تفسير سورة النساء

  1. سور القرآن الكريم
  2. النساء
4

﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ اللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ الۡمُؤۡمِنِينَۚ فَاللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِۚ وَلَن يَجۡعَلَ اللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى الۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء:141]


إنَّ هؤلاءِ المنافِقينَ يَنتظِرونَ وقوعَ أمرٍ بكم، ولا يُريدونَ لكمُ الخَير، فإذا رأوا ظَفَراً وغَنيمةً تودَّدوا إليكمْ وقالوا: ألم نَكنْ على دينِكمْ ونُسانِدْكمْ في الجِهاد؟ فاجعَلوا لنا نَصيباً منَ الغَنيمة.

وإنْ كانَ للكافرينَ حظٌّ منَ الاستِيلاءِ والغَلبةِ قالوا لهم: ألم نَتعاونْ مَعكم، بالكفِّ عنْ قَتلِكمْ وأسْرِكم، وبتَخذيلِ المسلِمينَ عنكم، وإطلاعِكمْ على أسرارِهم، ودفعِهمْ عنكمْ ما استَطعنا، حتَّى انتَصرتُمْ عليهم؟

ويَحكمُ اللهُ بينَ أهلِ الإيمانِ وأهلِ النفاقِ يومَ الحِساب، يومَ عرضِ الأعمالِ على الله، فيُثيبُ أولياءَه، ويُعاقِبُ أعداءَه.

ولنْ تَكونَ هُناك حُجَّةٌ للكافِرينَ يَغلِبوا بها المسلِمين، في الدُّنيا والآخِرَة، فالحقُّ معهمْ في الدُّنيا إنْ غَلَبوا، وفي الآخِرَةِ عندَما يَحكمُ اللهُ بينَ عبادِه، ولا يَقبَلُ منهمْ سِوَى دينِ التوحِيد.

أو أنَّ المقصودَ بالقسمِ الأخيرِ منَ الآية: لنْ يَجعلَ اللهُ للكافرينَ سَبيلاً مُطلقاً على المسلِمين، بأنْ يَقضُوا عليهم. ولكنَّ الحربَ سِجالٌ والدُّنيا دُوَل.

﴿إِنَّ الۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [النساء:142]


إنَّ المنافِقينَ يَفعلونَ ما يَفعلُ المخادِع، فيُظهِرونَ الإيمانَ ويُضمِرونَ نَقيضَه، وهمْ يَظنُّونَ – بجهلِهمْ - أنَّ أمرَهمْ هذا سيرُوْجُ حتَّى عندَ الله، العالمِ بالسرائرِ والضَّمائر، ولكنَّ اللهَ يَستدرِجُهمْ في طُغيانِهمْ وضَلالِهم، وهوَ فاعِلٌ بهمْ ما يَفعلُ الغالِبُ في الخِداع، فهوَ إنْ تركَهمْ مَعصومِي الدِّماءِ والأموالِ بينَ المسلِمينَ لتَظاهُرهمْ بالإسلام، فقدْ أعدَّ لهمْ في الآخِرَةِ الدرْكَ الأسفلَ منَ النار، بعدَ فضحِهمْ وإظهارِ شأنِهم.

ومِنْ صفاتِهمْ أنَّهمْ إذا قامُوا إلى خَيرِ شَعيرةٍ في الإسلام، وهوَ الصَّلاة، قامُوا إليها مُتثاقِلينَ مُتباطِئين، يُصَلُّونَها بلا نيَّةٍ ولا خَشية، ولا فَهمٍ ولا رَغبة، ولا إيمانٍ ولا إخلاص، إنَّما يَفعَلونَ ذلك ليَراهمُ الناسُ وهمْ يُصلُّونَ ليَحسَبوهمْ مُسلِمين. فهمْ في صَلاتِهمْ ساهونَ لاهون، لا يَدرونَ ما يَقولون، ولا يَذكرونَ الله إلاّ زَماناً قليلاً.

﴿مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا﴾ [النساء:143]


إنَّهمْ مُتحَيِّرونَ ومُتأرجِحونَ بينَ الكُفرِ والإيمان، ومُترَدِّدونَ بينَ الكافِرينَ والمؤمِنين، فلا همْ مَنسُوبونَ إلى المؤمنين حَقيقةً لإضمارِهمُ الكُفر، ولا همْ يُظهرونَ الكُفرَ ليُقالَ إنَّهم كفّار، بلْ ظاهِرُهمْ معَ المؤمنينَ وباطنُهمْ معَ الكافِرين. ومَنْ يَصْرِفْهُ اللهُ عنِ الهُدَى، ويُضْللْهُ عنْ سَبيلِ النجاة، فلنْ تَجدَ لهُ هَادياً ومُنقِذاً، لعدمِ استعدادهِ للهدايةِ والتوفيق، ولصرفِ نفسهِ عنِ الحقِّ والصَّواب.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ الۡمُؤۡمِنِينَۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينًا﴾ [النساء:144]


أيُّها المؤمِنون، لا تَتشبَّهوا بالمنافِقينَ فتتَّخِذوا منَ الكافِرينَ أولياءَ لكمْ تَصحبونَهمْ وتُصادِقونهم، وتُناصِحونَهمْ وتُوادُّونَهم، وتُفشونَ أسرارَ المسلِمينَ إليهم، أتُريدونَ بذلكَ حُجَّةً ظاهرةً للهِ عليكمْ ليعاقبَكمْ عليها ويُعَذِّبَكمْ لأجلِها؟

﴿إِنَّ الۡمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرۡكِ الۡأَسۡفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا﴾ [النساء:145]


فإنَّ مصيرَ المنافِقينَ هوَ أسفلُ النَّارِ وأدنَى درَكاتِ جهنَّم، وهوَ قَعْرُها، ولنْ تَجِدَ لهمْ يومئذٍ مَنْ يُنقِذُهمْ منْ حالِهمْ أو يُخَفِّفُ منْ عَذابِهمُ الشَّديد.

﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَاعۡتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخۡلَصُواْ دِينَهُمۡ لِلَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَعَ الۡمُؤۡمِنِينَۖ وَسَوۡفَ يُؤۡتِ اللَّهُ الۡمُؤۡمِنِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:146]


إلاّ مَنْ تابَ منهمْ وآب، ونَدِمَ على ما فات، وأصلحَ بالإيمانِ ما أفسدَهُ بالكُفر، واعتصمَ بحبلِ ربِّهِ وتمسَّكَ بكتابِه، وبدَّلَ بالرياءِ الإخلاصَ، فلم يُرِدْ بطاعتهِ سِوَى وجهِ ربِّه، فأولئكَ سَيكونونَ في زُمرةِ المؤمِنينَ يومَ القيامة، وسَوفَ يُعطيهمُ اللهُ - كما يُعطي المؤمِنين - الثوابَ الكبير، والدَّرَجاتِ العاليةَ في الجنَّة.

﴿مَّا يَفۡعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا﴾ [النساء:147]


ولا يعذِّبُكمُ اللهُ إلاّ لرفضِكمْ ما شَرعَهُ لكم، ولنْ يُعَذِّبَكمْ ما دمتُمْ مُؤمنينَ صالحينَ شاكرين، والله يُثِيبُ على الشُّكر، فيَشكرُ لمَنْ شَكرَ له، عليمٌ بقُلوبِ مَنْ آمن، فيُجازيهمْ على ذلكَ أوفرَ الجزاء.

﴿۞لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الۡجَهۡرَ بِالسُّوٓءِ مِنَ الۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء:148]


لا يُحِبُّ اللهُ أنْ يُعْلِنَ أحدٌ عنْ أحدٍ سُوءاً إلاّ إذا ظُلِم. كأنْ يدعوَ على ظالِمه، أو يَشتكيَ عليهِ فيُبيَّنَ سوءَ ما ظَلمَهُ به. وكانَ اللهُ سميعاً لكلامِ الظَّالمِ والمَظلوم، عالِماً بحالِهما.

﴿إِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا﴾ [النساء:149]


وإذا أظهَرتُمْ خَيراً أو أخفَيتُموه، أو عَفوتُمْ عَمَّنْ أساءَ إليكم وأنتُمْ قادِرونَ على مؤاخَذتِه، فإنَّ اللهَ يَعفو عنِ العُصاةِ معَ قدرتهِ على عِقابهم، فكيفَ لا تَعفُونَ أنتمْ معَ ضَعفِكم؟ فاعفُوا واصفَحوا ليُجزِلَ اللهُ لكمُ الثواب.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا﴾ [النساء:150]


إنَّ الذينَ تَقودُهمْ مذاهبُهمْ وآراؤهمْ إلى الكُفرِ باللهِ ورسلِه، وهمْ يَقولونَ إنَّهم مؤمِنون، ويُريدونَ أنْ يُفَرِّقوا في هذا الإيمان، فيؤمِنونَ باللهِ ويكفُرونَ برُسُلِه، ويَقولون: نؤمِنُ ببَعضِ الأنبياءِ ونَكفرُ ببعضِهمُ الآخَر، كاليهودِ الذينَ لم يُؤمِنوا بنُبوَّةِ عيسى ونُبوَّةِ محمَّدٍ عليهمُ الصلاةُ والسَّلام، والنَّصارَى الذينَ آمَنوا بالأنبياءِ ولم يؤمِنوا بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ويُريدونَ أنْ يَتَّخِذوا بينَ الإيمانِ والكفرِ مَسلَكاً يَسلُكونَه، معَ أنَّ الإيمانَ لا يَختلِف، والحقَّ لا يَتعدَّد.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا﴾ [النساء:151]


فهؤلاءِ كفرُهمْ مُحَقَّق، ولا عِبْرَةَ بما ادَّعَوا منْ إيمانٍ وسَلكوا مِنْ مَسْلَك، وقدْ هيَّأنا(29) لهؤلاءِ الكافِرينَ وأمثالِهمْ عَذاباً مُذِلاًّ، جَزاءَ كفرِهمُ الذي ظنُّوا بهِ عِزَّة.

(29) {أَعْتَدْنَا} معناه: هيَّأنا وقدَّرنا. والتاء في {أَعْتَدْنَا} بدلٌ من الدالِ عند كثيرٍ من علماءِ اللغة، وقالَ كثيرٌ منهم: التاءُ أصلية، وأنه بناءٌ على حدة، هو غيرُ بناءِ (عَدّ). وقالَ بعضهم: إن (عَتد) هو الأصل، وأن (عدّ) أُدغمتْ منه التاءُ في الدال، وقد وردَ البناءان كثيراً في كلامهم وفي القرآن. (التحرير والتنوير).

﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ أُوْلَـٰٓئِكَ سَوۡفَ يُؤۡتِيهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء:152]


والذينَ آمَنوا باللهِ وبجَميعِ رسُلِه، كأمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، الذينَ يؤمِنونَ بجَميعِ الأنبياء، ولم يُفَرِّقوا بينَ أحدٍ منهمْ كما فعلَهُ آخَرون، مِنَ الإيمانِ ببَعضِهم والكُفرِ ببعضِهمُ الآخَر، فأولئكَ - المؤمنونَ - سوفَ يُعطِيهمُ اللهُ ثوابَ أعمالِهمْ كامِلاً ويَزيدُهمْ مِنْ فضلِه، وهوَ غَفورٌ يَغفِرُ ذنوبَ المؤمِنينَ التائبين، ويَرحَمُهم، فيضاعِفُ لهمُ الأجر.

﴿يَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ الۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ السَّمَآءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا اللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡهُمُ الصَّـٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ الۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا﴾ [النساء:153]


يسألُكَ أهلُ الكتابِ ممَّنْ فَرَّقوا بينَ الرُّسُل، أنْ تُنَـزِّلَ عليهمْ كتاباً مِنَ السَّماء، جُملةً واحِدةً وبخَطٍّ سماويّ، كشَأنِ التَّوراة، وقدْ سألوا ذلكَ على سَبيلِ التعنُّتِ والعِناد، والكُفرِ والإلحاد، كما سألَ كفّارُ قُرَيشٍ قبلَهم نظيرَ ذلك: {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93]، فلا تَهتَمَّ بهمْ وبمطالبِهمُ المُغرِضةِ هذه، فقدْ سَألوا موسَى أكبرَ منْ هذا وأعظَم؛ عِناداً لا استِرشاداً، فقالوا: نُريدُ أنْ نرَى اللهَ جَهاراً أمامَنا! فعاقَبهمُ اللهُ بصَاعقةٍ مِنْ نارٍ أهلَكتْهُم؛ بطُغيانِهم وبَغْيهم، وعنادِهم وتعنُّتِهم. ثمَّ صَاروا يَعبُدونَ العِجل، على الرغمِ ممّا جاءَهمْ نبيُّهمْ موسَى بالمُعجِزاتِ الباهِرَةِ والأدلَّةِ الواضِحة، الدالَّةِ على أُلوهيَّةِ اللهِ سُبحانَهُ ووَحدانيَّتِه. وعَفَونا عنهمْ بعدَ أنْ تابوا.

وقد أعطَينا موسَى حجَّةً بيِّنةً تُظهِرُ صِدْقَ نُبوَّتِه. وهيَ الآياتُ التِّسع.

﴿وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمۡ وَقُلۡنَا لَهُمُ ادۡخُلُواْ الۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُواْ فِي السَّبۡتِ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا﴾ [النساء:154]


ورفَعنا فوقَ رؤوسِهمْ جبلَ الطورِ ليُعطُوا ميثاقَهمْ بقَبولِ شَريعةِ التَّوراة، فلمّا رأوهُ كالظُّلَّةِ فَوقَهمْ خافوا أنْ يقعَ عليهم، فوافَقوا وعاهَدوا.

وقُلنا لهمْ على لسَانِ نبيِّهمْ موسَى: إذا دخلتُمْ بابَ بيتِ المَقدِسِ فادخُلوا سَاجِدينَ خاضِعين. فلم يَفعلوا، بلْ عانَدوا وخالَفوا ودخَلوا زاحِفينَ على أُستاهُم!

ووصَّيناهمْ بأنْ لا يَظلِموا أنفُسَهمْ باصطيادِ الحيتانِ في يَومِ السَّبت.

وأخَذنا منهمْ على الامتِثالِ بهذهِ الأوامرِ عَهداً شَديداً ووَعداً مؤكَّداً، وإلاّ عَذَّبهمُ الله. فخالَفوا وعَصَوا، وتَحايلوا على ارْتِكابِ المعاصي...

﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ الۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [النساء:155]


فبمُخالفتِهمْ ونَكثِهمْ عهودَهمْ ومَواثيقَهمُ التي ائتُمِنوا عليها، وكفرِهمْ بالمعجِزاتِ والحُجَجِ الدالَّةِ على صِدْقِ أنبيائهِ، وقَتلِهمُ الأنبياءَ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ بغَيرِ حَقّ، كزكريّا ويَحيَى عَليهما السَّلام. وقولِهمْ للنبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: قلوبُنا مُغَلَّفةٌ لا يَصِلُ إليها كلامُكَ ولا تَعِيه! بلْ هيَ مَختومةٌ بالكُفر، ومَطبوعٌ عليها بالصدِّ عنِ الحقِّ والإيمان، حتَّى صارتْ مَحجوبةً عنِ العِلم، كالبَيتِ المُظلمِ الذي لا يَدخلُهُ النور، فلا نافذةَ فيهِ ولا باب، فلا يُؤمنونَ إلاّ إيماناً قليلاً، كالإيمانِ بنبوَّةِ موسَى عليهِ السَّلام، على أنَّ الإيمانَ ببعضِ الأنبياءِ دونَ آخَرينَ يُعَدُّ كُفراً.

﴿وَبِكُفۡرِهِمۡ وَقَوۡلِهِمۡ عَلَىٰ مَرۡيَمَ بُهۡتَٰنًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:156]


وبكفرِهمْ بعيسَى عليهِ السَّلام، وقولِهمْ على أمِّهِ مريمَ كذباً وزُوراً عَظيما، فقدْ رَمَوها بالزِّنا، وهيَ الصِّدِّيقَةُ التي فضَّلَها اللهُ على نِساءِ العالَمين!

﴿وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا الۡمَسِيحَ عِيسَى ابۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا﴾ [النساء:157]


وقولِهمْ في فَخرٍ وتَبَجُّح، عليهمْ لَعائنُ الله: إنّا قَتَلنا هذا الذي يُدعَى المَسيح، عيسى بنَ مريم. ولكنَّ الحقَّ أنَّهمْ لم يَقتُلوهُ ولم يَصلُبوه، كما يَدَّعون، ولكنْ ألقَى اللهُ الشِّبْهَ على رجلٍ منهم، فظَنُّوهُ عيسى، فقَتلوه، وهؤلاءِ الذينَ ظنُّوا أنَّهمْ قَتلوهُ في شكٍّ وحَيرةٍ منْ ذلك، فهمْ أنفسُهمْ غيرُ متأكِّدينَ منْ ذلك، بل همْ مُترَدِّدون، ومتَّبِعونَ الظنّ، لا علمَ حَقيقيٌّ عندَهم بذلك. وما قَتلوا عيسَى يَقيناً.

﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيۡهِۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا﴾ [النساء:158]


بلْ رفعَهُ اللهُ إليه. واللهُ عَزيزٌ لا يُغالَبُ إذا أرادَ شيئاً، مَنيعٌ إذا انتَقم فلا يُمنَع، حَكيمٌ فيما يَفعلُ ويُدَبِّر.

﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَيَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا﴾ [النساء:159]


وليسَ هناكَ أحدٌ مِنْ أهلِ الكتابِ إلا ويؤمِنُ بإنسانيَّةِ عيسى عليهِ السلامُ ونبوَّتِه، قبلَ أنْ تَزْهَقَ روحُه، يَعني عندَ الاحتِضار، فتَنكشِفُ لهُ الحَقيقَة، ولكنْ لا يَنفعُ الإيمانُ في ذلكَ الوقت، لكونهِ مُلحَقاً بالبَرْزَخ.

ويَكونُ عيسَى عليهِ السَّلامُ شهيداً على أهلِ الكتابِ يومَ القيامة، بما شاهدَهمْ عليهِ في الحياةِ الدُّنيا، أي قبلَ رَفعهِ وبعدَ نزولِه، فيَشهدُ أنَّهُ بَلَّغَهمُ الرسالة، وأقرَّ بالعبوديَّةِ لنفسِه، ويَشهدُ على اليَهودِ بأنَّهمْ كذَّبوا رسالتَه، وعلى النَّصارَى بمنْ صدَّقَهُ ومنْ كذَّبَه.

﴿فَبِظُلۡمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرٗا﴾ [النساء:160]


فبسبَبِ ظُلمِ اليَهودِ وما ارتَكبوهُ مِنْ ذُنوبٍ عَظيمة، كالكُفرِ بآياتِ الله، وعِبادَةِ العِجل، وعَداوةِ الرُّسُل، وقَتلِ الأنبياء، وبُهتانِهمْ على مَريم... حرَّمنا عليهمْ أطعمةً طيِّبةً كانتْ حَلالاً لهم، وبسبَبِ صَرفِ أنفسِهمْ وآخَرِينَ عنْ دِينِ اللهِ الحقِّ مرّاتٍ كثيرَة.