﴿وَإِذَا جَآءُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالۡكُفۡرِ وَهُمۡ قَدۡ خَرَجُواْ بِهِۦۚ وَاللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكۡتُمُونَ﴾ [المائدة :61]
وإذا جاءَكمُ المنافِقونَ صَانَعوكمْ وطوَوا على الكفرِ قلوبَهم، وقالوا بألسنتِهم: نحنُ مؤمِنون. والحقيقةُ أنَّهمْ دَخلوا إليكمْ كافرِين، وخَرجوا كافرِين، فلمْ يَنتفِعوا بمجالستِكم، ولم يَعزِموا على السَّماعِ منكم، واللهُ أعلمُ بما يُضمِرونَهُ في سَرائرِهم.
﴿وَتَرَىٰ كَثِيرٗا مِّنۡهُمۡ يُسَٰرِعُونَ فِي الۡإِثۡمِ وَالۡعُدۡوَٰنِ وَأَكۡلِهِمُ السُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة :62]
وترَى كثيراً مِنْ أولئكَ اليهودِ يُبادِرونَ إلى عَملِ الشرّ، فيَقترِفونَ المآثمَ والمُنكَرات، ويَعتدونَ على الناسِ بأنواعِ الظُّلمِ والمكرِ والخِيانة، ويَأكلونَ الرِّشا ليُحِلُّوا الحرام، فما أسوأ ما يَتعاطون، وما أنكرَ ما يَفعلون.
﴿لَوۡلَا يَنۡهَىٰهُمُ الرَّبَّـٰنِيُّونَ وَالۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ الۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ السُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ﴾ [المائدة :63]
فهلاّ نَهاهُمْ عنْ هذهِ الأعمالِ الشَّنيعةِ علماءُ اليهودِ والنَّصارَى، ووعَظوهمْ بالكفِّ عنِ الكذِبِ والافتِراء، والامتناعِ عنْ أكلِ المالِ الحرام؟ فإنَّ هذهِ وظيفتُهمْ ليُبصِّروا الناسَ بما يَجهلونَهُ مِنْ حلالٍ وحرام. فبئسَ ما يُقْدِمونَ عليه، وبئسَ ما همْ عليهِ قائمون.
﴿وَقَالَتِ الۡيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ الۡعَدَٰوَةَ وَالۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا اللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي الۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [المائدة :64]
وقالتِ اليَهود: إنَّ يدَ اللهِ بَخيلة - تعالَى اللهُ عنْ ذلك -. بَخِلَتْ نفوسُهمْ وأمسَكتْ أيديهمْ عنْ فعلِ الخيرات، فهمُ المعرُوفونَ بالبُخلِ والحسَدِ والجُبْن، والذلَّةِ والصَّغار، ولعنَهمُ اللهُ وطردَهمْ مِنْ رحمتهِ بما تَلفَّظوهُ مِنْ كلامٍ في جانبِ اللهِ خالقِهمُ العَظيم، ورازقِهمْ ورازقِ الأحياءِ في الكونِ كلِّه، فيَداهُ مَبسوطتانِ بالعَطاء، فهوَ ذو فَضلٍ عَميمٍ وعَطاءٍ جَزيل، لا تَنْفَدُ خزائنُه، يُنفِقُ كما يَشاء، مِنْ توسيعٍ على عبادٍ له، أو تَضييقٍ في الرزقِ على آخَرينَ منهم، وما قالوهُ هنا هوَ مِنْ كفرِياتِهم، وسوفَ يَزيدونَ عليها ويَتمادَونَ فيها، فيَكفرونَ بآياتٍ أخرَى تَنـزِلُ عليك، فيزدادونَ بذلكَ تَكذيباً وكُفراً على كفرِهم.
وألقَينا بينَ بعضِهمُ البعضِ عداواتٍ وأحقاداً، فصاروا فِرَقاً وجماعاتٍ لا تَكادُ تَتوافَقُ قلوبُهمْ ولا تَتَّحِدُ كلمتُهم؛ لكثرةِ اختلافِهمْ وخُصوماتِهمْ وجدالِهمْ في دينِهم، فصاروا مُتباغِضينَ مُتخاصِمين، وسيَكونُ هذا شأنَهمْ إلى يومِ القيامة.
وكلَّما أرادوا أنْ يَكيدوك، أو يُشعِلوا حرباً ضدَّ المسلِمين، بأساليبِهمُ الخبيثةِ ومكرِهمُ السيِّئِ وفتنَتِهمْ بينَ الأقوامِ والجماعات، أطفأها الله، فردَّ كيدَهمْ وقهرَهم، ونصرَ نبيَّهُ ودينَه. وهذا مِنْ سَجيَّتهمْ، فإنَّ شأنَهمُ الإفسادُ في الأرض، بالكيدِ لأهلِ الحقّ، وإثارةِ الشرِّ والفِتنة، وإيقادِ نيرانِ الحروب، واللهُ يَبغَضُ هذهِ الصفاتِ وأهلَها، ويَجزيهمْ على ذلكَ سُوءَ العَذاب.
﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ الۡكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوۡاْ لَكَفَّرۡنَا عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأَدۡخَلۡنَٰهُمۡ جَنَّـٰتِ النَّعِيمِ﴾ [المائدة :65]
ولو أنَّ أهلَ الكتابِ منَ اليهودِ والنَّصارَى آمَنوا باللهِ ورَسولِه، وابتَعدوا عمّا نُهوا عنهُ منَ المحرَّماتِ والمآثِم؛ لغفَرنا لهمْ ذنوبَهمُ التي اقتَرفوها، ولأدخَلناهُمْ جنّاتِ اللهِ الدائمَة، يَتنعَّمونَ فيها سُعداءَ خالدين.
﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ التَّوۡرَىٰةَ وَالۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة :66]
ولو أنَّ أهلَ الكتابِ أقامُوا أحكامَ التوراةِ والإنجيلِ كما أُنزِلتْ مِنْ غيرِ تَحريفٍ ولا تَبديل، ومِنْ ذلكَ مبشِّراتُ بعثةِ الرسُولِ محمَّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم، وما أُنزِلَ إليهمْ منْ ربِّهمْ مِنْ كتُبٍ على أنبياءِ بَني إسرائيل، ففيها كذلكَ البِشارةُ بهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم.
أو أنَّ المقصودَ الإيمانُ بالقُرآنِ الكريم، لو فَعلوا ذلكَ لوسَّعَ اللهُ لهمْ في الرِّزق، فنَـزلتْ عليهمُ السَّماءُ بالمطَر، وأخرَجتْ لهمُ الأرضُ النَّباتَ والثَّمَر.
ومِنْ أهلِ الكتابِ طائفةٌ آمنَتْ برسالةِ الإسْلام، وتابَعتِ النبيَّ محمَّداً صلى اللهُ عليه وسلم، وكثيرٌ منهمْ مُتعَصِّبونَ ومُعانِدونَ مُكابِرون، يُحَرِّفونَ الحقَّ ويُعرِضونَ عنه، فما أسوأ عملَهم، وما أخيبَ أملَهم!
﴿۞يَـٰٓأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَاللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ النَّاسِۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [المائدة :67]
أيُّها الرسُولُ الكريم، المبعوثُ إلى العالَمين، أوصِلْ إلى النَّاسِ جميعَ ما أنـزلَهُ اللهُ إليك، فإذا لم تُوصِلِ الرسَالةَ التي أُرسِلْتَ بها إليهمْ فما بلَّغت.
وقدْ أدَّى الرسُولُ عليه الصلاةُ والسلامُ الأمانةَ التي اؤتمنَ عليها أتمَّ أداء، وما كتمَ شيئاً، كما جاءَ في حديثِ عائشةَ الصحيح.
واللهُ يَحفَظُكَ مِنْ أعدائك، فلا أحدَ يَقدِرُ على قَتلِكَ أو مدِّ يدِ السُّوءِ إليك، فاهتمَّ بأمرِ التَّبليغ، ولا تَخَفْ ولا تَحزن، واللهُ يَهدي مَنْ يَشاء، ويُضِلٌّ مَنْ يَشاء، ولنْ يَجِدَ الكفّارُ سبيلاً إلى الهِداية، ما داموا أغلَقوا عُقولَهمْ وقلوبَهمْ عنْ سَماعِ الحقِّ وإرادةِ اتّباعِه.
وفي حديثٍ حَسن، أنَّ اللهَ تعالَى لمّا أنـزلَ {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، أخرجَ الرسولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ رأسَهُ منَ القُبَّة، وقالَ لمنْ يَحرُسه: "أيُّها النَّاس، انْصِرفوا، فقدْ عَصَمني الله".
وقدْ أسلمَ في عَصرِنا أحَدُهم، أو بعضُهم، لمّا اطَّلعَ على هذا، وقالَ في سَببِ إسلامِه: إذا كانَ محمَّدٌ يَكذِبُ على النَّاس، فإنَّهُ لا يَكذِبُ على نفسهِ ولا يُعَرِّضُها للخطَرِ بصرفِ الناسِ عنْ حراستِه، وقدْ عاشَ بعدَ ذلكَ ولم يُقتَل، فصحَّ أنهُ نبيّ.
﴿قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ الۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ التَّوۡرَىٰةَ وَالۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۖ فَلَا تَأۡسَ عَلَى الۡقَوۡمِ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [المائدة :68]
وقلْ يا نبيَّ الله: يا أهلَ الكتابِ منَ اليهودِ والنَّصارَى، لستُمْ على شَيءٍ منَ الحقِّ، ولا على صَحيحٍ منَ الدِّين، حتَّى تُحافِظوا وتُراعُوا ما في التوراةِ والإنجيلِ مِنْ أمورٍ وأحكامٍ دونَ تحريفٍ ولا تَبديل، ومِنْ ذلكَ البِشارةُ بمبعَثِ خاتَمِ الأنبياءِ محمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلَّم، وحتَّى تؤمِنوا بالقُرآنِ الذي أُنْزِلَ عليه، وإنَّ ما أنزَلَ اللهُ عليكَ مِنْ حقٍّ يا نبيَّ الله، سوفَ يَزيدُ كثيراً منَ الكفّارِ كُفراً وبُعداً عنِ الحقّ، لعدمِ قبولِهمْ به؛ لعِنادِهمْ ومكابرَتِهم، فلا تَحزَنْ عليهمْ ولا تَتحسَّرْ على هلاكِهمْ وعَذابِهم، فإنَّ هذهِ نتيجةُ مَنْ رضيَ بالضَّلالِ لنفسِه، وهمُ الذينَ جَنَوا على أنفسِهم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّـٰبِـُٔونَ وَالنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ [المائدة :69]
إنَّ المسلِمين، واليهود، والصابئة، والنَّصارَى، مَنْ آمنَ منهمْ بالله، وبالمعادِ والجزاءِ يومَ القيامَة، وعملَ صالحاً، ولا يَكونُ العملُ صالحاً إلا بموافَقتهِ للدِّينِ وإخلاصهِ للهِ تعالَى، فلا خوفٌ عَليهم - لمنْ توفَّرتْ فيهِ هذهِ الصِّفاتُ- يومَ يَخافُ الكافِرونَ ممّا يَستقبِلونَه، ولا همْ يَحزنونَ حينَ يَحزنُ المقصِّرونَ على ما فاتَهمْ مِنْ ثَواب.
والمقصودُ كلٌّ في وقتِه، ولا يُقبَلُ دِينٌ منْ أحدٍ بعدَ الإسلام سِوَى دينِ الإسلام.
﴿لَقَدۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمۡ رُسُلٗاۖ كُلَّمَا جَآءَهُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُهُمۡ فَرِيقٗا كَذَّبُواْ وَفَرِيقٗا يَقۡتُلُونَ﴾ [المائدة :70]
لقدْ أخَذنا العهودَ والمواثيقَ على بَني إسْرائيل، وبَعَثنا فيهمْ أنبياءَ وأرسلنا إليهمْ رُسلاً، يُذَكِّرونَهمْ بها ويُخَوِّفونَهمْ نقضَها، ليسمَعوا ويُطيعوا ويأتمِروا بما أُنـزِلَ إليهم، ومِنْ ذلكَ العهدُ الذي أخذَهُ أنبياؤهمْ عليهم، منَ الإيمانِ بالنبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ولكنْ كلَّما جاءَهمْ رسولٌ بما لا يوافِقُ أهواءَهمُ الزائغَة، وآراءَهمُ الفاسِدة، صارَ فريقٌ منهمْ يُكذِّبونَهمْ ويُخالفونَهم، وآخَرونَ منهمْ يَقتلونَهم!
﴿وَحَسِبُوٓاْ أَلَّا تَكُونَ فِتۡنَةٞ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيۡهِمۡ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٞ مِّنۡهُمۡۚ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة :71]
لقدْ ظنَّ كثيرٌ مِنْ بَني إسْرائيلَ أنَّهُ لنْ يَترَتَّبَ على مَواقفِهمُ السيِّئةِ منَ الأنبياءِ شرٌّ وفَساد، وأنَّ اللهَ لا يُحاسِبُهمْ عليها، ولا يُصيبُهمْ منها بلاءٌ وعَذاب، فتَمادوا في الغَيِّ والفَساد، وصَاروا لا يَسمعونَ حقًّا ولا يَهتدونَ إليه، ثمَّ تابَ اللهُ عَليهمْ حينَ تابوا ورجَعوا عمّا كانوا عليهِ منَ الفَساد، ثمَّ ازدادوا ضَلالاً وغَيّاً وأغلَقوا منافذَ التفكُّرِ وسَماعِ صوتِ الحقِّ في نُفوسِهم، وعَادوا إلى الفَسادِ وقَتلوا الأنبياء، واللهُ مُطَّلعٌ عليهم، وعالِمٌ بما عَمِلوا، وسيُحاسِبُهمْ أشدَّ الحِساب.
﴿لَقَدۡ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الۡمَسِيحُ ابۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ الۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ اعۡبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِاللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيۡهِ الۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ النَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ﴾ [المائدة :72]
لقدْ كفرَ مَنْ قالَ مِنَ النَّصارَى إنَّ اللهَ هوَ المسيحُ بنُ مريم، وقدْ قالَ المسيحُ نفسُه: يا بَني إسْرائيل، اعبُدوا اللهَ وحدَه، فهوَ ربِّي وربُّكم، ونحنُ جميعاً عَبيدٌ لله، وإنَّ مَنْ يُشرِكْ بهِ في عبادتهِ فقدْ حرَّمَ عليهِ دُخولَ الجنَّة، وأوجبَ لهُ النَّار. وقدْ ظَلموا بإشراكِهمْ وكفرِهمْ هذا وعَدَلوا عنْ طريقِ الحقّ، ولنْ تَجِدَ لهؤلاءِ الظَّالمينَ مُعيناً ولا ناصِراً يُنقِذُهمْ منْ عَذابِ اللهِ وعُقوبتهِ المقدَّرةِ عليهم.
﴿لَّقَدۡ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ وَإِن لَّمۡ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة :73]
لقدْ كفرَ منهمْ كذلكَ مَنْ قالَ إنَّ اللهَ إلهٌ معَ إلهينِ آخَرينِ هما عيسى وأمُّهُ مريم، وقالتْ طوائفُ أخرَى غيرَ ذلك. والحقُّ أنَّهُ ما منْ إلهٍ إلاّ الله، فهوَ وحدَهُ المعبودُ بحقّ، الذي لا شَريكَ لهُ ولا شَبيه، وهوَ إلهُ الكون، وربُّ جميعِ الكائنات، مُحييها ورازِقُها ومُميتُها، وليسَ هناكَ آلهةٌ مِنْ جنسِ البشَر، وعيسى وأمُّهُ كانوا منَ البشَرِ يأكلانِ الطعام.
وقدْ ظَهرتْ فِرقةٌ منَ النصارَى يُقالُ لها "المريميُّون" في القرنِ السادسِ الميلادي، تقولُ بأُلوهيَّةِ مريمَ أيضاً!
فإذا لم يَنتَهِ النَّصارَى منْ هذا الكذِبِ والافتِراءِ على اللهِ ربِّ العالمين، فإنَّهُ يُصيبُ الذينَ كفَروا منهمْ عذابٌ مؤلمٌ موجِع، ونارٌ تأتي على أفئدتِهم.
وقدْ خصَّ اللهُ الكافِرينَ منهمْ بالعَذاب، لعلمهِ أنَّ بعضَهم يؤمِنون.
﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسۡتَغۡفِرُونَهُۥۚ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [المائدة :74]
أفلا يتوبُ النَّصارَى مِنْ هذا الإفكِ العَظيمِ، ويَستَغفِرونَهُ منْ هذا القَولِ الأثيم، ويَعودونَ إلى القَولِ الحقّ؟ هلاّ انتهَيتُمْ ممّا نَسبتُموهُ إلى ربِّكمْ وتُبتُمْ إليهِ ليتوبَ عليكم، ويمنحَكمْ مِنْ فَضلهِ ورحمتِه؟
﴿مَّا الۡمَسِيحُ ابۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ الطَّعَامَۗ انظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الۡأٓيَٰتِ ثُمَّ انظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ﴾ [المائدة :75]
والمسيحُ عيسَى بنُ مريمَ ما هو إلا عبدٌ رَسَولٌ وليسَ بإله، وقدْ سبقَهُ رسلٌ منْ أمثالهِ كانوا بشَراً كذلك، ولم يَكونوا آلهة. وإذا كانَ أُوتيَ مُعجِزاتٍ خارِقة، فإنَّ مَنْ سبقَهُ منَ الرسُلِ كذلكَ أُوتوا مُعجِزاتٍ خارِقة، وإذا كانَ قدْ خُلِقَ منْ غيرِ أب، فإنَّ هناكَ مَنْ خُلِقَ منْ دونِ أبٍ ولا أمّ، وهوَ آدمُ عليه السَّلام، ولم يَكنْ إلهاً.
وأمُّهُ مريمُ كذلكَ كسائرِ النِّساء، كانتْ وليَّةً طاهرة، مؤمِنةً بابنِها نبيًّا ورَسُولاً، مُصَدِّقةً لهُ فيما يُبَلِّغُ عنْ ربِّه، ولم تكنْ إلهة. وكانَ كلاهما يَجوعانِ ويَعيشانِ بالغِذاءِ كسائرِ الآدَميين، ويَتخلَّصانِ منْ فَضلاتِهما كما يَتخلَّصُ منها البشَر. فكيفَ يجوعُ الإلهُ ويَهلِكُ إذا لم يأكل؟ وكيفَ يَتغوَّطُ الإله؟! بلْ هذهِ كلُّها صفاتُ آدميِّينَ كما تُرَى.
فانظرْ كيفَ نُبيِّنُ لهمُ الأدلَّةَ والحُجَج، والبراهينَ المُقنِعةَ الواحِدةَ تِلْوَ الأخرَى، وانظرْ بعدَها كيفَ يَنصرِفونَ عنِ الحقّ، وعلى أيِّ مذهبٍ ضالٍّ يُقيمون؟!
﴿قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗاۚ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [المائدة :76]
قلْ أيُّها النبيُّ للمشرِكينَ وأهلِ الكتابِ منَ العابدينَ غيرَ الله: أتَعبدونَ مِنْ دونِ اللهِ ما لا يَقدِرُ على ضُرِّكمْ ولا إيصَالِ النفعِ إليكم، واللهُ خالقُكمْ وخالِقُهم، الذي يَجِبُ أنْ يُعبَدَ وَحدَه، وهوَ الذي يَنَفَعُ ويَضُرُّ ويُجازي على الأعمال، والجماداتُ المعبودةُ لا تَنطِقُ ولا تَسمعُ حتَّى تَضُرَّ وتَنفَع، والأناسيُّ لا يَقدِرونَ على النَّفعِ والضُّرِّ إلا إذا شاءَ الله، وهوَ وحدَهُ الذي يَتصرَّفُ في الكونِ كلِّهِ كما يَشاء، ولا يَقدِرُ أحَدٌ على أنْ يَمنعَهُ منْ ذلك، فلا نَفعَ ولا ضَررَ إلاّ منه، فلهُ وحدَهُ يجبُ أنْ تكونَ العبادة. وهوَ الذي يَسمعُ أقوالَ كلِّ عبادِه، ويَعلمُ جميعَ أحوالِهم.
﴿قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ الۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ غَيۡرَ الۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوٓاْ أَهۡوَآءَ قَوۡمٖ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرٗا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة :77]
قلْ أيُّها النبيّ: يا أهلَ الكتابِ منَ اليهودِ والنَّصارَى، لا تَتجاوزوا الحدَّ في أمرِ دينِكم، لا علوًّا ولا تَقصيراً، فإنَّ تَجاوزَ الحدِّ مَذمُوم، وكذا التقصيرُ فيه، فليسَ المسيحُ عيسى إلهًا كما يدَّعي النصارَى، ولا هو ابنُ زانيةٍ كما يدِّعي اليهود، بلْ هوَ عبدُ اللهِ ورسولهُ الكريم، وأمُّهُ صِدِّيقةٌ طاهِرة. ولا توافِقوا المذاهبَ الباطلةَ التي ابتدَعها شيوخُ الضَّلالةِ منْ أسلافِكم، الذينَ انحرَفوا وابتعَدوا عنِ الحقِّ والصَّواب، وأضلُّوا كثيراً منْ أتباعِهم، نَتيجةَ خُروجِهمْ عنْ طريقِ الاستقامةِ والاعتدالِ إلى طَريقِ الشِّركِ والضَّلال.
﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ابۡنِ مَرۡيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ﴾ [المائدة :78]
لعَنَ اللهُ الذينَ كفَروا منْ بَني إسْرائيلَ على لِسانِ نبيِّ اللهِ داودَ في الزَّبور، وعلى لسانِ نبيِّ اللهِ عيسى بنِ مريمَ في الإنجيل، ولعنُهمْ هوَ طَردُهمْ منْ رحمةِ الله، بسبَبِ عِصيانِهمْ ومخالفتِهم، واعتدائهمْ على خَلقِ الله.
﴿كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ﴾ [المائدة :79]
كانَ بَنو إسْرائيلَ إذا فَعلوا مُنكراتٍ وارتَكبوا مآثِم، لا يَنهَى بعضُهمْ بَعضاً عنها، ولا يَعِظُونَهمْ بتركِها، مثلَ أكلِ الِّربا، وأخذِ الرشْوة، وقَبولِ أثمانِ الشُّحوم، وغيرِ ذلك. فما أسوأ فعلَهم، وما أنكرَ صَنيعَهم.
﴿تَرَىٰ كَثِيرٗا مِّنۡهُمۡ يَتَوَلَّوۡنَ الَّذِينَ كَفَرُواْۚ لَبِئۡسَ مَا قَدَّمَتۡ لَهُمۡ أَنفُسُهُمۡ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَفِي الۡعَذَابِ هُمۡ خَٰلِدُونَ﴾ [المائدة :80]
وترَى كثيراً منَ اليهودِ يوالُونَ المشرِكينَ والمنافِقين، ويَنتَصرونَ لهمْ ويُقَوِّونهمْ ضدَّ دينِ الإسلام، فما أسوأ عملَهم، وما أتعسَ ما قدَّموا منْ عَملٍ لمعادِهمْ يومَ حِسابِهم، فقدْ جلَبوا بذلكَ غضبَ اللهِ وسُخْطَهُ عليهم، وسيُدخلُهمْ بذلكَ النَّار، ويُخَلِّدهمْ فيها تَخليداً.