﴿كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِالۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ الۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ﴾ [الأنفال :5]
وكما كَرِهَ بعضُ المؤمِنينَ تسويةَ الغَنائم، فقدْ كَرِهَ فريقٌ منهمْ أيضاً إخراجَكَ من بيتِكَ بالمدينةِ بوحي وتَدبيرٍ منْ عندِ اللهِ لمقاتلةِ المشرِكين.
وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قدْ خرجَ معَ ثلاثِمِئةٍ وبِضعَةَ عشرَ رجلاً مِنْ أصحابهِ يَطلبونَ قافلةً كبيرةً لأبي سُفيان، مُحَمَّلةً بأطعمةٍ وأموالٍ جَزيلةٍ لقُرَيش، قادمةً منَ الشَّام، فسَمِعَ أبو سفيانَ بخروجِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبعثَ إلى مكَّةَ يَستَنجِدُ بمشرِكي قُرَيش، فخَرجَ منهمْ نحوُ ألفِ مُحارِب. وقدْ نَجَتِ القافِلَة، ثمَّ شاورَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ في الحرب، فوافَقوه، وكَرِهَ بعضُهمْ ذلك.
﴿يُجَٰدِلُونَكَ فِي الۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ﴾ [الأنفال :6]
ويجادلُكَ هؤلاءِ الكارِهونَ في القِتالِ بعدَما تبيَّنَ لهمْ أنَّكَ ستُنَفِّذُ أمرَ اللهِ وتُقاتِل، ويَقولون: ما كانَ خروجُنا إلاّ للقافِلَة، ولم نَستَعِدَّ للحَرب. ولشدَّةِ كراهيَتِهمْ لذلك، كانتْ حالُهمْ كأنَّما يُساقُونَ إلى الموتِ وهمْ يُشاهِدونَ علاماتِه!
﴿وَإِذۡ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحۡدَى الطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ الشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [الأنفال :7]
واذكُروا معَ ما بكمْ منَ الجزَعِ وقلَّةِ العَدد، أنْ وعدَكمُ اللهُ الفَوزَ بإحدَى الغَنيمَتَين: إمّا قافِلةَ أبي سفيان، وإمّا النصرَ على جَيشِ المشرِكين. وأنتمْ تحبُّونَ التي لا قوَّةَ فيها ولا قِتال، وهي القافِلة. بينَما يريدُ اللهُ أنْ يُظهِرَ دينَه، ويَرفعَ رايةَ الحقّ، ويُهلِكَ الكافِرين، حتىَّ لا يُبقي منهمْ أحداً. ولذلكَ أمرَكمْ بقتالِهم.
﴿لِيُحِقَّ الۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ الۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ الۡمُجۡرِمُونَ﴾ [الأنفال :8]
ليُثبِتَ الإسلامَ بذلكَ ويجعلَهُ غالِباً على الأديانِ، ويَمحَقَ الكُفر، ولو كَرِهَ المشرِكون.
﴿إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَاسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ الۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ﴾ [الأنفال :9]
واذكرُوا نعمةَ ربَّكمْ عندما قَرُبَ التِقاؤكمْ بعدوِّكم، إذْ تَستَجيرونَ بهِ وتَطلبونَ منهُ الغَوثَ والنَّصر. وكانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ منَ الدُّعاءِ في تضرُّعٍ وخُشوع، ويَطلُبُ منْ ربِّهِ إنجازَ ما وعدَهُ منَ النَّصر.
فأجابَ دعاءَكمْ بأنِّي مُرسِلٌ إليكمْ مَدَداً بألفٍ منَ الملائكةِ مُتتابِعين، بعضُهمْ في إثرِ بَعض.
﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا النَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال :10]
وما جعلَ اللهُ إمدادَكمْ بالملائكةِ إلاّ بِشارةً لكمْ بأنَّكمْ ستُنصَرون، ولِتَسكُنَ نفوسُكمْ إلى ذلك، وتَهدأَ ولا تَجزَع، واللهُ قادرٌ على نَصرِكمْ على الأعداءِ بدونِ ذلك، وما النصرُ إلاّ مِنْ عندهِ سُبحانَه، وهوَ العَزيزُ القويُّ الذي لا يُغالَب، الحكيمُ فيما يَشْرَعُهُ مِنْ حَرب، ويَقضيهِ منْ تَدبير.
﴿إِذۡ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ الشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ الۡأَقۡدَامَ﴾ [الأنفال :11]
واذكرُوا إذ يُلقي ربُّكمُ النُّعاسَ عليكمْ أمناً منهُ لِما حَصَلَ لكمْ منَ الخَوف، ويُنَزِّلُ عَليكمْ مَطَراً وقدْ كنتُمْ بحاجةٍ إلى الماء، لتَتوضَّؤوا للصَّلاة، وتَغتَسِلوا مِنَ الجنابة، وليُذهِبَ عنكمْ وَسوَسةَ الشَّيطانِ وتخويفَهُ إيَّاكمْ منَ العَطش، وليقوِّيَ قلوبَكمْ باليَقينِ والصَّبر، والثقةِ بلُطفِ اللهِ وما يُبديهِ منَ النَّصر، وليثبِّتَ بهِ الأقدامَ حتَّى لا تَسوخَ في الرَّملِ أثناء الحربِ والكَرِّ والفَرّ.
وكانَ المشرِكونَ قدْ سَبقوهمْ في أوَّلِ الأمرِ إلى ماءِ بدر، فعَطِشوا وخافُوا... فأنزلَ اللهُ المطرَ حتَّى سالَ منهُ الوادي، فشَرِبَ المؤمِنونَ واغتَسلوا وتَوضَّؤوا، وسقَوا دوابَّهم، ومَلَؤوا الأسقِيَة، حتَّى طابَتْ نفوسُهمْ وزالتْ عنهمْ وسوَسةُ الشَّيطان. وكانَ المطرُ قبلَ النُّعاس.
وكانتِ الأرضُ التي نزلَ بها المسلمونَ رَمْلاً، فقَدِروا على المشي عليهِ بعدَ المطرِ كيفما أرادوا، والموضِعُ الذي نزلَ الكفّارُ فيهِ تُرابٌ ووَحَل، فلمّا نزلَ المطرُ عظمَ الوَحَل، فصارَ مانِعاً لهمْ منَ المشي كيفَما أرادوا.
﴿إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الۡمَلَـٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعۡبَ فَاضۡرِبُواْ فَوۡقَ الۡأَعۡنَاقِ وَاضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ﴾ [الأنفال :12]
واذكُرْ أيُّها النبيُّ إذْ يوحِي ربُّك إلى الملائكةِ الذينَ أمدَّ بهمُ المؤمِنين، أنِّي معَكمْ بالعَونِ والتأييد، فقوُّوا قُلوبَ المؤمِنين، واحمِلوهمْ على الثَّبات، وبَشِّروهمْ بالنَّصر، سأُلقِي الخَوفَ والرُّعْبَ في قُلوبِ المشرِكينَ حتَّى يتوقَّعوا الهزيمةَ في أيِّ وَقت. فاضرِبوا بالسُّيوفِ رؤوسَهمْ وأعناقَهم، وكلَّ طَرَفٍ ومَفْصِلٍ منهم. يَعني منَ الأيدي والأرجُل.
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [الأنفال :13]
وهذا ما يَستَحِقُّهُ الكافِرون، فقدْ خالَفوا أمرَ اللهِ وترَكوا شَرعَه، وناوَؤوا رسُولَهُ وصاروا في صُفوفِ أعدائه، ومَنْ يُخالِفْ أمرَ اللهِ ورسُولِه، فإنَّ اللهَ يُعاقبهُ عِقاباً شَديداً.
﴿ذَٰلِكُمۡ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ﴾ [الأنفال :14]
فذُوقُوا هذا العَذابَ والنَّكال، والهزيمةَ والخُسران، واعلَموا أنَّ للكافِرينَ عذاباً مُعَدًّا في النار، هوَ أشدُّ وأفظَعُ ممّا عُوقِبوا بهِ في الدُّنيا.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الۡأَدۡبَارَ﴾ [الأنفال :15]
أيُّها المؤمِنون، إذا تقاربتُمْ مِنْ أعدائكمُ الكفّارِ ماشِينَ لقِتالِهم، مُتوجِّهينَ لمحاربتِهم، فلا تَنهَزِموا مُوَلِّينَ إيَّاهمْ ظهورَكم، ولا تَفِرُّوا وتَترُكوا إخوانَكمُ المجاهِدينَ في الحَرب.
﴿وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ الۡمَصِيرُ﴾ [الأنفال :16]
ومَنْ يَفِرَّ مِنَ العدوِّ يومَ اللِّقاء، إلاّ إذا كانَ قصدُهُ أنْ يُرِيَ مُقاتِلَهُ الفِرارَ وهوَ يُريدُ الكَرَّةَ عليه، بانحرافهِ إلى مَوقفٍ أفضلَ ممّا هوَ فيه، أو مُنحازاً إلى جَماعةٍ أخرَى منَ المؤمِنين، فينضَمُّ إليهمْ ليُقاتِلَ معهمُ العدوّ، يُعاونُهمْ أو يُعاوِنوه، حتَّى لو كانتْ هذهِ الجماعةُ سَرِيَّة أخرَى، ففَرَّ إلى أميرِه، أو إلى الإمامِ الأعظَم، دخلَ في هذهِ الرُّخصة، قالَهُ ابنُ كثير؛ ومَنْ يَفِرَّ - عدا ما ذُكِرَ مِنْ صُوَرِ الفَرِّ والكَرّ - فإنَّ فاعلَهُ يَقترِفُ كبيرةً منَ الكبائر، ويَستحِقُّ غَضَبَ الله، ومَكانُهُ جهنَّمُ جزاءَ فِرارِه، وبئسَ المكانُ الذي يأوي إليهِ ويُعذَّبُ فيه.
﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ الۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ﴾ [الأنفال :17]
فلمْ تَقتلوهُمْ أنتُمْ بقوَّتِكمْ وقُدرَتِكم، معَ كثرةِ عددِهمْ وقلَّةِ عددِكم، ولكنَّ اللهَ قتلَهُمْ بتَقويتِكمْ وإمدادِكمْ بالملائكة، وإلقاءِ الرُّعبِ في قُلوبِهم.
وتناولَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كفَّاً منَ الحصَى ورمَى بها وجوهَ المشرِكين، فما بقيَ أحدٌ منهمْ إلاّ امتلأتْ عيناهُ منَ الحَصباء، كما صحَّحَهُ الهيثميُّ في مجمعِ الزوائدِ منْ روايةِ الطبرانيّ.
فقالَ اللهُ تعالَى ما معناه: وما رَميتَ أيُّها النبيُّ أعينَ المشرِكينَ عندَما رميتَهُمْ بالحصَى، ولكنَّ اللهَ رمَى بإيصالِ ذلكَ إلى وجوهِهمْ وعيونِهمْ بقُدرتِه، ليوهِنَهمْ ويَقهَرَهمْ، وليُنعِمَ على المؤمِنينَ بالنَّصرِ والغَنيمة، ليَعرفوا حقَّهُ ويَشكروا نِعمَتَه، واللهُ سميعٌ لدعائكمْ واستغاثتِكم. عليمٌ بنيّاتِكم وأحوالِكم.
﴿ذَٰلِكُمۡ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيۡدِ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [الأنفال :18]
ذلكمْ البَلاءُ الحسَنُ والجِهادُ الطيِّبُ منَ المؤمِنين، واللهُ يُضعِفُ كيدَ الكافِرينَ ويُبطِلُ حِيَلَهم، حتَّى تَنتَصِروا عليهمْ نَصراً كاملاً.
﴿إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ الۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال :19]
إنْ تَستَنصِروا اللهَ وتَستَحكِموهُ أيُّها المشرِكونَ ليَفصِلُ بينكمْ وبينَ المسلِمين، فقدْ جاءَكمْ ما سألتُم.
وكانَ أبو جَهلٍ قدْ قالَ يومَ بَدر: اللهمَّ أيُّنا كانَ أقطعَ للرَّحِم، وآتانا بما لا يُعْرَف، فأَحْنِهِ الغَداة.
وكانَ استفتاحاً منه. فنصرَ اللهُ المسلِمينَ يومَ بدر، وقُتِلَ أبو جَهل.
وإنْ تَنتَهوا عنِ الكُفرِ باللهِ وحَربِ رَسولِه، فهوَ أفضلُ لكمْ وأحسَنُ من الحَربِ والأسرِ، الذي ذقتُمْ مرارةَ هَزيمتِه.
وإنْ تَرجِعوا إلى الحرب، نَعُدْ إلى تَسليطِ المؤمِنينَ عليكم.
ولنْ تُغنيَ عنكمْ جموعُكمُ الكثيرةُ كما لم تُغنِ عنكمْ يومَ بَدر. فإنَّ اللهَ معَ المجاهدينَ المؤمِنين، ولا يُغْلَبُ مَنْ كانَ اللهُ ناصِرُه.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ وَأَنتُمۡ تَسۡمَعُونَ﴾ [الأنفال :20]
يا عبادَ اللهِ المؤمِنين، أطيعوا اللهَ ورَسولَهُ إذا دعاكمْ إلى الجِهاد، ولا تَترُكوا طاعتَهُ وأنتُمْ تَعلَمونَ ما يَدعوكمْ إليه، ولا تَتشبَّهوا بالكافِرينَ المعانِدين، الذينَ يرفُضونَ الإذعانَ لأوامرِه.
﴿وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ﴾ [الأنفال :21]
ولا تَكونوا كالمشرِكينَ والمنافِقين، الذينَ يقولونَ بألسنتِهمْ سمِعنا، وهُمْ لا يَنتفِعونَ بسَماعِهم، لأنَّهمْ لا يُصدِّقونَ ما سَمِعوه، فكأنَّهمْ لم يَسمَعوا.
﴿۞إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الۡبُكۡمُ الَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ﴾ [الأنفال :22]
إنَّ شرَّ مَنْ دَبَّ على وجهِ الأرضِ مِنْ خَلْقِ الله، الذين لا يَسمَعونَ الحقّ، ولا يَنطِقونَ به، فهمْ لا يَفقَهونَ كلامَ اللهِ ولا يَنتَفِعونَ به، لأنَّهمْ لم يَستَعمِلوا عقولَهمْ وحواسَّهمْ التي خلقَها اللهُ لهمْ كما يَنبَغي، ليُميِّزوا بها الحقَّ مِنَ الباطِل، والخَيرَ مِنَ الشَّرّ.
﴿وَلَوۡ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمۡ خَيۡرٗا لَّأَسۡمَعَهُمۡۖ وَلَوۡ أَسۡمَعَهُمۡ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ﴾ [الأنفال :23]
ولو عَلِمَ اللهُ في هؤلاءِ الكافِرينَ المعانِدينَ خيراً لأفهمَهمْ حتَّى يَقِفوا على الحقّ، ولو أفهمَهُمْ فوقَفوا على الحقِّ لأعرَضوا عنهُ ورفَضوه، فلم يَنتَفِعوا بهِ ولم يَقبَلُوه؛ لعنادِهمْ واستِكبارِهم.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ الۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ [الأنفال :24]
أيُّها المؤمِنون، أجيبوا اللهَ ورسولَهُ إذا دعاكمْ لِما يُصلحُكمْ في حَياتِكمْ منَ الإيمانِ والجِهاد، الذي فيهِ عِزُّكمْ ورِفعتُكم.
واعلَموا أنَّ اللهَ يَحجِزُ بينَ المؤمِنِ والكُفر، وبينَ الكافِرِ والإيمان، فالقُلوبُ بينَ يديه، يُقَلِّبُها كما يُريد، وهوَ قادرٌ على أنْ يُجبرَكمْ على الاستِجابةِ لِما يَدعوكمْ إليه، ولكنَّهُ يُكرمُكمْ فيَدعوكمْ لتَستَجيبوا عنْ طواعيةٍ لتؤجَروا عليها، وتَرتفعوا بها.
واعلَموا أنَّكمْ ستُحشَرونَ إلى ربِّكمْ يومَ القيامَة، فيُجازيكمْ على أعمالِكمْ كلِّها، فلا مَفرَّ لكمْ منه، في الدُّنيا والآخِرَة، فالتزِموا، وأطيعوا، واثبُتوا.
﴿وَاتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [الأنفال :25]
واحذَروا مِحنةً وابتلاءً لا تَقتَصِرُ على الظَّالمينَ وأهلِ المعاصي، بل تَعمُّهمْ جَميعاً. فلا تُقصِّروا في تَغييرِ المنكَر، ولا تَتكاسَلوا عنِ الإجابةِ للجِهاد. واعلَموا أنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ لمَنْ خالَفَهُ.
﴿وَاذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي الۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [الأنفال :26]
وتَذكَّروا أيُّها المؤمِنونَ عندَما كنتُمْ قِلَّةً مُستَضعَفةً في مكَّةَ تحتَ أيدي كفّارِ قُرَيشٍ وأنتُمْ في حالَةِ خَوفٍ ووَجَلٍ، تَخافونَ أنْ يَذهبَ بكمُ الكفّار، فجعلَ لكمْ مأوًى في المدينةِ تَتحصَّنونَ به، ثمَّ قوَّاكم، وزادَ في عدَدِكم، ونصرَكمْ على أعدائكمْ يومَ بَدر، وكنتُمْ فقراءَ مُحتاجِين، فواسَاكمْ إخوانُكمُ الأنصارُ بأموالِهم، ورَزقَكمْ غنائمَ يومِ بَدر، ولم تَحِلَّ إلا لهذهِ الأمَّة، لعلَّكمْ بذلكَ تَشكرونَ نَعمَةَ ربِّكم، ليَزيدَكمْ مِنْ فضله، ويُثيبَكمْ عليه.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [الأنفال :27]
أيُّها المؤمِنون، لا تَخُونوا اللهَ ورسولَهُ بتَركِ ما أمرَكمُ به، وأدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها، ولا تَتهاوَنوا فيما شرَعَهُ اللهُ مِنْ تَنظيمِ أحوالِكم، بلْ أدُّوها كما هي، وأنتُمْ تَعلَمونَ وبالَ المَعصِيَةِ وعُقوبةَ الذنب.
﴿وَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ﴾ [الأنفال :28]
واعلَموا أيُّها المؤمِنون، أنَّ أموالَكمْ وأولادَكمْ اختِبارٌ وامتِحانٌ منَ اللهِ لكم، ليَنظُرَ هلْ تُطيعونَهُ فيها وتَشكرونَهُ عليها، أمْ تَبخَلونَ وتَشتَغلونَ بها عنهُ وتركَنونَ إلى الدُّنيا وزينتِها؟
واللهُ عندَهُ الثَّوابُ الأكبر، لمنْ أخلصَ لهُ وآثرَ رِضاه، والتزمَ حدودَه.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا وَيُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۗ وَاللَّهُ ذُو الۡفَضۡلِ الۡعَظِيمِ﴾ [الأنفال :29]
يا عبادَ اللهِ المؤمِنين، إنَّكمْ إنِ اتَّقيتُمُ الله، بالقيامِ بطاعتهِ والانتهاءِ عنْ مَعصيتِه، يُوَفِّقْكمْ لمعرفةِ الحقِّ منَ الباطلِ، ويَجعَلْ في قُلوبِكمْ نُوراً تُفرِّقونَ بهِ بينَ الخطَأ والصَّواب، ويكونُ هذا سَبباً لنَجاتِكمْ وسَعادتِكم، وغُفرانِ ذُنوبِكم. ونِعَمُ اللهِ كثيرة، وفَضلُهُ عَظيم، يَخُصُّ بهِ عبادَهُ المؤمِنينَ المتَّقين.
﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ اللَّهُۖ وَاللَّهُ خَيۡرُ الۡمَٰكِرِينَ﴾ [الأنفال :30]
واذكُرْ نعمةَ اللهِ عَليكَ أيُّها النبيُّ عندما كانَ الكافِرونَ في مكَّةَ يُخطِّطونَ ليَسجُنوكَ ويُقيِّدوك، أو يَقتلوك، أو يُخرِجوكَ منها، فكانوا يَتشاوَرونَ لأجلِ ذلكَ قُبيلَ هِجرَتِك، ويُدَبِّرونَ الأمرَ بليلٍ، ولكنَّ اللهَ أحبطَ حِيَلَهم، وردَّ مكرَهم، وتَدبيرُ اللهِ أنفَذُ وأبلغُ مِنْ مَكْرِهمْ وشَرِّهم.
﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدۡ سَمِعۡنَا لَوۡ نَشَآءُ لَقُلۡنَا مِثۡلَ هَٰذَآ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ الۡأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال :31]
وإذا تُتلَى عَليهمْ آياتُ القُرآنِ الكريمِ عانَدوا وتمرَّدوا، وقالوا في عُتوٍّ واستِكبار: قدْ سمِعنا ما قلتَ يا محمَّد، ولو أرَدنا لقُلنا مثلَ الذي قُلت، ما هذا سِوَى أخبارِ الأممِ الماضيةِ وحكاياتِها ممّا سطَّرهُ الأوَّلون، وليسَ كلامَ الله.
﴿وَإِذۡ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ فَأَمۡطِرۡ عَلَيۡنَا حِجَارَةٗ مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائۡتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ﴾ [الأنفال :32]
وقالوا وهمْ في ظُلمَةِ الكُفرِ ودوَّامةِ الشِّرك، إصراراً منهمْ على التَّكذيبِ والجُحُود، وتمادياً منهمْ في الغَيِّ والضَّلال، وإمعاناً منهمْ في التهكُّمِ والاستِهزاء: اللهمَّ إنْ كانَ هذا الذي جاءَ بهِ محمَّدٌ هوَ الحقَّ الذي أنزلتَهُ مِنْ عندِك، فعاقِبْنا بإرسالِ حِجارةٍ عَلينا منَ السَّماء، أو خُذْنا بعَذابٍ شَديدٍ مُؤلم!
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ﴾ [الأنفال :33]
وما كانَ اللهُ لِيُوقِعَ بهمُ العَذابَ فيُهلِكَهمْ وأنتَ بينَ ظهرانَيْهمْ أيُّها النبيّ، ولم تُعذَّبْ أمَّةٌ قطُّ ونبيُّها فيها. وما كانَ معذِّبَهمْ كذلكَ وهمْ يَطوفونَ بالبَيتِ ويَقولون: غُفْرانَكَ غُفْرانَك، أو ما كانَ مُعَذِّبَهمْ وفيهمْ مُؤمِنونَ يَستَغفِرونَ الله. يَعني ممَّنْ بقيَ بينَهمْ منَ المسلِمينَ المستَضْعَفين.
﴿وَمَا لَهُمۡ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمۡ يَصُدُّونَ عَنِ الۡمَسۡجِدِ الۡحَرَامِ وَمَا كَانُوٓاْ أَوۡلِيَآءَهُۥٓۚ إِنۡ أَوۡلِيَآؤُهُۥٓ إِلَّا الۡمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الأنفال :34]
ولمّا خَرجَ مِنْ بينِهمُ الرسُولُ صلى الله عليه وسلم وهاجرَ المسلِمونَ مِنْ مكَّةَ، قالَ تعالَى ما مَعناه: وما يَمنعُهمْ مِنْ أنْ يُعَذَّبوا وهمْ يَمنَعونَ المؤمِنينَ منَ الطَّوافِ بالبَيت، وما كانوا مُستَحِقِّينَ ولايةَ المسجدِ الحرامِ معَ شِرْكِهم، إنَّما أولياءُ بَيتِ اللهِ المؤمِنونَ الذينَ يَتَّقون الشِّرك، فلا يَعبدونَ فيهِ غيرَ الله، ولكنَّ أكثرَهُمْ لا يعلمُ أنْ لا ولايةَ لهمْ عَليه.
وقدْ أوقعَ اللهُ بهمْ بأسَهُ يومَ بَدرٍ وغيرِه.
﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ الۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ وَتَصۡدِيَةٗۚ فَذُوقُواْ الۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾ [الأنفال :35]
وما كانَ صلاتُهمْ عندَ المسجدِ الحرامِ إلا صَفيراً، وتَصفيقاً، وهوَ ما لا خيرَ فيه، ولا فائدةَ منه، ولا هوَ ممّا أمرَ اللهُ به، فذوقوا العَذابَ الذي سلَّطَهُ اللهُ عليكمْ يومَ بَدر، مِنْ قَتْلٍ وأسْرٍ وخَسارةِ مال، وذلكَ بسَببِ إصرارِكمْ على الكُفر، وعدمِ مبالاتِكمْ بآياتِ اللهِ ودَعوةِ نبيِّه.