تفسير سورة النساء

  1. سور القرآن الكريم
  2. النساء
4

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنۡهَا مَحِيصٗا﴾ [النساء:121]


فأولئكَ المغْرورُون، أولياءُ الشَّيطان، مَصيرُهمُ النار، لابُدَّ لهمْ منها، ولا خَلاصَ لهمْ منها ولا مَخْرَج.

﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ وَعۡدَ اللَّهِ حَقّٗاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلٗا﴾ [النساء:122]


والذينَ آمَنوا باللهِ ورَضُوا بدينِه، وأتْبَعُوا إيمانَهمْ بالأعمالِ الصالحةِ ونفَّذوا ما أُمِروا بهِ مِنَ الخَيرات، نُدخلُهمْ جنّاتٍ تَجري مِنْ تحتِها الأنهار(28)، معَ خُلودٍ دائم، وهذا وعدٌ منَ اللهِ لأوليائهِ قائمٌ لا مَحالة، وليسَ هناكَ أصدقُ منَ اللهِ قولاً وخَبَراً.

(28) أي: أنهارُ الماءِ واللبنِ والخمرِ والعسل. (روح البيان).

﴿لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا﴾ [النساء:123]


في حَديثٍ مُرْسَلٍ بإسنادٍ صَحيح، أنَّهُ احتَجَّ المسلِمونَ وأهلُ الكتاب، فقالَ المسلِمون: نحنُ أهدَى منكم، وقالَ أهلُ الكتاب: نحنُ أهدَى منكم. فأنزلَ اللهُ الآية.

ليسَ الأمرُ كما تَمنَّيتُمْ أيُّها المسلِمون، ولا كما تَصَوَّرتُمْ يا أهلَ الكتاب، فإنَّ كلَّ مَنْ يَعمَلُ ذَنْباً سوفَ يُحاسَبُ عليه، إنْ عاجِلاً أو آجِلاً، فالعِبرةُ بالطَّاعةِ والعَمل، لا بالتَحَلِّي والتمَنِّي. وإنَّ الذي يَعمَلُ السُّوءَ مُتجاوِزاً بذلكَ الحدودَ التي وضَعها الله، فلنْ يجدَ مَنْ يُدافعُ عنه، أو يُنجيهِ مِنْ عذابهِ إذا حلَّ به.

والمقصودُ ما كانَ كلُّ دينٍ في وقتِه، أمّا بعدَ بعثةِ رسولِ اللهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فلا دينَ سِوَى الإسلام.

وفي تَتمَّةِ الحديثِ السابقِ مِنْ سَببِ النـزول، أنَّ المسلمينَ غَلبوا أهلَ الكتابِ في حُجَّتهم، بالآيةِ التالية.

والعمومُ في الآيةِ مُخَصَّصٌ بالتوبة، وبمَنْ يَتفضَّلُ اللهُ بالعفوِ عنه.

وفي صَحيحِ مسلمٍ قَولُ أبي هُرَيرَةَ رَضيَ اللهُ عنه: لمَّا نزَلَت: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} بلَغَتْ مِنَ المسلِمينَ مَبلَغًا شَديدًا، فقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قارِبوا وسَدِّدُوا، فَفي كُلِّ ما يُصابُ بهِ المسلِمُ كَفَّارَة، حتَّى النَّكبَةِ يُنْكَبُها، أو الشَّوكَةِ يُشَاكُها".

قالَ الإمامُ النوَويُّ في شَرحِ حديثِ الباب: فيهِ تَكفيرُ الخَطايا بالأمراضِ والأسقامِ ومَصائبِ الدُّنيا وهُمومِها، وإنْ قُلتَ مَشَقَّتها، وفيهِ رَفعُ الدرَجاتِ بهذهِ الأمورِ وزيادَةُ الحسَنات...

وقالَ في مَعنَى "قارِبوا": أي اقتَصِدوا فلا تَغْلُوا ولا تَقْصُروا بلْ توَسَّطوا. وسَدِّدوا: أي اقصِدوا السَّداد، وهوَ الصَّواب. اهـ.

ويَكونُ مَعنى الآيَةِ هُنا: مَنْ يَعمَلْ سُوءًا يُجْزَ بهِ إنْ عاجِلاً أو آجِلاً، فأمَّا مُجازاةُ الكافِرِ فالنَّار، وأمَّا المؤمِنُ فيُجازَى في الدُّنيا غالِبًا، بما يُصيبُهُ مِنْ مرَضٍ وحُزنٍ وضِيقٍ وغَيرِه، فمَنْ بَقيَ لهُ سُوءٌ إلى الآخِرَةِ فهو في المَشيئة، يَغفِرُ اللهُ لمَنْ يَشاء، ويُجازي مَنْ يَشاء.

﴿وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ الصَّـٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ الۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا﴾ [النساء:124]


ومَنْ يَعملِ الأعمالَ الصالحةَ مِنْ عِباده، ذُكوراً أو إناثاً، معَ الإيمانِ الصَّحيح، فأولئكَ يَدخُلونَ الجنَّةَ جزاءَ أعمالِهم، ولا يُنقَصُونَ شَيئاً مِنْ ثوابِها، ولو كانَ شَيئاً قليلاً جدّاً، حتَّى لو كان مثلَ الخيطِ الذي في شِقِّ النَّواة.

﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا﴾ [النساء:125]


وليسَ هناكَ أحسنُ وأحكمُ منَ المسلمِ الذي أخلصَ العملَ لربِّه، فلمْ يَعرِفْ سِواهُ ربًّا، ولم يَبتَغِ بعملهِ سِوَى وجهِه، وهوَ مُحسِن، يَعملُ الحسَنات، فيأتي بالأعمالِ الصَّالحةِ على هَدْي منَ الدِّين، وبإخلاص، وهما ميزانُ قَبولِ الأعمال، مُتَّبِعاً بذلكَ مِلَّةَ أبيهِ إبراهيم، الموافِقَةِ لدينِ الإسلام، المتَّفَقِ على صِحَّتها، ومُتَّبعو مِلَّتهِ همْ أمَّةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وقدِ اتَّخذَ اللهُ إبراهيمَ خَليلاً، والخُلَّةُ أرفَعُ مَقاماتِ المَحَبَّة، وما ذاكَ إلاّ لكثرةِ طاعتهِ لربِّه، وتَنفيذِ جميعِ ما أُمِرَ به، فلم يَشْغَلْهُ شيءٌ عنِ استجابةِ نداءِ ربِّه، صَغيراً كانَ أو كبيراً، حتَّى صارَ إماماً يُقتدَى به، وتَوصَّلَ إلى غايةِ ما يَتَقرَّبُ بهِ العباد.

﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٖ مُّحِيطٗا﴾ [النساء:126]


وجميعُ ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلْكُ اللهِ وعَبيدُه، وهوَ حاكمُهمْ ومُدَبِّرُ أمرِهم، وعِلمُهُ مُحيطٌ بكلِّ شَيء، لا يَخفَى عليه شَيءٌ مِنْ ذلكَ مهما دَقَّ وصَغُر.

﴿وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي النِّسَآءِۖ قُلِ اللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي الۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى النِّسَآءِ الَّـٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ الۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِالۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا﴾ [النساء:127]


ويَطلُبونَ منكَ أيُّها الرسُولُ بيانَ ما أشْكلَ مِنْ أحكامٍ في حقِّ النساء، فقُلْ لهم: إنَّ اللهَ يُبيِّنُ لكمْ حُكْمَهُ فيهنّ هُنا، وفيما يتُلَى عليكمْ في هذا القُرآنِ ممّا سَبق {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء...} [النساء : 3]، وهوَ في النِّساءِ اليتيماتِ اللَّواتي تحتَ تربيتِكم، وتَرغَبونَ في التزوُّجِ بهنَّ بعدَ أنْ بَلغْنَ ولا تُعطُونهنَّ صُدُقَهُنَّ مثلَ النِّساءِ الأُخَر، أو لا تَرغَبونَ في نِكاحِهنَّ ولكنَّكمْ تُمسِكوهنَّ في البيوتِ ولا تُزَوجوهُنَّ لآخَرينَ لتستَفيدوا مِنْ أموالِهنَّ التي عندَكم، أو حتَّى تَرِثوها منهنَّ بعدَ وفاتِهنّ! فقد كانَ هذا في الجاهليَّةِ ونَهاكمُ الله عنه.

وكذا الصِّغارُ منَ البنينَ والبنات، لكلٍّ سَهمُهُ في الميراث، ولا يَحِلُّ مَنعُهمْ منَ الميراثِ كما كانَ الأمرُ في الجاهليَّة.

واعدِلوا في أمرِ اليتامَى الذينَ عندَكم، فوفُّوهُمْ حقوقَهمُ الكاملةَ في المهورِ والمواريثِ والمَعيشة... وما تَفعلوا في حُقوقِهمْ مِنْ خيرٍ بحسَبِ ما أُمِرتُم به، فإنَّ اللهَ عليمٌ بجميعِ ذلك، ويُجازيكمْ عليهِ أتمَّ الجزاء.

﴿وَإِنِ امۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَالصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ الۡأَنفُسُ الشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا﴾ [النساء:128]


وإذا شَعَرتِ المرأةُ باستِعلاءِ زوجِها عليها لسَببٍ منَ الأسباب، أو رأتْ نُفوراً منهُ وانصِرافاً بوجههِ عنها، أو تَجافياً عنها قياساً عمّا كانَ عليهِ مِنْ قبل، مِنْ تَقليلِ نَفقةٍ أو عَدَمِ مُؤانسةٍ ومُحادثة... فلا حرجَ عليهما أنْ يَتصالحا فيما بَينهما، كأن تُسقِطَ مِنْ حِقِّها أو بعضَه، مِنْ نَفقةٍ أو كُسوةٍ أو مَبِيت، أو تَهَبَهُ مالاً، أو تُهدِيَهِ ما يُناسبهُ ويُحِبُّه، مِنْ هذا القَبيلِ ومِنْ غيرِه، ممّا يَجلُبُ لهما المحبَّةَ ويُعِيدُ إليهما المعاشَرةَ الطيِّبة، والصلحُ في هذا خيرٌ منَ الفُرقةِ وسُوءِ العِشرةِ والخُصُومة.

وقدْ جُعِلَتْ نفوسُ البشرِ مَطبوعةً على البُخلِ معَ الحِرص، فلا تَكادُ المرأةُ تَسمحُ بحقوقِها للرَّجُل، ولا الرَّجُلُ يَكادُ أنْ يَتنازلَ لها عنْ حُقوقِه، وهذا يَستَدعي الشِّقاقَ والطَّلاق. فإذا شَحَّ الرَّجُلُ بحقوقهِ استَمالتْهُ المرأة، وإذا شَحَّتْ هي استَمالَها هو، حتَّى يَجدا مَكاناً للصُّلحِ والاتِّفاقِ والمعاشرةِ الطيِّبة.

وإنْ تُحسِنوا في العِشرةِ وتَبتعِدوا عن النُّشوزِ والإعراض، وتَصبِروا على مُراعاةِ الحقوقِ الزوجيَّةِ دونَ اللُّجوءِ إلى قَطعِ حُقوق، فإنَّهُ منَ الإحسانِ والتقوَى الذي يَعلمُ اللهُ بهِ وبمقاصدِكمْ فيه، فيُجازيكمْ بهِ ويُثيبُكمْ عليهِ خَيراً.

﴿وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ النِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَالۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء:129]


ولا تَقدِرونَ على إقامةِ العَدلِ بينَ الزوجاتِ مِنْ جَميعِ الوجوهِ ولو بالَغتُمْ في تَحرِّيه، فإنَّهُ لا بُدَّ مِنَ التفَاوتِ في المحبَّةِ والنَّظرِ والمؤانسَة...، فإذا مِلتُمْ إلى واحدةٍ مِنهنَّ فلا تُبالِغوا في ذلك، ولا تَظلِموا الأخرَى فتَمنَعُوها حقَّها، حتَّى لا تَتركوها كالمعلَّقةِ، فلا هيَ ذاتُ زَوجِ ولا هيَ مُطَلَّقة!

فإذا أصلحتُمْ أمورَكمْ وابتَعدتُمْ عن الميلِ الذي نَهاكمُ اللهُ عنه، وعَدَلتُمْ فيما أمرَكمُ اللهُ بهِ منَ القِسمة، وخَشِيتُمُ اللهَ فيما تأتونَ وما تَذَرون، فإنَّهُ يَغفِرُ ما مضَى منكمْ منْ مَيلٍ وظُلم، تَفضُّلاً منهُ ورَحمَةً بكم.

﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ اللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ اللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمٗا﴾ [النساء:130]


فإذا ضاقَ ما بينَهما ولم يَجدا مَوضِعاً للصُّلحِ وتَفرَّقا، فقدْ أغنَى اللهُ كلاًّ منهما عنِ الآخَرِ بغِناهُ وقُدرتِه، وجَعلَ لكلٍّ منهما نَصيباً آخَر، وهوَ غَنيٌّ واسِعُ الفضلِ عَظِيمُ المَنّ، حَكيم فيما يَحكمُ ويُقَدِّر.

﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۚ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدٗا﴾ [النساء:131]


وللهِ ملكُ السَّماواتِ والأرض، وهَو الحاكمُ فيهما، فلا يَتعَذَّرُ عليهِ شَيءٌ ممّا يُريدُ منهما، ممّا يَخُصُّ أحوالَ الزَّوجَينِ وغيرَها.

وقدْ أمَرْنا الذينَ أوتوا الكتابَ بتقوَى اللهِ وطاعتهِ كما أمَرْناكمْ بها يا أهلَ القُرآن، فإنْ تُعرِضوا عمّا وصّاكمُ اللهُ بهِ وتَكفُروا، فإنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَيءٌ مِنْ إعراضِكم، كما لا يَنفَعُهُ شيءٌ مِنْ شُكرِكمْ وتَقواكُم، فهوَ مالكُ السَّماواتِ والأرضِ وما بينَهما، وهوَ غَنيٌّ عنْ خَلْقِهِ وعبادتِهم، مَحمودٌ في ذاتِه، إنْ حَمِدوا أو كَفَروا.

﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء:132]


اللهُ خالِقُ السَّماواتِ والأرضِ ومالِكُهُما ومُعدِمُهما، ولهُ مُطلَقُ التصرُّفِ فيهما، وكلُّ ما فيهما مُحتاجٌ إليه، فَقيرٌ إلى غِناه، وكفَى بهِ شَهيداً أنَّ الكلُّ عَبيدُه، وهوَ المتَكفِّلُ بأمورِهم، فلا يُطلَبُ إلاّ منه، ولا يُتوَكَّلُ إلاّ عليه.

﴿إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأۡتِ بِـَٔاخَرِينَۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرٗا﴾ [النساء:133]


إنْ يُردِ اللهُ أنْ يُذهِبَكمْ أيُّها الناس، أهلكَكُمْ وأتَى بآخَرينَ مكانَكم، يَكونونَ خَيراً منكمْ وأطوَعَ في الالتزامِ بأوامرِ اللهِ وأحكامِ شَرعِه، وما ذلكَ بمُمتَنعٍ على الله، فهوَ قادرٌ على ما يَشاء، لا يُعجِزهُ شَيءٌ ممّا يُريد.

﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنۡيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا﴾ [النساء:134]


مَنْ كانَ يُريدُ بعَملهِ مَغنماً دُنيويًّا لا يَتجاوَزُه، فإنَّ لدَى اللهِ ما يُعطيهِ لعِبادهِ مِنْ منافعِ الدُّنيا إضافَةً إلى ما هوَ أكبرُ وأنفَع، وأهَمُّ وأدوَم، وهوَ ثوابُ الآخِرة، وهوَ لمنْ آمنَ وأحسَن، فمنْ سألَهُ منهما أعطَاه، ومنِ اقتصرَ على الدُّنيا حَرَمَهُ الآخِرة، كالمنافِقينَ الذينَ أظهَروا الإيمانَ ليَنالوا مَغنَماً معَ المسلِمين، والكافِرينَ الذينَ همُّهمْ ما في الدُّنيا، لأنَّهمْ لا يؤمِنونَ بالآخِرَة. واللهُ يَسمَعُ دعاءَ النَّاس، بَصيرٌ بما يَطلبونَه، مُطَّلِعٌ على غَرَضِهمْ في ذلك.

﴿۞يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِالۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ الۡوَٰلِدَيۡنِ وَالۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَاللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ الۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا﴾ [النساء:135]


أيُّها المؤمِنون، كونُوا عادِلينَ في أمورِكمْ دائماً، لا يَصْرِفْكمْ عنِ العَدلِ صارِف، وابتَغُوا بذلكَ وجهَ الله، لا غَرَضاً دُنيويًّا ومَصلحةً شَخصيَّة، سواءٌ كانَ قيامُكمْ بالعدلِ أو قولُكمُ الحقَّ لصالِحِكُمْ أو لغيرِ صالِحِكُم، فإنْ كانَ الأوَّلُ فذاك، وإنْ كانَ الثاني فقد جعلَ اللهُ لكمْ مَخرَجاً وعوَّضكمْ خَيراً.

وحتَّى لو كانتِ الشهادةُ على الوالدَينِ والقَرابة، فإنَّ الحقَّ حَقّ، يَحكمُ على كلِّ أحَد، ويُقَدَّمُ على كلِّ شَيء.

ولو كانَ الذي عليهِ الحقُّ غَنيًّا أو فَقيراً، فإنَّ القولَ العَدْلَ والشَّهادةَ المُنصِفةَ لا تُراعِي غَنيَّاً لِماله، ولا تُشفِقُ على فَقيرٍ لحالِه، واللهُ يتَولَّى شأنَهما ويَنظرُ في حالِهما بعدَ ذلك، فكِلوا أمرَهما إلى اللهِ تعالَى.

ولا يَحملنَّكم غَرَضٌ ما في نُفوسِكمْ إلى المَيلانِ نحوَ الباطلِ والعُدولِ عنِ الحقّ، فإذا حرَّفتمُ الشَّهادة، وأبطَلتمُ الحقَّ في أمورِكم، وتَركتُمْ إقامةَ العَدلِ، فإنَّ اللهَ عليمٌ بعملِكمُ الآثمِ هذا، مُطَّلعٌ على ما غيَّرتُموهُ وأبطَلتُموه، وسَوفَ يُجازيكمْ على ذلكَ سُوءَ الجزاء.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَالۡكِتَٰبِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَالۡكِتَٰبِ الَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِاللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا﴾ [النساء:136]


أيُّها المؤمِنون، آمِنوا واثبُتوا على إيمانِكم، وداومُوا عليهِ وأخلِصوا فيه، آمِنوا باللهِ الواحِد، وبرسولهِ محمَّدٍ خاتمِ أنبيائه، وبالقُرآنِ الذي أنزلَهُ عليه، وبكلِّ كتابٍ أنزلَهُ مِنْ قَبلِه. ومَنْ يَكفُرْ بأركانِ الإيمان: بالله، وملائكتِه، وكتبِه، وأنبيائهِ ورسلِه، ويومِ القيامة، والقَضاءِ والقَدر، فقدِ ابتعدَ عنِ الحقِّ ابتِعاداً كُليًّا، وخَرجَ عنْ طريقِ الهِداية، وكانَ منْ أهلِ الغِوايةِ والضَّلال.

﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا﴾ [النساء:137]


إنَّ الذينَ آمَنوا، ثمَّ ارتدُّوا، ثمَّ رجَعوا إلى الإيمان، ثمَّ عادُوا إلى الكُفرِ وازدَادوا ضَلالةً فيه، وأصَرُّوا على كُفرِهمْ واستمرُّوا عليهِ حتَّى ماتوا، فإنَّ اللهَ لا يَغفِرُ لهم، ما أقاموا على ذلك، ولا يَهديهمْ إلى طَريقِ الحقّ، وقدْ آثَروا الضَّلالَ على الهُدَى بعدَ أنْ عَرفُوا الحقَّ جيِّداً وتَركوهُ عنْ قَصد، بلْ تلاعَبوا بالإيمانِ الحقِّ واستَخفُّوا به، فكانَ جزاءَهمْ ما ذُكِر.

﴿بَشِّرِ الۡمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء:138]


إنَّ هذا مِنْ شَأنِ المنافِقين، المتلاعِبينَ بالدِّين، فبِشِّرْهُمْ إذاً بما يَسوؤهم، بَشِّرْهُمْ بعَذابٍ شَديدٍ مُوجع، ونارٍ تأتي على أفئدتِهم، معَ خلودٍ دائمٍ في العَذاب.

﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ الۡمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ الۡعِزَّةَ فَإِنَّ الۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا﴾ [النساء:139]


إنَّ المنافِقينَ اتَّخَذوا الكفّارَ أولياءَ يَبتغونَ منهمُ العونَ والسَّندَ والظَّفَر، ولا يَتَّخِذونَ المؤمنينَ أولياءَ لهم، على الرغمِ مِنْ أنَّهمْ يُظهِرُونَ أمامَهمُ الإسلام، ولكنَّهمْ يُظهِرُونَ حقيقةَ ما في قلوبِهمْ عندَ أنصارِهمُ الكافِرينَ بأنَّهمْ منهم، يوالُونهم، ويُسِرُّونَ إليهمْ بالمودَّة.

فهلْ يُريدونَ بموالاتِهمْ لهمُ القوَّةَ والمَنَعةَ والظُّهورَ على المسلِمين؟ فإنَّ الغَلبةَ والقُوَّةَ والقُدرةَ للهِ وحدَه، يُعطيها مَنْ شاء، ويَمنَحُها لأولِيائه. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة المنافقون: 8]. فالتَجِئوا إلى اللهِ العزيزِ أيُّها المسلِمون، فهوَ ناصرُكمْ ومانحُكمُ القوَّة، والمنافقونَ في ضَلالٍ مُبِين.

﴿وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي الۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الۡمُنَٰفِقِينَ وَالۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء:140]


وقدْ سبقَ أنْ نَزَّلَ اللهُ عَليكمْ في القُرآنِ أنَّكمْ إذا كنتُمْ في مَوضِعٍ أو عندَ ناسٍ يَكفُرونَ بآياتِ القُرآنِ الكريمِ ويَستهزِؤونَ بها فلا تُجالِسوهم، حتَّى يَدخلوا في حَديثٍ غَيرِه، في قولهِ تعالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [سورة الأنعام: 68]. وإذا كانَ هذا لا يَجوز، فكيفَ بموالاتِهمْ والاعتِزازِ بهم؟!

فإنْ رَضيتُمْ بالجُلوسِ معهمْ وهمْ يَكفُرونَ بآياتِ اللهِ ويَستهزِؤونَ بها ويَنتَقِصونَ منها، وأقررتُموهمْ على ذلك، فقدْ شاركتُموهمْ في الكُفر.

ويَجمعُ اللهُ المنافِقينَ والكافِرينَ جَميعاً في نارِ جهنَّمَ خالدينَ فيها، كما اشترَكوا على الكفرِ ووالَى بعضُهم بَعضاً في الدُّنيا، ليَذوقوا العَذابَ المُهين، والنَّكالَ المُقيم.