تفسير سورة الأنعام

  1. سور القرآن الكريم
  2. الأنعام
6

﴿۞وَهُوَ الَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَالنَّخۡلَ وَالزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَالزَّيۡتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ الۡمُسۡرِفِينَ﴾ [الأنعام:141]


هوَ اللهُ الخالقُ واهِبُ النِّعَم، الذي أخرجَ للناسِ الثِّمارَ والزُّروع، منها ما يَهتمُّ بها الإنسانُ فيَجعلُها على شَكلِ عَرائشَ وبَساتين، ومنها ما يكونُ في حياةٍ طبيعيَّةٍ بريَّة. أو أنَّ منها ما يكونُ مُنْبَسِطاً على وجهِ الأرض، ومنها ما يقومُ على ساقٍ ونَسَق.

وهوَ الذي أنشأ النَّخيلَ الذي يُنتِجُ الرُّطَب والتمرَ الطيِّبَ المفيد، والزُّروعَ بأنواعِها وأطعمتِها المختَلِفة، وكذلكَ الزيتونَ ذا الطَّعمِ المميَّزِ النافِع، والرمّانَ اللذيذ، بأصنافهِ المختَلِفة، المتشابِهَةِ وغيرِ المتشابِهَة. فكُلوا مِنْ هذهِ الثِّمارِ الطيِّبة، ولا تَنسَوا الفَقَراءَ والمساكينَ مِنْ حقِّها، فآتُوهمْ منهُ عندَما تَحصُدونَها، زكاةً أو صدَقة، ولا تُسرِفوا في الأكلِ ولا في الإعطاء، فاللهُ لا يُحِبُّ مَنْ تجاوزَ الحدَّ إلى ما هوَ مُضِرّ، بنفسهِ أو بالآخَرِين.

﴿وَمِنَ الۡأَنۡعَٰمِ حَمُولَةٗ وَفَرۡشٗاۚ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ﴾ [الأنعام:142]


وهوَ اللهُ الذي خلقَ لكمُ الأنعام، لتركَبوا بعضَها وتَحمِلوا عليها أثقالَكم، كالإبِلِ والخَيلِ، وتَستَفيدوا مِنْ غيرِها كالشِّياه، فتأكلوا لحمَها وتَحلِبوا منها، وتتَّخذوا منْ أصوافِها وأوبارِها لُحُفاً وفُرُشاً. فكلوا ممّا رزقَكمُ اللهُ مِنْ هذهِ الثِّمارِ الطيِّبةِ والنَّعَمِ الحلال، ولا تتَّبِعوا مَكرَ الشَّيطانِ وطرائقَهُ الخادعةِ في تَحليلِ وتَحريمِ ما سخَّرَهُ اللهُ لكم، فهوَ خالقُها وخالقُكم، وهوَ وحدَهُ الذي يَشْرَعُ فيُحِلُّ ويُحَرِّم، والشَّيطانُ عدوٌّ لكم، فلا يسوِّلُ لأوليائهِ إلاّ ما هوَ شرٌّ وفِتنةٌ وما فيهِ ضرَر.

﴿ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۖ مِّنَ الضَّأۡنِ اثۡنَيۡنِ وَمِنَ الۡمَعۡزِ اثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ الۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا اشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ الۡأُنثَيَيۡنِۖ نَبِّـُٔونِي بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [الأنعام:143]


وهذهِ هي الأنعامُ التي ادَّعَى المشركونَ استحلالَ وتحريمَ أجزاءٍ منها، وتصنيفَها كما أفرزتْها عقولُهمُ الضَّعيفةُ وأهواؤهمُ الزائغةُ في الجاهليَّة، فهي ثمانيةُ أزواج، كلٌّ منها ذكرٌ وأنثَى، فمنَ الغَنَمِ - ذي الصوفِ - اثنان، ومنَ المَعْزِ اثنان، فأيَّهما حرَّمَ الله: الذكرَ منهما أمْ أُنثَيَيْهما؟ أمِ الجنينَ الذي في رَحِمَي الأُنثَيَيْن؟ فأخبِروني بيَقين: كيفَ حرَّمَ اللهُ ما زَعمتُمْ منَ البَحِيرةِ والسائبةِ وما إليهما، وهوَ لم يُحَرِّمْهُ، إذا كنتُمْ صادقينَ في دعوَى التَّحريم؟

﴿وَمِنَ الۡإِبِلِ اثۡنَيۡنِ وَمِنَ الۡبَقَرِ اثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ الۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا اشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ الۡأُنثَيَيۡنِۖ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ وَصَّىٰكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَاۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ افۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الأنعام:144]


ثمَّ مِنَ الإبِلِ اثنَين، ومنَ البقَرِ اثنَين، فقلْ لهمْ أيُّها النبيّ: هلْ حرَّمَ اللهُ الذكَرَ منهما، أمْ أُنْثَيَيْهِما، أمِ الجنينَ الذي في رَحِمَي الأُنْثَيَينِ منهما؟ أمْ كنتُمْ مَوجودِي

نَ مُشاهِدينَ عندما وصّاكمُ اللهُ بهذا الذي ابتَدعتُموهُ وزعمتُمْ تَحريمَه؟ فما أعظمَ جُرْمَكم! وليسَ هناكَ أظلمُ ممَّنْ كذَبَ على اللهِ وقالَ إنَّ هذا التحريمَ شَريعتُه، ليُبعِدَ الناسَ عنْ طَريقِ الحقِّ والهُدَى، مِنْ غَيرِ علمٍ منهُ ولا وَحي، واللهُ لا يَهدي القومَ المتَجاوزينَ الحقَّ، المفتَرينَ على الله.

﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ اللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ اضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [الأنعام:145]


قُلْ للمُشرِكينَ الذينَ حرَّموا أشياءَ مِنْ عندِهمْ ونَسبُوهُ إلى اللهِ افتراءً عليه: لا أجِدُ فيما أوحَى اللهُ إليَّ ممّا حرَّمَهُ على آكلٍ يأكلُه، إلاّ إذا كانَ مَيتةً - وتفصيلُها في الآيةِ الثالثةِ منْ سُورةِ المائدة - أو دَماً مُهْرَاقاً، أي مَصبوباً سَائلاً، فيُعفَى عمّا اختلطَ بعَظمٍ ولَحم، أو لحمَ خِنزير، فإنَّهُ قَذِرٌ خَبيث، أو ما ذُبِحَ خُروجاً عنِ الطاعةِ، بأنْ ذُبِحَ على اسمِ الأصنام. فمنْ دَعَتْهُ الضَّرورةُ إلى تناولِ شَيءٍ منْ تلكَ المحظورات، غيرَ مُعْتَدٍ في ذلك، بأنْ لا يأخذَهُ منْ مُضْطرٍّ آخرَ مثلِه، ولا مُتَجاوِزٍ قَدْرَ الضرورةِ، بأنْ لا يأكلَ زيادةً على حاجتهِ إليها، فإنَّ اللهَ يَغفِرُ لهُ ما أكل، ويرحمُه.

ويُلحَقُ بما حُرِّمَ ما ذُكِرَ في السنَّة: الحُمُرُ الأهليَّة، وكلُّ ذي نابٍ منَ السِّباع، ومِخلَبٍ منَ الطَّير، فهوَ تَخصيصُ عامّ، أو ابتِداءُ حُكم.

قالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ الله: فعلَى هذا يَكونُ ما وردَ من التَّحريماتِ بعدَ هذا في سورةِ المائدةِ وفي الأحاديثِ الواردة: رافعًا لمَفهومِ هذه الآية. ومنَ النَّاسِ منْ يُسَمِّي ذلكَ نَسخًا، والأكثرونَ منَ المتأخِّرينَ لا يُسمُّونَهُ نَسخًا؛ لأنَّهُ من بابِ رَفعِ مُباحِ الأصل.

﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖۖ وَمِنَ الۡبَقَرِ وَالۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ شُحُومَهُمَآ إِلَّا مَا حَمَلَتۡ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الۡحَوَايَآ أَوۡ مَا اخۡتَلَطَ بِعَظۡمٖۚ ذَٰلِكَ جَزَيۡنَٰهُم بِبَغۡيِهِمۡۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ﴾ [الأنعام:146]


وحَرَّمنا على اليهودِ كلَّ حيَوانٍ ذي أظفار، وهو ما لم يَكنْ مَشقوقَ الأصابعِ منَ البَهائمِ والطَّير، مثلُ البَعيرِ والنَّعامِ والبطِّ والأوَزّ، وحَرَّمنا عليهمْ شُحومَ البقَرِ والغنَم، إلاّ شحمَ الظَّهر، أو ما التفَّ بالأمعاء، أو ما اختلطَ منهُ بالطَّعام؛ وذلكَ عقوبةً لهمْ على مخالفتِهمْ أوامرَنا، كأكلِ الرِّبا، وأكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطل، وقتلِهمُ الأنبياء... ونحنُ صادِقونَ في الإخبارِ بما حرَّمناهُ عليهم، وبظلمِهمْ وتعدِّيهم، وعادِلونَ بما جازَيناهمْ به.

﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمۡ ذُو رَحۡمَةٖ وَٰسِعَةٖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُهُۥ عَنِ الۡقَوۡمِ الۡمُجۡرِمِينَ﴾ [الأنعام:147]


فإنْ كذَّبكَ اليَهود، وقالوا إنَّ هذا ممّا حُرِّمَ على نوحٍ وإبراهيم، ومَنْ بعدَهما مِنَ الأنبياءِ حتَّى وصلَ إلينا، فقلْ لهم: إنَّ ربَّكمْ ذو رَحمةٍ عَظيمة، فلا يُعاجِلُكمْ بالعُقوبةِ على كَذبِكمْ ومَعاصيكم، ولكنَّ عذابَهُ لا يُرَدُّ ولا يُدْفَعُ عنِ المجرِمينَ الكافرينَ إذا جاءَ وقتُه، فاحذَروا ولا تُنكِروا الحقّ.

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ﴾ [الأنعام:148]


وسيقولُ لكَ المشرِكون: لو أرادَ اللهُ لمـَا أشرَكنا نحنُ ولا آباؤنا، ولا حرَّمنا شَيئاً ممّا نُحَرِّمهُ الآن، ولكنَّهُ شاءَ ذلك، وإذا شاءَ أمراً فهوَ يَعني مَشروعِيَّتَهُ ورِضاءَهُ عنه، وعلى هذا فإنَّ ما نقومُ بهِ صَحيحٌ ومَشروع!

وهذا كَذِبٌ ولَجاجة، وقدِ افترَى مثلَ هذا الكذبِ أمَمٌ كافِرةٌ خَلتْ مِنْ قبلِهم، حتَّى جاءهمْ عذابنُا وذاقُوا عُقوبتَنا.

قلْ لهمْ أيُّها النبيّ: هلْ عندكمْ كتابٌ أو حجَّةٌ ظاهِرةٌ أو أمرٌ مَعلومٌ منْ عندِ اللهِ بصدقِ ما أنتُمْ عليهِ منَ الشِّركِ وتَحريمِ ما حرَّمتُموه، حتَّى تُبرِزوهُ لنا لنطمَئنَّ إلى ذلك؟ إنَّ الذي تتَّبعونَهُ ما هوَ إلاّ وَهمٌ واعتِقادٌ فاسِد، وما أنتُمْ بهذا إلاّ تَكذِبونَ على الله، فإنَّ اللهَ لا يرضَى لعبادهِ الكفرَ والشِّركَ والفَواحِش، وكيفَ تُحِيلونَ شركَكمْ إليهِ وأنتُمْ لم تَشهَدوا مَشيئتَه؟ ولماذا أرسَلَ إليكمْ عذابَهُ؟ فلو كانتْ شُبْهتُكمْ صَحيحةً لما أذاقَكمُ العَذاب.

﴿قُلۡ فَلِلَّهِ الۡحُجَّةُ الۡبَٰلِغَةُۖ فَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الأنعام:149]


قلْ للمُشرِكين: للهِ البُرهانُ البيِّنُ الواضِح، والحِكمَةُ التامَّة، والإثباتُ الصَّحيح، فيمَنْ هداهُم، وفيمَنْ أضلَّهم، ولو شاءَ أنْ يَخلُقَ في الناسَ طَبيعةً لا تَعرِفُ سِوَى الاهتِداءِ لفَعل، ولكنَّهُ سُبحانَهُ شاءَ أنْ يَبتليَ ويخيِّرَ الناسَ في اعتقادِهم، وأنْ يُيَسِّر لكلٍّ ما يُريد، ثمَّ يكونُ الحِساب.

﴿قُلۡ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشۡهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَاۖ فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِالۡأٓخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ﴾ [الأنعام:150]


قلْ للمشرِكين: أحضِروا شُهداءَكمْ الذينَ يُثبِتونَ أنَّ اللهَ حرَّمَ ما ذَكرتم، فإذا شَهِدوا بذلك، وهمْ كاذبون، مَعروفونَ بالباطِل، فلا تَشهدْ أنتَ بذلكَ ولا تُصَدِّقْهُم، لأنَّهم يَشهدونَ كَذِباً وزُوراً، وبَيِّنْ لهمْ فسادَ رأيهم. ولا توافِقِ الكفّارَ في أهوائهمُ الزائغة(41)، الذينَ كذَّبوا بمعجِزاتِنا وحُجَجِنا البيِّنة، ويُكذِّبونَ بالبَعثِ والنُّشور، ويَجعلونَ للهِ شُرَكاء.

(41) سمَّى دينَهم هوًى لعدمِ استنادهِ إلى مستند، ولكنهُ إرضاءٌ للهوى. والهوى غلبَ إطلاقهُ على محبَّةِ الملائمِ العاجلِ الذي عاقبتهُ ضرر. (التحرير والتنوير).

﴿۞قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِالۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ الۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ النَّفۡسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [الأنعام:151]


قلْ للمُشرِكين: تعالَوا لأقرَأ وأقُصَّ عليكمْ ما حرَّمَهُ ربُّكمْ عليكم، لا ما تدَّعونَ أنَّهُ حرَّمَهُ بزعمِكم، فهوَ الحاكمُ المُشَرِّعُ لا أنتُم:

ألاّ تُشرِكوا باللهِ شَيئاً، فهوَ وحدَهُ المتصرِّفُ في الكون، وهوَ وحدَهُ الذي يَجِبُ أنْ يُعبَد.

وأنْ تُحسِنوا إلى الوالدَين، إحساناً كاملاً لا إساءةَ معَه.

وأنْ لا تَقتلوا أولادَكمْ لِما بكمْ مِنْ فَقر، فنحنُ نرزقُكمْ ونرزقُهم.

ولا تَقرَبوا الفواحِش، ما ظهرَ منها وما خَفي، مثلَ الزِّنا في الأماكنِ المُعَدَّةِ لها، ومثلَ اتَّخاذِ الأخدانِ والعَشيقات.

ولا تَقتُلوا النفسَ التي حرَّمَ اللهُ قتلَها بسبَبٍ منَ الأسبابِ إلاّ بسبَبِ الحقّ، كالردَّة، والزِّنا بعدَ الإحصان، وقتلِ النفسِ عَمداً.

هذا ما فرضَهُ اللهُ عليكمْ وأمرَكمْ به، لتعقِلوا أمرَهُ ونَهيَه.

﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ الۡيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ الۡكَيۡلَ وَالۡمِيزَانَ بِالۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَاعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ اللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام:152]


ولا تَتعرَّضوا لمالِ اليتيم - أيُّها الأولياءُ والأوصياءُ - إلا بما فيهِ صَلاحُه وتَثميرُه، حتَّى يبلغَ الحُلُم. وأتِمُّوا المَكِيلَ والميزانَ بالعَدل، في البَيعِ والشِّراء.

لا نُحَمِّلُ نفساً إلا طاقتَها، فإذا أخطأتْ بعدَ بذلِ جُهدِها فلا حرجَ عليها.

وإذا قلتُمْ قولاً في شَهادةٍ أو حُكمٍ فاصدُقوا، ولو كانَ المحكومُ والمشهودُ عليهِ ذا قَرابةٍ منكم.

وأوفُوا بما عَهِدَ اللهُ إليكمْ منْ أمرٍ ونَهي، فإنَّكمْ مَسؤولونَ عنْ عهدِه.

هذا ما أمرَكمُ اللهُ بهِ أمراً مؤكَّداً، لتفهَموهُ وتَتدبَّروهُ وتَعملوا بمُقتَضاه.

﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَاتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:153]


وقلْ أيُّها النبيّ: إنَّ الإسلامَ هوَ صِراطي المستَقيمُ الذي لا اعوِجاجَ فيه، فهوَ ما أسلُكهُ وأدعو إليه، فاتَّبِعوا تعاليمَهُ واعمَلوا به، ولا تتَّبعوا الضَّلالات، والبِدَعَ والشُّبهات، فتُفرِّقَكمْ حسَبَ تَفرُّقها عنْ دينِ الله. هذا ما أمرَكمُ اللهُ به، لتَبتَعِدوا عنِ المِراءِ والخصُومات، والاختلافِ والفُرقة، التي أهلكتْ مَنْ قبلَكم.

﴿ثُمَّ ءَاتَيۡنَا مُوسَى الۡكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيٓ أَحۡسَنَ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنعام:154]


وقدْ أنزلَ اللهُ التوراةَ على موسَى، كاملاً على المؤمِنينَ والمحسِنينَ مِنْ قومِه، وبياناً مُفَصَّلاً لجميعِ ما يُحتاجُ إليهِ في الدِّين، ودليلاً إلى الحقِّ المبتَغَى، ورَحمَةً بالمكلَّفين، ليؤمِنَ بَنو إسْرائيلَ بالبَعث، ويُصَدِّقوا بالثَّوابِ والعِقاب.

﴿وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ [الأنعام:155]


وهذا القُرآنُ أنزَلناهُ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، هوَ كتابٌ نافِعٌ جَليلٌ عَظيمُ الشَّأن، فيهِ مِنَ الشَّرائعِ والأحكامِ ما يَضمنُ لكمُ الأمنَ والسعادةَ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرة، فاعمَلوا به، واتَّقوا نواهيه؛ لتُرحَموا وتَفوزوا.

﴿أَن تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الۡكِتَٰبُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيۡنِ مِن قَبۡلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمۡ لَغَٰفِلِينَ﴾ [الأنعام:156]


قدْ أنزَلنا إليكمُ القُرآنَ لئلاّ تقولوا إنَّ الكتابَ أُنزِلَ على اليهودِ والنصارَى، ونحنُ لا نَفهمُ قولَهم، وليسَ هوَ بلسانِنا، ولا نَعرِفُ قراءةَ ما فيه.

﴿أَوۡ تَقُولُواْ لَوۡ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا الۡكِتَٰبُ لَكُنَّآ أَهۡدَىٰ مِنۡهُمۡۚ فَقَدۡ جَآءَكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنۡهَاۗ سَنَجۡزِي الَّذِينَ يَصۡدِفُونَ عَنۡ ءَايَٰتِنَا سُوٓءَ الۡعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصۡدِفُونَ﴾ [الأنعام:157]


وقطَعنا العذرَ عنكمْ إذا تحاجَجْتُمْ وقلتُم: إذا نزلَ علينا الكتابُ لنَكوننَّ أهدَى منهمْ إلى الحقّ، وأسرعَ إلى الاستِجابةِ لنداءِ اللهِ منهم، فهذا هوَ القُرآنُ قدْ جاءَكمْ مِنْ عندِ اللهِ بلسانٍ عَربيٍّ مُبين، وفيهِ ما اشتَملتْ عليهِ التوراةُ مِنَ الهِدايةِ والرَّحمَةِ بالنَّاس، وتَبيينِ الأحكام، وذكرِ الحلالِ والحرام.

وليسَ هناك أظلمُ ممَّنْ خالفَ الرسُلَ، وكذَّب بما أوحَى اللهُ إليهم، وأعرضَ عنْ آياتِ اللهِ البيِّنات، فلمْ يَنتَفِعْ بهَدِي الرسالةِ السَّماويَّة، وسنُجازي إعراضَهمْ هذا وتكذيبَهمْ بآياتِ اللهِ بما يناسِبُهُ منَ العَذابِ الشَّديدِ المؤلِم، بسبَبِ إعراضِهمُ المستَمِر، وتَجاوزِهمُ الحقَّ.

﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ رَبُّكَ أَوۡ يَأۡتِيَ بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۗ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ انتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ [الأنعام:158]


هلْ يَنتَظِرُ المشرِكونَ - بعدَ تكذيبهمُ الرسُلَ وكفرِهمْ بالآياتِ - إلاّ أنْ تأتيَهم الملائكةُ لقَبضِ أرواحِهمْ أو تَعذيبِهم، أو يَأتيَ ربُّكَ - يومَ القيامةِ - {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة: 210] للقضاءِ بينَ خلقِه، أو يأتيَ بعضُ أشراطِ السَّاعة، كطلوعِ الشَّمسِ منْ مَغْرِبِها، وعندَما يأتي بعضُ هذهِ الآيات، لا يَنفَعُ إيمانُ امرِئٍ بها لم يَكنْ مؤمِناً مِنْ قبل، أو كانَ مُسلِماً فاسِقاً فلمْ يكسبْ بإيمانهِ الضَّعيفِ عَملاً صالحاً، فلا تُفيدهُ التوبةُ يومَئذ؛ لأنَّ إيمانَ الجميعِ يومَئذٍ يكونُ عنِ اضطِرار.

قلْ للمُشرِكينَ أيُّها النبيّ: انتَظروا إذاً إلى ذلكَ اليومِ الذي لا يَنفَعُ فيهِ إيمانُكم، ونحنُ نَنتَظرُ بكمُ العَذابَ يومَئذ.

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ﴾ [الأنعام:159]


إنَّ اليهودَ والنصارَى الذينَ فرَّقوا دينَهمْ وبعَّضوه؛ باختلافِهمْ في دينِهم، فكانوا فِرَقاً، كلُّ فِرقةٍ تتَشيَّعُ في رأيها إلى إمامٍ لها، لستَ مَسؤولاً عنْ تَفرُّقِهمْ أو عِقابِهم، وأنتَ بريءٌ منهم، إنَّما يَتولَّى أمرَهمْ ربُّهم بحِكمتِه، ويُخبِرُهم يَومَ القِيامةِ بما كانوا عليهِ في الدُّنيا، فيَفصِلُ بينهم، ويحاسِبُهم، ويُجازيهمْ على ذلك.

﴿مَن جَآءَ بِالۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [الأنعام:160]


مَنْ جاءَ مِنَ المؤمِنينَ بخَصلةٍ واحدةٍ مِنْ خِصالِ الطَّاعة، فلهُ عشرُ حسَناتٍ أمثالَها، فضلاً وتكرُّماً منَ اللهِ تعالَى. ومَنْ جاءَ بسيِّئةٍ واحدة، منَ المؤمِنينَ أو منْ غَيرِهم، فلا يُجزَى إلاّ بتلكَ الواحِدَة، عَدلاً منهُ سُبحانَه، وهمْ لا يُظلَمونَ بنقصِ الثَّوابِ وزيادةِ العِقاب.