تفسير الجزء 9 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء التاسع
9
سورة الأعراف (88-206)
سورة الأنفال (1-40)

﴿وَمِمَّنۡ خَلَقۡنَآ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِالۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ﴾ [الأعراف:181]


ومِنَ الأمَمِ التي خَلقْنا أمَّةٌ فاضِلةٌ يَهتدونَ بالحقِّ ويَهدونَ الناسَ إليه، ويَعمَلونَ بهِ في شُؤونِهمُ الحياتيَّةِ والأُخرَويَّة، معَ أنفسِهمْ ومعَ الآخَرين. ولا يَخلو منهمْ زَمان.

﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَيۡثُ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الأعراف:182]


والذينَ كذَّبوا بالأدلةِ البيِّنةِ والمُعجِزاتِ القاطِعَةِ التي خَصَّ اللهُ بها أنبياءَه، لتدُلَّ على صِدقِهمْ وما جاؤوا به، فردُّوها ولم يَقبَلوا بها، سنَفتحُ لهمْ أبوابَ النَّعيمِ والترفُّه، حتَّى يَغترُّوا بما همْ فيه، فيَزدادوا طُغياناً وكُفراً، لنأخُذَهمْ بَغتةً، ونَزيدَ في عُقوبتِهم.

﴿وَأُمۡلِي لَهُمۡۚ إِنَّ كَيۡدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف:183]


وأُمهِلُهمْ وأُطيلُ في آمالِهم، حتَّى يَظنُّوا أنَّهمْ لا يُعاقَبونَ ولا يُؤاخَذون، إنَّ كيدي باستِدراجِ الكافرينَ الغافلينَ قويٌّ شَديدٌ.

﴿أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٌ﴾ [الأعراف:184]


ألمْ يُفَكِّرِ المكذِّبونَ مِنْ كفّارِ قُرَيشٍ أنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم ليسَ بهِ مَسُّ جُنونٍ كما يَدَّعون؟ بلْ هوَ رسولُ اللهِ حقًّا، يَظهَرُ أمرُهُ هذا لكلِّ متأمِّلِ ذي عَقل.

﴿أَوَلَمۡ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيۡءٖ وَأَنۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَدِ اقۡتَرَبَ أَجَلُهُمۡۖ فَبِأَيِّ حَدِيثِۭ بَعۡدَهُۥ يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأعراف:185]


ألا يَنظُرُ هؤلاءِ الكافِرونَ في خلقِ السَّماواتِ والأرضِ ويَتأمَّلونَ فيه، ليَستَدِلُّوا بذلكَ على قُدرةِ اللهِ وعَظمتِهِ ووَحدانيَّته، ويَتوجَّهوا بالعِبادةِ إليهِ وحدَه، ويَترُكوا ما همْ عليهِ منْ عِبادةِ الأصنامِ، وقدْ تَكونُ آجالُهمْ قَريبة، فيَموتونَ قبلَ أنْ يؤمِنوا، ثمَّ يَصيرونَ إلى العَذاب؟ فبأيِّ إنذارٍ وتَذكيرٍ بعدَ القُرآنِ الذي جاءَهمْ بهِ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يُؤمِنونَ ويَرتَدِعون، وفيهِ ما يَدلُّهمْ على الإيمان، ويُنقِذُهمْ منَ النيران؟

﴿مَن يُضۡلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُۥۚ وَيَذَرُهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ﴾ [الأعراف:186]


ولكنَّهمْ يأبَونَ إلاّ الكُفر، ويُعانِدون، ويُصِرُّونَ على التَّكذِيب، ومَنْ أضلَّهُ اللهُ فلا يَقدِرُ أحدٌ على أنْ يَهديَه، ونحنُ نَترُكُهمْ في ضَلالِهمْ وعَماهُمْ يَتحيَّرونَ ويَتردَّدون.

﴿يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّيۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقۡتِهَآ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةٗۗ يَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الأعراف:187]


ويسألُكَ الكفّارُ عنْ وقتِ يَومِ القِيامَةِ متَى يَثبُت، تَكذيباً لِما تَقول، واستِبعاداً لوقوعِه.

فقلْ لهم: عِلْمُ ذلكَ عندَ اللهِ وحدَه، لا يُظهِرهُ إلّا في الوقتِ الذي يَقعُ فيهِ بَغتة. خَفِيَ أمرُ القيامةِ وعَظُمَ أمرُها على أهلِ السَّماواتِ والأرضِ كلِّهم، لا تأتيكمْ إلاّ فَجأةً في غَفلةٍ منكم.

يَسألونَكَ ذلكَ وكأنَّكَ عالِمٌ بها، فقل: إنَّما علمُ ذلكَ عندَ اللهِ وحدَه، لا يَعرِفهُ مَلَكٌ مُقرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرسَل، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَعلمونَ ذلك.

﴿قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ اللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ الۡغَيۡبَ لَاسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ الۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأعراف:188]


قُلْ أيُّها النبيُّ الكريم: لا أملِكُ لنَفسي جلبَ مَنفَعةٍ ولا دَفْعَ مَضَرَّة إلاّ إذا شاءَ اللهُ ذلك، ولو كنتُ أعلمُ المستقبَلَ لأكثرتُ مِنْ عَمَلِ الخَيرِ وحصَّلتُ منافِعَ جمَّةً واستعدَدْتُ لذلكَ أكثَر، ولاجتنبتُ الشرَّ ودفَعتُ عنْ نَفسي الآفاتِ والمضرَّاتِ قبلَ أنْ تَكون، ما استَطَعتُ، ما أنا إلاّ رسُولٌ أُنذِرُكمْ عذابَ اللهِ ما لم تتَّقوهُ وتتَّبِعوا أوامرَه، وأبشِّرُكمْ بالخيرِ والجزاءِ الطيِّب، إذا آمَنتُمْ بالله، وصَدَّقتُمْ رسولَه، واتَّبعتُمْ كتابَه. وليسَ مِنْ وَظيفةِ الرسُلِ أنْ يَقِفوا على الغَيب، إلاّ ما أخبَرَهمُ اللهُ بهِ فكانَ مُعجِزةً له. أمّا وقتُ السَّاعةِ فلا مَطمَعَ لأحدٍ في معرفتِه.

﴿۞هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَاۖ فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا حَمَلَتۡ حَمۡلًا خَفِيفٗا فَمَرَّتۡ بِهِۦۖ فَلَمَّآ أَثۡقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنۡ ءَاتَيۡتَنَا صَٰلِحٗا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـٰكِرِينَ﴾ [الأعراف:189]


هوَ اللهُ القادِر، الذي خلقَكمْ جَميعاً مِنْ نَفسٍ واحدةٍ هيَ آدم، وخلقَ مِنْ آدمَ حوّاءَ زَوجاً له، ليألَفَها ويأنسَ بها ويَستقِرَّ لها.

ولمّا جامعَ الزوجُ زوجَه، وحملتْ أوَّلَ الحَمْلِ، واستمرَّتْ فيه، فَرِحَ الزَّوجانِ واستَبشرا، فلمّا كَبُرَ جنينُها وثَقُلَتْ بحَمْلِه، دَعا الزَّوجانِ ربَّهما وهما في قَلقٍ وترقُّب، قائلين: لو رَزقتَنا مولوداً صَحيحاً سَالماً، لنَكونَنَّ ممَّنْ يَعبُدونَكَ ويُخلِصونَ الشُّكرَ لك.

﴿فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى اللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [الأعراف:190]


فلمّا أعطاهُما مَولوداً سَالماً كما طَلَبا، جَعلا للهِ شُركاءَ في هذا الذي رزقَهما، فسَمَّوهُ عبدَ اللاَّتِ وعبدَ العُزَّى، وغيرَ ذلك. أو نَذَروهُ للآلِهة، أو لخِدمةِ مَعابدِها تقرُّباً إلى الله، بزعمِهم. تَقَدَّس اللهُ وتَنَزَّهَ عمّا يُشرِكونَ بهِ ويعتَقدونَ فيه.

﴿أَيُشۡرِكُونَ مَا لَا يَخۡلُقُ شَيۡـٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ﴾ [الأعراف:191]


أيُشرِكونَ باللهِ تعالى أصْناماً مِنْ حَجَرٍ، لا تَقدِرُ على الحرَكة، ولا على الضَّرَرِ والنَّفع، ولا هيَ قادِرَةٌ على أنْ تَخلُقَ شيئاً، وعابِدوها أقدرُ منها وأسمعُ وأبصَر!! وهذهِ الأصنامُ مَصنوعةٌ ومُشَكَّلةٌ بأيديهم؟! {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}؟ [الصافات:95].

﴿وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ لَهُمۡ نَصۡرٗا وَلَآ أَنفُسَهُمۡ يَنصُرُونَ﴾ [الأعراف:192]


ولا تَقدِرُ هذهِ الأصنامُ على الانتِصارِ لمنْ يَعبُدها، كما لا تستَطيعُ الدفاعَ عنْ نفسِها إذا ضُرِبتْ أو كُسِرت.

﴿وَإِن تَدۡعُوهُمۡ إِلَى الۡهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمۡۚ سَوَآءٌ عَلَيۡكُمۡ أَدَعَوۡتُمُوهُمۡ أَمۡ أَنتُمۡ صَٰمِتُونَ﴾ [الأعراف:193]


وإنْ تَدْعُوا - أيُّها المشرِكونَ - هذهِ الأصنامَ لتُرشِدَكمْ إلى أمرٍ فيهِ مَصلَحةٌ لكم، لَمَا سَمِعَتْكُمْ ولا استَجابَتْ لكم، ولا حَقَّقتْ مرادَكم، وسواءٌ عندَها مَنْ ناداها أم لم يُنادِها، فإنَّها لا تَسمَعُ أصلاً، فهيَ جَمادٌ مِنْ حَجَرٍ أصَمّ، لا تُحِسُّ ولا تَسمَع.

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَادۡعُوهُمۡ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [الأعراف:194]


إنَّ هذهِ الأصنامَ التي تَعبُدونَها مِنْ دونِ الله، ما هيَ سِوَى مَخلوقات، مثلَ عابِديها المَخْلوقين، وأنتُمْ وهُمْ مَملوكونَ للهِ مُسَخَّرونَ لأمرِه، وها هيَ عندَكم، فارفَعوا أيديَكمْ إليها لتَجلُبَ لكمْ نَفعاً أو تَدفعَ عنكمْ ضُرًّا، إذا كنتُمْ صَادِقينَ في أنَّها آلهةٌ تَقدِرُ على ما لا تَقدِرونَ عليه؟!

﴿أَلَهُمۡ أَرۡجُلٞ يَمۡشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَيۡدٖ يَبۡطِشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَعۡيُنٞ يُبۡصِرُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۗ قُلِ ادۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ﴾ [الأعراف:195]


هلْ لهذهِ الأصنامِ - التي تدَّعونَ أنَّها آلِهةٌ - أرجُلٌ يَمشُونَ بها ليُعَدُّوا أحياءً لهمْ قُدرةٌ على الحرَكة، ليُسعِفوكمْ ويخلِّصُوكمْ منْ مُعضِلةٍ تَقعونَ فيها؟

أمْ لهمْ أيدٍ يَستَطيعونَ أنْ يأخُذوا شَيئاً ما بقوَّةٍ ويَنفَعوكمْ بها، أو يَدفعوا عنكمْ أذًى يَلحَقُكم؟

أمْ لهمْ أعينٌ يُبصِرونَ بها ليُبَصِّروكمْ أشياءَ لا قُدرةَ لكمْ على رُؤيتها، أو يَشكُروا لكمْ على ما تُقدِّمونَ لهمْ مِنْ ذَبائحَ وقَرابين؟

أمْ لهمْ آذانٌ يَسمعونَ بها دعاءَكمْ وعبادتَكمْ لها؟

إنَّهمْ لا يَتمتَّعونَ بصفةٍ منْ تلكَ الصِّفات، ولا بحاسَّةٍ منْ تلكَ الحَواسّ، ولا فائدةَ منهمُ ألبتَّة.

فحاجِجْهمْ أيُّها النبيُّ، وقلْ لهم: هاتوا آلهتَكمُ المزعومةَ هذه، واستَعينوا بها عليّ إنْ كانتْ قادرةً على إلحاقِ ضَرَرٍ بي، واجتَهدوا في تَرتيبِ كلِّ ما تَقدِرونَ عليهِ منْ مَكرٍ وكَيدٍ، ولا تُمهِلوني ولا تُشعِروني بما ستَفعَلونَه، فإنِّي لا أبالي بكمْ ولا بأصنامِكمْ أصلاً!

﴿إِنَّ وَلِـِّۧيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الۡكِتَٰبَۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّـٰلِحِينَ﴾ [الأعراف:196]


إنَّ حافِظي وناصِري ومُتَولِّي أمورِي هوَ اللهُ ربُّ العالمين، الذي بيدهِ وحدَهُ تحصيلُ المنافعِ ودفعُ المضارّ، الذي أيَّدَني بتَنْزيلِ كتابهِ العَظيم، فهوَ الذي يَنصُرني ويَدفَعُ عني ضَرَرَ أعدائي، ولا يَخذُلني، كما يتولَّى مَن صلـحَ عملهُ بطاعتهِ مِن خـلقه.

﴿وَالَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَطِيعُونَ نَصۡرَكُمۡ وَلَآ أَنفُسَهُمۡ يَنصُرُونَ﴾ [الأعراف:197]


وأصنامُكمُ الصمّاءُ البَكماء، التي تدَّعونَ أنَّها آلهة، وتَستَعينونَ بها، لا تَقدِرُ على نَفعِكمْ بشَيء، ولا تَوَلِّي أيِّ أمرٍ منْ أمورِكم، ولا مُساعدتِكمْ فيما تَرغَبون، ولا إغاثتِكم إذا استَنصرتُمْ بها، بلْ لا تَستَطيعُ أنْ تُدافعَ عنْ نفسِها إذا أُصيبَتْ بسُوء!

﴿وَإِن تَدۡعُوهُمۡ إِلَى الۡهُدَىٰ لَا يَسۡمَعُواْۖ وَتَرَىٰهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ وَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ﴾ [الأعراف:198]


وإذا دعوتُمْ هذهِ الأصنامَ لتَحصيلِ شَيءٍ مِنْ مَقاصدِكم، فإنَّها لا تَسمَعُ حتَّى تُجيب، وتَراها وكأنَّها تنظرُ إليكَ وهي لا تُبصِر، وقدْ صُنعتْ لها أعينٌ مركَّبةٌ منَ الخرَزِ والجواهِر، وصوِّرَتْ على هيئةٍ وكأنَّ الحَدَقةَ فيها تَنظرُ إليك، والحالُ أنَّها غيرُ قادرةٍ على الإبصار.

﴿خُذِ الۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِالۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ الۡجَٰهِلِينَ﴾ [الأعراف:199]


اِرْضَ أيُّها النبيُّ بما سَهُلَ منْ أخلاقِ الناس، واقبَلْ ما تيسَّرَ منْ أعمالِهم، ولا تَطلُبْ ما يَشُقُّ عليهمْ حتَّى لا يَنفِروا منك، وأمُرْهُمْ بالمستَحسَنِ منَ الأفعالِ - ويَدخلُ فيهِ جميعُ الطَّاعات - وأعرِضْ عنِ السُّفهاءِ ولا تُكافِئهمْ بمثلِ سَفَهِهِم، واحلُمْ عليهم.

﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيۡطَٰنِ نَزۡغٞ فَاسۡتَعِذۡ بِاللَّهِۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف:200]


وإذا أحسَستَ بوَسوَسةٍ منَ الشيطانِ يُريدُ أنْ يَصرِفكَ عنْ خَيرٍ أُمِرْتَ به، فاستجِرْ باللهِ واعتَصِمْ به، فهوَ سميعٌ لِمَا تَقول، عليمٌ بالتِجائكَ وتَضرُّعِكَ إليه.

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَـٰٓئِفٞ مِّنَ الشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ﴾ [الأعراف:201]


إنَّ عبادَ اللهِ المؤمِنينَ المُطيعين، إذا أصابَتْهٌمْ وَسوَسةٌ منَ الشَّيطانِ، أو ألمَّ بهمْ خاطِرٌ سيِّء، عَرَفوا أنَّ ذلكَ مِنَ الشَّيطان، وتذكَّروا ما أمرَهمُ اللهُ به، فاستَعاذوا بهِ منْ شَرِّه، وأنابوا إلى ربِّهم، فإذا همْ قدْ عَرَفوا خطأهمْ وقوَّموه، واستَقاموا على الطريقِ الصَّحِيح.

﴿وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي الۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ﴾ [الأعراف:202]


وإخوانُ الشَّياطينِ منَ المشرِكين، يَساعِدونَ الشَّياطينَ في الانحرافِ عن الحقِّ وارتِكابِ المعاصي، ويُسَهِّلونَ عليهمْ مُهِمَّتَهم، فهمْ يُضِلُّونَ الناس، فيكونُ ذلكَ إمداداً منهمْ لشياطينِ الجنِّ على الإغواءِ والإضْلال. ولا يَكفُّونَ عنْ ذلكَ حتَّى يُرْدُوهمْ بالكليَّة.

﴿وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا اجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأعراف:203]


وإذا طلبَ المشرِكونَ منكَ أنْ تأتيَ لهمْ بمعجِزة، ولم تأتِهمْ بها، قالوا لكَ في تَهكُّم: لماذا لا تَأتي بها مِنْ عندِك؟

قُلْ ردًّا عليهمْ أيُّها النبيّ: أنا لا آتي بشَيءٍ مِنْ عندِي، ولا أفعلُ إلاّ ما يوحَى إليَّ منَ اللهِ تعالَى. وهذا القُرآنُ حُجَجٌ بيِّنة، وبراهينُ نيِّرة، تَظهرُ حتَّى يُبصِرَها الإنسانُ فيَهتَدي بها، ورَحمَةٌ تَفيض، لمنْ يؤمِنُ به، ويَغتَنِمُ خيرَهُ العَميم.

﴿وَإِذَا قُرِئَ الۡقُرۡءَانُ فَاسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ [الأعراف:204]


وإذا تُلِيَتْ آياتُ القُرآنِ فاسكُتوا واستَمِعوا له، تَعظيمًا وإجلالاً لكلامِ الله، لكي تَهتَدوا به، وتَفوزوا برَحمةِ الله.

وقدْ ذكرَ السَّلَفُ أنَّها نزلَتْ في القِراءَةِ في الصَّلاة. قالَ القاضي البَيضاويُّ في تَفسيرِه: نزَلَتْ في الصَّلاة، كانوا يَتكَلَّمونَ فيها فأُمِروا باستِماعِ قِراءَةِ الإمامِ والإنصاتِ له. وظاهِرُ اللَّفظِ يَقتَضي وجوبَهما حَيثُ يُقرَأُ القُرآن، وعامَّةُ العُلماءِ على استِحبابِهما خارِجَ الصَّلاة. اهـ.

وذكرَ القُرطُبيُّ وآخَرونَ أنَّها عامَّةٌ ولا تُخَصَّصُ إلاّ بدَليل.

﴿وَاذۡكُر رَّبَّكَ فِي نَفۡسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ وَدُونَ الۡجَهۡرِ مِنَ الۡقَوۡلِ بِالۡغُدُوِّ وَالۡأٓصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الۡغَٰفِلِينَ﴾ [الأعراف:205]


واذكرِ اللهَ في نفسِك، مُخلِصاً له، مُتضَرِّعاً إليه، مُتذلِّلاً بينَ يَديه، خائفاً منه، مُستَحضِراً عَظَمتَه، وفي صَوتٍ خَفيض، بينَ الجهرِ والمُخافَتة، بما يُناسِبُ الخُشوعَ والرَّهبة، أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه. ولعلَّ المقصودَ مُداومةُ الذكرِ والمواظَبةُ عليه، ليَبقَى القلبُ مَوصولاً بالله. ولا تَكنْ ممَّن يَنسَونَ الله، ويَبتعِدونَ عنْ ذِكْرِه، فإنَّ الفَوزَ في ذِكْرِه، والخَيبةَ في الإعراضِ عنه.

قالَ الفَخرُ الرازيّ: يدلُّ على أنَّ الذكرَ القلبيَّ يجبُ أنْ يَكونَ دائماً... بقَدرِ الطاقةِ البشريَّة.

والمسلمونَ تَبَعٌ لِما خُوطِبَ بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ يَسۡجُدُونَۤ۩﴾ [الأعراف:206]


إنَّ الملائكةَ المقرَّبينَ إلى اللهِ بالفَضلِ والكرامة، المرضيَّ عنهمْ لعِصمَتِهمْ وبراءَتِهم، لا يَتكبَّرونَ عنْ عبادتِه، بلْ يؤدُّونَها بحسَبِ ما أُمِروا به، ويَذكُرونَه، ويُنَزِّهونَهُ عمَّا لا يَلِيقُ بهِ منَ الشِّركِ وغيرِه، ويَسجُدونَ لهُ وحدَه.

سورة الأنفال - مدنية - عدد الآيات: 75

8

﴿يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ الۡأَنفَالِۖ قُلِ الۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِۖ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال:1]


يسألُكَ أصحابُكَ أيُّها النبيُّ عنِ الأنفَال، وهيَ الغَنائم، وكلُّ ما نالَهُ المسلِمونَ مِنْ أموالِ أهلِ الحرب، فقلْ لهم: إنَّ اختِصاصَ أمرِها وحُكمِها إلى اللهِ تعالَى ورسولهِ صلى الله عليه وسلم، فيَقْسِمُها رسولُهُ كما يأمرهُ ربُّه، ولا رأيَ فيها لآخَر. وكانَ ذلكَ يومَ بدر. فاخشَوا اللهَ واحذَروا مخالفةَ أمرِه، وأصلِحوا فيما بينَكمْ بالحُسنَى والردِّ الجَميل، فيما وقعَ بأيديكمْ منَ الغَنائم، وسلِّموها للرسُولِ صلى الله عليه وسلم طَواعية، ولا تَتخاصَموا ولا تَتشاجَروا بسَببِ المال، فإنَّهُ يؤدِّي إلى الاختِلافِ والتباغُض، وأطِيعوا اللهَ ورسولَهُ فيما يأمرُ ويَنهَى، وفيما يَقسِمهُ لكمْ منْ هذهِ الغَنائمِ على ما أرادَهُ الله، إذا كنتُمْ مؤمِنينَ حقًّا، وملتزِمينَ بأحكامِ الدِّين.

﴿إِنَّمَا الۡمُؤۡمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2]


إنَّما المؤمِنونَ المُخلِصونَ في إيمانِهم، الذينَ إذا وردَ ذِكْرُ اللهِ وما أَمرَ به، خافَتْ قلوبُهمْ وخَشَعَت؛ استِعظاماً لشأنهِ الجليلِ وتَهيُّباً منهُ سُبحانه، وإذا تُلِيَتْ عليهمْ آياتُ كتابهِ الكريمِ زادَتْهُمْ تَصديقاً ويَقيناً، فبادروا إلى فعلِ ما يأمر، وتركِ ما يَنهَى، ويفوِّضونَ أمورَهمْ إلى ربِّهم، لا يَرجونَ غيره، ولا يَقصِدونَ إلاّ إيّاه، ولا يَرغَبونَ إلاّ إليه.

﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ﴾ [الأنفال:3]


وهمُ الذينَ يواظِبونَ على أداءِ صَلواتِهم، ويؤدُّونَ زكاةَ أموالِهم، وغيرَ ذلكَ ممّا هوَ واجبٌ عليهمْ ومُستَحَبٌّ لهم.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ﴾ [الأنفال:4]


أولئكَ المتَّصِفونَ بهذهِ الصِّفات، همُ المؤمِنونَ حقَّ الإيمان، لهمْ منازِلُ ومَقاماتٌ عاليةٌ في جنَّاتِ ربِّهم، ومَغفِرَةٌ عَظيمةٌ لسيِّئاتِهم، ورِزقٌ حَسَنٌ كثيرٌ لا يَنقَطِع.