تفسير سورة البقرة

  1. سور القرآن الكريم
  2. البقرة
2

﴿وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَادۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ الۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ اهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ الذِّلَّةُ وَالۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ النَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ الۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ﴾ [البقرة:61]


واذكروا نعمةَ الطعامِ الطيِّبِ الذي رَزقكمُ اللهُ منَ المَنِّ والسَّلوى، ولكنَّكمْ ضَجِرتُمْ منهُ ورَغِبتُمْ في الأدنَى، فطلبتُمْ مِنْ موسى أنْ يدعوَ اللهَ ليُخْرِجَ لكمُ البُقُول، من قِثَّاءٍ وثُومٍ وعَدَسٍ وبَصَل، فاسْتَنْكَرَ نبيُّكمْ منكمْ هذا، وقال: أتريدونَ الطعامَ الأقلَّ قِيمةً وذَوقاً على العيشِ الرغيدِ والطعامِ الهَنيءِ الطيِّبِ النافع؟

إنَّ هذا الذي سألتُموهُ ليسَ بعَزيز، وهوَ هيِّنٌ زَهيد، بإمكانِكمْ أنْ تَذهبوا إلى أيِّ مكانٍ لتجدوهُ فيه.

ووضعَ اللهُ عليهمُ الذُّلَّ والصَّغار، فلا يزالونَ كذلك، يَستذِلهُّمْ ويُهينُهمْ مَنْ وجدَهم، واستحقُّوا السُّخْطَ والغضبَ منَ اللهِ بما فعلوهُ مِنْ آثامٍ كبيرةٍ وذُنوبٍ عِظام، منْ كفرِهمْ بآياتِ اللهِ وحُجَجِهِ البيِّنة، واستكْبارِهمْ عنِ اتِّباعِ الحقّ، وإهانتِهمْ وقتلِهمْ أفضلَ الخلقِ أجمعين: أنبياءَ اللهِ ورُسُلَه؛ فهذا جزاءُ مَنْ عصَى الخالقَ واعتدَى على خَلقه.

﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَٰرَىٰ وَالصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة:62]


إنَّ كلَّ مَنْ آمنَ بحقّ، منَ اليهود، والنصارَى، والصابئة، وهمْ قومٌ أصحابُ ديانةٍ بالعراق، أو مَنْ لم تَبلُغْهُم رسالةٌ، آمنَ باللهِ وحدَه، وبيومِ القيامة، وأَتْبَعَ إيمانَهُ بعملٍ صالحٍ موافقٍ للحقّ، فإنَّ لهمُ المَثوبَةَ الْحُسنَى بما قدَّموه، فلا خوفٌ عليهمْ فيما يستقبلونَهُ مِنْ أحداث، ولا همْ يَحزنونَ على ما يَتركونَهُ ويَخلُفونَه. فالعبرةُ بِصِحَّةِ الْعقيدةِ واتِّباعِ النبيِّ في وقتِه. وهذا كلُّهُ قبلَ البعثة، أمَا وقد خُتمتِ النبوَّة، فلا دينَ إلا الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَاذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:63]


واذكروا يا بني إسرائيلَ ما أُخِذَ عَليكمْ منَ العهودِ والمواثيقِ لاتِّباعِ رُسلهِ والعملِ بالتوراةِ عُمومًا، ورفعنا الجبلَ فوقَ رؤوسِكمْ حتَّى صارَ كالظُّلَّةِ فَوقَكم، وقُلنا لكم: خُذوا ما في التَّوراةِ واعمَلوا بأحكامِها بقوَّةٍ وعَزم، فلا مُهَادَنَةَ ولا مُجَامَلَةَ في أمرِ الدِّينِ والعقيدة.

وتذكَّروا ما في هذا العهد، أو ما أُنزلَ عليكمْ في التوراةِ ولا تَغفُلوا عنه، ليَكونَ لكمْ سُلُوكاً وخُلُقاً وعَقيدَة، ولعلَّكمْ بذلكَ تَنْـِزعونَ عمّا أنتُمْ عليهِ وتتَّقونَ العُقوبَة.

ولمَّا رأوا الجبلَ فَوقَهم، عَلِموا أنَّهُ مُعجِزَةٌ تُبهِرُ العُقول، وتَرُدُّ المكذِّبَ إلى التَّصديق، والشَّاكَّ إلى اليَقين، وعَلِموا أنَّهُ مِنْ عندِ الله، فأقَرُّوا لنبيِّهمْ بالصِّدْقِ فيما جاءَ به، وأظهَروا التوبَةَ، وأعطَوا العَهدَ والميثاقَ ليَقوموا بالتَّوراة.

﴿ثُمَّ تَوَلَّيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۖ فَلَوۡلَا فَضۡلُ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ الۡخَٰسِرِينَ﴾ [البقرة:64]


لكنَّكمْ بعدَ هذا الوعدِ الأكيدِ والميثاقِ العظيم، نَقَضْتُم قولَكُم، وأدرتُمْ إليهِ ظهورَكم. ومعَ هذا النكْثِ والخيانةِ رحِمَكم اللهُ وتفضَّلَ عليكم، فأرسلَ إليكمُ النبييِّنَ والمُرْسَلين، لِيُذكِّروكمْ بالإيمانِ والطاعَة، ولولا ذلكَ لكنتُمْ في خُسرانٍ مُبينٍ، وَنَدَمٍ دائم.

﴿وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ الَّذِينَ اعۡتَدَوۡاْ مِنكُمۡ فِي السَّبۡتِ فَقُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ﴾ [البقرة:65]


وتذكَّروا معشرَ اليهودِ ما حلَّ منَ العذابِ بأهلِ القريةِ التي لم تلتَزمْ بعهدِ الله، عندما طَلبوا يومَ راحةٍ مُقَدَّساً لا يعملونَ فيه، فجعلَ اللهُ ذلكَ يومَ السبت، وابْتَلاهمُ بوفرةِ الحيتانِ في ذلكَ اليوم، فما صَمَدُوا أمامَ أطماعِهِمْ وشهَوَاتِهم، وخافُوا إنْ همْ نَقَضُوا العهد، فَتَحَايَلُوا، وما يَحْتَالُونَ إلا على أنفسِهم، نَصَبُوا الشِّبَاكَ والحبائلَ والبِرَكَ قبلَ يومِ السبت، فإذا انقضَى أخذوا ما فيها يومَ الأحد. فلمّا فعلوا ذلكَ ونَكَلُوا عنْ عهدِهمْ معَ الله، عاقَبَهُمْ بالمَسخ، وجعلَهمْ في صورةِ القِرَدَة، أذلَّةً صاغِرين.

﴿فَجَعَلۡنَٰهَا نَكَٰلٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهَا وَمَا خَلۡفَهَا وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:66]


وكانتْ عقوبةُ أهلِ تلكَ القَريةِ عِبْرةً لِما حولَها مِنَ القُرى، وعِظةً لمنْ يَحْذَرُونَ نقمةَ اللهِ وسُخْطَهُ، لئلا يستَحِلُّوا محارمَ اللهِ بأدنَى الحِيَل.

﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّ اللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوٗاۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ الۡجَٰهِلِينَ﴾ [البقرة:67]


واذكرُوا يا بَني إسرائيلَ عندما قُتِلَ أحدُكُمْ ولم تَعرِفوا قاتِلَه، وسألتُمْ نبيَّكُمْ معرفتَه، فطلبَ منكمْ أنْ تَذبَحوا بقرةً -وستأتي الحكمةُ منْ ذلك – فَقُلْتُمْ في جَفاء، وسوءِ أدبٍ وتكذيب: أتَهزأ بِنا وتَسخرُ منَّا؟

فقالَ لكم، وهوَ مُعَلِّمُكُمْ ومُرشِدُكُمْ إلى الخير: حاشا أنْ أكونَ منَ المُسْتَهزئينَ بالمؤمنين، إنما الأمرُ بِوَحْي منَ الله.

﴿قَالُواْ ادۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا فَارِضٞ وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ بَيۡنَ ذَٰلِكَۖ فَافۡعَلُواْ مَا تُؤۡمَرُونَ﴾ [البقرة:68]


فقالَ اليهود: إنَّنا لا نَعرِفُ أَيَّ بَقَرَةٍ تَقصِد. ولو أَّنهم ذَبحوا أيَّ بقرةٍ لكفَت، ولكنَّهُمْ شَدَّدُوا فشَدَّدَ اللهُ عليهم. قالوا: فما هِيَ وما وَصْفُهَا؟

قالَ لهمْ نبيُّهم: إنَّ اللهَ يَقول: إنَّها لا كبيرةٌ هَرِمَةٌ، ولا صغيرةٌ لم يَلحَقْها الفَحل، فهيَ بينَ الكبيرةِ والصغيرة، وهوَ أَقْوَى وأحسَنُ ما تَكونُ الدابَّة. فنفِّذُوا ما أُمِرتُمْ به.

﴿قَالُواْ ادۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوۡنُهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ صَفۡرَآءُ فَاقِعٞ لَّوۡنُهَا تَسُرُّ النَّـٰظِرِينَ﴾ [البقرة:69]


وَعَادوا إلى السؤالِ والتَّشديدِ مرَّةً أخرى، فقالوا: ما لونُها؟

قالَ نبيُّهم: يقولُ الله: إنَّها بَقَرَةٌ صفراءُ صافيةُ اللَّون، تُعْجِبُ الناظرينَ في ذلك.

﴿قَالُواْ ادۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الۡبَقَرَ تَشَٰبَهَ عَلَيۡنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهۡتَدُونَ﴾ [البقرة:70]


وعادوا ليَسألوا سؤالاً آخر، فقالوا: اطلبْ منْ ربِّكَ أيُّها النبيُّ أنْ يُحَدِّدَ لنا وَصْفَهَا وَحِلَّهَا لنا، فإذا فعلَ ذلكَ فإنَّنا بذلكَ إنْ شاءَ اللهُ نَهتدي إليها.

﴿قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ الۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي الۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ الۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِالۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ﴾ [البقرة:71]


فقالَ لهم: إنَّ اللهَ يقول: إنها بَقَرَةٌ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ لحَرْث الأرض، ولا هي مهيَّأةٌ للنَّضْحِ والسَّقي، بل هيَ مُكرَّمَةٌ مُعْتَنًى بِها، صَحيحَةٌ لا عَيْبَ فيها، ولا شَيْءَ يُكَدِّرُ لَوْنَهَا الأصفر. فقالوا: الآن بَيَّنْتَ لَنَا. فَذَبَحوها، وَمَا كادوا أنْ يَفعلوا ذلكَ بعدَ كلِّ هذا الإيضاح!

﴿وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسٗا فَادَّـٰرَ ٰٔتُمۡ فِيهَاۖ وَاللَّهُ مُخۡرِجٞ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ﴾ [البقرة:72]


واذكروا الحكمةَ منْ ذبحِ البقرة، فقدْ قَتَلتُمْ نفساً واختلفتُمْ في ذلكَ وتَخاصَمتُمْ فيه، وأرادَ اللهُ أن يُظْهِرَ مَا كنتُمْ تُغَيِّبونَ منَ الحقّ، فإنَّ القاتِلَ ما كان يَعْتَرِف.

﴿فَقُلۡنَا اضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحۡيِ اللَّهُ الۡمَوۡتَىٰ وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [البقرة:73]


فقلنا: اضرِبوا القتيلَ بجُزءٍ منْ أجزاءِ البقرةِ المذبُوحة، فيَحيا المقتُول، ويَذكُرُ قاتِلَهُ. وهذا مثالٌ لقدرةِ اللهِ على إحياءِ الموتَى، وَصَيْرُورةِ الرميمِ إلى ما كان، وإنْ لم تُدْرِكُوا كُنْهَهُ، ولكنَّهُ درسٌ واقعيٌّ شاهدتموهُ عِياناً، لتعْقِلُوا وتَتفَكَّرُوا، وتُؤْمِنُوا بقدرةِ الله.

﴿ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ الۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ الۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ الۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ اللَّهِۗ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة:74]


وبعدَ كلِّ هذهِ الآياتِ والنِّعَمِ والتحذِيرات، قَسَتْ قلوبُكم فصارَتْ كالحجارةِ التي لا علاجَ لِلِينها، وبعضُها أَقْسَى مِنْهَا، فإنَّ منَ الحجارةِ ما تتفجَّرُ منهُ العُيونُ الجارِية، ومنها ما يَتشَقَّقُ فيَخرجُ منهُ الماءُ وإنْ لم يكنْ جارياً، ومنَ الحجارةِ ما يَهبِطُ منْ رأسِ الجبلِ خَوفاً منَ الله، وقدْ دُكَّ الجبلُ عندما تجلَّى اللهُ لهُ وَخَرَّ موسى صَعِقاً. وقلوبُكُمْ لا تَلِينُ، ولا تنْبِضُ بخشيةِ الله، واللهُ ليسَ بِغَافِلٍ عنْ أعمالِكُمْ وقَساوَةِ قُلوبِكُم، التي لا يُنتَظَرُ منها سِوَى الأعمالِ السيِّئة، إنَّما هوَ تأخيرٌ إلى موعدِ محاسبتِكم.

﴿۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة:75]


بعدَ أنْ تبَيَّنَتْ لكمْ طبيعةُ اليهود، مِنْ قَساوةِ قلوبِهم وتكذيبِهم بآياتِ الله، أَفَتَطْمَعُونَ أيُّها المؤمنونَ أن يَنْقَادُوا لَكُمْ بالطَّاعة، وقدْ كانَتْ طائفَةٌ منْ عُلمائهمْ وأَحْبَارِهِمْ يَسمعونَ التوراةَ ويَعرِفونَ معانِيَها، ثم يُؤَوِّلُونَها تأويلاتٍ بعيدةً عَلَى غيرِ مَدْلُولِها الصحِيح، وَهُمْ يعرفونَ أنهم آثِمُونَ بذلك؟!

﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ قَالُوٓاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيۡكُمۡ لِيُحَآجُّوكُم بِهِۦ عِندَ رَبِّكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [البقرة:76]


وإذا لَقِيَ اليهودُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنَّا بأنَّ محمَّداً مُرْسَل، يعني على ما بَشَّرَتْ بهِ التوراة، فإذا كانوا وَحْدَهُمْ قالَ بعضُهمْ لبَعض: كيفَ تُقِرُّونَ عندَهمْ بصحَّةِ رسالةِ محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ التوراةِ لِيَكُونَ ذلكَ حُجَّةً لهمْ عليكم، فَيُحَاجُّوكمْ بهِ عندَ ربِّكم، فَيَخْصِمُوكم، اعْقِلُوا إذًا، فَاكْتُمُوا وَاسْكُتُوا!

﴿أَوَلَا يَعۡلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَ﴾ [البقرة:77]


أَوَلا يَعلمُ اليهودُ أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عليهم، ويعلمُ ما يُبطِنُونَ وما يُظْهِرُون، ويعلمُ أنَّهم يُسِرُّونَ بتكذيبِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الأعراف: 157].

﴿وَمِنۡهُمۡ أُمِّيُّونَ لَا يَعۡلَمُونَ الۡكِتَٰبَ إِلَّآ أَمَانِيَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة:78]


وَمِنْ أهلِ الكتابِ مَنْ لا يَعرفونَ الكتابة، ويَجهلونَ ما وردَ في التوراةِ، فلا يفقهونَ شيئاً، ولا يَتَكَلَّمُونَ إلاّ بِأَوْهَامٍ وَظُنُون، ولذلكَ فهمْ يَتعلَّقونَ بما تشتهيهِ نفوسُهم، فيَقولونَ إنَّهمْ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، وأنَّهمْ يدخلونَ الجنَّةَ منْ دونِ الناس، وأنَّهمْ إذا دخلوا النارَ فلا يبقونَ فيها إلاّ قليلاً، وغيرَ ذلكَ منَ الأمانيّ.

﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ الۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ اللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ﴾ [البقرة:79]


وفريقٌ آخَرُ منكمْ يَدعونَ إلى الضلال، فَيُزَوِّرُونَ ما في التوراة، يَكتبونَ بأيديهِمْ ما ليسَ مِنْهَا ويقولونَ إنهُ مِنْ عندِ الله، مُقَابِلَ هَدَفٍ حَقِيرٍ وَطَمَعٍ زَائِل، هوَ أن يُعْطَوْا مَبلغاً زهيداً منَ المال! فالهلاكُ والعذابُ لهؤلاءِ المُزَوِّرِين، الذينَ يكتبونَ بأيدِيهِمُ الكذبَ والافتراء، وَوَيْلٌ لَهُمْ منْ كَسْبِهِمِ الدَّنيءِ وَمَا أكلوا بهِ مِنَ السُّحْت.

﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَةٗۚ قُلۡ أَتَّخَذۡتُمۡ عِندَ اللَّهِ عَهۡدٗا فَلَن يُخۡلِفَ اللَّهُ عَهۡدَهُۥٓۖ أَمۡ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة:80]


ومنِ جهلِهمْ أنْ يَقولوا إنَّهم لنْ يَبْقَوا في العَذابِ إِلا أيَّاماً معدوداتٍ ثمَّ يخرجونَ منها إلى النعِيم! فَقُلْ لَهُمْ أيُّها النبيّ: هلْ أخَذتـُم بما تَقولُون مِن ذَلكَ وعدًا مِن الله؟ فإذا كانَ كذلكَ فإنَّهُ سبحانَهُ لا يُخْلِفُ عَهْدَه، ولكنْ متَى كانَ هذا وكيف؟ إنَّهُ ما جرَى ولا كان، بلْ همْ يَكْذِبُونَ ويَفْتَرُونَ على الله.