والذينَ كذَّبوا بالأدلةِ البيِّنةِ والمُعجِزاتِ القاطِعَةِ التي خَصَّ اللهُ بها أنبياءَه، لتدُلَّ على صِدقِهمْ وما جاؤوا به، فردُّوها ولم يَقبَلوا بها، سنَفتحُ لهمْ أبوابَ النَّعيمِ والترفُّه، حتَّى يَغترُّوا بما همْ فيه، فيَزدادوا طُغياناً وكُفراً، لنأخُذَهمْ بَغتةً، ونَزيدَ في عُقوبتِهم.
ألمْ يُفَكِّرِ المكذِّبونَ مِنْ كفّارِ قُرَيشٍ أنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم ليسَ بهِ مَسُّ جُنونٍ كما يَدَّعون؟ بلْ هوَ رسولُ اللهِ حقًّا، يَظهَرُ أمرُهُ هذا لكلِّ متأمِّلِ ذي عَقل.
فقلْ لهم: عِلْمُ ذلكَ عندَ اللهِ وحدَه، لا يُظهِرهُ إلّا في الوقتِ الذي يَقعُ فيهِ بَغتة. خَفِيَ أمرُ القيامةِ وعَظُمَ أمرُها على أهلِ السَّماواتِ والأرضِ كلِّهم، لا تأتيكمْ إلاّ فَجأةً في غَفلةٍ منكم.
يَسألونَكَ ذلكَ وكأنَّكَ عالِمٌ بها، فقل: إنَّما علمُ ذلكَ عندَ اللهِ وحدَه، لا يَعرِفهُ مَلَكٌ مُقرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرسَل، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَعلمونَ ذلك.
فلمّا أعطاهُما مَولوداً سَالماً كما طَلَبا، جَعلا للهِ شُركاءَ في هذا الذي رزقَهما، فسَمَّوهُ عبدَ اللاَّتِ وعبدَ العُزَّى، وغيرَ ذلك. أو نَذَروهُ للآلِهة، أو لخِدمةِ مَعابدِها تقرُّباً إلى الله، بزعمِهم. تَقَدَّس اللهُ وتَنَزَّهَ عمّا يُشرِكونَ بهِ ويعتَقدونَ فيه.
أيُشرِكونَ باللهِ تعالى أصْناماً مِنْ حَجَرٍ، لا تَقدِرُ على الحرَكة، ولا على الضَّرَرِ والنَّفع، ولا هيَ قادِرَةٌ على أنْ تَخلُقَ شيئاً، وعابِدوها أقدرُ منها وأسمعُ وأبصَر!! وهذهِ الأصنامُ مَصنوعةٌ ومُشَكَّلةٌ بأيديهم؟! {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}؟ [الصافات:95].
إنَّ هذهِ الأصنامَ التي تَعبُدونَها مِنْ دونِ الله، ما هيَ سِوَى مَخلوقات، مثلَ عابِديها المَخْلوقين، وأنتُمْ وهُمْ مَملوكونَ للهِ مُسَخَّرونَ لأمرِه، وها هيَ عندَكم، فارفَعوا أيديَكمْ إليها لتَجلُبَ لكمْ نَفعاً أو تَدفعَ عنكمْ ضُرًّا، إذا كنتُمْ صَادِقينَ في أنَّها آلهةٌ تَقدِرُ على ما لا تَقدِرونَ عليه؟!
هلْ لهذهِ الأصنامِ - التي تدَّعونَ أنَّها آلِهةٌ - أرجُلٌ يَمشُونَ بها ليُعَدُّوا أحياءً لهمْ قُدرةٌ على الحرَكة، ليُسعِفوكمْ ويخلِّصُوكمْ منْ مُعضِلةٍ تَقعونَ فيها؟
أمْ لهمْ أيدٍ يَستَطيعونَ أنْ يأخُذوا شَيئاً ما بقوَّةٍ ويَنفَعوكمْ بها، أو يَدفعوا عنكمْ أذًى يَلحَقُكم؟
أمْ لهمْ أعينٌ يُبصِرونَ بها ليُبَصِّروكمْ أشياءَ لا قُدرةَ لكمْ على رُؤيتها، أو يَشكُروا لكمْ على ما تُقدِّمونَ لهمْ مِنْ ذَبائحَ وقَرابين؟
أمْ لهمْ آذانٌ يَسمعونَ بها دعاءَكمْ وعبادتَكمْ لها؟
إنَّهمْ لا يَتمتَّعونَ بصفةٍ منْ تلكَ الصِّفات، ولا بحاسَّةٍ منْ تلكَ الحَواسّ، ولا فائدةَ منهمُ ألبتَّة.
فحاجِجْهمْ أيُّها النبيُّ، وقلْ لهم: هاتوا آلهتَكمُ المزعومةَ هذه، واستَعينوا بها عليّ إنْ كانتْ قادرةً على إلحاقِ ضَرَرٍ بي، واجتَهدوا في تَرتيبِ كلِّ ما تَقدِرونَ عليهِ منْ مَكرٍ وكَيدٍ، ولا تُمهِلوني ولا تُشعِروني بما ستَفعَلونَه، فإنِّي لا أبالي بكمْ ولا بأصنامِكمْ أصلاً!
وأصنامُكمُ الصمّاءُ البَكماء، التي تدَّعونَ أنَّها آلهة، وتَستَعينونَ بها، لا تَقدِرُ على نَفعِكمْ بشَيء، ولا تَوَلِّي أيِّ أمرٍ منْ أمورِكم، ولا مُساعدتِكمْ فيما تَرغَبون، ولا إغاثتِكم إذا استَنصرتُمْ بها، بلْ لا تَستَطيعُ أنْ تُدافعَ عنْ نفسِها إذا أُصيبَتْ بسُوء!
وإذا تُلِيَتْ آياتُ القُرآنِ فاسكُتوا واستَمِعوا له، تَعظيمًا وإجلالاً لكلامِ الله، لكي تَهتَدوا به، وتَفوزوا برَحمةِ الله.
وقدْ ذكرَ السَّلَفُ أنَّها نزلَتْ في القِراءَةِ في الصَّلاة. قالَ القاضي البَيضاويُّ في تَفسيرِه: نزَلَتْ في الصَّلاة، كانوا يَتكَلَّمونَ فيها فأُمِروا باستِماعِ قِراءَةِ الإمامِ والإنصاتِ له. وظاهِرُ اللَّفظِ يَقتَضي وجوبَهما حَيثُ يُقرَأُ القُرآن، وعامَّةُ العُلماءِ على استِحبابِهما خارِجَ الصَّلاة. اهـ.
وذكرَ القُرطُبيُّ وآخَرونَ أنَّها عامَّةٌ ولا تُخَصَّصُ إلاّ بدَليل.
يسألُكَ أصحابُكَ أيُّها النبيُّ عنِ الأنفَال، وهيَ الغَنائم، وكلُّ ما نالَهُ المسلِمونَ مِنْ أموالِ أهلِ الحرب، فقلْ لهم: إنَّ اختِصاصَ أمرِها وحُكمِها إلى اللهِ تعالَى ورسولهِ صلى الله عليه وسلم، فيَقْسِمُها رسولُهُ كما يأمرهُ ربُّه، ولا رأيَ فيها لآخَر. وكانَ ذلكَ يومَ بدر. فاخشَوا اللهَ واحذَروا مخالفةَ أمرِه، وأصلِحوا فيما بينَكمْ بالحُسنَى والردِّ الجَميل، فيما وقعَ بأيديكمْ منَ الغَنائم، وسلِّموها للرسُولِ صلى الله عليه وسلم طَواعية، ولا تَتخاصَموا ولا تَتشاجَروا بسَببِ المال، فإنَّهُ يؤدِّي إلى الاختِلافِ والتباغُض، وأطِيعوا اللهَ ورسولَهُ فيما يأمرُ ويَنهَى، وفيما يَقسِمهُ لكمْ منْ هذهِ الغَنائمِ على ما أرادَهُ الله، إذا كنتُمْ مؤمِنينَ حقًّا، وملتزِمينَ بأحكامِ الدِّين.
إنَّما المؤمِنونَ المُخلِصونَ في إيمانِهم، الذينَ إذا وردَ ذِكْرُ اللهِ وما أَمرَ به، خافَتْ قلوبُهمْ وخَشَعَت؛ استِعظاماً لشأنهِ الجليلِ وتَهيُّباً منهُ سُبحانه، وإذا تُلِيَتْ عليهمْ آياتُ كتابهِ الكريمِ زادَتْهُمْ تَصديقاً ويَقيناً، فبادروا إلى فعلِ ما يأمر، وتركِ ما يَنهَى، ويفوِّضونَ أمورَهمْ إلى ربِّهم، لا يَرجونَ غيره، ولا يَقصِدونَ إلاّ إيّاه، ولا يَرغَبونَ إلاّ إليه.