﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمۡحَقَ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [آل عمران :141]
وليُصَفِّيَ اللهُ ما في نفوسِكمْ ويُعِدَّها لِما هوَ أكبر، وليُكَفِّرَ عنْ ذنوبِكمْ بجِهادِكم، أو يرفعَ درجاتِكمْ في عِلِّيين، كلٌّ بحسبِ ما جاهدَ وأُصِيب، ولِيَستأصِلَ اللهُ الكافرينَ ويَدفَعَ باطِلَهم، فإنَّهمْ إذا انتَصَروا بَغَوا ودمَّروا.
﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ الۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ الصَّـٰبِرِينَ﴾ [آل عمران :142]
وهلْ ظَننتُمْ أنَّكمْ ستَدخُلونَ الجنَّةَ دونَ أنْ تُكَلَّفوا بالقِتالِ والصَّبرِ على الشدائد، لِيَتبيَّنَ منكمُ المؤمنُ المجاهدُ مِنْ غيرِه، ولِيَعلَمَ الصَّابرينَ منكمْ على الضرّاءِ ومُجالَدةِ الأعدَاء؟
﴿وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ الۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ﴾ [آل عمران :143]
وكنتُمْ تُحِبُّونَ الموتَ في سبيلِ الله، وتَتمنَّونَ لقاءَ العدوِّ وتَوَدُّونَ مناجزتَهم، فها هيَ المعركة، وها همُ الأعداء، وها هو الموتُ الذي تُشاهِدونَهُ في مقارعةِ الرِّجالِ للرِّجال، وفي لَمعانِ السيوفِ واشتباكِ الرمَاح، فدونَكُموه.
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ الرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ انقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي اللَّهُ الشَّـٰكِرِينَ﴾ [آل عمران :144]
وأُشِيعَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قُتِلَ في غَزوةِ أُحُد، وقدِ ادَّعَى أحدُ المشركينَ أنَّهُ قَتلَه، وكانَ قدْ شُجَّ صلى الله عليه وسلم، فوصَلتِ الشائعةُ إلى صفوفِ المسلِمين، فحَصلَ وهْنٌ وضَعْفٌ وتَأخُّرٌ عنِ القِتال، فأنزلَ اللهُ ما مَعناه: وما محمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) إلا رسولٌ مثلَ غيرهِ مِنَ الأنبياءِ والرُّسُلِ في جوازِ القَتلِ عليه، فإذا ماتَ أو قُتِلَ رَجعتُمْ إلى ما كنتُمْ عليهِ منْ شِركٍ وضَلال؟! إنَّ مَنْ يَفعلُ ذلكَ فلنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً، وإنَّما يَضُرُّ نَفسَه، فاللهُ غنيٌّ عنكمْ وعنْ إيمانِكم، والدِّينُ سيَبقَى، والمجاهِدونَ سيَنتَصِرون، ويَجزي اللهُ الذينَ قاموا بطاعتِه، وعَرَفوا قَدْرَ نعمتِه، وقاتَلوا دِفاعاً عنْ دينِه، واتَّبعُوا رسولَهُ حَيّاً ومَيِّتاً، ويُعطيهمْ مِنْ رحمتهِ وكرَمهِ بحسَبِ شُكرِهمْ وعَملِهم، ويَزيدُهمْ مِنْ فضلِه.
﴿وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ اللَّهِ كِتَٰبٗا مُّؤَجَّلٗاۗ وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ الدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ الۡأٓخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِي الشَّـٰكِرِينَ﴾ [آل عمران :145]
ولا تَموتُ نَفسٌ إلاّ إذا قدَّرَ اللهُ لها ذلك، أجَلاً مَرسُومًا، في الوقتِ المُحَدَّدِ لها، بدونِ تَقديمٍ ولا تأخير، فتَقدَّموا إلى الجهادِ ولا تَجْبُنوا أيُّها المسلِمون، فإنَّ عُمُرَ الإنسانِ لا يَزيدُ ولا يَنقُص، سواءٌ كانَ في حَربٍ أمْ في سِلم.
ومَنْ كان يَعملُ للدُّنيا وحدَها أعطاهمُ اللهُ منها وحَرمَهمْ ثوابَ الآخِرة، ومَنْ كانَ يَعملُ للآخِرةِ أعطاهمُ اللهُ منها ولم يَحرِمْهمْ نصيبَهمْ منَ الدُّنيا، بحسَبِ عَملِهمْ وشُكرِهم.
﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسۡتَكَانُواْۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّـٰبِرِينَ﴾ [آل عمران :146]
وهناكَ أنبياءُ كُثرٌ قاتلَ معهُ جماعاتٌ مِنَ الصَّابرينَ الأبرارِ الأتقِياء، فما ضَعُفَتْ نُفوسُهمْ منَ الكَرْبِ والبَلاء، وما وَهَنوا لِما أصابَهمْ منَ الشدَّةِ والجِراح، وما تَوقَّفوا عنْ متابعةِ الجهادِ في سبَيلِ الله، وما استَسلموا لأعداءِ اللهِ ولا ذَلُّوا، بلْ قاتَلوا على ما قاتلَ عليهِ أنبياؤهمْ حتَّى لَحِقوا بهم، واللهُ يُحِبُّ المدافِعينَ عنْ دينِه، المتَّبعِينَ لأوامرِ أنبيائه، الصَّابرينَ في أوقاتِ الشدَّةِ والحَرب.
﴿وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَانصُرۡنَا عَلَى الۡقَوۡمِ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [آل عمران :147]
وكانوا معَ جهادِهمْ وطلبِهمْ رِضاءَ اللهِ يَقولون: ربَّنا اغفِرْ لنا ما اقتَرَفنا مِنْ ذنوب، وما تجاوَزنا فيهِ الحدّ، وفرَّطنا ِمنْ أمر، وأيِّدْنا بتأييدٍ مِنْ عندِكَ في مَواطنِ الحَرب، وثبِّتنا على دينِكَ الحقّ، وانصُرنا على أعدائكَ وأعداءِ دينِكَ منَ القَومِ الكافِرين.
﴿فَـَٔاتَىٰهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنۡيَا وَحُسۡنَ ثَوَابِ الۡأٓخِرَةِۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [آل عمران :148]
فكانَ جزاءَ هؤلاءِ المؤمنينَ الصابرينَ وجوابَ دُعائهم، أنْ آتاهُمْ ثوابَ الدنيا بالنصرِ والعِزِّ والعاقِبَةِ الحسَنة، وفي الآخرةِ النعيمُ الدَّائم، واللهُ يُحِبُّ مَنْ آمنَ وأحسَن، وأتْبعَ إيمانَهُ بالعملِ الصَّالح.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ﴾ [آل عمران :149]
أيُّها المؤمِنون، إنَّكمْ إنْ أطَعتُمُ المنافِقينَ والكافِرين، واستَمعتُمْ إلى وِشاياتِهم، وتأثَّرتُمْ بما يُشيعُونَهُ ممّا أصابَكمْ مِنَ القتلِ والجَرح، ليُثبِطوا عزائمَكم، ويخوِّفوكمْ مِنْ عواقبِ الحَربِ معَ المشركينَ مرَّةً أخرى، فإنَّكمْ بهذا تُجيبونَهمْ إلى ما أمَّلوهُ وتَستَسلِمونَ لهم، ليَرُدُّوكمْ على ما كنتمْ عليهِ مِنَ الكفرِ والضَّلال، ولتَكونوا بذلكَ مِنَ الخائبينَ النادِمين، في الدُّنيا والآخِرة.
﴿بَلِ اللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ خَيۡرُ النَّـٰصِرِينَ﴾ [آل عمران :150]
لكنَّ اللهَ وليُّكم، ومثبِّتُكمْ على دينِكم، وهوَ خيرُ ناصرٍ لكم، فاستَعينوا به، وأحسِنوا تَوكُّلَكمْ عليه.
﴿سَنُلۡقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعۡبَ بِمَآ أَشۡرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗاۖ وَمَأۡوَىٰهُمُ النَّارُۖ وَبِئۡسَ مَثۡوَى الظَّـٰلِمِينَ﴾ [آل عمران :151]
سَنَبُثُّ الخوفَ والهَلعَ في قُلوبِ الكافِرينَ ونُرْعِبُهم، بسببِ كفرِهمْ وإشراكِهمْ باللهِ آلهةً لا قوَّةَ لها ولا سَيطرةَ على أحَد، فاللهُ لم يَمنحْها سلطاناً، وهيَ لا تَضُرُّ ولا تَنفع، ولا تَسمعُ ولا تَتكلَّم!! فما أجهلَهمْ وما أشدَّ غَفلتَهم، وإنَّ مصيرَهمْ نتيجةَ عَدَمِ استعمالِ عُقولِهمْ وتوظيفِها لاتِّباعِ الحقّ، هوَ النار، وبئسَ المَنزِلُ مَنزِلُهم، الذي أعَدَّهُ اللهُ لمنْ ظلمَ نفسَهُ وظلمَ الآخرينَ منَ الكافِرين. فاستَيقِنوا بالنصرِ أيُّها المؤمِنون، فإنَّ أعداءَكمْ خائفونَ هالِكون.
﴿وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي الۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَاللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [آل عمران :152]
وقدْ صَدقَ اللهُ وعدَهُ معَكمْ بالنَّصرِ في غزوةِ أُحُد، كما كانَ في أوَّلِ النَّهار، عندَما سلَّطكمُ اللهُ عليهِم، فصِرتُمْ تَقتلونَهم، وكِدتُمْ أنْ تَستأصِلوا شأفتَهم، حتَّى إذا جَبُنَ بعضُكمْ في القِتال، نتيجةَ النزاعِ والخِصامِ الذي دارَ بينَكم، وعصَى بعضُكمُ الآخَرُ - وهمُ الرُّماةُ - قائدَهُمْ محمَّداً صلى الله عليه وسلم، وكانَ قدْ أمرَهمْ ألاّ يَبرَحُوا مكانَهم، فنَزلوا يَنهَبونَ في العَسكر، فبقيَ ظهرُ المسلِمينَ مَكشوفاً للعدوّ، أراكمُ اللهُ الفشَلَ بعدَ النصر، فقدْ شابَ إخلاصَكمْ مَطامِعُ، فمنكمْ مَنْ رَغِبَ في الغَنائمِ عندما رَأى هَزيمةَ العدوّ، ومنكمْ مَنْ أرادَ وجهَ اللهِ في جِهادهِ فثَبتَ في مَكانهِ حتَّى يَتلقَّى أوامرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فكانَ نتيجةَ ذلكَ أنْ صَرَفَ قوَّتكمْ واجتماعَكمْ عنِ العدوّ، ففَشِلتُم، ليَختَبِرَ إيمانَكم، ويَمتحِنَ قوَّةَ صُمودِكمْ وعَزيمتِكمْ وتَمسُّكِكمْ بدينِكم، ولتَعتَبروا ممّا أصابَكم، ولا تُكرِّروه، وغفرَ لكمْ ضَعْفَكمْ وتنازُعَكمْ وعصِيانَكم، وهذا مِنْ فضلِ اللهِ عليكمْ ورحمتهِ بكم.
﴿۞إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَالرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [آل عمران :153]
وتَذكَّروا شُؤم َ عِصيانِكم، عندما بدأتُمْ تَصْعَدونَ إلى الجبلِ هروباً منْ عَدوِّكم، ولا تَنظرونَ وراءَكمْ مِنَ الخَوف، ولا تَسمعونَ كلامَ أحد، لِما أصابَكمْ منْ رُعْبٍ وهَلَع! والرسولُ يُناديكمْ - وقد خَلَّفتُموهُ وراءَكمْ - ليَجمعَكمْ ويُطَمْئنَكمْ بأنَّهُ ما زالَ حيّاً، لا كما أشاعَ العدوُّ بأنَّهُ قُتل! لتَكِرُّوا عليهمْ مِنْ جديد، فجازاكمْ قلقًا وحزنًا موصولًا بحزن، يملأُ نفوسَكمْ كمدُ الهزيمة، وكرْبُ سماعِكمْ مقتلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حتَّى لا تَحزَنوا على ما فاتَكمْ منَ الغَنيمةِ والنصرِ على عدوِّكم، وعلى ما أصابَكمْ منَ القَتلِ والجِراح. واللهُ مطَّلِعٌ على خَفايا صُدورِكم، لا يَخفَى عليهِ حقيقةُ أعمالِكمْ ودوافِعُ حركاتِكم.
﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ الۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيۡرَ الۡحَقِّ ظَنَّ الۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ الۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ الۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ الۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران :154]
ثمَّ مَنَّ اللهُ عليكمْ بعدَ هذا الحزنِ بنُعاسٍ يَغشَى(25) جَماعةً منكمْ وهمْ في لِباسِ الحَرب، ليكونَ سَكَناً لهمْ وأمناً. وطائفةٌ أخرَى لا يَغشاهمُ النعاسُ منَ القلقِ والخَوفِ والجَزَعِ (وهمُ المُنافِقون) تُهِمُّهمْ نَجاةُ أنفسِهمْ فَقط، فذَهبتْ بهمْ نفوسُهمْ إلى ظُنونٍ سيِّئةٍ لا تُوافِقُ الحقّ، بلْ هيَ مِنْ ظُنونِ الجاهليَّة، وقالوا إنَّهُ قُصِمَ ظهرُ الإسلامِ بهذا، فلا قيامَ لهُ مِنْ بعدُ، ولا نصرَ لأهلهِ بعدَ اليوم!
وكانوا يَقولون: لقدْ دُفِعنا إلى المعركةِ دَفْعاً دونَ إرادةٍ لنا فيها.
فقلْ لهمْ أيُّها النبيّ: إنَّ الأمرَ كلَّهُ لله، فهوَ الآمِرُ الحاكِم، والكلُّ يؤدِّي واجبَهُ تُجاهَ دينهِ وربِّه، وهذا الذي قُمتُمْ بهِ هوَ أداءٌ للواجبِ المفرُوضِ عليكمْ نحوَ دينِكم. إنَّ نفوسَهمْ مَلأى بالهواجسِ والوسَاوس، لم تَكتمِلْ بحقيقةِ الإيمان، فهيَ ما زالتْ تَشكو منِ اعتِراضاتٍ واحتِجاجات، فيُخفُونَ حقيقةَ ما يريدونَ قولَهُ لك، وهو: لو كانَ الأمرُ بيدِنا لمَا استَجبنا نداءَ الرسُول، ولمَا حَضَرْنا المعركة، ولَما أصابَنا القتلُ والجِراحات.
فقلْ لهم: لو أنَّكمْ بَقِيتُمْ في بُيوتِكمْ ولم تَخرجوا إلى القِتال، وكان قَدَرُ المقتولِ منكمْ أنْ يكونَ مصرَعُهُ في مكانِ المعركة، لجاءَ إلى هناكَ وقُتِلَ فيه! فهوَ الأجَلُ الذي لا يَتقدَّمُ في حربٍ، ولا يتأخَّرُ في سِلم.
إنَّهُ الجهادُ الذي يَحتاجُ إلى عَزيمةٍ وصَبر، فيَكشِفُ ما في الصُّدور، ويُخرِجُ ما في القُلوب، وتَتبيَّنُ حقيقةُ كلِّ شخصٍ على ما كانَ يُخفيه، ويَتميَّزُ الخبيثُ منَ الطيِّب، ويَظهَرُ المؤمِنُ والمنافق، فهوَ الابتلاءُ والاختِبار، واللهُ عليمٌ بالأسرارِ الخفيَّةِ التي تَختلجُ في الصُّدور، ولا تَنكَشِفُ في النُّور.
(25) غَشِيَه: سترَه، والغِشاوة: ما يُغطَّى به الشيءُ. (مفردات الراغب).
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ الۡتَقَى الۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا اسۡتَزَلَّهُمُ الشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا اللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ﴾ [آل عمران :155]
إنَّ الذينَ فَرُّوا منَ الحَربِ عندَما تَقابلَ الجيشان، إنَّما كانَ فِرارُهمْ بسببِ ذُنوبٍ سَالفةٍ ارتَكبوها، فضَعُفَ ارتباطُهمْ بالله، وفَقدوا ثِقتَهمْ في قوَّتِهم، واختلَّ تَوازنُهمْ وتَماسُكهم، فوجدَ الشَّيطانُ مَدْخلاً إلى نُفوسِهم، ليَهْجِسَ فيها ويوَسوِس، ويُسَوِّلَ لهمْ حُسنَ الهزيمة! ثمَّ عفا اللهُ عمّا كانَ منهمْ مِنْ فِرار، وهوَ سُبحانَهُ واسِعُ المَغفِرَة، حَليمٌ، لا يُعَجِّلُ العُقُوبَةَ لمَنْ عَصَاه.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزّٗى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَاللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ﴾ [آل عمران :156]
– أيُّها المؤمِنون، لا تَتشبَّهوا بالكافِرين في أقوالِهمْ وأفعالِهم، فلا تَقولوا كما قالوا للَّذينَ ماتوا منْ أصحابِهمْ عندما سافَروا للتِّجارةِ أو غيرِها، أو مضَوا إلى الغَزو: لو أنَّهمْ بَقُوا عندَنا لم يَموتوا ولم يُقْتَلوا. وقدْ جعلَ اللهُ فيهمْ هذا الاعتقادَ ليَزدادوا حُزناً وكَمَداً، فهمْ ليسُوا مثلَ المؤمِنينَ الذينَ يَتلقَّونَ الابتلاءَ بالصَّبرِ والاحتِساب، ويَرضَونَ بقضاءِ اللهِ وقَدَره، فالأمرُ كلُّهُ بيدهِ سبحانَه، فهو المُحيي والمُميت، إنْ قدَّرَ لهمُ الموتَ ماتُوا، وإنْ لم يُقَدِّرْ لهمْ ذلكَ لم يَموتوا، سواءٌ أكانوا في تِجارةٍ، أمْ حَرب، أمْ غَيرِهما. واللهُ عالمٌ بخَلْقِه، بصيرٌ بشُؤونِهم، لا يخفَى عليهِ شيءٌ مِنْ أمرِهم.
﴿وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ اللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ﴾ [آل عمران :157]
والحياةُ الدُّنيا ليستْ خيراً لكمْ في كلِّ مرَّةٍ أيُّها المؤمنون، فإنَّكمْ إذا قُتِلتُمْ في سبيلِ اللهِ أو مُتُّمْ كانَ مآلُكمْ أفضَلَ وأحسَن، لتَنالوا رحمةَ اللهِ وعَفوَهُ ورِضْوانَه، فهوَ أفضلُ ممّا تَكدَحونَ لأجلهِ وتَجمَعونَ مِنْ حُطامِ الدُّنيا، وهيَ كلُّها لا تُساوي شيئاً مِنْ نَعيمِ الآخِرة.
﴿وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى اللَّهِ تُحۡشَرُونَ﴾ [آل عمران :158]
وفي كلِّ الأحوال، فإنَّكمْ إذا قُتِلتُمْ في سَاحةِ الحَرب، أو مُتُّمْ على فُرُشِكمْ في بيوتِكم، فإنَّكمْ ستُحشَرونَ إلى ربِّكم، فيَجزِيكمْ على عَملِكم، مَغفرةً ورَحمة، أو غَضباً وعَذاباً. فالعِبرةُ بما يَكونُ المصيرُ إليهِ بعدَ الموت.
﴿فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الۡقَلۡبِ لَانفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَاعۡفُ عَنۡهُمۡ وَاسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي الۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الۡمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران :159]
برحمةِ اللهِ لكَ ألنْتَ لأصحابِكَ جانِبَك، وخَفَضْتَ لهمْ جَناحَك، وحسَّنتَ لهمْ خُلُقَك، فأحبُّوكَ وفدَوْكَ بأنفُسِهمْ وآبائهمْ وأموالِهم، ولو كنتَ جافيَ المعاشَرة، كرِيهَ الخُلُق، قاسيَ القلب، لنَفَروا مِنك، وتَفرَّقوا عنك. فاعْفُ عنهمْ ما صدرَ منهمْ مِنْ تَقصيرٍ في حقِّكَ كما عَفا اللهُ عنهم، واستَغفِرْ لهمْ فيما يَتعلَّقُ بتَقصيرِهمْ في حقِّ اللهِ إكمالاً للبِرِّ بهم، واستَشِرْهمْ في الأمور، لتُظهِرَ بها آراءَهم، وتُطَيِّبَ قُلوبَهم، وتُمَهِّدَ لسُنَّةِ المشَاورةِ للأمَّة، فإنَّ في الاستشارةِ فوائدَ ومصالحَ كثيرَة.
فإذا اطمأنَّتْ نفسُكَ عَقِيبَ المشاورةِ بأمر، فأمْضِهِ مُتَوكِّلاً على الله، مُعتَمِداً عليهِ في تَحصيلِ ما رجَوتَ منه، فإنَّ اللهَ يَنْصُرُ المتوَكِّلينَ عليه، ويُرشِدُهمْ إلى ما فيهِ خَيرُهمْ وصَلاحُهم.
﴿إِن يَنصُرۡكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [آل عمران :160]
إنْ يُرِدِ اللهُ نصرَكمْ ومنعَكمْ مِنْ عدوِّكمْ كما أرادَهُ يومَ بَدر، فلا أحدَ يَغلِبُكم، فلا قوَّةَ إلاّ به، ولا قُدرةَ بعدَ قُدرتِه، ولا مَشيئةَ بعدَ مَشيئته. ولا يَعني هذا عدمَ النُّهوضِ بالتكاليفِ، أو عدمَ بذلِ الجُهد، فإنَّ التوكُّلَ غيرُ التواكُل. ولا بدَّ أنْ يَنْصُرَ المؤمنونَ دينَ اللهِ حتَّى يَنْصُرَهم {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [سورة محمد: 7].
وإذا تَركَكمْ ولم يَنْصُرْكُمْ كما كانَ يومَ أُحُد، فمَنْ يَقْدِرُ على نصرِكمْ بعدَ خِذْلانه؟ فتوكَّلوا على اللهِ أيُّها المؤمِنونَ حقَّ التوكُّل، ولا تَطلبوا النصرَ مِنْ غَيرِه.