لا تَراهُ العُيونُ في الدُّنيا وإنْ كانتْ تَراهُ في الآخِرَة، وهوَ يُحيطُ بها ويَعرِفها على حَقيقَتِها، لأنَّهُ خالِقُها. وهوَ الرَّفيقُ بعبادِه، الرحيمُ بأوليائه، الخبيرُ بهم.
فاتَّبِعْ أيُّها النبيُّ ما أوحَى اللهُ إليكَ منَ الحقِّ الذي لا رَيبَ فيه، ودُمْ عليهِ واعمَلْ به، لا مَعبودَ يَستَحقُّ إخلَاصَ العِبادةِ لهُ إلا الله، ولا يَشْرَعُ إلا هو، ومَنْ أرسلَهُ وأذِنَ لهُ بذلك، ولا تَعتدَّ بأقاويلِ المشرِكينَ الباطِلَةِ ولا تَلتفِتْ إلى أذاهُم، فالحقُّ معَك.
ولو شاءَ اللهُ ألاّ يُشرِكوا لمـَا أشرَكوا، فلهُ تعالَى المشيئةُ والحِكمةُ فيما يَشاؤهُ ويَختارُه. ولو عَلِمَ منهمْ اختيارَ الإيمانِ لهَداهُمْ إليه.
وما جَعلناكَ أيُّها النبيُّ رَقيباً عليهمْ تَحفَظُ أعمالَهمْ وأقوالَهم، ولستَ وكيلاً عليهمْ فتُجبِرَهمْ على الإيمان، ولا قائماً على أرزاقِهمْ وتَدبيرِ مصالِحهم، فهذا أمرهُ إلى الله، وما عليكَ إلاّ البَلاغ.
وقدْ قالَ المشرِكونَ لرَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: يا محمَّد، لتَنتَهِينَّ عنْ سبِّكَ آلهتِنا، أو لنَهجُوَنَّ ربَّك. فنَزَلتِ الآية.
ومِثْلُ هذا التَّزيينِ الذي زيَّناهُ للمُشرِكين، بحبِّ أصنامِهمْ والدفاعِ عنها، زيَّنا لكلِّ قومٍ عملَهمُ الذي ارتَبطوا بهِ وتَفانَوا فيهِ منْ خَيرٍ وشَرّ، فهذا ما أرادُوهُ أصْلاً وتَعلَّقوا به، ثمَّ إنَّ رُجوعَهمْ ومَصيرَهمْ إلى مالكِ أمرِهم، فيُخبِرُهمْ بما كانوا عليه، ويُجازِيهمْ على ذلك، ثَواباً أو عِقاباً.
وحَلَفَ المشرِكونَ حَلِفاً مؤكَّداً أنَّهمْ إذا جاءَتهمْ مُعجِزةٌ كما اقترَحوها، ليُصَدِّقُنَّها ويؤمِنُنَّ بها. وقدْ سبَقَتْ مُعجِزاتٌ لهُ صلى الله عليه وسلَّم فلمْ يؤمِنوا بها، فكانَ غرضَهمُ التعنُّتُ والعِنادُ، لا الهدايةُ والإيمانُ كما قالوا، فقلْ لهمْ أيُّها النبيُّ: إنَّما المُعجِزاتُ والخوارِقُ منْ عندِ الله، إنْ شَاءَ أتَى بها وإنْ شَاءَ أمسَكَها، وليسَ لي منَ الأمرِ شَيء، فلا أقدِرُ على الإتيانِ بها مِنْ عندي. وأنتُمْ - أيُّها المؤمنونَ - ما يُدريكمْ لعلَّ المعجِزاتِ إذا جاءَتهمْ لا يُؤمِنونَ بها، فلا تُصَدِّقوهمْ ولو حَلَفوا.
ونحوِّلُ قُلوبَ المشرِكينَ عنْ إدراكِ الحقِّ فلا يَفهمَونَه، وعيونَهمْ عن إبصارِها فلا يرونَه، تماماً كما رفَضوا الإيمانَ بالآياتِ والمعجِزاتِ الواضِحاتِ الدالَّةِ على صِدقِ نبوَّةِ رَسولِنا أوَّلَ مرَّة، فهي القُلوبُ نفسُها التي أبَتْ أنْ تَستَجيبَ للحقّ، وما زالتْ تُعانِدُ وتُخاصِمُ بعدَ كلِّ رَغبةٍ ورَهبة، وبعدَ كلِّ إيضاحٍ ومَحَجَّة، فهمُ الذينَ ظَلموا أنفُسَهمْ ورَضُوا بالكُفرِ والضَّلال، وعَلِمَ اللهُ فيهمْ هذا العزمَ والتوَجُّه، فتركَهمْ في كُفرِهمْ وضَلالِهمْ يَتردَّدونَ مُتَحيِّرين.
والمتابعُ للحوارِ والجدالِ معَ الملاحِدَةِ وأهلِ الأديانِ والفِرَق، يرَى العِنادَ واللَّجاجةَ والمخاصَمةَ مِنْ مُعظَمِهم، وإصرارَهمْ على ما همْ عليهِ منْ باطِل، فهمْ بذلكَ يَستَحِقُّونَ ما قالَ اللهُ فيهم، وما ظَلمهمُ اللهُ ولا أجبَرهمْ على ذلك، بلْ هذا هوَ توجُّههمْ واستعدادُهمُ الذي رَضُوهُ لأنفسِهم، فليَكونوا كذلكَ كما رَغِبوا.
ولتَمِيلَ إلى هذا القَولِ الباطِلِ قُلوبُ الكفَرةِ المشرِكين(36)، التي تُنْبِئُ عنْ حُبِّ الشَّهوات، والانحرافِ إلى ما هو خادِعٌ ومُمَوَّه، ولِيرضَوْهُ ويُحِبُّوه، ولِيكتَسِبوا ما همْ مُكتَسِبونَ منَ السَّيئاتِ والأعمالِ المشِينة، حتَّى يلقَوا جزاءَهمْ عليها.
(36) خُصَّ من صفاتِ المشركين عدمُ إيمانهم بالآخرة، فعُرِّفوا بهذه الصلةِ للإيماءِ إلى بعضِ آثارِ وحي الشّياطينِ لهم. وهذا الوصفُ أكبرُ ما أضرَّ بهم، إذ كانوا بسببهِ لا يتوخَّون فيما يصنعون خشيةَ العاقبةِ وطلَبَ الخير، بل يتَّبعون أهواءهم وما يُزيَّنُ لهم من شهواتهم، معرِضين عمّا في خلالِ ذلك من المفاسدِ والكفر، إذ لا يترقَّبون جزاءً عن الخيرِ والشرّ، فلذلك تصغَى عقولُهم إلى غرورِ الشَّياطين، ولا تصغَى إلى دعوةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والصّالحين. (التحرير والتنوير).
وتمَّ كلامُ ربِّكَ(37) صِدْقاً في كلِّ ما قالَ وقرَّر، وعَدْلاً في كلِّ ما شَرَعَ وحَكَم، فكلُّ ذلكَ حقٌ لا مِرْيَةَ فيه، فلا يأمرُ سُبحانَهُ إلاّ بخَير، ولا يَنهَى إلاّ عنْ شَرّ، ولا رادَّ لقِضائه، ولا مُغيِّرَ لحُكمه، ولا خُلْفَ لوعدِه، ولا أحدَ يَقدِرُ على تَبديلِ شَيءٍ منْ كلماتهِ إلى ما هوَ أفضَل. وهوَ السَّميعُ لِما يَقولُ عِبادهُ في ذلك، العليمُ بأحوالِهمْ وما يُسِرُّونَهُ وما يُعلِنونَه، وما يُصلِحُهم.
(37) قالَ الشوكاني رحمهُ الله: المرادُ بالكلمات: العباراتُ أو متعلَّقاتُها من الوعدِ والوعيد. والمعنى أن الله قد أتمَّ وعدَهُ ووعيده، فظهرَ الحقُّ وانطمسَ الباطل. وقيل: المرادُ بالكلمةِ أو الكلمات: القرآن. (فتح القدير).
والذي قالَ إن المرادَ بالكلمةِ القرآن، هو الإمام الطبري.
وقالَ البغويُّ رحمَهُ الله: أرادَ بالكلماتِ أمرَهُ ونهيه، ووعدَهُ ووعيده.