تفسير سورة الأنعام

  1. سور القرآن الكريم
  2. الأنعام
6

﴿بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ [الأنعام:101]


اللهُ موجِدُ السَّماواتِ والأرضِ مِنْ غَيرِ مادَّةٍ أو أصلٍ مَوجودٍ سابقاً، ومُبدِعُهما على غَيرِ مِثالٍ سابق، فلا نظيرَ لهما.

وكيفَ يَكونُ لهُ ولَدٌ ولم تَكنْ لهُ زَوجة، والولَدُ يَكونُ مُتَولِّداً مِنْ شَيئينِ مُتناسِبَين، ولا مناسِبَ لله، ولا شَيبهَ له، فلا ولَدَ له، وهوَ الخالقُ الذي أوجدَ الكونَ ومَنْ فيه، مِنْ والِدٍ ووَلَد، وهوَ عَليمٌ بكلِّ شَيءٍ عِلماً تامّاً، أزَلاً وأبَداً، مَخلوقاً كانَ ذلكَ الشَّيءُ أمْ لم يَكنْ مَخلوقاً.

﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ فَاعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ﴾ [الأنعام:102]


ذلكمُ اللهُ ربُّكم(35)، مالِكُ أمرِكم، الواحِدُ الذي لا شَريكَ له، خالِقُ كلِّ شَيء، ممّا كانَ وسيَكون، فاعبُدوهُ ولا تُشرِكوا بهِ شَيئاً، فهوَ وحدَهُ المستَحِقُّ للعِبادة، وهوَ الحفيظُ والرَّقيبُ على كلِّ الأشياء، يَعرِفُ أحوالَها ويُدَبِّرُ شُؤونَها، ويتولَّى جَميعَ أمورِها.

(35) {ذَلِكُمُ} أي: ذلكَ الموصوفُ بتلكَ الصفاتِ العظيمةِ أيها المشركون، {اللهُ}: المستحقُّ للعبادةِ خاصَّة... (روح البيان).

﴿لَّا تُدۡرِكُهُ الۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ الۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الۡخَبِيرُ﴾ [الأنعام:103]


لا تَراهُ العُيونُ في الدُّنيا وإنْ كانتْ تَراهُ في الآخِرَة، وهوَ يُحيطُ بها ويَعرِفها على حَقيقَتِها، لأنَّهُ خالِقُها. وهوَ الرَّفيقُ بعبادِه، الرحيمُ بأوليائه، الخبيرُ بهم.

﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ﴾ [الأنعام:104]


قدْ جاءَتْكمْ آياتٌ واضِحاتٌ وحُجَجٌ باهِراتٌ مِنْ عندِ الله، بلَّغَكمْ إيّاها رَسُولهُ في القُرآنِ والسنَّة، فمنْ وعَى وآمنَ فلنَفسهِ تعودُ الفائدة، ومَنْ أغمضَ عَينيهِ عنها وأغلقَ قلبَهُ فلمْ يأبَهْ بها، فعلى نَفسهِ تَعودُ الخَسارة، قلْ لهم: لستُ حافظاً عليكمْ ولا رَقيباً على أعمالِكم، بلِ اللهُ يحفَظُها عليكم ويُجازيكمْ عليها، وإنَّما أنا مبلِّغٌ نَذير.

﴿وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الۡأٓيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ﴾ [الأنعام:105]


وكذلكَ نُورِدُ الأدلَّةَ والبراهينَ الواحدةَ تلوَ الأخرى، بوجوهٍ مُختَلِفَة، وفي مَواطنَ عدَّة، وليَقولَ المشرِكونَ إثرَ ذلك: إنَّكَ قرأتَ وتعلَّمتَ مِنْ أهلِ الكتاب. ويبيِّنُ اللهُ ذلكَ لمنْ يَعلمُ الحقَّ فيتَّبعونَه، والباطلَ فيَجتَنِبونَه، فسُبحانَ مَنْ هَدَى بآياتهِ هؤلاء، وضلَّ بها أولئك، وهوَ المَلِكُ العَدْل.

﴿اتَّبِعۡ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ وَأَعۡرِضۡ عَنِ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [الأنعام:106]


فاتَّبِعْ أيُّها النبيُّ ما أوحَى اللهُ إليكَ منَ الحقِّ الذي لا رَيبَ فيه، ودُمْ عليهِ واعمَلْ به، لا مَعبودَ يَستَحقُّ إخلَاصَ العِبادةِ لهُ إلا الله، ولا يَشْرَعُ إلا هو، ومَنْ أرسلَهُ وأذِنَ لهُ بذلك، ولا تَعتدَّ بأقاويلِ المشرِكينَ الباطِلَةِ ولا تَلتفِتْ إلى أذاهُم، فالحقُّ معَك.

﴿وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشۡرَكُواْۗ وَمَا جَعَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗاۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِوَكِيلٖ﴾ [الأنعام:107]


ولو شاءَ اللهُ ألاّ يُشرِكوا لمـَا أشرَكوا، فلهُ تعالَى المشيئةُ والحِكمةُ فيما يَشاؤهُ ويَختارُه. ولو عَلِمَ منهمْ اختيارَ الإيمانِ لهَداهُمْ إليه.

وما جَعلناكَ أيُّها النبيُّ رَقيباً عليهمْ تَحفَظُ أعمالَهمْ وأقوالَهم، ولستَ وكيلاً عليهمْ فتُجبِرَهمْ على الإيمان، ولا قائماً على أرزاقِهمْ وتَدبيرِ مصالِحهم، فهذا أمرهُ إلى الله، وما عليكَ إلاّ البَلاغ.

﴿وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام:108]


ولا تَشتُموا المشرِكين وأصنامَهم؛ لأنَّهُ يترتَّبُ عليهِ مَفسدَةٌ أكبرُ منَ الفائدةِ المرجوَّةِ منها، فيَسبُّوا اللهَ ربَّ العالمين؛ تَجاوزاً عنِ الحقِّ إلى الباطِلِ وجَهلاً منهم، فهمْ لا يَعلمونَ أنَّهمْ يسبُّونَ اللهَ العَظيم، خالِقَهمْ وخالِقَ الكونِ كلِّه.

وقدْ قالَ المشرِكونَ لرَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: يا محمَّد، لتَنتَهِينَّ عنْ سبِّكَ آلهتِنا، أو لنَهجُوَنَّ ربَّك. فنَزَلتِ الآية.

ومِثْلُ هذا التَّزيينِ الذي زيَّناهُ للمُشرِكين، بحبِّ أصنامِهمْ والدفاعِ عنها، زيَّنا لكلِّ قومٍ عملَهمُ الذي ارتَبطوا بهِ وتَفانَوا فيهِ منْ خَيرٍ وشَرّ، فهذا ما أرادُوهُ أصْلاً وتَعلَّقوا به، ثمَّ إنَّ رُجوعَهمْ ومَصيرَهمْ إلى مالكِ أمرِهم، فيُخبِرُهمْ بما كانوا عليه، ويُجازِيهمْ على ذلك، ثَواباً أو عِقاباً.

﴿وَأَقۡسَمُواْ بِاللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا الۡأٓيَٰتُ عِندَ اللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنعام:109]


وحَلَفَ المشرِكونَ حَلِفاً مؤكَّداً أنَّهمْ إذا جاءَتهمْ مُعجِزةٌ كما اقترَحوها، ليُصَدِّقُنَّها ويؤمِنُنَّ بها. وقدْ سبَقَتْ مُعجِزاتٌ لهُ صلى الله عليه وسلَّم فلمْ يؤمِنوا بها، فكانَ غرضَهمُ التعنُّتُ والعِنادُ، لا الهدايةُ والإيمانُ كما قالوا، فقلْ لهمْ أيُّها النبيُّ: إنَّما المُعجِزاتُ والخوارِقُ منْ عندِ الله، إنْ شَاءَ أتَى بها وإنْ شَاءَ أمسَكَها، وليسَ لي منَ الأمرِ شَيء، فلا أقدِرُ على الإتيانِ بها مِنْ عندي. وأنتُمْ - أيُّها المؤمنونَ - ما يُدريكمْ لعلَّ المعجِزاتِ إذا جاءَتهمْ لا يُؤمِنونَ بها، فلا تُصَدِّقوهمْ ولو حَلَفوا.

﴿وَنُقَلِّبُ أَفۡـِٔدَتَهُمۡ وَأَبۡصَٰرَهُمۡ كَمَا لَمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَنَذَرُهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ﴾ [الأنعام:110]


ونحوِّلُ قُلوبَ المشرِكينَ عنْ إدراكِ الحقِّ فلا يَفهمَونَه، وعيونَهمْ عن إبصارِها فلا يرونَه، تماماً كما رفَضوا الإيمانَ بالآياتِ والمعجِزاتِ الواضِحاتِ الدالَّةِ على صِدقِ نبوَّةِ رَسولِنا أوَّلَ مرَّة، فهي القُلوبُ نفسُها التي أبَتْ أنْ تَستَجيبَ للحقّ، وما زالتْ تُعانِدُ وتُخاصِمُ بعدَ كلِّ رَغبةٍ ورَهبة، وبعدَ كلِّ إيضاحٍ ومَحَجَّة، فهمُ الذينَ ظَلموا أنفُسَهمْ ورَضُوا بالكُفرِ والضَّلال، وعَلِمَ اللهُ فيهمْ هذا العزمَ والتوَجُّه، فتركَهمْ في كُفرِهمْ وضَلالِهمْ يَتردَّدونَ مُتَحيِّرين.

والمتابعُ للحوارِ والجدالِ معَ الملاحِدَةِ وأهلِ الأديانِ والفِرَق، يرَى العِنادَ واللَّجاجةَ والمخاصَمةَ مِنْ مُعظَمِهم، وإصرارَهمْ على ما همْ عليهِ منْ باطِل، فهمْ بذلكَ يَستَحِقُّونَ ما قالَ اللهُ فيهم، وما ظَلمهمُ اللهُ ولا أجبَرهمْ على ذلك، بلْ هذا هوَ توجُّههمْ واستعدادُهمُ الذي رَضُوهُ لأنفسِهم، فليَكونوا كذلكَ كما رَغِبوا.

﴿۞وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَآ إِلَيۡهِمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ كُلَّ شَيۡءٖ قُبُلٗا مَّا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَجۡهَلُونَ﴾ [الأنعام:111]


ولو أنَّنا أجَبنا على اقتراحِهمْ بإنزالِ مُعجِزةٍ، بلْ أكثرَ ممّا سألوا، فأنزلنا ملائكةً تُصَدِّقُ النبيَّ المرسَل، وبَعثنا أمواتاً منَ القُبورِ تُكلِّمهمْ وتُخبِرهمْ بصدقِ الرسُولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم وصحَّةِ التَّوحيد، وجمَعنا عليهمْ كلَّ شيءٍ يُمكِنُ أنْ يَشهدَ بصِدقِ هذهِ الرِّسالة، مواجَهةً وعِياناً، وجماعاتٍ وأفواجاً، لمَا تَركوا ما همْ عليهِ منَ الكُفر، ولمَا آمَنوا بالرِّسالةِ المحمَّدية، إلاّ أنْ يَشاءَ اللهُ ذلك، فالهِدايةُ إليهِ لا إليهم.

ولكنَّ أكثرَهمْ يَجهلونَ سبَبَ عدمِ إيمانِهمْ عندَ مجيءِ الآيات.

قال ابنُ جَريرٍ الطبريُّ رحمَهُ الله: ولكنَّ أكثرَ هؤلاءِ المشركينَ يَجهلونَ أنَّ ذلكَ كذلك، يَحسَبونَ أنَّ الإيمانَ إليهم، والكفرَ بأيديهم، متَى شاؤوا آمَنوا، ومتَى شاؤوا كَفروا، وليسَ ذلكَ كذلك، ذلكَ بيدِي، لا يُؤمنُ منهمْ إلاّ مَنْ هَديتُهُ لهُ فوفَّقتُه، ولا يَكفرُ إلاّ مَنْ خذلتُهُ عنِ الرُّشدِ فأضللتُه.

قالَ صاحبُ "الظِّلال" رحمَهُ الله: وهذا الأصلُ الذي يُقَرِّرهُ ابنُ جريرٍ هنا هوَ الصَّحيح، ولكنَّهُ يَحتاجُ إلى زيادةِ الإيضاح، باستِلهامِ مجموعةِ النُّصوصِ القُرآنيةِ عنِ الهُدَى والضَّلالة، ومشيئةِ اللهِ وجُهدِ الإنسان.

قال: مَشيئةُ اللهِ هيَ المرجِعُ الأخيرُ في أمرِ الهُدَى والضَّلال، فقدِ اقتَضتْ هذهِ المشيئةُ أنْ تَبتليَ البشَرَ بقَدْرٍ منْ حرِّيةِ الاختيار ِوالتوجُّهِ في الابتِلاء، وجُعِلَ هذا القَدْرُ مَوضِعَ ابتِلاءٍ للبشَرِ وامتِحان، فمَنِ استخدمَهُ في الاتِّجاهِ القلبيِّ إلى الهُدى والتطلُّعِ إليهِ والرَّغبةِ فيه - وإنْ كان لا يَعلمُ حينئذٍ أينَ هو - فقدِ اقتضتْ مَشيئةُ اللهِ أنْ يأخُذَ بيدهِ ويُعيْنَهُ ويَهديَهُ إلى سَبيلِه، ومَنِ استَخدمَهُ في الرَّغبةِ عنِ الهُدَى والصُّدودِ عنْ دلائلهِ ومُوحياتِه، فقدِ اقتضَتْ مَشيئةُ اللهِ أنْ يُضِلَّهُ وأنْ يُبعِدَهُ عنِ الطَّريق، وأنْ يَدَعَهُ يَتخبَّطُ في الظُّلمات. وإرادةُ اللهِ وقدَرُهُ مُحيطانِ بالبشَرِ في كلِّ حالة، ومَرَدُّ الأمرِ كلِّهِ إليهِ في النهاية. اهـ.

﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ الۡإِنسِ وَالۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ الۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ﴾ [الأنعام:112]


وكما أنَّ هناكَ أعداءً يُخالِفونكَ ويُؤذونكَ في دعوتِك، فكذلكَ جعلنا لكلِّ نبيٍّ مِنْ قَبلِكَ أعداءً يُناصِبونهمُ العَداوةَ ويُكذِّبونَهم، ويُجاهِدونَ في القَضاءِ على دَعوتِهم، مِنْ شَياطينِ الإنسِ والجِنّ، ومَرَدَتِهمْ وعُتاتِهمُ المُضلِّينَ الأشرَار، يُوَسوِسُ بعضُهمْ إلى بَعضٍ الكلامَ المزيَّنَ المزوَّقَ الباطِل؛ ليُغْرُوهُمْ بالخِداعِ والأخذِ على غِرَّة. ولو شاءَ اللهُ ما كانَ هذا ولا ذاكَ مِنْ أذًى وعَداوة، وليسَ هوَ عنْ مُصادَفة، بلْ ليَبتلي بهمْ أولياءَه، ليرَى صبرَهُمْ وقوَّةَ إيمانِهمْ وثباتَهمْ على مَبدَئهم، وما همْ بضارِّينَ إلاّ أنْ يَشاءَ الله، فدَعهُمْ وما يَكذِبون، فإنَّ اللهَ ناصرُك.

﴿وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡـِٔدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِالۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ﴾ [الأنعام:113]


ولتَمِيلَ إلى هذا القَولِ الباطِلِ قُلوبُ الكفَرةِ المشرِكين(36)، التي تُنْبِئُ عنْ حُبِّ الشَّهوات، والانحرافِ إلى ما هو خادِعٌ ومُمَوَّه، ولِيرضَوْهُ ويُحِبُّوه، ولِيكتَسِبوا ما همْ مُكتَسِبونَ منَ السَّيئاتِ والأعمالِ المشِينة، حتَّى يلقَوا جزاءَهمْ عليها.

(36) خُصَّ من صفاتِ المشركين عدمُ إيمانهم بالآخرة، فعُرِّفوا بهذه الصلةِ للإيماءِ إلى بعضِ آثارِ وحي الشّياطينِ لهم. وهذا الوصفُ أكبرُ ما أضرَّ بهم، إذ كانوا بسببهِ لا يتوخَّون فيما يصنعون خشيةَ العاقبةِ وطلَبَ الخير، بل يتَّبعون أهواءهم وما يُزيَّنُ لهم من شهواتهم، معرِضين عمّا في خلالِ ذلك من المفاسدِ والكفر، إذ لا يترقَّبون جزاءً عن الخيرِ والشرّ، فلذلك تصغَى عقولُهم إلى غرورِ الشَّياطين، ولا تصغَى إلى دعوةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والصّالحين. (التحرير والتنوير).

﴿أَفَغَيۡرَ اللَّهِ أَبۡتَغِي حَكَمٗا وَهُوَ الَّذِيٓ أَنزَلَ إِلَيۡكُمُ الۡكِتَٰبَ مُفَصَّلٗاۚ وَالَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ الۡكِتَٰبَ يَعۡلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٞ مِّن رَّبِّكَ بِالۡحَقِّۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الۡمُمۡتَرِينَ﴾ [الأنعام:114]


قلْ لهمْ أيُّها النبيّ: هلْ أطلبُ حَكَماً مُنصِفاً عالِماً غيرَ اللهِ ليَحُكمَ بَيني وبَينَكم، وهوَ الذي أنزلَ إليكمُ القُرآنَ مُبيِّناً فيه الحقَّ والباطل، والحلالَ والحرام، وغيرَ ذلكَ منَ الأحكامِ والأخبارِ والتَّوجيهاتِ بالحقِّ والعَدل، وأنتمْ أمَّةٌ أميَّةٌ لا تَعرِفونَ شَيئاً مِنْ ذلك، وأهلُ الكتابِ منَ اليهودِ والنَّصارَى يَعلمونَ أنَّ القُرآنَ مُنزَّلٌ منْ عندِ الله، لِما يَجدونَ مِنْ صفةِ ذلكَ في البِشاراتِ التي في كتُبهِم، ممّا أخبرَهمْ بهِ أنبياؤهمْ في صفةِ هذا النبيِّ ونعتِ أمَّتهِ وخبرِ القُرآن. فلا تَكوننَّ أيُّها النبيُّ منَ المتردِّدينَ في كونِهمْ يَعلمونَ ذلك.

﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [الأنعام:115]


وتمَّ كلامُ ربِّكَ(37) صِدْقاً في كلِّ ما قالَ وقرَّر، وعَدْلاً في كلِّ ما شَرَعَ وحَكَم، فكلُّ ذلكَ حقٌ لا مِرْيَةَ فيه، فلا يأمرُ سُبحانَهُ إلاّ بخَير، ولا يَنهَى إلاّ عنْ شَرّ، ولا رادَّ لقِضائه، ولا مُغيِّرَ لحُكمه، ولا خُلْفَ لوعدِه، ولا أحدَ يَقدِرُ على تَبديلِ شَيءٍ منْ كلماتهِ إلى ما هوَ أفضَل. وهوَ السَّميعُ لِما يَقولُ عِبادهُ في ذلك، العليمُ بأحوالِهمْ وما يُسِرُّونَهُ وما يُعلِنونَه، وما يُصلِحُهم.

(37) قالَ الشوكاني رحمهُ الله: المرادُ بالكلمات: العباراتُ أو متعلَّقاتُها من الوعدِ والوعيد. والمعنى أن الله قد أتمَّ وعدَهُ ووعيده، فظهرَ الحقُّ وانطمسَ الباطل. وقيل: المرادُ بالكلمةِ أو الكلمات: القرآن. (فتح القدير). والذي قالَ إن المرادَ بالكلمةِ القرآن، هو الإمام الطبري. وقالَ البغويُّ رحمَهُ الله: أرادَ بالكلماتِ أمرَهُ ونهيه، ووعدَهُ ووعيده.

﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي الۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ﴾ [الأنعام:116]


وإذا أطعتَ أغلبَ الناسِ فإنَّهمْ يَصرفونَكَ عنِ الحقِّ ويُبعِدونكَ عنِ الهُدى، ذلكَ أنَّهمْ مُقيمونَ في عَقائدِهمْ وأفكارِهمُ الشركيَّةِ والكفريَّةِ على الظنونِ والنظريّاتِ الباطِلة، الناشئةِ عنِ الجهلِ والضَّلال، فليسُوا على يَقينٍ منْ أمرِهم، بلْ همْ يَكذبونَ في دعاويهم.

﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِالۡمُهۡتَدِينَ﴾ [الأنعام:117]


واللهُ أعلمُ بَمنْ سلكَ طريقَ الضَّلالِ، وهوَ أعلمُ بمنِ اهتدَى إلى طريقِ الحقّ، ويَهدي كلاًّ إلى سَبيلِه، ويُجازيهمْ بما يَستَحِقُّون.

﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسۡمُ اللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كُنتُم بِـَٔايَٰتِهِۦ مُؤۡمِنِينَ﴾ [الأنعام:118]


فكُلوا ممّا أحلَّ اللهُ لكمْ منَ الحيَواناتِ التي ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليها عندَ ذَبحِها، فهيَ حَلالٌ لكم، وليسَ ممّا ذُكِرَ اسمُ غَيرهِ عَليها، أو ماتَ حَتْفَ أنفه، إذا كنتُمْ مُؤمِنينَ بآياتِ اللهِ المُنزَلةِ عليكم، وفيها بيانُ الحلالِ والحرام.

﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسۡمُ اللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا اضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا لَّيُضِلُّونَ بِأَهۡوَآئِهِم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِالۡمُعۡتَدِينَ﴾ [الأنعام:119]


ولماذا لا تأكلونَ ما ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليهِ عندَ ذَبحهِ وقدْ وضَّحَ لكمْ ما هوَ حرامٌ (الآيةُ 145 مِنْ هذهِ السورة) (38)، فيَكونُ ما عداهُ حَلالاً، على ما وُضِّحَ هناك، فكُلوه، إلاّ إذا اضطُرِرْتُمْ إلى أكلِ الحرام، فإنَّهُ يُباحُ لكمْ على قَدْرِ حاجتِكمْ إليه. وهناكَ كثيرٌ منَ المشرِكينَ يُضِلُّونَ الناسَ بأهوائهمُ الفاسِدة، فيُحلُّونَ الحرامَ ويُحَرِّمونَ الحلالَ مِنْ عندِهم، بغيرِ مُستَندٍ إلى علمٍ أو وَحي، كاستحلالِ الميتة، وتَحريمِ البَحِيرةِ والسَّائبة، وهوَ سُبحانَهُ أعلمُ بضَلالِ المضلِّينَ وكَذِبِ المفتَرين، المتجاوِزينَ الحقَّ إلى الباطِل، والحلالَ إلى الحرام.

(38) قولهُ تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

﴿وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُۥٓۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكۡسِبُونَ الۡإِثۡمَ سَيُجۡزَوۡنَ بِمَا كَانُواْ يَقۡتَرِفُونَ﴾ [الأنعام:120]


واترُكوا مَعصيةَ اللهِ في السرِّ والعَلن، قليلَها وكثيرَها، إنَّ الذينَ يرتَكبونَ المعاصيَ ويَكتَسبونَ الآثام، سيُعاقَبونَ على أعمالِهمْ هذهِ بما يَستحِقُّونَه.