تفسير الجزء 28 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الثامن والعشرون
28
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم

﴿۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ الۡعَدُوُّ فَاحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ اللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ﴾ [المنافقون:4]


وإذا نظَرتَ إليهمْ أعجبَكَ مَنظَرُ أجسَامِهم، وإذا تَكلَّموا استمَعتَ إليهم، لفَصاحَتِهمْ وحَلاوَةِ كلامِهم، كأنَّهمْ أخشابٌ مُسْنَدَةٌ إلى حائط، فهيَ أشجارٌ لا تُثمِر، وكأنَّهمْ أجسَامٌ بلا عُقول. والخَوفُ والهلَعُ يَسكنُ قُلوبَهم، فإذا سَمِعوا جلَبَةً أو صَوتًا ما، خافُوا وظَنُّوا لجُبْنِهمْ أنَّ الأمرَ نازِلٌ بهم. وهمُ الأعدَاءُ الرَّاسِخونَ في العَداوَة، فاحذَرْهمْ ولا تأمَنهم، ولا تَغترَّ بظاهرِهمْ وكلامِهمُ المَعسُول، لعنَهمُ الله، كيفَ يُصرَفونَ عنِ الحقِّ إلى الكُفرِ والضَّلال؟!

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ يَسۡتَغۡفِرۡ لَكُمۡ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوۡاْ رُءُوسَهُمۡ وَرَأَيۡتَهُمۡ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُونَ﴾ [المنافقون:5]


وإذا قيلَ لهم: تَعالَوا إلى رسُولِ اللهِ واعتَذِروا مِنْ أفعالِكمُ السيِّئةِ وتُوبوا إلى الله، ليَدْعوَ لكمْ ويَطلُبَ مِنَ اللهِ أنْ يَغفِرَ لكم، أمالُوا بوجُوهِهمْ ورَأيتَهمْ يُعرِضونَ عنْ ذلك، استِكبارًا واستِحقارًا لِما قيلَ لهم.

﴿سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ أَسۡتَغۡفَرۡتَ لَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ لَن يَغۡفِرَ اللَّهُ لَهُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [المنافقون:6]


والأمرُ سَواء، إنِ استَغفَرْتَ لهم، أمْ لم تَستَغفِرْ لهم، فإنَّ اللهَ لنْ يَغفِرَ لهم، لرسُوخِهمْ في الكُفر، إنَّ اللهَ لا يَغفِرُ لمَنْ خرَجَ عنِ الطَّاعَةِ وأصرَّ على ذَنبِه، واستَكبَرَ عنْ قَبولِ الحقّ.

﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ الۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ﴾ [المنافقون:7]


إنَّهمُ المُنافِقون، الذينَ قالَ كبيرُهمْ بعدَ غَزوَةِ بَني المُصطَلِق: لا تُنفِقوا على مَنْ عندَ رسُولِ اللهِ مِنْ فُقَراءِ المُهاجِرين، حتَّى يَجوعُوا فيَتفَرَّقوا عنهُ ولا يَصحَبوه. وخَزائنُ الأرزَاقِ ممَّا في السَّماواتِ والأرْضِ للهِ تَعالَى، يُعطي منها مَنْ يَشاءُ ويَمنَعُها مَنْ يَشاء، ولكنَّ المُنافِقينَ لا يَعرِفونَ ذلك؛ لجَهلِهمْ باللهِ تَعالَى، ويَظنُّونَ أنَّهمْ لو لم يُنفِقوا على الصَّحابَةِ الفُقَراءِ لتفَرَّقوا عنه، ولضَعُفَ الدِّينُ بذلك. وهمْ يَحسَبونَ أنَّ لُقمَةَ العَيشِ هيَ كلُّ شَيءٍ في الحيَاة! وأنَّهمْ بفِعلِهمْ هذا يتَحكَّمونَ في الأرزَاق! بينَما همْ لا يتَحكَّمونَ في أرزَاقِهم.

﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى الۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ الۡأَعَزُّ مِنۡهَا الۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ الۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [المنافقون:8]


ويَقولُ كبيرُ المُنافِقينَ أيضًا: إذا رجَعنا إلى المَدينَةِ مِنْ هذهِ الغَزوَة، فسيُخرِجُ منها الأعِزَّةُ - يَعني نَفسَهُ وأتْباعَهُ المُنافِقينَ - الأذِلَّةَ، يَعني الرسُولَ صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ المؤمِنين!

وللهِ الغَلبَةُ والقوَّةُ ولِمَنْ أعَزَّهُ اللهُ تَعالَى مِنْ رَسُولِهِ والمؤمِنين، لا لغَيرِهم. والعِزَّةُ المُستَمدَّةُ مِنْ عِزَّتِهِ تَعالَى لا تَهونُ ولا تَلين، ولا تَخرُجُ مِنَ القَلبِ إلاّ أنْ يَضعُفَ فيهِ الإيَمان، ولكنَّ المُنافِقينَ لا يَعلَمونَ ذلك؛ لجَهلِهم، وضَلالِهم، وغُرورِهم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ اللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡخَٰسِرُونَ﴾ [المنافقون:9]


أيُّها المؤمِنون، لا يَشغَلنَّكمْ أموالُكمْ ومَصالحُكمُ الدنيَويَّةُ ولا أولادُكمْ عنِ الصَّلاةِ وسائرِ العِباداتِ والطَّاعات، ومَنْ يَشغَلْهُ التلهِّي بالدُّنيا عنْ ذِكرِ اللهِ وطاعَتِه، فأولئكَ همُ الخاسِرونَ الخائبون، الذينَ باعُوا الجَليلَ الباقي بالقَليلِ الفاني.

﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ الۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [المنافقون:10]


وأنفِقوا مِنْ بَعضِ ما آتَيناكمْ مِنَ الرِّزقِ للفُقَراءِ والمُحتاجين، قَبلَ أنْ يَنزِلَ الموتُ بأحَدِكم، فيَندَمَ ويَقول: يا ربّ، هلاّ أمهَلتَني إلى أمَدٍ قَصيرٍ فأتَصدَّقَ وأزكِّيَ مالي، وأكُونَ مِنَ المؤمِنينَ المُطيعين؟

﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [المنافقون:11]


ولنْ يُمهِلَ اللهُ أحدًا إذا جاءَ أجَلُه، واللهُ مُطَّلِعٌ على أحوالِكم، خَبيرٌ بأعمالِكمْ ونيَّاتِكمْ فيها، خَيرِها وشَرِّها، ويُجازي كُلاًّ بما عَمِل.
في مسندِ أحمدَ وسُنَنِ الترمذيِّ وغيرِهما بإسنادٍ صَحيح، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم كانَ يَقرَأُ في صَلاةِ الجُمُعَةِ بسُورَةِ الجُمُعَة، و{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ}.

سورة التغابن - مدنية - عدد الآيات: 18

64

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۖ لَهُ الۡمُلۡكُ وَلَهُ الۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [التغابن:1]


يُنزِّهُ اللهَ ويوَحِّدُهُ كُلُّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ مِنْ المَخلُوقات، ما نَطقَ منها وما لم يَنطِق، وإنْ لم نَفقَهْ تَسبيحَ بَعضِها، وجَميعُ الكائناتِ مُلكُهُ سُبحانَه، يُدَبِّرُ أمرَها ويَتصرَّفُ فيها كما يَشاء، ولهُ الثَّناءُ الحسَنُ على ما قدَّرَ وأعطَى، وهوَ القادِرُ على كُلِّ شَيء، لا يَمنَعُهُ مِنَ القُدرَةِ الكامِلَةِ مانِع، فما شاءَ كان، وما لم يَشَأ لم يَكن.

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [التغابن:2]


هوَ الذي أوجدَكمْ كما شَاء، فمنكمْ كافِرٌ به، ومنكمْ مؤمِنٌ به، واللهُ عَليمٌ(145) بمَنْ يَستَحِقُّ الهِدايَةَ ممَّنْ يَستَحِقُّ الضَّلال، وسيَجزي كُلاًّ بما يَستَحِقّ.

(145) البصير: أُريدَ به العالِمُ عِلمَ انكشاف، لا يَقبلُ الخفاء، فهو كعلمِ المشاهَدة. وهذا إطلاقٌ شائعٌ في القرآن، لا سيَّما إذا أُفردتْ صفةُ (بصير) بالذكر، ولم تُذكَرْ معها صفةُ (سميع). (التحرير والتنوير).

﴿خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ بِالۡحَقِّ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡۖ وَإِلَيۡهِ الۡمَصِيرُ﴾ [التغابن:3]


خلقَ السَّماواتِ العَظيمَةَ والأرْضَ وما فيها لحِكمَةٍ بالِغَة، وخلقَكمْ فأحسنَ أشكالَكم، وخَصَّكمْ بدَقائقَ وأسرَارٍ في تَكوينِكمُ العُضويِّ والنَّفسيّ، وأكرَمَكم، وإلى اللهِ المَرجِعُ والمَآب، ليُحاسِبَ كُلاًّ على ما عَمِل.

﴿يَعۡلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَۚ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [التغابن:4]


يَعلَمُ جَميعَ ما في السَّماواتِ والأرْض، ممَّا ظَهرَ منها وما بطَن، ويَعلَمُ ما تُخفُونَهُ في أنفُسِكمْ مِنْ أسرَار، وما تُعلِنونَهُ مِنْ أُمُور، واللهُ عَليمٌ بما تُسِرُّونَهُ في صُدورِكم، فلا يَخفَى عليهِ شَيءٌ مِنْ أمرِكم، مهما خَفيَ ودَقّ.

﴿أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمۡرِهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [التغابن:5]


ألمْ يأتِكمْ خبَرُ الكافِرينَ مِنَ الأُمَمِ الماضِين، وما حَلَّ بهمْ مِنَ العَذاب، لرَفضِهمُ اتِّباعَ الدِّينِ الحقّ؟ ولهمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ شَديد.

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُۥ كَانَت تَّأۡتِيهِمۡ رُسُلُهُم بِالۡبَيِّنَٰتِ فَقَالُوٓاْ أَبَشَرٞ يَهۡدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْۖ وَّاسۡتَغۡنَى اللَّهُۚ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٞ﴾ [التغابن:6]


وما عُوقِبوا بهِ في الدُّنيا، وما سيُعاقَبونَ بهِ في الآخِرَة، هوَ لأنَّهمْ كانتْ تأتيهمْ رسُلُهمْ بالمُعجِزاتِ والدَّلائلِ الواضِحات، فيَقولون: أبشَرٌ يَهدونَنا وهمْ مِثلُنا؟ فكذَّبوهمْ وأعرَضوا عنْ دِينِ الله، واستَغنَى اللهُ عَنهمْ فأهلكَهم، واللهُ غَنيٌّ عنهمْ وعنْ إيمانِهمْ وطاعَتِهم، وعنِ الخَلقِ أجمَعين، حَميدٌ في أفعالِه، يَستَحِقُّ الحَمدَ بذاتِه.

﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٞ﴾ [التغابن:7]


ادَّعَى الكافِرونَ أنَّهمْ لنْ يُبعَثوا بعدَ المَوت، قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: بلَى واللهِ لتُبعَثُنَّ، ثمَّ لتُخبَرُنَّ بأعمالِكمْ كُلِّها، خَيرِها وشرِّها، وتُحاسَبُنَّ عَليها. وإحياؤكمْ سَهلٌ يَسيرٌ على الله، فما أنتُمْ عندَهُ إلاّ كنَفسٍ واحِدَة. وحِسابُكمْ يَسيرٌ عَليهِ كذلك، وإنْ كَثُرَ عدَدُكم، وكَثُرَتْ أعمالُكم.

﴿فَـَٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَالنُّورِ الَّذِيٓ أَنزَلۡنَاۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [التغابن:8]


فآمِنوا باللهِ ورسُولِهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، والقُرآنِ الذي أنزَلناهُ عَليه، واللهُ عالِمٌ بما تَعمَلون، خَبيرٌ بما تأتونَ وما تذَرون.

﴿يَوۡمَ يَجۡمَعُكُمۡ لِيَوۡمِ الۡجَمۡعِۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ التَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِاللَّهِ وَيَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [التغابن:9]


يَومَ يَجمَعُكمْ جَميعًا، أوَّلَكمْ وآخِرَكم، ذلكَ اليَومُ الذي يَظهَرُ فيهِ خُسرانُ النَّاسِ أو فَواتُ حُظوظٍ لهم، فيَخسَرُ الكافِرونَ الجنَّةَ لعدَمِ إيمانِهم، ويَخسَرُ مؤمِنونَ درَجاتٍ في الجنَّةِ لتَقصيرِهمْ في الطَّاعَةِ والإحسَان. ومَنْ يَصدُقْ في إيمانِه، ويُخلِصْ في عمَلِه، يَغفِرِ اللهُ ذُنوبَه، ويُدخِلْهُ جنَّاتٍ عاليَات، وقُصورٍ واسِعات، تَجري مِنْ خِلالِها الأنهَار، مخلَّدينَ فيها أبدًا، وذلكَ هوَ الفَوزُ والفَلاح، والسَّعادَةُ الكبيرَة.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ وَبِئۡسَ الۡمَصِيرُ﴾ [التغابن:10]


والذينَ كفَروا بالله، وكذَّبوا بالمُعجِزاتِ التي أيَّدَ بها رسُلَه، أولئكَ أهلُ النَّار، ماكثينَ فيها أبدًا، لا مَحيدَ لهمْ عنها، وبئسَ مآلُهمُ الذي استقَرُّوا فيه.

﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ اللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِاللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ [التغابن:11]


ما أصابَ أحدًا مُصيبَةٌ إلاّ بمَشيئةِ الله، ومَنْ أصابَتْهُ مُصيبَةٌ، فعَلِمَ أنَّها بقَضاءِ اللهِ وقدَرِه، وآمَنَ بأنَّهُ لا تُصيبُهُ إلاّ بإذنِه، وصبرَ واحتسَب، وسلَّمَ الأمرَ للهِ ورَضِي، زادَهُ يَقينًا، وطَمْأَنَ قلبَه، وهداهُ إلى مَزيدٍ مِنَ الخَيرِ والطَّاعَة، واللهُ عالِمٌ بكلِّ شَيء، لا يَخفَى عليهِ أحوالُ النَّاسِ ونيَّاتُهم.

﴿وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الۡبَلَٰغُ الۡمُبِينُ﴾ [التغابن:12]


وأطيعُوا اللهَ فيما شرَعَ لكمْ مِنَ الدِّين، وأطيعُوا رَسُولَهُ فيما بلَّغَ عنْ ربِّهِ، وما أمرَ بهِ ونهَى عنه، فإنْ أعرَضتُم، فما على الرسُولِ إلاّ تَبليغُ ما أُمِرَ بهِ بَلاغًا واضِحًا، وقدْ فَعَل، وليسَ عليهِ هُداكم، وما عَليكمْ إلاّ السَّمعُ والطَّاعَة.

﴿اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [التغابن:13]


اللهُ واحِدٌ لا شَريكَ له، فلا مَعبودَ بحقٍّ سِواه، وعلى اللهِ وحدَهُ فَليَعتَمدِ المؤمِنونَ في أُمورِهم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَاحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُواْ وَتَصۡفَحُواْ وَتَغۡفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾ [التغابن:14]


أيُّها المؤمِنون، إنَّ مِنْ أزواجِكمْ وأولادِكمْ مَنْ يَكونُ عدوًّا لكم، عندَما يُلهونَكمْ عنِ العمَلِ الصَّالح، ويُعادُونَكم، ويَحمِلونَكمْ على قَطعِ الرَّحِم، أو مَعصيَةِ الله، فاحذَروهم، ولا تأمَنوا شرَّهم، وإنْ تَعفُوا عنْ أخطائهمُ القابِلَةِ للعَفو، كالمُتعَلِّقَةِ بأمورِ الدُّنيا، وتَستُروهمْ عَليها وتَعذِرونَهمْ فيها، فإنَّ اللهَ يُثيبُكمْ عَليها، فيَغفِرُ لكمْ ويَرحَمُكم، وهوَ كثيرُ المَغفِرَةِ لذُنوبِ عِبادِهِ التَّائبين، واسِعُ الرَّحمَةِ بالمؤمِنين.

﴿إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ وَاللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ﴾ [التغابن:15]


إنَّما أموالُكمْ وأولادُكمْ ابتِلاءٌ واختِبارٌ مِنَ اللهِ لكم، فيترتَّبُ عَليهما كثيرٌ مِنَ التصرُّفاتِ والموَاقفِ والالتِزامَات، ليَعلمَ اللهُ بذلكَ مَنْ يُطيعُهُ ويُنفِقُ مِنْ مالِهِ فيما يُرضِيه، ومَنْ يُقَدِّمُ مَصلحةَ مالِهِ وأولادِهِ على دِينِ اللهِ والجِهادِ في سَبيلِه. ومَنْ آثرَ الباقي على الفاني فقدْ فازَ ونَجا، وما عندَ اللهِ خَيرٌ وأبقَى.

﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسۡتَطَعۡتُمۡ وَاسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن:16]


فابذُلوا جُهدَكمْ لامتِثالِ أمرِ اللهِ وعدَمِ مُخالفَتِه، واسمَعوا مَواعِظَ الله، وتَمسَّكوا بسنَّةِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وأنفِقوا مِنْ أموالِكمْ للفُقَراءِ والمُحتاجين، ومَنْ مَنعَ نَفسَهُ مِنَ البُخلِ والحِرصِ على المال، فقدْ نجحَ وفاز.

وفي حديثِ جابرٍ المرفوعِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "واتَّقوا الشُّحّ، فإنَّ الشُّحَّ أهلكَ مَنْ كانَ قَبلَكم، حملَهمْ على أنْ سفَكوا دِماءَهم، واستَحلُّوا مَحارِمَهم". رَواهُ مُسلم.

والشُّحُّ أشَدُّ البُخل.

﴿إِن تُقۡرِضُواْ اللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعِفۡهُ لَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ [التغابن:17]


إذا أنفَقتُمْ مِنْ أموالِكمْ في سَبيلِ الله، مِنْ جِهادٍ وغَيرِهِ مِنْ أعمالِ البِرِّ والإحسَان، بإخْلاصٍ وطِيبِ نَفس، فإنَّ اللهَ يُضاعِفُ لكمُ الأجرَ والثَّوابَ يَومَ الحِسابِ والجَزاء، ويَغفِرُ ذُنوبَكم، واللهُ شَكورٌ يَجزِي الكثيرَ على القَليل، حَليم، لا يُعاجِلُ بالعُقوبَة، بلْ يُمهِل، ويَصفَحُ ويَغفِر.

﴿عَٰلِمُ الۡغَيۡبِ وَالشَّهَٰدَةِ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [التغابن:18]


اللهُ الذي يَعلَمُ ما غابَ عنكمْ وما هوَ مُشاهَدٌ لكم، فلا يَخفَى عليهِ صَغيرٌ ولا كَبير، في الأرْضِ ولا في السَّماء، الغالِبُ الذي لا يُقهَر، الحَكيمُ فيما يَقضي ويُقَدِّر.

سورة الطلاق - مدنية - عدد الآيات: 12

65

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ الۡعِدَّةَۖ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ اللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا﴾ [الطلاق:1]


أيُّها النبيُّ الكريم، إذا أرَدتُمْ تَطليقَ النِّسَاء، فطلِّقوهنَّ في طُهرٍ مِنْ غَيرِ جِماع، فلا يَحِلُّ الطَّلاقُ والمرأةُ حائض، ولا في طُهرٍ جامعَها زَوجُها فيه، واضبِطُوا العِدَّةَ واعرِفوا ابتِداءَها وانتِهاءَها، وأكمِلوها ثَلاثَةَ قُروءٍ [يُراجَعُ المَعنَى في تَفسيرِ الآيةِ 228 مِنْ سُورَةِ البقَرة]. واخشَوا اللهَ ولا تُطَوِّلوا العِدَّةَ عَليهنَّ للإضرَارِ بهنّ.

ولا تُخرِجوهنَّ مِنْ مَنازلِهنَّ بعدَ الطَّلاقِ إلى أنْ تَنقَضيَ عِدَّتُهنّ، فلهنَّ حقُّ السُّكنَى على الزَّوجِ حتَّى تَنقَضيَ العِدَّة. ولا يَجوزُ لهنَّ أيضًا أنْ يَخرُجْنَ وهنَّ ما زِلنَ في العِدَّة، إلاَّ إذا ارتَكبْنَ فاحِشةً ظاهِرَةً، كالزِّنا، فيُخرَجْنَ مِنَ المَسكَن.

وما ذُكرَ هوَ مِنَ الأحكامِ التي شَرعَها اللهُ لعِبادِه، فمَنْ لم يَعمَلْ بها أو أخَلَّ بشَيءٍ منها فقدْ أضَرَّ بنَفسِه. ولا تَدري ما الذي يُحدِثُهُ اللهُ بعدَ ذلك، فقدْ يَكونُ بَقاءُ المُطلَّقَةِ في المَنزِلِ في وَقتِ العِدَّةِ سبَبًا لرجُوعِ الزَّوجِ إليها إذا كانَ الطَّلاقُ رَجعيًّا، فيَكونُ ذلكَ أفضلَ لهما.

﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ الشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا﴾ [الطلاق:2]


فإذا شارفَتِ المُطلَّقاتُ على انقِضاءِ عِدَّتِهنّ، فرَاجِعوهنَّ معَ حُسنِ عُشرَةٍ وإنفاقٍ مُناسِب، أو اعزِموا على مُفارَقَتِهنَّ مِنْ غَيرِ تَعنيفٍ ولا إلحاقِ ضرَرٍ بهنّ.

وأشهِدوا على الرَّجعَةِ والفِراق. والإشهادُ على الرَّجعَةِ مُستحَبٌّ احتِياطًا، خَوفًا مِنْ إنكارِ الزَّوجةِ لها بعدَ انقِضاءِ العِدَّة، وقَطعًا للشكِّ في حُصولِها، فإذا لم يُشهِدْ على رَجعَتِها صحَّت. وعندَ الشافعيِّ: الشَّهادَةُ على الرَّجعَةِ واجبة، ومَندوبٌ إليها في الفُرقَة.

وقالَ الجصَّاصً في "الأحكام": لم يَختَلفِ الفُقهاءُ في أنَّ المُرادَ بالفِراقِ المَذكورِ في الآيَةِ إنَّما هوَ تَركُها حتَّى تَنقَضيَ عِدَّتُها، وأنَّ الفُرقةَ تَصِحُّ وإنْ لم يقَعِ الإشهاد. اهـ.

وأظهِروا الشَّهادَةَ على الرَّجعَةِ والطَّلاقِ عندَ الحاجَةِ أيُّها الشُّهود، خالِصًا لوَجهِ الله، مِنْ غَيرِ تَحريف.

وما سبقَ بيانُ حُكمِهِ هوَ ما تُوعَظونَ به، وإنَّما يَلتَزِمُ بهِ مَنْ كانَ يؤمِنُ باللهِ وشَرعِه، ويَخافُ عِقابَهُ في اليَومِ الآخِر، ومَنْ خَشيَ اللهَ ولم يُخالِفْ أمرَه، فطلَّقَ للسنَّة، ولم يَضُرَّ بالزَّوجَة، يَجعَلِ اللهُ لهُ مَخرَجًا ومَنفَذًا ممَّا يقَعُ للأزواجِ مِنَ الهَمِّ والضِّيق،

﴿وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا﴾ [الطلاق:3]


ويَرزُقْهُ مِنْ جِهَةٍ لا تَخطرُ ببالِه، ومِنْ حيثُ لا يَتوَقَّع. ومَنْ يَعتَمِدْ على اللهِ ويُفَوِّضْ إليهِ أمرَه، فهوَ كافيهِ في جَميعِ أُمورِه. إنَّ اللهَ يَبلُغُ ما يُريدُه، ويُنَفِّذُ ما قَضاه. وكُلُّ شَيءٍ مُقَدَّرٌ بمِقدَار، ولا يوجَدُ شَيءٌ جُزافًا في الكونِ كُلِّه، وقدْ قدَّرَ اللهُ الأشياءَ قَبلَ وجودِها، وجعلَ لها أجلاً تَنتَهي إليه، ففوِّضوا الأمُورَ إلى الله، وأحسِنوا تَوكُّلَكمْ عليه.