِ الحُسنَى في الآخِرَة.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابۡنُ مَرۡيَمَ لِلۡحَوَارِيِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى اللَّهِۖ قَالَ الۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ اللَّهِۖ فَـَٔامَنَت طَّآئِفَةٞ مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٞۖ فَأَيَّدۡنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُواْ ظَٰهِرِينَ﴾ [الصف:14]


أيُّها المؤمِنون، كونُوا نُصرَةً لدِينِ اللهِ في جَميعِ أحوالِكم، بأنفُسِكمْ وأموالِكم، كما قالَ نَبيُّ اللهِ عيسَى بنُ مَريمَ لصَفوَةِ أتْباعِهِ الحوَاريِّين: مَنْ أعوَاني وجُنودِي الذينَ يُعينوننَي في الدَّعوَةِ إلى الله؟

قالَ الحوَاريُّون: نحنُ أنصارُكَ على ما أُرسِلْتَ به، ومُؤازِروكَ على تَبليغِ دِينِ الله.

ولمَّا دَعا معَ أتباعِهِ إلى الدِّين، اهتدَتْ جَماعَةٌ مِنْ بَني إسرَائيلَ واتَّبَعوه، وضَلَّتْ جَماعَةٌ أُخرَى، ورَمَوهُ وأُمَّهُ الصِّدِّيقةَ بالعَظائم، وهمُ اليَهودُ عَليهمْ لَعنَةُ الله، وغَلَتْ فيهِ طَوائفُ مِنْ بَعد، فاعتبَروهُ ابنًا لله، تَعالَى اللهُ عنْ ذلكَ وتقدَّس. فنَصَرْنا المؤمِنينَ على أعدَائهم، فصَاروا غالِبينَ عَليهم، وذلكَ ببِعثَةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

سورة الجمعة - مدنية - عدد الآيات: 11

62

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِ الۡمَلِكِ الۡقُدُّوسِ الۡعَزِيزِ الۡحَكِيمِ﴾ [الجمعة:1]


يُنزَّهُ اللهَ ويوَحَّدُهُ كُلُّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ مِنْ مَخلوقات، ناطِقُها وجامِدُها، قَولاً وفِعلاً، طَوْعًا وكَرْهًا، بلسَانِ الحال، أو بلسانِ المَقَال، وإنْ لم نَفقَهْ تَسبيحَ بَعضِها. اللهُ خالِقُهما، ومالِكُهما، والمُتصَرِّفُ فيهما، المُنَزَّهُ مِنَ النَّقائصِ والعُيوب، العَزيزُ الذي لا يُغلَب، الحَكيمُ في أقوالِهِ وأفعالِه.

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ الۡكِتَٰبَ وَالۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ﴾ [الجمعة:2]


هوَ الذي بعثَ في العرَبِ الذينَ اشتُهِرَتْ فيهمُ الأمِّيِّةُ ولا كتابَ لهم - فلا يَقرَؤونَ ولا يَكتُبونَ - رسُولاً مِنْ جُملَتِهمْ وأُمِّيًّا مثلَهم، يَقرَأُ عَليهمْ آياتٍ مُوحًى بها مِنْ عندِ الله، ويَجعَلُهمْ أزكيَاءَ القُلوب، بإيمَانِ مَنْ يَهديهِ اللهُ ويُصلِحُهُ على يَديه، وبدَعوَتِهِ وتَبليغِه، ويُرشِدُهمْ إلى كيفيَّةِ تَطهيرِ النُّفوسِ مِنَ الآثامِ والخِصالِ السيِّئة، ويُعَلِّمُهمُ القُرآنَ العَظيم، والسنَّةَ النبَويَّة، وما فيها مِنْ أحكامٍ وشَرائع، وإنْ كانوا مِنْ قَبلُ في جاهليَّة، وشِركٍ وكُفر.

وتَخصيصُ العرَبِ بالذِّكرِ لا يَنفي مَنْ عَداهم، ولكنَّ المنَّةَ عَليهمْ أبلَغُ وآكَد، كما في الآيةِ التَّالية، وكما في قَولِهِ تَعالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} {سورة الأعراف: 158].

﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [الجمعة:3]


وبُعِثَ إلى آخَرينَ منَ المؤمِنينَ لم يَلحَقوا بهم، وسيَلحَقونَ بهمْ مِنْ بَعد. واللهُ عَزيزٌ فلا يُقهَر، حَكيمٌ في صُنعِهِ وتَدبيرِه.

﴿ذَٰلِكَ فَضۡلُ اللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَاللَّهُ ذُو الۡفَضۡلِ الۡعَظِيمِ﴾ [الجمعة:4]


وما أعطاهُ اللهُ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنَ النبوَّة، وما خَصَّ بهِ أُمَّتَه، نِعمَةٌ مِنَ اللهِ ورَحمَة، يُعطيها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه، وفَضلُ اللهِ عَظيم، ورَحمَتُهُ واسِعَة.

﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ الۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ الۡقَوۡمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِۚ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الجمعة:5]


مثَلُ الذينَ أُعْطُوا التَّوراةَ وكُلِّفوا العملَ بها والقِيامَ بحَقِّها، ثمَّ لم يَعمَلوا بها ولم يُؤَدُّوا حقَّها، كمثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ كتُبًا وهوَ لا يَدري ما فيها ولا يَنتَفِعُ بها. واليَهودُ قرَؤوا التَّوراةَ وعَلِموا ما فيها ولكنَّهمْ لم يَعمَلوا بمُقتَضاها، بلْ أوَّلوا وحرَّفُوا وبدَّلوا، فبئسَ القَومُ هم، الذينَ كذَّبوا بآياتِ اللهِ وكتُبِه، وسعَوا في تَبديلِ كلامِهِ وتَغييرِه، واللهُ لا يَهدي الظَّالِمينَ الذينَ تَجاوَزوا الحقَّ، ووَضَعوا التَّكذيبَ في مَوضِعِ التَّصديق.

﴿قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [الجمعة:6]


قُلْ أيُّها الرسُول: يا مَعشَرَ اليَهود، إنْ زعَمتُمْ أنَّكمْ أحِبَّاءُ لله، مُتَّبِعونَ للحقّ، وأنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ على ضَلال، فادْعُوا بالمَوتِ على أنفُسِكم، لتَنتَقِلوا مِنْ دارِ البَلايا والأكدَارِ إلى دارِ الكرَامَةِ والسَّعادَة، إذا كنتُمْ صادِقينَ في دَعواكمْ بأنَّكمْ على حقّ، فإنَّ المؤمِنَ المُطيعَ يُحِبُّ لقاءَ الله.

﴿وَلَا يَتَمَنَّوۡنَهُۥٓ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالظَّـٰلِمِينَ﴾ [الجمعة:7]


ولكنَّ اليَهودَ لا يَتمنَّونَ الموتَ أبدًا، لِما همْ فيهِ مِنَ الظُّلمِ والفُجُور، والكُفرِ والتَّكذِيبِ بنبوَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وهمْ يَعلَمونَ أنَّهُ هوَ المُبَشَّرُ بهِ في التَّوراة، لمُطابقَةِ أوصافِهِ وأخبارِهِ لِما يَجِدونَهُ فيها. واللهُ عالِمٌ بما تَجاوَزوهُ مِنَ الحقّ، وما صدرَ منهمْ مِنْ أنواعِ الظُّلمِ والمَعاصِي.

﴿قُلۡ إِنَّ الۡمَوۡتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الۡغَيۡبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [الجمعة:8]


قُلْ لهم: إنَّ المَوتَ الذي تَهرُبونَ منهُ خَوفًا مِنْ أنْ تُحاسَبوا على جَرائمِكم، فإنَّهُ آتيكمْ حَتمًا، لا مفَرَّ لكمْ منه، ثمَّ تُبعَثونَ وتُرجَعونَ إلى مَنْ يَعلَمُ ما تَعلَمونَ وما لا تَعلَمون، ويرَى ما ترَونَ وما لا ترَون، فيُخبِرُكمْ بما عَمِلتُمْ مِنَ الكُفرِ والتَّكذِيب، والمَعاصِي والذُّنوب، ويُجازيكمْ على ذلكَ سُوءَ الجَزاء.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ الۡجُمُعَةِ فَاسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [الجمعة:9]


أيُّها المؤمِنون، إذا نُودِيَ للصَّلاةِ بالأذَانِ في يَومِ الجُمُعَةِ فامضُوا إليها، واترُكوا البَيعَ والشِّراء، فهوَ أنفَعُ لكمْ وأبقَى، إنْ كنتُمْ تَعلَمونَ الحلالَ والحرام، والطَّاعَةَ والمَعصيَة.

﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الۡأَرۡضِ وَابۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ اللَّهِ وَاذۡكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [الجمعة:10]


فإذا أُدِّيَتِ الصَّلاةُ فانتَشِروا في الأرْضِ واطلبُوا رِزقَكمْ مِنْ فَضلِ اللهِ وتصرَّفوا في حَوائجِكم - وهوَ أمرُ إباحَةٍ -، وأكثِروا مِنْ ذِكرِ الله، ولا تَشغَلنَّكمُ الدُّنيا عنْ ذلك؛ لتَفوزُوا بخَيرَي الدُّنيا والآخِرَة.

﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا انفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ اللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ اللَّهۡوِ وَمِنَ التِّجَٰرَةِۚ وَاللَّهُ خَيۡرُ الرَّـٰزِقِينَ﴾ [الجمعة:11]


قالَ جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه: أقبَلَتْ عِيرٌ - أي قافِلَةٌ مُحمَّلَةٌ بالمَتاعِ - يَومَ الجُمُعَة، ونحنُ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فثارَ النَّاسُ إلاّ اثنَي عشرَ رَجُلاً، فأنزلَ الله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا...}. رَواهُ البُخاريُّ في صَحيحِه.

وإذا رَأَوا تِجارَةً قادِمَة، أو تَصفيقًا وطَبلاً، أو دُفًّا يُضرَبُ بهِ لاستِقبالِ القافِلَة، تَفرَّقوا مِنْ عندِكَ وقامُوا إلى التِّجارَة، وترَكوكَ قائمًا تَخطُبُ على المِنبَر، قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: إنَّ ما أعدَّهُ اللهُ مِنَ الأجرِ والثَّوابِ في الدَّارِ الآخِرَة، خَيرٌ مِنَ القِيامِ إلى اللَّهوِ وطلَبِ البَيعِ والشِّراءِ في هذا الوَقت، فإنَّ نَفعَ ما عندَ اللهِ مُحَقَّق، ونَفعَ اللَّهوِ في الدُّنيا ليسَ بمُحَقَّق، بلْ مُتَوهَّم، ونَفعَ التِّجارَةِ ليسَ بمُخَلَّد. وتَقديمُ اللَّهوِ على التِّجارَةِ هُنا لأنَّهُ أقوَى مَذَمَّة.

واللهُ خَيرُ مَنْ رزَقَ وأثَاب، وهوَ مُوجِدُ الأموَالِ والأرزَاق، فاسعَوا إليه، واطلُبوا منهُ الرِّزقَ في وَقتِهِ كما أمرَكم.

سورة المنافقون - مدنية - عدد الآيات: 11

63

﴿إِذَا جَآءَكَ الۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِۗ وَاللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَاللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ الۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ﴾ [المنافقون:1]


إذا أتاكَ المُنافِقونَ وحضَروا مَجلِسَكَ أيُّها الرسُول، أظهَروا الإسْلامَ وقالوا: نَشهَدُ أنَّكَ رسُولُ الله، واللهُ يَعلَمُ أنَّكَ رَسُولُهُ إلى النَّاس، واللهُ يَشهَدُ أنَّ المُنافِقينَ كاذِبون، لأنَّهمْ يُضمِرونَ خِلافَ ما يَعتَقِدون.

﴿اتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةٗ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِۚ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [المنافقون:2]


لقدْ جعَلوا حَلِفَهمُ الكاذِبَ وِقايَةً لأُنفُسِهمْ حتَّى يُصَدِّقَهمُ النَّاس، فاغتَرَّ بهِ بَعضُهمْ وظَنُّوا أنَّهمْ مُسلِمون، وصَدَّقوهمْ فيما يَقولون، فصَارَ المنافِقونَ يَمنَعونَهمْ مِنَ الجِهادِ وطاعَةِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم، ويُشَكِّكونَهمْ في العَقيدَةِ الإسلاميَّة، بئسَ ما يَعمَلونَ مِنَ الكذِبِ والخِداعِ والتَّضلِيل.

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَفۡقَهُونَ﴾ [المنافقون:3]


وقدْ حصَلَ لهمُ النِّفاقُ لكَونِهمْ نطَقوا بالشَّهادَتَينِ ثمَّ رجَعوا عنْ الإيمانِ إلى الكُفر، كما بَدا نِفاقُهمْ مِنْ أيمانِهمُ الكاذِبَةِ ومَواقفِهمُ السيِّئة، فخُتِمَ على قُلوبِهمْ بالكُفر، فهمْ لا يَفقَهونَ الإيمَان، ولا يَهتَدونَ إلى الحقّ.