تفسير سورة البقرة

  1. سور القرآن الكريم
  2. البقرة
2

﴿بَلَىٰۚ مَن كَسَبَ سَيِّئَةٗ وَأَحَٰطَتۡ بِهِۦ خَطِيٓـَٔتُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [البقرة:81]


فليسَ الأمرُ كما قُلتُمْ ولا كما تَمَنَّيتُمْ، بلْ إنَّ مَنِ ارتكبَ ذنباً وجاءَ يومَ القيامةِ وليستْ لهُ حسنةٌ، فإنَّهُ منْ أهلِ النارِ المقيمينَ فيها. وهوَ حالُ الكافر.

﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ الۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [البقرة:82]


والذينَ آمنوا بالله ورَسُولِهِ وعَمِلوا الأعمالَ الصالحة، الموافقةَ للشريعة، الخالصةَ لله، فإنَّهم مِنْ أهلِ الجنَّة، المُخَلَّدينَ فيها أبداً.

﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي الۡقُرۡبَىٰ وَالۡيَتَٰمَىٰ وَالۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ﴾ [البقرة:83]


واذكُروا أيْضاً يا بَني إسرائيلَ ما أَمَرناكُمْ بهِ وأخذْنَا ميثاقَكمْ عليه، وهوَ ألاّ تَعبدوا إلا اللهَ ولا تُشْرِكُوا بهِ شيئاً، وهذا ما أُمِرَ به جميعُ الخَلق، وهو حقُّهُ سبحانَهُ عليهم. ثمَّ حَقُّ المخلوقينَ بأنْ يُحسِنَ كلٌّ إلَى وَالِدَيْهِ وَيُطِيعَهُما في غيرِ مَعصِيَة، ويُحْسِنَ كذلكَ إلى أقرِبَائِهِ وَاليتَامَى، والمَسَاكِينِ الذينَ لا يَجدونَ ما يُنْفِقُونَ على أنفُسِهِمْ وأهليهم. وأنْ تَقولوا الكَلامَ الطيِّبَ والقولَ الحسَن، في حِلْمٍ وعَفْوٍ ولِينِ جانب، وخاصَّةً الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عنِ المنكر. وأنْ تُقِيموا الصلاةَ لِرَبِّكُم، وَتُؤْتُوا الزكاةَ لأَهْلِها.. لكنَّكمْ أَعْرَضتُمْ عنْ كلِّ هذهِ الأوامرِ وتَنَكَّرتُمْ لَهَا، إلا القليلَ منكم، ممن عصمَهُ الله، فوفَى للهِ بعهدهِ وميثاقه(8).

(8) وهم من الأسلاف: مَن أقامَ اليهوديةَ على وجهها قبلَ النسخ، ومِن الأخلاف: مَن أسلمَ، كعبدالله بنِ سلاّم وأضرابه. فالقلَّةُ في عددِ الأشخاص.. (روح المعاني)..

﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ﴾ [البقرة:84]


واذكرُوا أيضاً أنّا أخَذنا إقرارَكمْ وعهدَكمْ في التوراةِ بأنْ لا يَقْتُلَ بعضُكُم بعضاً، ولا يُخْرِجَهُ منْ ديارِه، ولا يُظَاهِرَ عَلَيْه، فأَهلُ المِلَّةِ الواحدة بِمَنْزِلَةِ النفسِ الواحِدَة. وقدْ أَقْرَرتُمْ بِهَذا الميثاقِ وصِحَّتِه، وَشَهِدْتُمْ به.

﴿ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِالۡإِثۡمِ وَالۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ الۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ الۡعَذَابِۗ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة:85]


ولكِنَّكُمْ نَقَضتُمُ الميثاقَ في هذا كما نَقَضْتُمُوهُ في غَيْرِه، فصارَ يَقتُلُ بعضُكمْ بعضًا، فَفَرِيقٌ مَعَ الأوْسِ وَفَرِيقٌ مَعَ الخَزْرَج. كما تُخْرِجُونَ بعضَكمْ منْ بيوتِ بَعْض، وتَنْهَبُونَ ما فيها منَ المالِ والمتاعِ وَتَأْخُذُونَ سَبايَاهُمْ، وَتُقَوُّونَ أَعْدَاءَكُمْ على بعضِكُمُ البَعض، وَتُسَاعِدُونَهُمْ عَلَيْهِم، وإذا انتهتِ الحربُ تَفُكُّون الأُسَارَى منَ الفريقِ المغْلُوبِ وَتُفَادُونَهُمْ ولا تَقتُلُونَهُمْ عملاً بِحُكْمِ التوراة، ولكنْ لماذا تَعمَلونَ هنا بالتوراةِ بينما تُنَاقِضُونَ أَحْكَامَهَا فِيمَا مَضَى وَيَقتُلُ بعضُكم بعضاً فِي الحَرْبِ وهوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ؟ أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ التوراةِ وَتَكْفُرُونَ بالبعضِ الآخَرِ فيه؟

إنَّ جَزاءَ مَنْ يَكونُ كذلكَ هوَ الخِزيُ والعارُ في الحياةِ الدنيا، كما كانَ عاقبتَكم، منَ القتلِ والسبي، والجلاءِ والنفْي، وهو بسببِ مُخالَفَتِكُمُ الشَّرعَ. أمَّا يومَ القيامَة، فالعَذابُ الشديد، جزاءَ كتمِكُمْ ما في كتابِ اللهِ وعصيانِكُمْ أَحْكَامَهُ، واللهُ ليس بِغَافلٍ عنْ هذا كُلِّهِ، بلْ يُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ لِيُحَاسِبَكُمْ يَوْمَ القيامة.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ اشۡتَرَوُاْ الۡحَيَوٰةَ الدُّنۡيَا بِالۡأٓخِرَةِۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ الۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ﴾ [البقرة:86]


فَإِنَّ جزاءَ منِ استَحَبَّ الدنيا والتهَى بزينَتِها ومُتَعِها وفضَّلَهَا على الآخِرَة، هوَ ألاّ يُخَفَّفَ عنهُ العذابُ، ولا يُدافَعَ عنه، ولا يُنْقَذَ منه.

﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى الۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِالرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ابۡنَ مَرۡيَمَ الۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ الۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ اسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ﴾ [البقرة:87]


واذكروا أيُّها اليَهودُ مِنْ مواقِفِكمْ في مخالفةِ الأنبياءِ ومُعانَدَتِهِمْ واتِّباعِ أهوائكمْ في ذلك، أنْ آتينا موسى التوراةَ، التي حَرَّفْتُمُوها وبَدَّلْتُمُوها، وخالَفتُمْ أوامِرَها وأوَّلتُموها. وأَتْبَعناهُ برسلٍ آخَرِينَ كانوا يَحكمونَ بما في التوراة، حتَّى جاءَ عيسى ختامُ أنبياءِ بني إسرائيل، فأيَّدناهُ بالمعجِزاتِ الكبيرة، كالإخبارِ بما في الغَيب، وإبراءِ المرضَى، وإحياءِ الموتَى بإذنِ الله. وقوَّيْناهُ بجبريلَ كذلك، يكونُ معهُ ويُصَدِّقُ ما جاءَكمْ به، وأنزلنا عليهِ الإنجيلَ فيهِ مخالفةٌ لِبَعضِ أحكامِ التوراة، فما وافقَ ذلكَ أهواءَكمْ ونزواتِكمُ المتقلِّبة، معَ كلِّ ما أُيِّدَ به، فعانَدتموهُ وتعالَيتُمْ على موافَقتِه، وانصرفتُمْ إلى مُجادَلَتِهِ ومُخالَفته. أَوَكُلَّمَا أرسلنا إليكمْ رسولاً استَكبرتُمْ عنْ قَبولِ الحقّ، ففَريقٌ منكمْ يُكذِّبهم، وآخَرُ يَقتلُهم؟!

﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة:88]


وقالَ اليهود: قلوبُنَا مُغَلَّفَةٌ لا تَنْفُذُ إليها دعوةُ الإسلامِ ولا تَقبَلُها! بلْ قلوبُهُمْ مَلْعُونةٌ مُبْعَدَةٌ منْ رحمةِ اللهِ وهُدَاه، فَطُبِعَ عليها بالكفرِ لرفضِها وخِذْلانِها عنْ قبولِ الحقّ. فإيمانُهم قَليل، أو إِنَّ القليلَ منهمْ يؤمن.

﴿وَلَمَّا جَآءَهُمۡ كِتَٰبٞ مِّنۡ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ اللَّهِ عَلَى الۡكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة:89]


ولمّا جاءَ اليهودَ القُرآنُ الكَريم، المُنـزَلُ على محمَّدٍ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهوَ مُصَدِّقٌ لمِا في التوراة، وكانوا قبلَ مَبعثهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يَستَنصِرونَ بهِ على أعدائهمُ المشركينَ إذا قاتَلوهم، يَقولون: إنَّ نبيًّا يُبْعَثُ نتَّبعُه، قدْ أظلَّ زمانُهُ، نقتلُكمْ معهُ قَتْلَ عادٍ وإرَم. فَلَمَّا بُعِثَ صلى الله عليه وسلم مِنْ قُرَيشٍ وهمْ يعرفونَ أَنَّهُ هو، بصفاته، كفَروا بهِ وجَحَدُوا ما كانوا يَقولونَ فيه؛ لأنَّهُ ليسَ منهم، فلعنةُ اللهِ عليهمْ بسببِ كفرِهم، وسُخْطُ اللهِ وعَذابُهُ على الجاحِدينَ بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

﴿بِئۡسَمَا اشۡتَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡ أَن يَكۡفُرُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ بَغۡيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ [البقرة:90]


فَبِئْسَتِ التجارةُ تجارتُهمْ أنْ شَرَوُا الحقَّ بالباطِل، فكفَروا بما جاءَ به محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَسداً وبُغضاً وتكبُّراً أنْ لم يَكنْ منهم. و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [سورة الأنعام: 124]، فيَصطفي مَنْ يشاءُ مِنْ عبادهِ لتَحَمُّلِ أعباءِ الرسالة، وَلَيْسُوا همُ الذين يحدِّدونَ الرسُول.

لقدِ استحقُّوا بِهَذا غَضَباً مُضاعَفاً: عندما ضيَّعوا التوراةَ وهيَ معَهم، ثمَّ كَفَروا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقَدْ خَسِرُوا في تجارتِهمْ عندما لم ينضمُّوا إلى لواءِ الإسلامِ المجيد، كما سَيَنْدَمُونَ في الآخرةِ بما يَنتظِرهمْ مِنَ العذابِ جَزَاءَ كُفْرِهمْ هذا، وسوفَ يَكونُ عَذاباً مُهِيناً وَمُذِلاًّ لَهُم.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ الۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [البقرة:91]


وإذا قيلَ لليهودِ أو أهلِ الكتابِ عامَّةً: آمِنوا بما أُنْزِلَ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وصَدِّقُوهُ واتَّبِعُوه، قالوا: نَكتفي بما أُنْزِلَ عَلينا مِنَ التَّوراةِ والإنجيل، وفيهما الحقّ، ولا نُقِرُّ بغيرِهما، فيَكفرونَ بالقُرآن، وهمْ يَعلمونَ أنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا فِيهِمَا، وهمْ كاذبونَ مُعانِدون.

فقلْ لهمْ أيُّها الرسُول: إذا كنتُمْ تَدَّعُونَ صِدْقَ الإيمانِ فيما أُنْزِلَ عَليكم، فَلِمَ قَتَلتُمُ الأنبياءَ الذينَ جاؤُوكمْ بتصديقِ التوراةِ والحُكْمِ بها وأنتمْ تَعلمونَ صِدْقَهُمْ؟ بَلْ هُوَ الْهَوَى والتشهِّي، والبغيُ والاستِكبار، وليسَ هذا مِنْ صفاتِ المؤمنين.

﴿۞وَلَقَدۡ جَآءَكُم مُّوسَىٰ بِالۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ اتَّخَذۡتُمُ الۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ﴾ [البقرة:92]


وقدْ جاءَكمْ موسى عليهِ الصلاةُ والسلام بِدَلائِلَ قاطِعة، وآياتٍ واضِحَة، كالطُّوفان، والجَراد، والعَصا، وفَلْقِ البَحر، وغيرِها، ثمَّ اتَّخذتُمُ العِجْلَ مَعبوداً منْ دونِ الله، في زَمَانِهِ وآياتِهِ، وكانَ في الطُّورِ يُنَاجِي رَبَّهُ!! فكنتُمْ بذلكَ ظالمينَ عاصِين، لا مؤمنينَ كما تَدَّعُون.

﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَاسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [البقرة:93]


ومِنْ إِعْرَاضِكُمْ عنِ الحقِّ ومخالفتِكمْ للمِيثاق، عندما رَفَعْنَا فوقَكمُ الجبل، وأخَذنا عليكمُ العهدَ بالإيمانِ والطاعةِ بِقُوَّةٍ وَإِرادَةٍ وعزم، فوافَقتُمْ على ذلك، ولكنَّكمْ عُدْتُمْ إلى عِصيانِكمْ وَعِنَادِكُم واتِّبَاعِ أهوَائكُم.

لقدْ أُشْرِبَ في قلوبِهمْ حُبُّ العجلِ وعبادتهُ بكفرِهم، وكأنَّهُ مَوقِفُهُمُ المفضَّلُ بعدَ كلِّ أمر! فبئسَ هذا الإيمان، إنْ كانَ مِنْ إيمان، الذي يأمرُكمْ بالكفرِ بآياتِ اللهِ ومخالفةِ الأنبياء، ثمَّ الكفرِ بما أُنْزِلَ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خاتمِ النبيِّين، المبعوثِ للناسِ أجمَعين.

فكيف تدَّعونَ الإيمانَ بما عندكمْ وَقَدْ نَقَضتُمْ هذهِ المواثيق، وكفرتُمْ بآياتِ الله، وعَبَدتُمُ العِجْل؟!

﴿قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ الدَّارُ الۡأٓخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةٗ مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [البقرة:94]


قُلْ لِليَهُودِ أيُّها الرسُول: إذا كنتُمْ تَزْعُمُونَ أنَّكمْ وَحْدَكُمُ الفَائزُونَ يومَ القيامةِ دونَ سائرِ الأمم، فَتَعَالَوْا إلى المباهَلَة، بأنْ يقفَ فريقٌ منَ المسلِمين، وفريقٌ منَ اليهود، ويدعُوَانِ اللهَ بِمَوْتِ الكاذبِ منهما.

﴿وَلَن يَتَمَنَّوۡهُ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالظَّـٰلِمِينَ﴾ [البقرة:95]


وَلَنْ يَتَمَنَّوا الموتَ أبداً، بما جَنَتْ أَيْدِيهِمْ واقتَرفَتْ منْ آثام، ولِما يعلمونَ منْ مآلِهمُ السيِّئِ وعاقبتِهمُ الخاسِرَة. فما استجابوا لِلْمُبَاهَلَةِ، وهمْ يَعلمونَ أنَّهمْ إنْ طَلَبُوا الموتَ خافُوا أنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ فَيَأخُذَهُمْ، وهمْ يعلمونَ ما قَدَّمُوا مِنْ عَمَل، واللهُ عليمٌ بهمْ وبما صدرَ عنهمْ من أنواعِ الظلمِ والمعاصِي المُفضيةِ إلى العذاب.

﴿وَلَتَجِدَنَّهُمۡ أَحۡرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٖ وَمِنَ الَّذِينَ أَشۡرَكُواْۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمۡ لَوۡ يُعَمَّرُ أَلۡفَ سَنَةٖ وَمَا هُوَ بِمُزَحۡزِحِهِۦ مِنَ الۡعَذَابِ أَن يُعَمَّرَۗ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة:96]


وستجدُهمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى طُولِ العُمر، وَوَدُّوا لَوْ عُمِّرُوا أَلْفَ سَنة؛ لمعرفتِهمْ بمآلِهمُ السيِّئ، بلْ يَوَدُّونَ لو تَأَخَّرُوا عنْ يومِ الحِسابِ بما أَمْكَنَهُم، لمِا يَتَوَقَّعُونَ ما يَنتَظرُهم. وكذا المشرِك، لأنَّهُ لا يَؤْمِنُ بِيَومِ البَعث، والدُّنيا جَنَّتُهُ، ولا حَظَّ لهُ في جَنَّةِ الْخُلْد، بلْ يَنتظرهُ العَذابُ الأليم، مَهْمَا عُمِّرَ في الدنيا، فلا مَنْجَى منَ الحسابِ والعقاب، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعملُ الجميعُ، مِنْ خَيرٍ وشَرّ.

﴿قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ اللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [البقرة:97]


لقدْ زَعَمَتِ اليهودُ أن جِبرِيلَ عليهِ السلامُ عَدُوٌّ لَهُمْ، لأنه وَلِيُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَو كانَ وَلِيَّهُ غَيْرُهُ لاتَّبَعُوهُ، كما في الحديثِ الصَّحيح! اخترَعوا هذهِ القصَّةَ المُضحِكةَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ جِبرِيلَ يَنْزِلُ بِالوَحْيِ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وما هُوَ إِلا عبدٌ مُنَفِّذٌ، لا يَزيدُ على ما أمرَهُ اللهُ به، وقدْ قالَ لهمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فإنَّ وليِّيَ جبريلُ عليه السلام، ولم يَبعثِ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ"، كما رواهُ أحمدُ وغيرُهُ بإسنادٍ صَحيح. فَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبرِيلَ فإنَّهُ الروحُ الأمينُ الذي نَزَلَ بالقرآنِ على قلبِكَ بإذنِ اللهِ ومَشِيئَتِه، الكتابِ المصدِّقِ للكتبِ السماويةِ المُتَقَدِّمَة، هُدًى لِلْقُلُوبِ المؤمِنة، وتبشيراً لهمْ بالجنَّة.

﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة:98]


إنَّ مَنْ عَادَى رَسولاً فقدْ عَادَى جَمِيعَ الرسُل، وَمَنْ آمَنَ برسولٍ فعَليهِ أنْ يؤمِنَ بجميعِ الرسُل، كما أنَّ مَنْ كَفَرَ بِرَسُولٍ فقدْ كفرَ بجميعِ الرسُل. يقولُ اللهُ سُبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [سورة النساء: 150، 151].

ومَنْ عادَى اللهَ وملائكَتَهُ وأنبياءَهُ ورُسُلَهُ، وبَينَهُمْ جِبريلُ ومِيكالُ(9)، فإنَّ اللهَ عَدُوٌّ لَهُمْ؛ لكُفرهم، ومَنْ عاداهُ اللهُ باءَ بالخسرانِ حَتماً.


(9) خُصَّ جبريلُ بالذكرِ هنا لزيادةِ الاهتمامِ بعقابِ معاديه، وليُذكَرَ معه ميكائيل، ولعلَّهم عادَوهما معاً، أو لأنهم زعموا أن جبريلَ رسولُ الخسفِ والعذاب، وأن ميكائيلَ رسولُ الخصبِ والسلام.. (التحرير والتنوير).

﴿وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ وَمَا يَكۡفُرُ بِهَآ إِلَّا الۡفَٰسِقُونَ﴾ [البقرة:99]


ولقدْ أنزلنا إليكَ يا محمَّدُ (صلى الله عليهِ وسلم) دَلائِلَ وَعَلامَاتٍ واضحاتٍ على نبوَّتِكَ وصدقِ ما جئتَ به، ولا يكفرُ بها إلا الفاسِقونَ المنحرِفونَ عنِ الفطرةِ السَّليمة.

﴿أَوَكُلَّمَا عَٰهَدُواْ عَهۡدٗا نَّبَذَهُۥ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [البقرة:100]


أَوَكُلَّما عَاهَدَ اليهودُ على الالتزام بأمرٍ نَكَلَ فريقٌ منهمْ ورفضَ العَهدَ؟ وهذا دأبُهمْ حتَّى خانُوا العَهدَ الذي أبرَموهُ معَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عندَ مَقدَمهِ إلى المدينة .. بلْ أكثرهمْ لا يؤمنونَ بالرسولِ المبعوثِ إليهمْ وإلى الناسِ كافَّة، الذي يَجدونَ صفتَهُ في كتبِهم، وقد أُمِرُوا باتِّباعهِ ومناصَرتِه.