واذكروا يا بني إسرائيلَ ما أُخِذَ عَليكمْ منَ العهودِ والمواثيقِ لاتِّباعِ رُسلهِ والعملِ بالتوراةِ عُمومًا، ورفعنا الجبلَ فوقَ رؤوسِكمْ حتَّى صارَ كالظُّلَّةِ فَوقَكم، وقُلنا لكم: خُذوا ما في التَّوراةِ واعمَلوا بأحكامِها بقوَّةٍ وعَزم، فلا مُهَادَنَةَ ولا مُجَامَلَةَ في أمرِ الدِّينِ والعقيدة.
وتذكَّروا ما في هذا العهد، أو ما أُنزلَ عليكمْ في التوراةِ ولا تَغفُلوا عنه، ليَكونَ لكمْ سُلُوكاً وخُلُقاً وعَقيدَة، ولعلَّكمْ بذلكَ تَنْـِزعونَ عمّا أنتُمْ عليهِ وتتَّقونَ العُقوبَة.
ولمَّا رأوا الجبلَ فَوقَهم، عَلِموا أنَّهُ مُعجِزَةٌ تُبهِرُ العُقول، وتَرُدُّ المكذِّبَ إلى التَّصديق، والشَّاكَّ إلى اليَقين، وعَلِموا أنَّهُ مِنْ عندِ الله، فأقَرُّوا لنبيِّهمْ بالصِّدْقِ فيما جاءَ به، وأظهَروا التوبَةَ، وأعطَوا العَهدَ والميثاقَ ليَقوموا بالتَّوراة.
وتذكَّروا معشرَ اليهودِ ما حلَّ منَ العذابِ بأهلِ القريةِ التي لم تلتَزمْ بعهدِ الله، عندما طَلبوا يومَ راحةٍ مُقَدَّساً لا يعملونَ فيه، فجعلَ اللهُ ذلكَ يومَ السبت، وابْتَلاهمُ بوفرةِ الحيتانِ في ذلكَ اليوم، فما صَمَدُوا أمامَ أطماعِهِمْ وشهَوَاتِهم، وخافُوا إنْ همْ نَقَضُوا العهد، فَتَحَايَلُوا، وما يَحْتَالُونَ إلا على أنفسِهم، نَصَبُوا الشِّبَاكَ والحبائلَ والبِرَكَ قبلَ يومِ السبت، فإذا انقضَى أخذوا ما فيها يومَ الأحد. فلمّا فعلوا ذلكَ ونَكَلُوا عنْ عهدِهمْ معَ الله، عاقَبَهُمْ بالمَسخ، وجعلَهمْ في صورةِ القِرَدَة، أذلَّةً صاغِرين.
فقالَ اليهود: إنَّنا لا نَعرِفُ أَيَّ بَقَرَةٍ تَقصِد. ولو أَّنهم ذَبحوا أيَّ بقرةٍ لكفَت، ولكنَّهُمْ شَدَّدُوا فشَدَّدَ اللهُ عليهم. قالوا: فما هِيَ وما وَصْفُهَا؟
قالَ لهمْ نبيُّهم: إنَّ اللهَ يَقول: إنَّها لا كبيرةٌ هَرِمَةٌ، ولا صغيرةٌ لم يَلحَقْها الفَحل، فهيَ بينَ الكبيرةِ والصغيرة، وهوَ أَقْوَى وأحسَنُ ما تَكونُ الدابَّة. فنفِّذُوا ما أُمِرتُمْ به.
فقالَ لهم: إنَّ اللهَ يقول: إنها بَقَرَةٌ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ لحَرْث الأرض، ولا هي مهيَّأةٌ للنَّضْحِ والسَّقي، بل هيَ مُكرَّمَةٌ مُعْتَنًى بِها، صَحيحَةٌ لا عَيْبَ فيها، ولا شَيْءَ يُكَدِّرُ لَوْنَهَا الأصفر. فقالوا: الآن بَيَّنْتَ لَنَا. فَذَبَحوها، وَمَا كادوا أنْ يَفعلوا ذلكَ بعدَ كلِّ هذا الإيضاح!
وبعدَ كلِّ هذهِ الآياتِ والنِّعَمِ والتحذِيرات، قَسَتْ قلوبُكم فصارَتْ كالحجارةِ التي لا علاجَ لِلِينها، وبعضُها أَقْسَى مِنْهَا، فإنَّ منَ الحجارةِ ما تتفجَّرُ منهُ العُيونُ الجارِية، ومنها ما يَتشَقَّقُ فيَخرجُ منهُ الماءُ وإنْ لم يكنْ جارياً، ومنَ الحجارةِ ما يَهبِطُ منْ رأسِ الجبلِ خَوفاً منَ الله، وقدْ دُكَّ الجبلُ عندما تجلَّى اللهُ لهُ وَخَرَّ موسى صَعِقاً. وقلوبُكُمْ لا تَلِينُ، ولا تنْبِضُ بخشيةِ الله، واللهُ ليسَ بِغَافِلٍ عنْ أعمالِكُمْ وقَساوَةِ قُلوبِكُم، التي لا يُنتَظَرُ منها سِوَى الأعمالِ السيِّئة، إنَّما هوَ تأخيرٌ إلى موعدِ محاسبتِكم.
وإذا لَقِيَ اليهودُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنَّا بأنَّ محمَّداً مُرْسَل، يعني على ما بَشَّرَتْ بهِ التوراة، فإذا كانوا وَحْدَهُمْ قالَ بعضُهمْ لبَعض: كيفَ تُقِرُّونَ عندَهمْ بصحَّةِ رسالةِ محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ التوراةِ لِيَكُونَ ذلكَ حُجَّةً لهمْ عليكم، فَيُحَاجُّوكمْ بهِ عندَ ربِّكم، فَيَخْصِمُوكم، اعْقِلُوا إذًا، فَاكْتُمُوا وَاسْكُتُوا!
أَوَلا يَعلمُ اليهودُ أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عليهم، ويعلمُ ما يُبطِنُونَ وما يُظْهِرُون، ويعلمُ أنَّهم يُسِرُّونَ بتكذيبِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الأعراف: 157].
ومنِ جهلِهمْ أنْ يَقولوا إنَّهم لنْ يَبْقَوا في العَذابِ إِلا أيَّاماً معدوداتٍ ثمَّ يخرجونَ منها إلى النعِيم! فَقُلْ لَهُمْ أيُّها النبيّ: هلْ أخَذتـُم بما تَقولُون مِن ذَلكَ وعدًا مِن الله؟ فإذا كانَ كذلكَ فإنَّهُ سبحانَهُ لا يُخْلِفُ عَهْدَه، ولكنْ متَى كانَ هذا وكيف؟ إنَّهُ ما جرَى ولا كان، بلْ همْ يَكْذِبُونَ ويَفْتَرُونَ على الله.