﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ اسۡمُ اللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞۗ وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ﴾ [الأنعام :121]
ولا تأكلوا لحمَ الحيَوانِ الحلالِ الذي لم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عليهِ عندَ ذبحِه، فهو فِسقٌ وخُروجٌ عنِ الطَّاعة. وذهبَ علماء ُإلى أنَّ الذي لم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عليهِ هو المعنيُّ بما ذُبِحَ لغَيرِ الله، وأنَّ هذا ما تدلُّ الآية، بدليلِ تتمَّةِ الآيةِ إلى آخِرها، وبما وردَ في الآيةِ (138) من السُّورة، وأحاديثَ تُسانِدها، وأنَّ التسميةَ مُستَحبَّةٌ وليسَتْ واجِبة.
وإنَّ الشَّياطينَ ليُلقونَ إلى تابعِيهمْ وموافِقيهمْ منَ الإنسِ الكلامَ الباطِلَ ليُجادِلوكمْ ويُخاصِموكمْ به، كقولِهمْ إنَّ المَيْتةَ قتلَها اللهُ فلماذا لا تأكلونَ لحمَها؟! فإذا أطعتُموهمْ في استِحلالِ ما حرَّمَ الله، كأكلِ المَيْتةِ وغَيرِ ذلك، فأنتُمْ مُشرِكون، حيثُ تركتُمْ طاعةَ اللهِ وشَرعَهُ إلى طاعةِ المشرِكينَ وكلامِهمُ الباطِل، وأحللتُمْ ما حرَّم اللهُ وآثرتمْ عليهِ غيرَه، أو جعلتُمْ معَهُ شَريكاً في الحُكم. قالَ اللهُ تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [سورة التوبة: 31].
﴿أَوَمَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام :122]
وهلْ يَكونُ مَنْ كانَ مَيتاً وهالِكاً بالكُفرِ والضَّلالة، فأحيَينا قلبَهُ بالإيمان، ودلَلْناهُ على طَريقِ الحقِّ والصَّواب، وجعَلنا لهُ القُرآنَ نوراً يَستَضيءُ بهِ في الحياة، ليَعرِفَ طَبيعةَ الأشياءِ في الحياة، وتَنكشِفَ لهُ حَقائقُ الوجود، ويَعرِفَ كيفَ يَتصرَّف، كالذي يَعيشُ في ظَلامِ الكُفرِ وغَياهبِ الجَهلِ ومَهاوي الضَّلال، لا يَهتدي منها إلى نُورٍ ليَخرجَ منها، ويَبقى في حَيْرةٍ وتَردُّدٍ، وضِيقٍ وحَرج؟ بلْ شتّانَ ما بينَهما.
وكذلكَ سوَّلنا لنفُوسِ الكافرينَ تَحسينَ وتَزيينَ ما همْ فيهِ مِنْ ظلامٍ وعَملٍ ضالٍّ وسُلوكٍ مُنحرِف؛ ليَذوقوا جَزاءَ كفرِهمْ وعنادِهمْ ورفضِهمُ اتِّباعَ الحقّ.
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجۡرِمِيهَا لِيَمۡكُرُواْ فِيهَاۖ وَمَا يَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾ [الأنعام :123]
وكما جعَلنا في مكَّةَ مُجرِمينَ كباراً يَدعونَ إلى الكفرِ ويَصُدُّونَ عنْ سبيلِ الله، ويُصِرُّونَ على معاداتِكَ أيُّها النبيّ، كذلكَ جعَلنا في سائرِ المدنِ أشراراً مِنْ كُبرائها يُعادونَ الأنبياءَ والمُصلِحين، ويَدْعونَ إلى الضَّلالةِ ويُزَيِّنونَها في قُلوبِ الناس، فالمعركةُ بينَ الحقِّ والباطِلِ قَديمةٌ ومُستَديمة. والحقُّ أنَّهمْ أضلُّوا أنفسَهمْ بذلك، وسيَعودُ وبالُ مَكرِهمْ وضَلالِهمْ هذا على أنفسِهم، وهمْ لا يَشعرونَ بذلك، بلْ يظنُّونَ أنَّ مكرَهمْ يَحيقُ بغَيرِهم.
﴿وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ اللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا كَانُواْ يَمۡكُرُونَ﴾ [الأنعام :124]
وهؤلاءِ المجرِمونَ منَ المشرِكينَ إذا جاءَتهمْ آيةٌ وحُجَّةٌ منَ اللهِ وحياً بواسطةِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم، أنكَروا ذلكَ ولم يُصدِّقوا، وقالوا: لنْ نؤمِنَ حتَّى يَنْزِلَ علينا الوحيُ بواسطةِ الملائكةِ كما يوحَى إلى أنبياءِ اللهِ ورُسلِه. واللهُ أعلمُ بمَنْ يَختارُهُ للرسالةِ والوَحي مِنْ بينِ عبادِه، وليسَ الكافِرونَ المجرِمونَ همُ الذينَ يَختارونَ ذلك، وسَوفَ يَنالُ هؤلاءِ المستَكبِرينَ عنِ اتِّباعِ ِما جاءَ بهِ رسلُ اللهِ ذِلَّةٌ وإهانةٌ جَزاءَ تكبُّرهمْ وتَطاولِهم، وعَذابٌ مؤلمٌ موجِعٌ جزاءَ كفرِهمْ وضلالِهمُ المستمرِّ وأذيَّتِهمْ لرسُلِ اللهِ والمؤمِنين.
﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ اللَّهُ الرِّجۡسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنعام :125]
وإذا أرادَ اللهُ أنْ يَهديَ امرَءاً ويُعرِّفَهُ طريقَ الحقّ، يَسَّرَ لهُ أسبابَ الهِدايةِ، وشرحَ صدرَهُ للإسلام، وفتحَ قلبَهُ للإيمان، وحبَّبَ إليهِ العملَ الصالح. ومنْ أرادَ لهُ الضَّلالةَ ضيَّقَ صدرَهُ لقَبولِ الحقِّ حتَّى لا يَجِدَ الخَيرُ مَنفَذاً إليه، ولا الإيمانُ نُوراً إليه، فيَكونُ كمنْ يُحاولُ الصُّعودَ إلى أعلَى، فهوَ يَجِدُ مَشقَّةً بالِغةً وتَعباً في إدراكِ ذلك، أو كأنَّما يَرتَفِعُ في السماءِ فينقُصُ عليهِ الأكسجين، فيَشعرُ بضِيقٍ وحَرَجٍ في تَنفُّسه. وهوَ ثابتٌ علميًّا، وذلك اعتباراً منْ ارتفاعِ (3) كم حتَّى (16) كم فوقَ سطحِ البحر، وما بعدَهُ لا يَقدِرُ على الحياةِ بدونِ أجهزةِ التنفُّس.
وكما جعلَ اللهُ الضِّيقَ في صُدورِ مَنْ أرادَ لهُ الضَّلالة، كذلكَ يجعلُ اللَّعنةَ والعَذابَ والخِذلانَ على منْ أبَى الإيمانَ وأصرَّ على الكُفر.
﴿وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسۡتَقِيمٗاۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأنعام :126]
وهذا الذي جاءَ به الإسْلامُ أيُّها النبيّ، هوَ صِراطُ اللهِ المستَقيم، وطَريقهُ القَويم، وهِدايتُهُ التي رَضِيَها للنَّاس، فلا اعوِجاجَ فيها ولا انِحراف، قدْ بيَّنا الآياتِ ووَضَّحناها، لمنْ وعَى وتدبَّر، وعَقَلَ عنِ اللهِ ورَسولِه.
﴿۞لَهُمۡ دَارُ السَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام :127]
ولهؤلاءِ المؤمِنينَ الواعينَ يومَ القيامَة، جنَّةُ اللهِ الخالدة، السَّالمةُ منَ المنغِّصاتِ والآفات، واللهُ حافظُهمْ وناصِرُهم، جزاءَ سلوكِهمُ الصِّراطَ المستَقيم، وامتثالِهمْ أمرَ ربِّهم.
﴿وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا يَٰمَعۡشَرَ الۡجِنِّ قَدِ اسۡتَكۡثَرۡتُم مِّنَ الۡإِنسِۖ وَقَالَ أَوۡلِيَآؤُهُم مِّنَ الۡإِنسِ رَبَّنَا اسۡتَمۡتَعَ بَعۡضُنَا بِبَعۡضٖ وَبَلَغۡنَآ أَجَلَنَا الَّذِيٓ أَجَّلۡتَ لَنَاۚ قَالَ النَّارُ مَثۡوَىٰكُمۡ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلَّا مَا شَآءَ اللَّهُۚ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ﴾ [الأنعام :128]
واذكرْ أيُّها النبيُّ يومَ يَحشُرُ اللهُ الإنسَ والجنَّ للعَرْضِ والحِساب، وقدْ كانَ بَعضُهمْ يُلقي الكلامَ الباطِلَ إلى بَعض، فقيلَ للجِنِّ: يا جَماعةَ الجنّ، قدْ أكثرتُمْ منْ إضلالِ الإنس، وأغرَيتُموهمْ بالشَّهوات، وجعلتُموهمْ مِنْ أتباعِكم، فصَاروا يتَّبِعونَ خُطواتِكم، فحُشِروا معَكم. وقالَ أتباعُهمْ ومحبُّوهمْ مِنَ الإنس: ربَّنا إنَّ الجِنَّ أمرتْنا فأغوَتْنا فأطَعناهم، وصِرنا صُحبةً مُتوالينَ في دارِ الدُّنيا، حتَّى حانَ الأجَل.
قالَ الله: مكانُكمُ النارُ أنتُمْ جميعاً، يا مَنْ تَواليتُمْ وتعاوَنتُمْ على الكُفرِ والضَّلالِ منَ الإنسِ والجنّ، ماكثينَ فيها أبداً، إلاّ ما شاءَ الله. واللهُ حَكيمٌ في تَقديرِ الجزاء، عليمٌ بأقوالِ النَّاسِ وأعمالِهم.
والاستِثناءُ في المشيئةِ هنا مختلَفٌ فيهِ عندَ المفسِّرين، يُنظَرُ شَيءٌ منَ التفصيلِ فيهِ الآيةَ (107) منْ سورةِ هود.
﴿وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعۡضَ الظَّـٰلِمِينَ بَعۡضَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [الأنعام :129]
ومثْلُ الموالاةِ السَّابقةِ بينَ الجِنِّ والإنسِ في الضَّلال، كذلكَ يَكونونَ قُرَناءَ مُتماثلينَ في العَذابِ يومَ القيامة، جزاءَ كسبِهمُ الخبيثِ المتماثِل.
قالَ قَتادَة: المؤمِنُ وَليُّ المؤمِنِ أينَ كانَ وحيثُ كان، والكافِرُ وَليُّ الكافِرِ أينَما كانَ وحيثُما كان.
وقالَ الفَخرُ الرازيُّ في مسألَةٍ منْ تَفسيرِ الآيَة: الآيَةُ تَدلُّ على أنَّ الرعيَّةَ متَى كانوا ظالمينَ فاللهُ تعالَى يُسَلِّطُ عَليهمْ ظالِمينَ مثلَهم.
﴿يَٰمَعۡشَرَ الۡجِنِّ وَالۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ﴾ [الأنعام :130]
يا جَماعةَ الكفّارِ منَ الجِنِّ والإنس، ألم يُبْعَثْ إليكمْ في الحياةِ الدُّنيا رُسُلٌ منَ الإنسِ - والجِنُّ تَبَعٌ لهمْ في هذا البابِ - يُخبِرونَكمْ بآياتي البيِّنة، ويخوِّفونَكمْ - إذا نَكلتُمْ وخالفتُمْ - بأسِي وعَذابي يومَ القيامة؟
قالوا: اعتَرفنا، وشَهِدنا على أنفسِنا بتَبليغِ الرسُل، وإنذارِهمْ إيّانا، وعدمِ إجابتِنا لهم.
وقدْ غَرَّتهمُ الدُّنيا وألهَتْهُمْ بزينتِها وشَهواتِها، فاتَّبعوا الشَّهوات، وخالَفوا الحقَّ مِنْ كلامِ الرسُل، وشَهِدوا على أنفسِهمْ يومَ القيامةِ أنَّهمْ كانوا كافِرينَ في الدُّنيا بالآياتِ والنذُر.
﴿ذَٰلِكَ أَن لَّمۡ يَكُن رَّبُّكَ مُهۡلِكَ الۡقُرَىٰ بِظُلۡمٖ وَأَهۡلُهَا غَٰفِلُونَ﴾ [الأنعام :131]
هذا، ولِيُعلمَ أنَّ اللهَ لم يكنْ لِيُهلكَ القُرَى ويُعاقِبَ أهلَها على ظُلمِهم، منْ شِركٍ ونحوِه، وهمْ لا يَعرِفونَ ما هوَ الحقّ، بلْ يُنَبَّهونَ ويُبَلَّغونَ ويُنْذَرونَ بواسطةِ الرسُل، حتَّى لا يَبقى لهمْ عُذرٌ في ذلك.
﴿وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ مِّمَّا عَمِلُواْۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام :132]
ولكلٍّ مِنَ السُّعَداءِ والأشقياءِ مِنَ الجِنِّ والإنسِ مَراتِبُ ومَنازلُ عندَ الله، حَسَبَ توجُّهِهمْ وعملِهم، وسيُجازيهمْ عليها، إنْ خيراً أو شرًّا.
﴿وَرَبُّكَ الۡغَنِيُّ ذُو الرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ﴾ [الأنعام :133]
وإنَّ ربَّكَ - أيُّها الرسُولُ - غنيٌّ عنِ العالمينَ وطاعتِهم، بلْ همُ المحتاجونَ إليه. وهوَ الذي يرحمُكمْ بفَضلهِ وكَرمِه، ويُمهِلُكمْ إذا عَصَيتُم، وهوَ إذا شاءَ أهلكَكُمْ إذا خالفتُمْ أمرَه، كما فعلَ بأقوامٍ في القُرونِ الخالية، ويأتي بآخَرينَ مِنْ عبادهِ مكانَكمْ يُطيعونَه، كما أتَى بكمْ وأنتمْ مِنْ نَسْلِ قَومٍ آخَرين.
﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ﴾ [الأنعام :134]
إنَّ الذي تُوْعَدونَ بهِ منَ الحِسابِ والجزاءِ والدرجاتِ يومَ القيامةِ آتٍ قَريبٌ لا مَحالة، ولا تُعجِزونَ اللهَ في ذلك(39) ، فهوَ قادرٌ على بعثِكمْ وإنْ كنتُمْ عِظاماً ورُفاتاً.
(39) أي: بفائتين عمّا هو نازلٌ بكم وواقعٌ عليكم. يقال: أعجزني فلان، أي: فاتني وغلَبني. (فتح القدير).
﴿قُلۡ يَٰقَوۡمِ اعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ الدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ الظَّـٰلِمُونَ﴾ [الأنعام :135]
قُلْ لهؤلاءِ المشرِكين: اعمَلوا ما أنتُمْ عامِلونَ حَسَبَ طريقَتِكم الضالَّةِ بكلِّ ما تَقدِرونَ عليه، وأنا قائمٌ على دينِ اللهِ وثابِتٌ على هَدْيهِ بما أوحَى إليَّ، وسوفَ ترَونَ لمنْ تكونُ العاقِبَةُ الحسَنة، والنَّصرُ المُبين، في الحياةِ الدُّنيا. ولا يُفلِحُ الظالِمونَ المُعتَدونَ على الحقِّ وأهلِه(40) ، وسَوفَ يَلقَونَ الجزاءَ المُعَدَّ لهم.
(40) لا يفلح: لا ينجح ولا يفوز. (الطبري).
﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الۡحَرۡثِ وَالۡأَنۡعَٰمِ نَصِيبٗا فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ وَهَٰذَا لِشُرَكَآئِنَاۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمۡ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمۡۗ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ﴾ [الأنعام :136]
وقدِ ابتدَعَ المشرِكونَ فُنوناً في توزيعِ أجزاءٍ منَ الزُّروعِ والثمارِ وأصنافٍ منَ الحيَوان، لله، وأخرَى للأصنام.
فإذا زادَ ما للهِ أعطَوهُ لآلهتِهمْ منَ الأصنام، وإذا زادَ ما للأصنامِ لم يُعطُوهُ لله، وقالوا: هوَ غنيٌّ عنه. لقدْ أساؤوا في حُكمِهم، فاللهُ الذي أنشأ لهمْ هذهِ الزُّروع، وخلقَ لهمْ هذهِ الحيَوانات، أخَذوا حقَّهُ فأعطَوهُ لآلهتِهم، ولم يُعطُوهُ مِنْ نَصيبِها! وهذا ظُلمٌ وجَهلٌ وضَلال.
﴿وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَ الۡمُشۡرِكِينَ قَتۡلَ أَوۡلَٰدِهِمۡ شُرَكَآؤُهُمۡ لِيُرۡدُوهُمۡ وَلِيَلۡبِسُواْ عَلَيۡهِمۡ دِينَهُمۡۖ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ﴾ [الأنعام :137]
وكما سوَّلتِ الشَّياطينُ لهؤلاءِ المشرِكينَ هذهِ الأعمال، فقدْ زيَّنتْ لهمْ أيضاً قتلَ أولادِهمْ خَشيةَ الفَقر، ووأدَ بناتِهمْ خَشيةَ تعييرِهمْ بهنّ، لتُهلِكهمْ وتَخلِطَ عليهمْ دينَهم، في تصوُّراتٍ غامِضةٍ مُتلبِّسَةٍ بطُقوسٍ مُبهَمةٍ ومُنكَرَة. ولو أرادَ اللهُ لما فَعلتِ الشَّياطينُ ذلك، ولكنَّهُ ابتِلاءٌ منه، فدَعهمْ - أيُّها النبيُّ - وما يَكذِبونَ ويَكِيدون، فإنَّ اللهَ لهمْ بالمِرْصاد.
﴿وَقَالُواْ هَٰذِهِۦٓ أَنۡعَٰمٞ وَحَرۡثٌ حِجۡرٞ لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعۡمِهِمۡ وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا وَأَنۡعَٰمٞ لَّا يَذۡكُرُونَ اسۡمَ اللَّهِ عَلَيۡهَا افۡتِرَآءً عَلَيۡهِۚ سَيَجۡزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [الأنعام :138]
ومِنْ جَهْلِ المشرِكينَ في تَقريرِ الأحكامِ وأهوائهمْ في ذلكَ أنْ قالوا: هذهِ حيَواناتٌ وزرُوعٌ لا يَجوزُ لأحدٍ أنْ يَعتديَ عليها أو يأكُلَها، فعزَلوها وحَجَروها للأصنام، قالوا: إلاّ مَنْ شِئنا أنْ نُطعِمَهمْ منها! وقالوا أيضاً: هذهِ أنعامٌ لا تُركَب، وجَعلوا لها علاماتٍ بشَقِّ الأذُنِ أو غَيرِها، وسمَّوها البَحِيرةَ والسَّائبةَ والوَصِيلة والحام، وحيَواناتٌ لا يَذكُرونَ اسمَ اللهِ عليها إذا ذبَحوها أو رَكِبوا عليها، بلْ يَذكرونَ عليها أسماءَ الأصنام، وكَذَبوا فأسنَدوا هذه الأحكامَ إلى الله، وسوفَ يُعاقِبهمُ اللهُ على كذبِهمْ هذا سُوءَ العِقاب.
﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الۡأَنۡعَٰمِ خَالِصَةٞ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِنَاۖ وَإِن يَكُن مَّيۡتَةٗ فَهُمۡ فِيهِ شُرَكَآءُۚ سَيَجۡزِيهِمۡ وَصۡفَهُمۡۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٞ﴾ [الأنعام :139]
وقالَ المشرِكونَ في فُنونِ تَحريمِهم: الجَنينُ الذي في بُطونِ الحيَواناتِ السابقةِ حلالٌ للرِّجالِ وحَرامٌ على الإناث! فإذا ماتَ اشترَكَ في أكلهِ الرِّجالُ والنِّساء! هكذا! وسوفَ يُجازيهمُ اللهُ تعالَى على حُكمِهمْ هذا، الذي افترَوا بهِ على الله، وهوَ حَكيمٌ فيما يقولُ ويَشْرَعُ ويُقَدِّر، لا كما يَتصرَّفُ المشرِكونَ بأهوائهم، عليمٌ بأحوالِ عِبادهِ وما يناسِبُهم.
﴿قَدۡ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افۡتِرَآءً عَلَى اللَّهِۚ قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ﴾ [الأنعام :140]
لقدْ خابَ المشرِكونَ وخَسِروا أفلاذَ أكبادِهمْ بقَتلِهم، وذلكَ لضلالِهمْ وضيقِ عُقولِهمْ وجهلِهمْ بأنَّ اللهَ هوَ رازِقُهم ورازِقُ أولادِهم. كما ضيَّقوا على أنفسهِمْ عندما حرَّموا أشياءَ لم يُنْزلِ اللهُ بها سُلطاناً، كالبحائِر والسَّوائبِ وما إليهما، ومعَ ذلكَ نَسَبوها إليهِ كَذِباً وافتراء، لقدْ بَعُدوا عنْ طَريقِ الحقّ، وما كانوا أهلَ هِدايةٍ واستِقامة.