﴿وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ اللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِاللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [آل عمران :101]
وكيفَ تَكفُرونَ وأنتُمْ تَرونَ الآياتِ تَنزِل، والرسُولُ بينَ ظَهرانَيْكمْ يَتلوها عليكم، ومُعجزاتُهُ ماثِلةٌ أمامَ أعينِكم، فكلُّ هذا يُعينُكمْ على الإيمانِ ويُثبِّتُكمْ عليه. فالكفرُ بَعيدٌ عنكمْ ما دمتُمْ تَنهلونَ علومَكمْ منْ مَعينِ الكِتابِ المُبين، ولا تَستمعونَ إلى أهلِ الكتابِ وأباطيلِ المُفتَرين. وإنَّ مَنْ تَمسَّكَ بحبلِ اللهِ وتوكَّلَ عليهِ حقَّ التوكُّل، فإنَّهُ يَهديهِ إلى طَريقهِ المستَقيم، ويُثَبِّتهُ عليه، ويُسَدِّدُه.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران :102]
يا عبادَ اللهِ المؤمِنين، اتَّقوا اللهَ حقَّ تَقواه، واخشَوهُ حقَّ الخَشية، فأطيعوهُ ولا تَعصُوه، واذكروهُ ولا تَنْسَوه، واشكروهُ ولا تَكفُروه، وجاهِدوا في سبيلهِ حقَّ جهادِه، واثبُتوا على هذا، وحافِظوا على إسلامِكمْ في جميعِ أحوالِكم، لتَموتوا عليه، فإنَّ مَنْ ثَبتَ على شيءٍ ماتَ عليه، ويُبْعَثُ عليه، إنْ شاءَ الله.
وذهبَ كثيرٌ منَ المفسِّرينَ إلى أنَّها منسوخةٌ بقولهِ تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن: 16]، ومنْ لم يقُلْ بذلكَ قالوا: معناها اتَّقوا اللهَ حقَّ تُقاتهِ ما استَطعتُم.
وقالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: إنَّها لم تُنسَخ، ولكنْ {حَقَّ تُقَاتِهِ} أنْ يُجاهِدوا في سَبيلِ اللهِ حَقَّ جِهادِه، ولا يَأخذَهمْ في اللهِ لَومَةُ لائم، ويَقوموا للهِ بالقِسْط، ولو على أنفُسِهمْ وآبائهمْ وأبنائهم.
﴿وَاعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ اللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَاذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [آل عمران :103]
وتمسَّكوا بعهدِ اللهِ والقُرآنِ الذي أنزلَهُ عليكم، الذي بهِ هُدِيتُم، وكُونوا جَميعاً إخوةً مُجتَمعينَ مُتحابِّين، ولا تَختَلِفوا مثلَ اليهودِ والنصارَى فتتفرَّقوا وتَتباغَضوا، واذكُروا فَضْلَ اللهِ عليكمْ عندَما كنتُمْ أعداءً يَقتُلُ بعضُكمْ بَعضاً في حُروبٍ مُستَمِرَّة، فجمعَ بينَ قلوبِكمْ بهذا الدِّينِ الحقّ، فصِرتُمْ بفَضلهِ ونِعمَتهِ إخواناً مُتآلِفين، يَنصرُ بعضُكم بعضاً، ويَعطِفُ عليهِ ويَرحمُه، بعدَ أنْ كنتُمْ على وشكِ الدُّخولِ في النارِ بسببِ كُفرِكم، فأنقذَكمُ اللهُ بهذا الدِّينِ وهداكمْ للإيمان، وأنقذَكمْ منَ النار، ويُبَيِّنُ اللهُ لكمْ دلائلَهُ لتَثبُتوا على الهِداية، وتَزدادوا إيماناً.
﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى الۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِالۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ الۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [آل عمران :104]
ولتكنْ منْ بينِكمْ فِرقَةٌ أو جَماعةٌ تَدعو إلى الخَير، وتَنهَى عنِ الشرّ، وتأمرُ بالفضيلةِ والحقِّ والعَدل، وتَنهَى عنِ الرَّذيلةِ والباطلِ والظُّلم. وهيَ مهمَّةٌ ليستْ يَسيرة، حيثُ الاصطدامُ بطبائعِ ناسٍ ورغائبِهمْ ومنافعِهمْ ومصالِحهم. ومنْ قامَ بهذا التكليفِ فهوَ منَ المفلحينَ الفائزين.
قال ابنُ كثير: والمقصودُ منْ هذهِ الآيةِ أنْ تكونَ فِرقةٌ مِنَ الأمَّةِ مُتَصَدِّيةً لهذا الشَّأن، وإنْ كانَ ذلكَ واجِباً على كلِّ فردٍ منَ الأمَّةِ بحَسَبه، كما ثبتَ في صَحيحِ مسلم، عنْ أبي هُريرة، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ رَأى منكمْ مُنكَراً فليُغَيِّرْهُ بيدِه، فإنْ لم يَستطِعْ فبلسانِه، فإنْ لم يَستطِعْ فبقَلبِه، وذلكَ أضعَفُ الإيمان".
﴿وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ الۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [آل عمران :105]
ولا تَكونوا مثلَ الأممِ السابقة، كأهلِ الكتابِ وغيرِهم، الذينَ تفرَّقوا واختَلفوا، على الرغمِ منْ قيامِ الحُجَّةِ عليهم، وبيانِ الأدلَّةِ عندَهم، فكانَ مصيرَهم في الدُّنيا الهزيمةُ والذلّ، والفِتنةُ والتَّقاتُل، وسيكونُ عاقبتَهم يومَ القيامةِ عَذابٌ عَظيمٌ جزاءَ إعراضِهم عنْ دينِ اللهِ الحقّ، فلا تَكونوا مثلَهمْ، لئلاّ يُصيبَكمْ ما أصابَهم.
﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ الۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾ [آل عمران :106]
في يَومِ القيامةِ تَبيَضُّ وجوهُ أهلِ الإيمانِ والخَير، وتُشرِقُ بالنور، وتَفِيضُ بالبهجةِ والسُّرور، ووجوهُ أهلِ الكفرِ والنِّفاقِ تَسْوَدُّ كالِحةً وكئيبةً منَ الحُزنِ والهَمِّ والغَمّ. ويُقالُ للمُنافقينَ والمرتدِّينَ أهلِ الكفرِ والنِّفاق، الذينَ اسودَّتْ وجوهُهم: أكفرتُمْ بعدَ أنْ ذُقتُمْ حَلاوةَ الإيمانِ وعَرفتمُ الحقّ؟ إذاً فذُوقوا العَذابَ جزاءَ كفرِكمْ وتَفضيلِكمُ الباطلَ على الحقّ!
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ اللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [آل عمران :107]
وأمّا الذينَ ابيضَّتْ وجوهُهمْ مُستَبشِرةً بالخَير، فهمْ في جنَّةِ اللهِ خالدون، في فَرحٍ وسَعادةٍ لا تَنقَطِع.
﴿تِلۡكَ ءَايَٰتُ اللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِالۡحَقِّۗ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمٗا لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران :108]
وتلكَ الأمورُ حُجَجٌ وبَراهين، وآياتٌ بيِّنات، نُنَزِّلها عَليكَ يا نبيَّ اللهِ بالحَقِّ والعَدْل، ليكونَ الناسُ على حَذرٍ فيما يأتونَ وما يَذَرون، ولا يُريدُ اللهُ ظُلماً لهم، فهوَ الحَكَمُ العَدْل، لكنَّهمْ إذا ظَلموا وكَفروا فإنَّهم يُلقُونَ بأنفسِهمْ إلى الهَلاك.
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرۡجَعُ الۡأُمُورُ﴾ [آل عمران :109]
وليسَ اللهُ بحاجةٍ إلى طَاعةِ أحَد، ولا يَزيدُ شيئاً في مُلكهِ أو يَنقُصُ منهُ إذا أعطَى أو مَنع، فإنَّهُ سُبحانَهُ غَنيٌّ واسعُ المُلك، لهُ ما في السَّماواتِ والأرض، وكلُّ الأمورِ صائرةٌ إليه، وهوَ حاكمُها ومُصَرِّفُها. فليُفكِّرِ الإنسانُ بمَصيرِه، وليُطعِ اللهَ حتَّى يُفلِحَ ويَلقَى الجزاءَ الطيِّب.
﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِالۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ الۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ الۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ الۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ الۡفَٰسِقُونَ﴾ [آل عمران :110]
كنتُمْ يا أمَّةَ الإسلامِ خيرَ الأممِ وأفضلَها وأنفعَها للناس، حيثُ تأمرونَ الناسَ بالخير، وتَنشُرونَ الحقَّ والعَدل، وتَحُثُّون على الفضائلِ والآدابِ الحَسَنة، وتَنهَونَهمْ عنِ المُنكراتِ والفواحشِ والأخلاقِ المُسترذَلة، وتؤمنونَ باللهِ الواحِدِ الأحَد، فتَعبدونَهُ ولا تُشرِكونَ بهِ شيئاً.
ولو أنَّ أهلَ الكتابِ مِنَ اليهودِ والنصارَى آمَنوا مثلَكم بما أُنزِلَ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم واهتَدَوا إلى الحقّ، ونَبذوا الشِّركَ والكُفر، لكانَ خيراً لهمْ في دُنياهُمْ وآخِرَتِهم، ولكنَّ قليلاً منهمْ فعلَ ذلك، وبقيَ أكثرُهمْ على الضَّلالِ والكفر، مُؤثِرينَ الفُسوقَ والعِصيان، ولم يَفُوا بميثاقِ اللهِ معَ النبيِّين، ثمَّ وصيَّتِهمْ لأممِهمْ بأنْ تَتَّبِعَ النبيَّ الأميَّ وتَنصُرَه.
ذُكِرَ أنَّ قولَهُ تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} خاصٌّ بعهدِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وعَمَّهُ آخَرون، فقالوا: الصَّحيحُ أنَّ هذهِ الآيةَ عامَّةٌّ في جميعِ الأمَّة، كلُّ قرنٍ بحَسَبِه، وخَيرُ قُرونِهمُ الذينَ بُعِثَ فيهمْ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما حازَتْ هذهِ الأمَّةُ قَصَبَ السبْقِ إلى الخَيراتِ بنبيِّها محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فإنَّهُ أشرَفُ خَلقِ اللهِ وأكرمُ الرسُلِ على الله، وبَعثَهُ الله بشرعٍ كاملٍ عَظيمٍ لم يُعطهِ نبيًّا قبلَهُ ولا رسُولاً منَ الرسُل.
قلتُ: الذي يظهرُ أنَّ خيريَّةَ هذهِ الأمةِ مُرتبطةٌ بكونِها تأمرُ بالمعروف، وتَنهَى عنِ المُنكَر، وتُؤمِنُ بالله، كما في الآيةِ نفسِها، فإذا لم تَفعلْ ذلكَ لم تَحُزْ هذهِ الفَضيلة. واللهُ أعلم.
﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ الۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ﴾ [آل عمران :111]
لنْ يَستَطيعَ أهلُ الكتابِ - وخاصَّةً اليهودَ - إلحاقَ الضَّررِ بكم، إلاّ ضَرراً عارِضاً يَسيراً، وإذا حدَثَ بينَكمْ وبينَهمْ قِتالٌ يَنهزمونَ شرَّ هزيمة، ولنْ يَنتصرَ لهمْ أحَد، ولنْ يَجدوا مَعونةً تُنقِذُهمْ مِنْ بأسِكم.
وكانوا كذلك، فقدْ أذلَّ اللهُ اليهودَ ونصرَ المسلمينَ عَليهم، وانهزَمَ النصارَى في بلادِ الشامِ وغيرِها، وسيَكونُ النصرُ للمسلِمينَ ما داموا متمسِّكينَ بشرعِ الله، رافعينَ رايةَ الجهادِ في سبيلِه.
﴿ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ الذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ الۡمَسۡكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ الۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ﴾ [آل عمران :112]
لقدْ ألزمَهمُ اللهُ الذلَّةَ والمَهانةَ أينَما كانوا، وصارَ هذا مُلازِماً لهمْ حتَّى استكنَّ في مشاعرِهم، ولنْ يَجدوا راحةً ولا استِقراراً إلاّ بذِمَّةٍ منَ الله، وهوَ أنْ يَكونوا ذِمِّيينَ في الدولةِ الإسلامية، يُلزَمونَ بدفعِ الجِزيَة، أو بعهدٍ منَ الناس، كأمانٍ منهمْ لهم، أو مُعاهداتٍ بينهمْ وبينَ دُوَلٍ كبرَى يَتقوَّونَ بها.
لقدْ تَلبَّسوا بغَضَبِ اللهِ وأُلزِمُوا به، فلا يُغادرُهمْ ولا يَنفكُّ عنهم. وسببُ هذا الذلِّ المكتوبِ عليهمْ والغَضَبِ الذي يُلازمُهم، هوَ أنَّهمْ كانوا يَرفُضونَ اتِّباعَ الحقِّ مهما كانَ واضِحاً وقويّاً، ويَكفرونَ بالحُجَجِ والمُعجِزاتِ وهمْ يَرونَها عِياناً، وزَادوا على ذلكَ جَريمةً لا يَرتكبُها إلاّ أكبرُ مُجرِمي البشرِ وأشقاهُم، وهوَ قتلُ الأنبياء، أصفَى البشَرِ وأنقاهُمْ سَريرة، وأحسنُهمْ خُلُقاً، وأعظمُهمْ قَدْراً، قَتلوهُمْ بدونِ أيِّ مُبَرِّر، وبدونِ أيِّ حَقّ، بلْ هَكذا سَوَّلتْ لهمْ نفوسُهمُ السيِّئةُ وقُلوبُهمُ السَّوداء؛ عِناداً وتكبُّراً وحَسَداً. فالذي دفَعهمْ إلى كلِّ هذهِ الجرائمِ هوَ عِصيانُهمُ المستَمِرُّ لأوامرِ الله، واعتدَاؤهم وظلمُهم.
﴿۞لَيۡسُواْ سَوَآءٗۗ مِّنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ أُمَّةٞ قَآئِمَةٞ يَتۡلُونَ ءَايَٰتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيۡلِ وَهُمۡ يَسۡجُدُونَ﴾ [آل عمران :113]
لكنْ ليسُوا كلُّهمْ هَكذا، فقدْ آمنَ منهمْ خَلْقٌ فاستَقاموا على طَريقِ الحقّ، وأطاعُوا شَرْعَ الله، واتَّبعُوا نبيَّه، وصَاروا يَتلُونَ آياتِ القُرآنِ الكرِيم، ويَقومُونَ الليل، ويَتهَجَّدونَ في تَبتُّلٍ وخُشُوع.
﴿يُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ وَيَأۡمُرُونَ بِالۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ الۡمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي الۡخَيۡرَٰتِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [آل عمران :114]
يُؤمنونَ باللهِ الواحِدِ الأحَد، وباليَومِ الآخِر، ويأمُرونَ الناسَ بالخيرِ والحقِّ والعَدل، ويَنهونَهمْ عنِ الشرِّ والأذَى والظُّلم، ويَتسابَقونَ في الأعمالِ الخيِّرة، ويَبَرُّونَ إخوانَهمُ المؤمِنين، في تعاونٍ وطاعةٍ وتَقوَى، وهؤلاءِ همُ الصَّالحون، الذينَ أتْبَعوا إيمانَهمْ بالأعمالِ الطيِّبةِ المبارَكة.
﴿وَمَا يَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلَن يُكۡفَرُوهُۗ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالۡمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران :115]
وكُلُّ ما يفعلونَهُ منْ خيرٍ وبِرٍّ وإحسانٍ لنْ يُبْخَسُوا حقَّه، ولنْ يُكْفَروا أجرَه، بلْ يَجزيهمُ اللهُ عليها أوفرَ الجزاء، فهوَ عليمٌ بمنِ اتَّقاهُ وطلبَ رِضاه، لا يَخفَى عليهِ عَملُ أحَد.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيۡـٔٗاۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [آل عمران :116]
إنَّ الذينَ كفَروا وكذَّبوا بما أنزلَ اللهُ مِنْ حَقٍّ وخَيرٍ وهُدى، لنْ يُفيدَهمْ شَيءٌ ممّا جَمعوهُ مِنْ أموال، وشَيَّدوهُ مِنْ قُصور، ولنْ يَستطيعَ أولادُهمْ وذَرارِيهمْ أنْ يَمنعوا عنهمْ بأسَ اللهِ وعَذابَه، ويَكونُ مَصيرَهمْ النارُ المُحرِقة، التي تأتي على وجوهِهمْ وأفئدتِهمْ في يَومِ القيامَة، خالدينَ فيها أبَداً.
﴿مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾ [آل عمران :117]
إنَّ مَثَلَ ما يُنفِقُ الكفّار ُ منْ أموالٍ ظاهرُها خَير، كمساعدةٍ إنسانيَّة؛ لمصلحةٍ مادِّية أو غيرِها، هوَ مَثَلُ ريحٍ شَديدةِ البرودَة، فيها بَرَد، أهلَكتْ زرعَ جماعةٍ قدْ آنَ حَصَادُه، فأبادَتْه، وقَضَتْ على ما فيهِ منْ ثَمَرٍ وزَرع، بسببِ ذُنوبِ أصحابهِ وظُلمِهم. وكذلكَ هؤلاءِ الكافِرون، فإنَّ أموالَهمْ وخَيراتِهم إلى هلاكٍ وفَناء، لنْ تُفيدَهمْ سِوَى في دُنياهُم، أمّا في الآخِرَةِ فلا نَصيبَ لهمْ منها، فقدِ اكتفَوا بجهودِهمُ الدنيويَّةِ لها، ولم يَعتبِروا الآخِرة، وما ظلمَهمُ الله، بلْ همُ ظَلموا أنفسَهمْ عندَما اختَاروا لأنفسِهمُ الغَيَّ والضَّلال، والاكتفاءَ بلذائذِ الدُّنيا، فلنْ تُغْنيَ عنهمْ أموالُهمْ وأولادُهمْ في الآخِرةِ شيئاً، لأنَّهمْ أصابُوها بريحٍ قاتِلة، بكفرِهمْ وضَلالِهم، فلم تُبقِ لهمْ شيئاً لآخِرتِهم.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ الۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ الۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [آل عمران :118]
أيُّها المؤمِنون، لا تَثِقوا بالكافِرينَ والمنافقينَ وأهلِ الكتاب، ولا تَتَّخذوا منهمْ أصدقاءَ تَستَشيرونَهمْ وتَجعلونَهمْ موضعَ ثِقَتِكم، ولا تُسرُّوا إليهمْ بشَيءٍ منْ أسرارِكم، فإنَّهمْ ليسُوا منكم، بلْ يَسْعَونَ إلى مُخالفتِكمْ ومَضرَّتِكمْ بكلِّ ما يَملِكونَ منْ جُهْدٍ ومَكرٍ وخَديعة، ويُحبُّونَ أنْ يُحرِجوكمْ ويوقِعوكمْ في المشُكلاتِ ليؤذوكمْ ويَنتقِموا منكم، هذا ظاهِرُ ما يُخَطِّطونَ له، وما تَفوهُ بهِ ألسنتُهمْ مِنْ حِقْدٍ وبُغض، والذي تُخفيهِ صُدورُهمْ مِنْ كُرهٍ وعَداوةٍ أكثرُ ممّا يُظهِرونَه، وفي هذا البيانِ دلائلُ كافيَةٌ لكمْ إذا أدركتُموهُ بعقُولِكم(22) ؛ لئلاّ تَتَّخذوا منهمْ أصدقاء، ولا تُوادُّوهم، ولا تَفتَحوا لهمْ قلوبَكم.
وقدْ نزلتِ الآيةُ في رِجالٍ منَ المسلمينَ كانوا يواصِلونَ رِجالاً منَ اليهود، لِما كانَ بينهمْ منَ الجِوارِ والحِلْفِ في الجاهليَّة، فنُهوا عنْ مباطنَتِهمْ خوفَ الفِتنةِ عليهمْ منهم.
(22) إنْ كنتُـم تعقلونَ عن الله مواعظَهُ وأمرَهُ ونهيَه، وتعرفونَ مواقعَ نفعِ ذلكَ منكم ومبلغَ عائدتهِ علـيكم (تفسير الطبري).
﴿هَـٰٓأَنتُمۡ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا يُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِالۡكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ عَضُّواْ عَلَيۡكُمُ الۡأَنَامِلَ مِنَ الۡغَيۡظِۚ قُلۡ مُوتُواْ بِغَيۡظِكُمۡۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران :119]
– وها أنتمْ تُحِبُّونَ المنافِقينَ لأنَّهمْ يُظْهِرونَ لكمُ الإيمان، وهمْ لا يُحبُّونَكمْ أبداً، بلْ يَتربَّصونَ بكمُ الشرّ، ويَنقُلونَ أخبارَكمْ إلى أعدائكمْ ويُوادُّونَهم، وتؤمِنونَ بكتابِ اللهِ كلِّه، وهمْ في شكٍّ منهُ ورِيبَة، ويُصَلُّون أمامَكمْ أحياناً، لكنَّهمْ إذا اجتَمعَوا أظهَروا غَيظَهمْ وعَداوتَهمْ وكُرهَهمْ لكم.
قولُوا لهم: اكرَهوا المؤمنينَ بما تَقدِرونَ عليه، وابقُوا على هذا حتَّى تموتوا كمَدًا من الحَنَقِ والغَيظ، فإنَّ اللهَ مُتِمُّ دينهِ وناصرُ عِبادهِ المؤمنين، وخاذِلُ أعدائهمُ الكفّارِ والمنافقين، وهوَ عليمٌ بما تُخفيهِ صدورُكمْ مِنْ حقدٍ وغِلٍّ على المسلِمين، ولسَوفَ يُجازيكمْ في الآخِرَةِ بالعَذابِ الشَّديد.
﴿إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ﴾ [آل عمران :120]
وممّا يَبدو مِنْ عَداوةِ المنافِقينَ لكم، أنَّ اللهَ إذا مَنَّ عليكمْ برِزقٍ أو نَصرٍ أو فَتح، أصابَهُمُ الهَمُّ والغَمّ، وإذا أصابَكمْ مَكروهٌ كقَحْطٍ أو هَزيمة، فَرِحُوا واستَبشَروا، فلا يُحزِننَّكمْ هذا، واتَّقوا شرَّهمْ بالتحلِّي بالصَّبر، والدوامِ على طاعةِ الله، وحُسْنِ التوكُّلِ عليه، ولنْ يَضُرَّكمْ شيءٌ مِنْ مكرِهمْ(23) إذا كنتُمْ كذلك، فاللهُ مُحيطٌ بهم، عليمٌ بما يَصنَعون، ولنْ يَقَعَ شيءٌ في الوجودِ إلا بتقديرِهِ ومَشيئتِه.
(23) يعني بكيدهم: غوائلَهم التي يبتغونها للـمسلـمين، ومكرَهم بهم؛ لـيصدُّوهم عن الهُدَى وسبـيلِ الحقّ. (الطبري).