تفسير سورة النحل

  1. سور القرآن الكريم
  2. النحل
16

﴿وَلَوۡ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلۡمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيۡهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ﴾ [النحل:61]


ولو يُعاقِبُ اللهُ النَّاسَ على ظُلمِهمْ وأعمالِهمُ الإجراميَّةِ في هذهِ الحياة، لأهلَكَهمْ ولم يُبْقِ منهمْ أحدًا، ولكنَّهُ سُبحانَهُ عَفوٌّ حَليمٌ لا يُعاجِلُهمْ بالعُقوبَةِ المُقَدَّرَةِ عَليهم، وهوَ لا يُهمِلُهمْ بهذا، بلْ يُريهمْ آياتٍ وعُقوباتٍ وأمثالاً، عدا ما أرسَلَ منْ رسُلٍ وأنزَلَ منْ كتُب، ليَبحَثوا ويَتفكَّروا، وليَفقَهوا ويَتدَبَّروا. وليسَ هذا إلى الأبَد، بلْ إلى أجَلٍ مَحدود، فإذا جاءَ الوَقتُ الذي تُحصَدُ فيهِ أرواحُهمْ لا يَؤَجَّلون، فلا يتأخَّرونَ عنْ مَوعِدِ مَوتِهمْ أقَلَّ مُدَّةٍ ولا يَتقَدَّمونَه.

﴿وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ الۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ﴾ [النحل:62]


وهؤلاءِ المشرِكونَ الضَّالُّونَ يَجعَلونَ للهِ ما يَبغُضُونَهُ لأنفُسِهم! فتَراهُمْ يُشرِكونَ بهِ وهمْ لا يُحِبُّونَ الشِّرْكَةَ في الأمر، بلْ يُحِبُّونَ أنْ يَستأثِروا بهِ كُلَّه. ويَجعَلونَ لهُ البَناتِ وهمْ يُحِبُّونَ البَنين. وهمْ معَ ضَلالِهمْ وفَسادِ مُعتَقَدِهمْ يَقولونَ في كَذِبٍ واضِحٍ إنَّ لهمْ مَكانَةً حسَنةً في الدُّنيا أو في الآخِرَة! ولكنَّ الحقَّ الذي لا بُدَّ منهُ أنَّ مَصيرَهُمُ النارُ يَومَ القِيامَة، مُعَجَّلينَ إليها غَيرَ مؤجَّلين.

﴿تَاللَّهِ لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٖ مِّن قَبۡلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الۡيَوۡمَ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [النحل:63]


واللهِ لقدْ أرسَلنا إلى الأُمَمِ السابِقَةِ رُسُلاً مِنْ قَبلِك، كما أرسَلناكَ إلى قَومِكَ أيُّها النبيّ، فأغوَاهمُ الشَّيطانُ وزَيَّنَ لهمْ سُوءَ مُعتَقَدِهمْ وانحِرافَ سُلوكِهم، فهوَ مُلهِمُهمْ ومُشَجِّعُهمْ كما يَظهَرُ مِنْ أقوالِهمْ وأعمالِهم، ولهمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ على طاعَتِهمْ له، دونَ طاعَةِ رسُلِهم.

﴿وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخۡتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [النحل:64]


وما بَعَثناكَ رسُولاً إلاّ لتُبيِّنَ للنَّاسِ الحقَّ الذي همْ فيهِ مُختَلِفون، منَ العَقيدَة، والبَعث، وأحكامٍ في الحَلالِ والحَرام، وغَيرِ ذلك، وتَفْصِلَ بينَ أهلِ الكتابِ فيما شَجَرَ بينَهمْ مِنْ خِلافٍ كذلك، وليَكونَ القُرآنُ المُوحَى بهِ إليكَ كتابَ هِدايَةٍ لقُلوبِهم، ورحمةٍ لهمْ في مَعاشِهمْ ومَعادِهم، هذا لقَومٍ يؤمِنونَ بذلك، ويَعلَمونَ أنَّ هذا الدِّينَ هوَ الحقُّ مِنْ رَبِّهم، وأنَّ فيهِ فَوزَهمْ وفَلاحَهم.

﴿وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ الۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ﴾ [النحل:65]


وأنزلَ اللهُ المطَرَ منَ السَّحاب، فأحيا بهِ زُروعًا وأشْجارًا، وأناسيَّ وحيَوانات، وفجَّرَ بهِ عُيونًا، وخَزَّنَ منهُ في الأرضِ لحاجَةِ الإنسَان، بعدَ أنْ كانتِ الأرضُ يابِسَةً لا حَياةَ فيها. وفي ذلكَ دَليلٌ على قُدرَةِ اللهِ تعالَى وحِكمَتِه. هذا لمَنْ سَمِعَ وعقَل، وتدبَّرَ وفَهِم.

﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي الۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ﴾ [النحل:66]


ولكمْ في الأنعامِ عِبرَةٌ وعِظَةٌ كَبيرة(68)، تدلُّ على قُدرَةِ اللهِ وإبداعِهِ في الخَلق، فنَسقِيكمْ منْ بُطونِها الحَليبَ المُفيد، وهوَ مُستَخلَصٌ مِنْ فَرْثٍ ودَم. والفَرْثُ: مُحتوياتُ الكِرْشِ مِنْ عَلَفٍ مُخَمَّر، وهوَ ما يَتبَقَّى فيهِ بعدَ الهَضم.

وتَبدأُ عمَليَّةُ تَصفيَةِ الحَليبِ في الكِرش، فتَتحَوَّلُ الجُزَيئاتُ الغِذائيَّةُ المُعَقَّدَةُ في العلَفِ إلى خُلاصَاتٍ بَسيطَةٍ تَختَرِقُ جِدارَ الأوعيَة الدَّمَويَّةِ لتَصِلَ إلى الغُدَدِ اللَّبَنيَّةِ في الضَّرع.

والمَرحلَةُ الثانيَةُ مِنَ التصفيَةِ تَتِمُّ بينَ الموادِّ المَوجودَةِ في الدَّم، فيَنتُجُ منها الحَليبُ الخالِصُ مِنْ قَذارَةِ الفَرْثِ ونَتْنِ الدَّم، ببَديعِ صُنعِ الله. والإعجازُ في: كيفَ يُسمَحُ لمُكوَّناتٍ بدخولِ الضَّرع، ولا يُسمَحُ لأخرَى؟!

ويَخرجُ إلَينا الحَليبُ طيِّبًا سَهلاً سائغًا للشُّرب، هَنيئًا لا يُغَصُّ به، سالِماً نَظيفًا غَيرَ مُمتَزِجٍ بدَمٍ أو فَرْث، ولا مُتغَيِّرًا بريحِهما أو طَعمِهما أو لَونِهما.


(68) الأنعامُ هي الإبِلُ والبقرُ والغنَمُ والمَعْز.

﴿وَمِن ثَمَرَٰتِ النَّخِيلِ وَالۡأَعۡنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرٗا وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ﴾ [النحل:67]


ولكمْ عِبرَةٌ أيضًا فيما نَسقيكمْ ونُطعِمُكمْ مِنْ ثَمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ وعَصيرِهما، فتَصنَعونَ منهُ خَمْرًا - والخِطابُ للمشرِكين، أو هوَ بيانٌ للواقعِ الذي كانوا فيهِ قبلَ أنْ يُحرَّمَ الخَمرُ - وتأكلونَ منهُ رِزقًا حسَنًا، منْ تَمرٍ وزَبيب، وما استُخلِصَ منهما مِنْ دِبسٍ وخَلٍّ وغَيرِ ذلك. وفيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ الخَمرَ ليسَ رِزقًا حسَنًا.

وفي ذلكَ دَليلٌ ظاهِرٌ للعُقلاءِ أنَّ هذهِ الثَّمراتِ لم تُخلَقْ مُصادفَة، وأنَّ مُكوَّناتِها ومَنافِعَها الغِذائيَّةَ والطبِّيَّةَ تدلُّ على صُنعِ خالِقٍ عالِم حَكيم.

﴿وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحۡلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ﴾ [النحل:68]


وألهمَ اللهُ النَّحْلَ وأرشَدَها: أنِ اتَّخذي لكِ بيوتًا في الجِبال، وعلى الأشْجار، وممّا يَرفَعهُ الناسُ منْ أشْجارِ العِنَب.

﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ فَاسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل:69]


ثمَّ كُلِي مِنْ جَميعِ الثَّمَراتِ وامتَصِّي رَحيقَ الأزهار، واسْلُكي الطُّرُقَ التي جعَلَها اللهُ لكِ سَهلةً مُذَلَّلة، منَ التَّجوالِ في البَراري والغَابات، ثمَّ العَودَةِ إلى أماكنِها، بما فطرَها اللهُ عَليهِ مِنْ أفانينَ لتَعرِفَ ما تأكُل، وكيفَ تَعود، وكيفَ تَبني خَلاياها المتماثِلَةَ الجَميلَة. يَخرُجُ مِنْ بُطونِها عسَلٌ ذو ألوان: أبيَضُ وأحمَرُ وأصفَرُ وأسوَد، فيهِ شِفاءٌ للنّاسِ مِنْ أمراضٍ كَثيرَة، كما ثبتَ في تجارِبَ طبِّيَّةٍ حَديثَةٍ أيضًا، إضافَةً إلَى ما يَطعَمُونَهُ هكذا أو مُختَلَطًا في مَذاقٍ لَذيذ.

وفي ذلكَ كُلِّهِ آيَةٌ عَظيمَةٌ على قُدرَةِ اللهِ وبَديعِ صُنعِه، وأنَّهُ ليسَ عنْ مُصادَفَةٍ وطَبيعَة، هذا لِقَومٍ تفَكَّروا وتدَبَّروا، ليَعتَبِروا ويؤمِنوا.

﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ الۡعُمُرِ لِكَيۡ لَا يَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمٖ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٞ قَدِيرٞ﴾ [النحل:70]


واللهُ خَلَقَكمْ - أيُّها الناسُ - ولم تَكونوا شَيئًا، وهوَ الذي يَتوفَّاكُم: أطفالاً، وشَبابًا، ورِجالاً. ومِنكمْ مَنْ يُعمَّرُ فيَهرَم، ويَرجِعُ إلى أردَأ العمُرِ وأوضَعِه، حتَّى يَضْعُفَ عَقلُهُ وقوَّتُه، ويُصيبَهُ العَجْزُ والخرَف، فلا يَدري شَيئاً، بعدَ أنْ كانَ عالِمًا عارِفًا. واللهُ عَليمٌ بأحوالِكمْ وأعمارِكم، قادِرٌ على ما يَشاء، ومِنْ ذلكَ زيادَةُ العمُرِ ونَقصُه.

وكانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعوَّذُ منْ خَمْس، بينَهنَّ الردُّ إلى أرذَلِ العُمُر، كما في صَحيحِ البُخاريّ.

﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي الرِّزۡقِۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ اللَّهِ يَجۡحَدُونَ﴾ [النحل:71]


واللهُ آثَرَ بعضَكمْ على بَعضٍ فيما رزَقَكمْ منْ مَالٍ ومَتاع، فمِنكمْ أغنياءُ ومِنكمْ فُقَراء، لحِكمَةٍ يَعلمُها سُبحانَه، وابتِلاءً منهُ لعَبيدِه. وأصحابُ المالِ منكمْ - أيُّها المشرِكونَ - لا يَرضَوْنَ أنْ يُعطُوا أموالاً لهمْ لأرِقّائهمْ ليَكونوا شُرَكاءَ فيهِ مُتساوين، فكيفَ يَرضَونَ أنْ تُشارِكَ مَخلوقاتٌ للهِ في مُلكِهِ وسُلطانِهِ ويَعبدونَها معَه؟! أتَكفُرونَ بنعمَةِ اللهِ وتُخالِفونَ أمرَه، فتُشرِكونَ بهِ بدلَ أنْ تَشكروا نِعمتَه؟

﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِۚ أَفَبِالۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ اللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ﴾ [النحل:72]


وقدْ جعلَ اللهُ لكمْ زَوجاتٍ منْ جِنسِكمْ وشِكلِكمْ لتأنَسوا بهنَّ وتأتَلِفوا، وجعلَ لكمْ منهنَّ أبناءً وأحفادًا، تَبتَهِجونَ برُؤيَتِهمْ وترَونَ فيهمُ امتِدادًا لأعمارِكم، ورزَقَكمُ النِّعَمَ والأطعِمةَ الحَلال، وبعدَ كُلِّ هذهِ الآياتِ والنِّعَمِ مِنْ ربِّهم، يؤمِنونَ بمَنفَعةِ الأصْنامِ الصمّاء، ويَكفُرونَ بنِعَمِ اللهِ وآلائه، فيَعبدونَها معَه، ويَجعَلونَ لها نَصيبًا مِنْ أرزاقِهمْ وهيَ مِنْ عندِ رَبِّهم!

﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا مِّنَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ﴾ [النحل:73]


يَعبدونَ الأصنامَ التي لا تُجيبُ لهمْ نِداء، ولا تَجلُبُ لهمْ رِزقًا، لا منَ السَّماءِ ولا منَ الأرْض، لا مطَرًا ولا نَباتًا، ولا أيَّ شَيءٍ آخَر، قَليلاً كانَ أو كثيرًا، فهي لا تَملِكُ شَيئاً ولا تُمَيِّزُه، لأنَّها لا تَقدِرُ على ذلكَ أصْلاً، فهي أحجَارٌ صمَّاءُ لا تَعي ولا تَسمَع.

﴿فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ الۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ اللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [النحل:74]


فلا تُشَبِّهوا اللهَ بشَيءٍ مِنْ مَخلوقاتِه، ولا تَجعَلوا لهُ شَريكًا، فلا مِثْلَ لهُ ولا نَظِير، واللهُ يَعلَمُ ويَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ هو، ويَعلَمُ أنَّكمْ مُخطِؤونَ جاهِلونَ بشِرْكِكم، وأنتُمْ لا تَعلَمونَ عِظَمَ ما تَقتَرِفونَ مِنْ إثمٍ بإشراكِكُمْ تلكَ الأصنامَ معَ الإلهِ الحقّ.

﴿۞ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ الۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [النحل:75]


ضربَ اللهُ لكمْ مثَلاً لتُقارِنوا وتَعقِلوا: عَبدٌ مَملوكٌ عاجِزٌ لا يَقدِرُ على عمَل، ولا يُقَدِّمُ شَيئاً لسيِّدهِ ليَنتَفِعَ به، وآخَرُ عامِلٌ مُنتِجٌ يَكسِبُ مالاً طيِّبًا حَلالاً، ويُنفِقُ منهُ على المُحتاجينَ والمَلهوفينَ سِرًّا وعَلانية، فهلْ يَستوي بطَّالٌ عاجِزٌ وعامِلٌ نَشيطٌ ينفَعُ أهلَهُ ومُجتَمعَه؟ إنَّهمْ لا يَستَوون، ولكنَّ أكثرَ المشرِكينَ الجاهِلينَ لا يَعلَمونَ ذلكَ حَقيقَة، ولا يُطَبِّقونَهُ واقِعًا، فهمْ يُسَوُّونَ في العِبادَةِ بينَ رَبِّ العِبادِ وهوَ خالِقُهمْ ورازِقُهم، ومَخلوقاتِهِ منَ الأصنامِ التي لا تَقدِرُ على إنتاجِ شَيءٍ ونَفعِ أحَد؟ وللهِ المَثَلُ الأعلى.

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِالۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [النحل:76]


ومَثَلٌ آخَرُ ضَربَهُ اللهُ لكم: رَجُلان، أحَدُهما أخرَسُ أصَمُّ لا يَنطِقُ ولا يَسمَع، ولا يَفهَمُ ولا يُفهِم، ولا يَفعَلُ شَيئًا يَنفَعُ بهِ نفسَهُ أو الآخَرين، وهوَ عِيالٌ ووَبالٌ على أبيهِ العَاملِ أو مَنْ يَعولُه، فإذا كَلَّفَهُ بشَيءٍ رجعَ ولم يَفعَلْ شَيئاً. فهلْ يَستوي هوَ وآخَرُ يَقولُ الحقَّ ويأمرُ بالمَعروفِ والقِسط، ويَنهَجُ مِنهَجًا صَحيحًا مُستَقيمًا ويَعمَلُ صالِحًا؟

لا شَكَّ أنَّهمْ لا يَستَوون، ولكنَّ المشرِكينَ الضَّالِّينَ يَجعَلونَ منَ الأصنامِ البَكماءِ آلِهة، ويُسَوُّونَ بينَها وبينَ اللهِ تَعالَى في العِبادَة!

قالَ ابنُ عَبّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهما: نزَلتْ في عُثمانَ بنِ عَفَّانَ ومَولًى له، كانَ يُنفِقُ عَليهِ ويَكفيهِ المَؤونَة، وكانَ الآخَرُ يَكرَهُ الإسلامَ ويأبَاه، ويَنهاهُ عنِ الصَّدقَةِ والمَعروف.

والعِبرَةُ بعُمومِ اللَّفظِ وما يَرمي إليه.

﴿وَلِلَّهِ غَيۡبُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ وَمَآ أَمۡرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ الۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [النحل:77]


واللهُ وحدَهُ يَعلَمُ ما غابَ عنِ الإنسانِ ممّا في السَّماءِ والأرْض، ولا يَعلَمُ أحَدٌ سِرَّ هذا الغَيبِ إلاّ أنْ يُعَلِّمَهُ اللهُ شَيئًا منه، وقيامُ السَّاعَةِ أحَدُ أمورِ الغَيبِ الذي استأثَرَ اللهُ بعِلمِه، وما أمرُ كونِها إلاّ كطَرْفِ العَين، بلْ أسرعُ منه! واللهُ قادِرٌ على هذا وغَيرِه، فإنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شَيئًا أنْ يَقولَ لهُ كُنْ فيَكون.

﴿وَاللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمۡعَ وَالۡأَبۡصَٰرَ وَالۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [النحل:78]


وقدْ أخرجَكمُ اللهُ مِنْ أرحامِ أُمَّهاتِكمْ وأنتُمْ لا تَنطِقونَ ولا تَعلَمونَ شَيئاً منَ الحياة، وخلقَ فيكمُ السَّمعَ لتَسمَعوا ثمَّ تَعُوا، والأبصَارَ لتُبصِروا ثمَّ تتَفكَّروا، والأفئدَةَ لتَفقَهوا وتَعتَبِروا، وتتَعلَّموا شَيئاً فشَيئاً، ولتَشكروا اللهَ ربَّكمْ على نِعمةِ هذهِ الحَواسِّ وغَيرِها، وتُدرِكوا بها فَضلَهُ عَليكم.

﴿أَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى الطَّيۡرِ مُسَخَّرَٰتٖ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [النحل:79]


ألا يَنظُرُ النّاسُ إلى هذهِ الطيورِ المُذَلَّلات، التي تَطيرُ في الجَوّ، كيفَ أنَّ اللهَ أودَعَ فيها القُدرَةَ على الطَّيران، وجعلَ في الجوِّ الهواءَ ليتَلاءَمَ معَ حركَةِ طيَرانِها، ولا يَقدِرُ على إبقائهنَّ في السَّماءِ هكذا إلاّ اللهُ تَعالَى، خالِقُ الطَّيرِ وطَيَرانِها. وفي ذلكَ دَلالَةٌ على قُدرَةِ اللهِ العَظيم، لمَنْ يؤمِنُ بهِ ويُعَظِّمُه، ويَنتَفِعُ بكلامِهِ ويَعقِلُه.

﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمۡ سَكَنٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الۡأَنۡعَٰمِ بُيُوتٗا تَسۡتَخِفُّونَهَا يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَآ أَثَٰثٗا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٖ﴾ [النحل:80]


وجعلَ اللهُ لكمْ منَ البُيوتِ التي تَبنُونَها وتأوونَ إليها سَكنًا وطُمأنينَةً تأمَنونَ فيها وتَرتاحُون. وجعلَ لكمْ منْ جُلودِ الأنعامِ بيوتًا كذلك، حيثُ يَخِفُّ عَليكمْ حَملُها في أسفارِكم، فتَنصِبونَها في الأرضِ وتَرفَعونَها كالأخبيَةِ وتأوونَ إليها أو تَستَظِلُّونَ بها، كما تستَخدِمونَها في مَواطنِ إقامَتِكم، كالقِبابِ والأخبيَةِ والخِيامِ والفَساطِيط. وكانتْ تُعمَلُ منَ الجُلودِ والشَّعَر. وتَستَفيدونَ منْ أصوافِ الضَّأن، وأوْبارِ الإبِل، وأشعارِ المَعْز، فتتَّخِذونَ منها المالَ والمَتاعَ والثِّيابَ والفُرُشَ والأَكسية... وتتَمَتَّعونَ بها إلى أجَلٍ مَحدودٍ لكم.