تفسير الجزء 4 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الرابع
4
سورة آل عمران (93 – 200)
سورة النساء (1 – 23)

﴿۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ الَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ الۡأُمُورِ﴾ [آل عمران:186]


- وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ يُؤذَوْنَ مِنْ قِبَلِ المشرِكينَ واليَهودِ حينَ قُدومِهمُ المدينة، فأُمِروا بالعفوِ والصَّبر: سوفَ تُمتَحَنونَ أيُّها المسلِمونَ في أموالِكم بالنَّقص، وفي أنفسِكم بالأمراضِ والجِراحِ وما إليها - وقدْ أخذَ المشرِكونَ أموالَهمْ وعذَّبوهمْ في مكَّةَ - وسَتسمَعونَ منَ اليهودِ والنصارَى ومنْ المشرِكينَ كلاماً وهِجاءً مُؤذياً، منَ الطَّعنِ في الدِّين، والتَّحقيرِ والاستِهزاء، والتَّحريضِ على القَتل، فإذا صَبرتمْ على أذاهُم، وعَفوتُمْ عنهم، واشتَغلتمْ بطاعةِ اللهِ وطلبِ رِضوانِه، فإنَّ ذلكَ مِنْ خيرِ الأمورِ وأفضلِها، حتَّى تَتقَوَّوا وتُرهِبوهُم.

﴿وَإِذۡ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَاشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ﴾ [آل عمران:187]


لقدْ أخذَ اللهُ العهدَ والميثاقَ على أهلِ الكتابِ أنْ يُبَيِّنوا للنَّاسِ أمرَ الرسُولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كما علَّمهمْ أنبياؤهمْ وكما هو مسطَّرٌ في كتُبِهم، وألاّ يَكتُموه، حتَّى إذا أرسلَهُ اللهُ عَرفوهُ وتابَعوه، لكنَّهمْ طَرحوهُ وضَيَّعوهُ وتَركوا العَملَ به، واستَعاضوا بذلكَ الهدايا والمآكِلَ والرِّشا، حَظًّا دُنيوياً حَقيراً مُقابلَ أمرٍ عَظيمٍ يترتَّبُ عليهِ تَضليلُ أُمَمٍ وأجيالٍ على مدَى قُرونٍ وأحقاب... فبئستِ التجارةُ تجارتُهم، وبئسَ ما يَشتَرون.

قالَ قتادةُ رحمَهُ الله: هذا ميثاقٌ أخذَهُ اللهُ تعالَى على أهلِ العِلم. فمَنْ عَلِمَ شَيئاً فليُعلِّمه، وإيّاكم وكِتمانَ العِلم.

وقالَ ابنُ كثير: في هذا تحذيرٌ للعُلماءِ أنْ يَسلُكوا مَسلكَهم، فيُصيبَهم ما أصابَهم...

﴿لَا تَحۡسَبَنَّ الَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ الۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [آل عمران:188]


لا تَظُنَّنَّ الذينَ يَفرَحونَ بما اقتَرفوا مِنْ أفعالٍ سيِّئةٍ، ويُحِبُّونَ أنْ يُظهِروا للنَّاسِ أنَّ ما فَعلوهُ هوَ الحقّ، مثلما كانَ يَفعلُ اليَهودُ عندما يُسألونَ عنْ شَيءٍ مِنَ العلمِ الذي بأيدِيهم، فيُضَلِّلونَ الناسَ ويُجيبونَهمْ بكلامٍ فيهِ كَذِبٌ وتَحريف، ويَطلبونَ شُكرَ الناسِ لهمْ على إيمانِهمْ وأمانَتِهمْ في العِلم!! فلا تَظُنَّ أنَّهمْ بمَنجاةٍ منْ عِقابِ الله، ولسوفَ يُعَذِّبُهمْ عَذاباً مؤلماً مُوجعاً.

﴿وَلِلَّهِ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:189]


واعلَموا أنَّ كلَّ شيءٍ ممّا في السَّماواتِ والأرضِ هوَ مُلْكٌ لله، فهوَ المتصرِّفُ فيهما كيفَما يَشاء، والقادرُ على ما يَشاء، لا يُعجِزُه شَيءٌ ممّا يُريدُ فيهما، فاخشَوهُ ولا تخالِفوه، واحذَروا نِقمتَهُ وغَضَبَه.

﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَاخۡتِلَٰفِ الَّيۡلِ وَالنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي الۡأَلۡبَٰبِ﴾ [آل عمران:190]


إنَّ في خَلْقِ السماوات، بارتفاعِها واتِّساعِها، وما فيها منْ نُجومٍ وأفْلاك، والنظامِ الدقيقِ في سَيرِها، وتكامُلِ أنظمتِها وتنسيقِها، وعُمومِ نَواميسِها، والأرضِ وما فيها منْ أحياءٍ ونباتاتٍ شتَّى، وجِبالٍ شاهِقات، وبِحارٍ عَظيمة، ومَعادِنَ ومَنافِع، وفي تَعاقُبِ اللَّيلِ والنّهار، وكونِ كلٍّ منهما يَخلُفُ الآخَر، بحسَبِ طُلوعِ الشَّمسِ وغُروبِها، أو في تَفاوتِهما بازديادِ أحدِهما وانتِقاصِ الآخَر، كلُّ ذلكَ آياتٌ وأدِلِّةٌ عَظيمةٌ على أُلوهيَّةِ اللهِ ووَحدانيَّتِه، لمنْ عَقَلَ منَ النَّاسِ وأدركَ الأشياءَ على حقائقِها، وتجرَّدَ منْ شَوائبِ الوَهمِ والتَّقليد، فتَفكَّرَ، وصَدَّق، واعتَبر، وآمَن، واستَسلمَ للحَقّ.

﴿الَّذِينَ يَذۡكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191]


إنَّهمُ المؤمِنونَ إذاً، الذينَ لا يَكِلُّونَ ولا يَمَلُّونَ مِنْ ذكرِ الله، ولا يَغفُلونَ عنهُ في عامَّةِ أوقاتِهم، لمعرفتِهمْ بأنَّهُ الحقُّ الذي يَنبَغي ألاّ يُنسَى، ولخُشوعِهم، واطمئنانِ قلوبِهمْ بذكرِه، فيَذكرونَهُ قائمين، وقاعِدين، ومُضطَجِعِين، ويَتفكَّرونَ في عظمةِ خَلْقِ الله، الدالَّةِ على علمهِ وقُدرتهِ وعَظمتهِ وحِكمتِهِ سُبحانه، ويَتأمَّلونَ فيما خلقَ وبَثَّ في السَّماواتِ والأرضِ مِنْ بَديعِ صُنعِه، ويَقولون: ربَّنا ما خَلقتَ هذا الكونَ عَبَثاً وهَزْلاً، فأنتَ مُنَزَّهٌ عنِ النقائصِ والعَيْبِ والعَبَث، بلْ هوَ لحِكَمٍ عَظيمةٍ وأمورٍ جَليلَة، ليَعرِفَ الناسُ ربَّهمُ العَظيم، وليَعرِفوا بَديعَ صُنعِه، وليَعبُدوه، وليَجزيَ مَنْ آمنَ بالحقِّ بالحُسنى، ومَنْ كفرَ وأساءَ بالسُّوء.

اللهمَّ فإنَّا آمنّا بكَ إلهاً واحِداً وخالقاً عَظيماً لا شَرِيكَ لك، فأجِرْنا منَ النار، بهدايتِنا وتوفيقِنا إلى الأعمالِ الصَّالحة، وبرحمَتِك، ونَعوذُ بكَ أنْ نَكونَ ممّن يَكفرونَ بكَ وبنعمتِك.

﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ النَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ﴾ [آل عمران:192]


اللهمَّ إنكَ مَنْ أدخلتَهُ النارَ فقدْ أبعَدتَهُ منْ رحمَتِك، وأهنتَه، وأهلكتَه، ولا مُجِيرَ للظالمينَ - أمثالِهم - منكَ ولا نَصير، ولا مَحِيدَ لهمْ عنِ النار.

﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَاغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الۡأَبۡرَارِ﴾ [آل عمران:193]


ربَّنا إنَّنا سَمِعنا داعياً يَدعو إلى الإيمان، وهوَ نبيُّكَ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، أنْ آمِنوا بربِّكم، مالكِكمْ ومُتَولِّي أمورِكم، فامتَثلنا أمرَه، وأجبنَا نِداءَهُ واتَّبعناه، اللهمَّ فذاكَ إيمانُنا، وهذا دعاؤنا، فاغفِرْ لنا ذُنوبنَا، كبيرَها وصَغيرَها، وألحِقنا بعبادِكَ الصالحينَ الأبرَار، خُصَّنا بصُحبتِهم، واجعَلنا في جِوارِهم.

﴿رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ الۡمِيعَادَ﴾ [آل عمران:194]


اللهمَّ وأعطِنا ما وَعدتَنا منَ الثَّوابِ على ألسنةِ رُسُلِك، ولا تُبعِدْنا عنْ رحمتِكَ يومَ القيامةِ فنَهلِك، إنَّكَ لا تُخلِفُ ما وَعدتَ بهِ منَ الفَضلِ والرَّحمَة.

وتُستَحَبُّ قِراءَةُ الآياتِ (190-194) عندَ القيامِ منَ اللَّيل.

﴿فَاسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ اللَّهِۚ وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران:195]


فأجابَ اللهَ دُعاءَهم، أنِّي لا أُضِيْعُ عملَ أحَدٍ منكمْ مهما كانَ صَغيراً، بلْ يُوَفَّى كلٌّ جزاءَ ما عَمِل، الذكَرُ منكمْ والأُنثَى سَواء، فأنتُمْ مِنْ أصلٍ واحِد، والجميعُ يَنالُ ما يَستَحِقُّ مِنَ الثَّواب.

فالذينَ أُخرِجوا مِنْ ديارهِم وهاجَروا لمضايقةِ المشرِكينَ لهمْ وإلحاقِ الأذَى بهمْ والضَّررِ بأموالِهم، لا لشيءٍ سِوَى لاعتِناقِهم دينَ الإسلام، ثمَّ جاهَدوا في سبَيلِ الله، فمنهمْ مَنْ قاتلَ وأبلَى بلاءً حَسناً في قوَّةٍ وصَبر، وعَزمٍ وبُطولة، ورأى النَّصر، ومنهمْ مَنْ قاتَل حتَّى قُتِل، فهؤلاءِ سأغفِرُ جميعَ ذنوبِهم، وأُدخلُهمْ جَنّاتٍ تَجري في خِلالِها الأنهارُ، جزاءً عظيماً مِنْ ربِّهمُ الكريم، وعند اللهِ الجزاءُ الحسَنُ لكلِّ مَنْ آمنَ وعَمِلَ صالحاً.

﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الۡبِلَٰدِ﴾ [آل عمران:196]


لا تَنظُرْ إلى الكافِرينَ والعُصاةِ مِنْ أعداءِ الدِّينِ وما همْ فيهِ مِنْ مَظاهرِ النِّعمةِ والتَّرَفِ، والغِبْطةِ والمَكانة، ولا تَلتَفِتْ إلى تصرُّفِهمْ في البلادِ بالتجارةِ وأنواعِ المَكاسِب.

﴿مَتَٰعٞ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ الۡمِهَادُ﴾ [آل عمران:197]


فعمّا قَليلٍ يَذهَبُ ما همْ فيهِ مِنْ سُرور، ويَنتهي ما كانَ في أيدِيهمْ منْ مَتاع، ويَزولُ عنهمْ كلُّ شيءٍ كانوا عَليه، ويَبقونَ مُرتَهنينَ بأعمالِهمُ السيِّئة، التي تأخذُهمْ إلى جَهنَّم، ليَفترِشوا بُسُطاً مِنْ نار، وبئسَ الفِراشُ والمَصير!

﴿لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلٗا مِّنۡ عِندِ اللَّهِۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيۡرٞ لِّلۡأَبۡرَارِ﴾ [آل عمران:198]


وفي مُقابِلهمُ المؤمِنون، الذينَ سَمِعوا نِداءَ الإيمانِ فآمَنوا وثَبتُوا، وعَزمُوا على الأعمالِ الصَّالحةِ والتزَموا، فجَازاهمُ اللهُ جَنَّاتٍ واسِعات، تَجري في خِلالها الأنهارُ المتنوِّعَة، ضيافةً منَ الربِّ الكريم، والذي عندَ اللهِ ممّا ذُكِرَ مِنَ النَّعيم، ومنْ خُلودٍ دائمٍ ورِضوانٍ منَ الله، هوَ خَيرٌ لأوليائهِ المتَّقين، ممّا يَتقلَّبُ الفُجّارُ في المَتاعِ القَليلِ الزَّائل.

﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ خَٰشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشۡتَرُونَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ ثَمَنٗا قَلِيلًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الۡحِسَابِ﴾ [آل عمران:199]


وهناكَ طائفةٌ مِنْ أهلِ الكِتابِ يؤمِنونَ باللهِ حَقَّ الإيمان، ويؤمِنونَ بما أُنْزِلَ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إضافةً إلى إيمانِهمْ بالكُتُبِ المتقدِّمة، مثلَ المسلِمين، معَ خُشوعٍ وخَشيةٍ منَ الله، وطاعةٍ لهُ وتَذَلُّل، ولا يَكتُمونَ صِفَةَ رسولِ اللهِ ومَبعثَهُ ممّا يَقرَؤونَهُ في تلكَ الكتُب، وليسُوا مثلَ غيرِهمْ منْ أهلِ الكتابِ الذينَ يُحرِّفونَها مُقابِلَ هَدايا ورِشًا، أو يَكتُمونَ ما بها مِنْ بِشاراتٍ بالرسُولِ الكريم؛ حَسَداً وبَغياً وعِناداً، فمَنْ آمنَ منهمْ يَكونُ مِنْ خِيْرةِ أهلِ الكتابِ وصَفوتِهم، ولهمْ أجرُهمْ عندَ ربِّهمْ مثلَ بَقيَّةِ المؤمِنين، لا فرقَ بينَهم، واللهُ سَريعُ الحِساب، على كثرةِ عبادِه، وكثرةِ أعمالِهم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]


يا عبادَ اللهِ المؤمِنين، اصبِروا على دينِكمُ الذي ارتَضاهُ اللهُ لكم، في الشدَّةِ والرَّخاء، حتَّى تَموتوا عليه، فهوَ زادُكمُ الذي تَتمسَّكونَ بهِ حتَّى يَبْلُغَكمُ المـَقِيل.

وصابِروا أعداءَكمُ الذينَ يُحاولونَ دائماً أنْ يُزَعزِعُوا إيمانَكمْ ويَقضُوا عَليكم، فكونُوا أصبرَ منهمْ وأقوَى حتَّى تَغْلِبوهُم.

ورابِطوا في مواقعِ الجهادِ وفي الثغورِ المعرَّضةِ لهجومِ الأعداء، لا تَغْفُلوا عنْ هذا ولا تَستَسلِموا للرُّقاد.

ويأتي معنَى المرابطةِ هُنا أيضًا - مِنْ بابِ التنوُّعِ في التَّفسير -: المداومةُ على العبادةِ والثباتُ على طاعةِ الله.

واتَّقوا اللهَ في جميعِ أمورِكمْ وأحوالِكم، ولا تَغفُلوا عمّا أُمِرْتمْ به، حتَّى تَكونوا بهذا كلِّهِ منَ الفائزين، مُعَزَّزين في الدُّنيا، ومُكرَّمينَ في الآخِرَة.

مِنْ فضائلِ هذهِ السُّورَةِ الكريمَة، قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: "اقرَؤوا الزَّهراوَين: البَقَرَةَ وسُورَةَ آلِ عِمران، فإنَّهما تَأتيانِ يَومَ القيامَةِ كأنَّهُما غَمامَتان، أو كأنَّهما غَيَايَتان، أو كأنَّهما فِرْقَانِ مِنْ طَيرٍ صَوَافَّ، تُحاجَّانِ عَنْ أصحَابِهما". رواهُ مسلمٌ وغَيرُه. والغَمامَةُ والغيَايَة: السَّحابَة. والفِرْق: الطائفَةُ منَ الشَّيءِ المتفَرِّق. والطَّيرُ الصَّوَافّ: التي تَصُفُّ بأجنِحَتِها فلا تُحَرِّكُها.

سورة النساء - مدنية - عدد الآيات: 176

4

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَالۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا﴾ [النساء:1]


أيُّها النَّاس، أطِيعُوا اللهَ واحذَروا مخالفةَ أمرِه، واتَّقوا عذابَه، هوَ الذي خَلقَكُمْ مِنْ نفسٍ واحِدة، هيَ آدم، وخَلَق َمنهُ زوجَهُ حَوّاء، خَلَقَها مِنْ ضِلْعٍ له، ونَشرَ منهما ذُكوراً وإناثاً كثيرِين.

واتَّقوا اللهَ بطاعتِكمْ إيّاه، وهوَ الذي تَتساءَلونَ بهِ وتقولون: أسألُكَ بالله.

واحذَروا مِنْ أنْ تَقطَعوا أرحامَكم، فإنَّ قَطيعتَها ممّا يَجِبُ أنْ يُخشَى ويُتَّقَى. واللهُ رَقيبٌ عَليكم، حافظٌ مطَّلعٌ على نيّاتكمْ وما يَصدُرُ عنكمْ مِنْ أقوالٍ وأفعَال، فيُجازيكمْ بها.

﴿وَءَاتُواْ الۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الۡخَبِيثَ بِالطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا﴾ [النساء:2]


وأعطُوا اليَتامَى أموالَهم، ولا تَظلِموهمْ فتُبَدِّلوا الدنيءَ الحقيرَ منْ أموالِكمْ بالطيِّبِ الغالي منْ أموالِهم، وتَقولوا هذا بذاكَ ما دامَ مِنْ جنسٍ واحِد! ولا تَخلِطوا أموالَهمْ بأموالِكمْ وتأكلوها جَميعاً، فهو إثمٌ كبيرٌ، فاجتَنِبوه.

﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي الۡيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ﴾ [النساء:3]


وإذا أردتُمُ الزواجَ بيَتيماتٍ وخَشِيتُمْ أنْ تَضُرُّوا بحُقوقِهنّ، كأنْ لا تُعطُوهنَّ صَداقَهنَّ كامِلاً مثلَ صَداقِ غيرِهنّ، فلا سبيلَ لكمْ إليه، إلاّ أنْ تَعدِلوا في ذلكَ مثلَ غيرِهنّ، فإنْ لم تَقدروا على العَدلِ فالنِّساءُ كَثيرَات، فتزوَّجوا سِواهنّ، إنْ شئتمُ الثنتينِ والثلاثَ والأربَع، حَلالاً طيِّباً، ولا زيادةَ على هذا العَدد، فإذا خَشِيتُمْ ألاّ تَعْدِلوا بينَهنَّ فانكِحوا واحِدةً وذَروا الجميع، أو انكِحوا ما ملكتْ أيمانُكمْ منَ الجوارِي السَّرارِي، بدونِ عَدّ، بطريقِ المُلكِ لا بطريقِ النِّكاح، فلا يَلزَمُ فيهنَّ منَ الحقوقِ ما يَلزمُ في الزَّوجاتِ الحرائر. واختيارُ الواحِدة، أو التسرِّي، هوَ أقربُ إلى ألاّ تَظلِموا.

﴿وَءَاتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا﴾ [النساء:4]


وأعطُوا النساءَ صَداقَهنَّ حَتْماً واجِباً، فإذا تَنازَلْنَ لكمْ عنْ قِسْمٍ منهُ عنْ طيبِ نفسٍ منهنَّ، فكلوهُ حَلالاً طَيِّباً.

﴿وَلَا تُؤۡتُواْ السُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَارۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَاكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا﴾ [النساء:5]


ولا تُعطُوا غيرَ الرَّاشدينَ أموالَكم، ممَّنْ لا يُحسِنونَ تَصريفَها وتَدبيرَها وتَثميرَها، فالأموالُ لا تُهدَرُ ولا تُرمَى، ففيها معايشُكمْ ومصالحُكمْ، مِنْ تِجاراتٍ وغيرِها، وأعطُوا غيرَ الرَّاشدينَ ممَّنْ تَتولَّونَ أمورَهمْ حقوقَهم، منْ كُسوةٍ ومُؤنةٍ وطَعام، وأحسِنوا تَعامُلَكمْ مَعهم، فبَرُّوهم، وقولوا لهمْ كلاماً طيِّباً.

﴿وَابۡتَلُواْ الۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَادۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِالۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبٗا﴾ [النساء:6]


وإذا أرَدتُمْ أنْ تُمَكِّنوا اليَتامَى مِنْ أموالِهمْ فجرِّبوهمْ واختَبِروهمْ أوَّلاً، فإذا رأيتُمْ أنَّهمْ بَلغوا سِنَّ الزواج، وعَلِمتُمْ منهمْ صَلاحاً في الدِّين وقُدرةً على التدبيرِ والتَّصريف، فأعطُوهمْ أموالَهم، ولا تأكلوها مِنْ غيرِ حاجةٍ ضروريَّةٍ قبلَ بلوغِهم، ومَنْ كان في غِنىً عنْ مالِهمْ فلا يأكُلْ منهُ شيئاً، ومَنْ كانَ مُحتاجاً فليأكُلْ بالمَعروف، يَعني بالتي هيَ أحسَن، كما قالَ سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152]، فإذا أعطَيتُموهمْ أموالَهمْ فيَجبُ أنْ يكونَ هناكَ شُهودٌ في مَحضَرِ التَّسليم. وكفَى باللهِ مُحاسِباً وشَهيداً ورَقيباً على أولياءِ اليتامَى وقيامِهمْ على أمرهِمْ وما يَفعلونَهُ بأموالِهم.

﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ الۡوَٰلِدَانِ وَالۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ الۡوَٰلِدَانِ وَالۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا﴾ [النساء:7]


الجَميعُ سواءٌ في أصلِ الوِراثة، فللرِّجالِ نَصيبُهمْ ممّا تركَهُ الوالدانِ وأقرِباؤهم، وللنساءِ كذلكَ نَصيبُهنَّ ممّا تركَ الوالدانِ وأقرِباؤهنّ، سواءٌ كانتِ الترِكَةُ قَليلةً أو كَثيرة، حقًّا واجِباً مَفروضاً.

﴿وَإِذَا حَضَرَ الۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ الۡقُرۡبَىٰ وَالۡيَتَٰمَىٰ وَالۡمَسَٰكِينُ فَارۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا﴾ [النساء:8]


وإذا حضرَ قِسمَةَ الترِكَةِ أقرباؤكمْ منَ اليتامَى والمساكينِ ممَّن لا يَرِثون، فأعطُوهمْ منها، وقُولوا لهمْ كلاماً حسناً تُطَيِّبونَ بهِ نفوسَهم.

﴿وَلۡيَخۡشَ الَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ اللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا﴾ [النساء:9]


وليخَفِ اللهَ هؤلاءِ الذينَ يَحضرُهمُ الموتُ وقدْ تَركوا ذُرِّيةً صِغاراً خافَوا عليهمُ الفَقرَ والضَّياع، لضَعفِهمْ وعدَمِ قُدرتِهمْ على التكسُّب، فليتَّقوا اللهَ ولا يوصُوا بالكثيرِ مِنْ أموالِهمْ للآخَرينَ ويَدَعوا أولادَهمْ عالةً يَتكفَّفونَ الناس، بلْ بالمعروف. وقدْ بيَّنتِ السنَّةُ منْ بعدُ أنَّهُ لا تَجوزُ الوصيَّةُ بأكثرَ منَ الثُّلث.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ الۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا﴾ [النساء:10]


إنَّ الذينَ يأكلونَ أموالَ الأيتامِ حَراماً بغَيرِ حقّ، إنَّما يأكلونَ بذلكَ ناراً مِلْءَ بُطونِهمْ يومَ القيامة. وسيَكونُ جزاؤهمْ أنْ تُسْعَرَ بهمُ النارُ في جهنَّم، فيُحرَقونَ منَ الخارجِ أيضاً، فهيَ مُحيطةٌ بهمْ ظاهِراً وباطِناً، جزاءَ ظُلمِهمْ لليَتامَى الضُّعَفاء.

﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ الۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ اثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا النِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ اللَّهِۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ [النساء:11]


يأمرُكمُ اللهُ بالعَدلِ في أولادِكمْ عندَ تَقسيمِ الميرَاث، فللرَّجلِ ضِعْفُ ما هوَ للأنثَى، بحَسَبِ ما يأتي، فلا تُحرَمُ نصيبَها كما كانَ يُفْعَلُ بها في الجاهليَّة. أمّا الضِّعْفُ للرجُلِ فلأنَّهُ هوَ المسؤولُ عنِ النفقةِ لا المرأة، وهوَ الذي يَعمَلُ ويَتَكسَّبُ ويُتاجِرُ ويَتحَمَّلُ المَشقَّةَ لأجلِ ذلك، وليسَ مَطلوبٌ ذلكَ مَنَ المرأة، بلْ هيَ مَصُونةٌ مأمورٌ أنْ يُنفَقَ عليها، سواءٌ كانتْ عندَ أهلِها أو عندَ زوجِها، أو أنَّها تُنفِقُ على نفسِها وحدَها.

فإذا ماتَ الأبُ ولا وارِثَ لهُ سِوَى ذُرِّيتهِ منَ الذكورِ والإناث، اقتَسموا تَرِكتَهُ كلَّها، للذُّكورِ منهمْ ضِعْفُ ما للإناث.

فإذا لم يَكنْ عندَهُ ذُكور، لكنْ لهُ ابنتانِ فأكثر، فلهُنَّ ثلثا التَّرِكة.

وإذا كانتْ لهُ ابنةٌ واحدةٌ فلها نِصْفُ الترِكة.

ثمَّ يوزَّعُ باقي الميراثِ على أقربِ عاصِبٍ للميِّت:

فيكونُ لأبوَيه: لكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ منَ الميراث، إذا كانَ لهُ ولد: ابنٌ أو بنت.

فإذا لم يكنْ لهُ ولدٌ ووَرِثَهُ أبواهُ فقَط، فلأمِّهِ الثُّلُث، وسائرهُ لأبيه.

فإذا لم يَكنْ لهُ ولد، وكانَ لهُ إخوة، ومعهمُ الأبُ والأمّ، فلها معهمُ السُّدُس، وسائرُهُ للأب.

وهذا كلُّهُ بعدَ أنْ يُعطَى منَ التَّرِكةِ الدَّينُ الذي على الميِّت، وكذلكَ فَرْزُ الوصيَّةِ منها، إذا كانَ أوصَى منها.

وفي المسائلِ السابقةِ تفاصيلُ فَرعيَّةٌ تُنْظَرُ في كتبِ الفَرائض.

وقدْ ساوَينا بينَ الكلِّ في أصلِ المِيراث، ولا تَدرُونَ المتوقَّعَ في الخَيرِ والنَّفعِ الدنيويِّ والأخرَويِّ لكمْ منْ أيٍّ يَكون، في الآباءِ أو في الأبناء، فلهذا فرَضنا لهذا ولذاك، وساوَينا بينَ القِسمَينِ في أصلِ الميراث.

وهذا التفصيلُ في تقسيمِ الميراثِ فَرْضٌ منَ اللهِ عليكم، وبهِ قضَى، وهوَ عليمٌ حَكيمٌ، يُعطِي كلاًّ ما يَستَحِقُّ بحَسَبه، وليسَ للبشَرِ أنْ يُشَرِّعوا لأنفسِهم، وأنْ يُحَكِّموا هواهُمْ في ذلك، فاللهُ هوَ الذي أعطَى الأرزاقَ والأموَال، وهوَ الذي يَفرِضُ ويَقْسِم، وهوَ أعلمُ بمصلحتِهمْ منهمْ بها.

﴿۞وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٞ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡنَۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۚ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ امۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا السُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖۚ وَصِيَّةٗ مِّنَ اللَّهِۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٞ﴾ [النساء:12]


ولكمْ أيُّها الأزواجُ نِصفُ ما تركتِ الزوجاتُ إذا لم يكنْ لهنَّ أولاد.

فإذا كانَ لهنَّ أولادٌ فلكمُ الربُع مِنْ تَرِكَتِهنّ.

وهذا بعدَ إيفاءِ الدَّينِ والوصيَّةِ مِنْ مِيراثِهنّ، إنْ كانَ عليهِنَّ دَيْن، أو أوصَينَ بوصيَّة.

وللزَّوجاتِ الرُّبُعُ منْ ميراثِكمْ أيُّها الأزواجُ إذا لم يَكنْ لكمْ ولد، فإذا ورِثَكمُ الأولادُ مَعَهنَّ فللزَّوجاتِ الثُّمُنُ منَ الميراث.

وهذا أيضاً بعدَ إيفاءِ الدَّينِ والوصيَّةِ مِنْ ميراثِكم، إذا كانَ عليكمْ دَيْنٌ أو أوصَيتُمْ بوصيَّة...

وإذا ماتَ الرجلُ ولا أصلَ يَرِثُهُ ولا فَرع، يَعني لا ولدَ لهُ ولا والِد، وإنَّما همْ حَواشيه، وكذا المرأةُ، ولهُ أخٌ أو أختٌ مِنْ أمّ، فلكلِّ واحدٍ منهما السُّدُس. فإذا كانوا أكثرَ منْ ذلكَ فهمْ شُركاءُ في الثلثِ مَهما بلغَ عَددُهم. وهذا أيضاً بعدَ رفعِ مِقدارِ الدَّينِ منَ التَّرِكة، وكذا الوصيَّةِ الموصَى بها، على أنْ تكونَ عادلةً لا ضَررَ فيها على الورثةِ ولا جَور، فلا يكونُ القَصدُ منها حِرْمانَ بعضِ الورثةِ منَ الميراث، أو إنقاصَه، أو الزيادةَ عليه.

ويُلاحَظُ أنْ لا وصيَّةَ لوارِث، ولا تَزيدُ على الثُّلُثِ لغَيرِ الوارِث.

وهذهِ الفَرائضُ وصيَّةٌ منَ الله، فهيَ واجِبَةُ الطَّاعة.

واللهُ عليمٌ بالمُضارِّ وغَيرِه، حَليمٌ بهم، فلا يؤاخِذُهمْ بمجرَّدِ صدورِ خطأ منهم، بلْ يُمهِلُهمْ ويبيِّنُ لهمْ حتَّى يَفهمُوا ويَعتَبِروا.

﴿تِلۡكَ حُدُودُ اللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [النساء:13]


وتلكَ الفرائضُ والتَّشرِيعات، مِنْ بيانِ تَقديرِ مُستَحقَّات كلِّ وارِث، بحسَبِ قُربِهمْ وبُعدِهمْ عنِ الميِّت، وبقدرِ احتياجِهمْ وفَقدِهمْ لهُ بعدَ وفاتِه، وما إلى ذلك، هيَ حُدودٌ حَدَّها اللهُ بعِلمهِ وحِكمَتهِ لتَكونَ الفيصلَ في التَّوزيعِ والتَّقسيم، فلا تَتجاوَزوها، ولا تَعمَلوا بغَيرِها. ومَنْ يُطِعِ اللهَ ورسولَهُ مُلتَزِماً بفريضتهِ وقِسمتِه، مِنْ غيرِ حيلةٍ ولا خِيانة، يَلْقَ جزاءً طيِّباً مِنْ ربِّه، فيُدخلهُ جنّاتٍ تَجري في خلالِها الأنهار، معَ خلودٍ دائم، وهوَ فوزٌ عَظيم، لمنْ عَرَفَ خُطورةَ ذلكَ اليومِ وهولَهُ وشِدَّتَه.

﴿وَمَن يَعۡصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ [النساء:14]


أمّا مَنْ عصَى وتَحايل، أو عَمِلَ بغير ِقِسْمةِ الله، مُؤثِراً إيّاهُ عليها، ويَكونُ بذلكَ غيَّرَ ما حكَم اللهُ بهِ وضَادَّهُ في حُكمِه، وغيرَ راضٍ مِنْ قِسمتِه، فإنَّ اللهَ يُدخِلهُ ناراً مُحرِقةً خالِدًا فيها، ويُعَذَّبُ فيها عَذاباً شديداً، معَ ذُلٍّ وهَوان.

﴿وَالَّـٰتِي يَأۡتِينَ الۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَاسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي الۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ الۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا﴾ [النساء:15]


والنساءُ اللَّواتي يأتينَ الفاحشةَ، فيَزْنِين، فلا بدَّ لإثباتِ ذلكَ مِنْ أربعةِ شُهود، فإذا شَهِدوا بذلك، فإنَّهنَّ يُحْبَسْنَ في بيتٍ ولا يُسْمَحُ لهنَّ بالخروجِ منهُ حتَّى يَمُتْن، أو يَنْتَظِرنَ حتَّى يجعلَ اللهُ لهنَّ مَخرَجاً.

والسبيلُ في مَخرَجِهنَّ هو الحُكمُ الناسِخُ لسابقِه، فهذا الحُكمُ كانَ في أوَّلِ الإسلام، ثمَّ صارَ إلى الرَّجْمِ للمتزوِّجِ والمتزوِّجة، والجَلدِ لغَيرِهما.