اخرجُوا إلى الجِهادِ على أيِّ حالٍ كنتُم، شَباباً وكُهولاً، فُقَراءَ وأغنِياء، في نَفيرٍ عامٍّ دعا إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمُقاتلةِ الرُّوم. وجاهِدوا بما عندكمْ مِنْ مال، مِنْ شِراءِ السِّلاحِ وتَزويدِ المجاهِدينَ به، وبأنفسِكمْ تَبيعونَها لله، فهوَ خَيرٌ لكمْ عندَ ربِّكمْ عاقبةً ومآلاً.
لو كانَ ما دَعوتَهمْ إليهِ أيُّها النبيُّ غَنيمةً قريبةَ المَنال، وسَفَراً هيِّناً غيرَ بَعيد، لخرجَ معكَ الذينَ استأذَنوا مِنكَ وأظهَروا أنَّهمْ ذَوُو أعذارٍ في غَزوةِ تبوك، ولكنْ لمّا بَعُدَتْ عليهمُ المسافةُ - إلى الشَّامِ - اعتَذروا.
وسيحلِفُ هؤلاءِ المتخلِّفونَ باللهِ كَذِباً ويَقولون: لو قَدَرْنا على المجيءِ لخرَجنا معَكمْ إلى الجِهاد، يُهلِكونَ أنفسَهمْ بهذهِ اليمينِ الكاذِبةِ التي تَجرُّهمْ إلى العَذاب، واللهُ يَعلَمُ أنَّهمْ كاذبونَ في حَلِفِهم هذا.
إنَّما يستأذِنُكَ في التخلُّفِ عنِ الجهادِ ممَّنْ لا عُذْرَ لهم، الذينَ لا يؤمِنونَ بالله، ولا يَرجُونَ ثوابَهُ في الدَّارِ الآخِرَة، وشكَّتْ قلوبُهم في صحَّةِ ما جئتَهمْ به، فهمْ في شَكِّهمْ مُتحيِّرونَ مُضطَرِبون.
فلا يَرُقْكَ شَيءٌ مِنْ أموالِهم ولا أولادِهم، ولا تَستحسِنْ ذلكَ منهم، فإنَّما هوَ استِدراجٌ منَ اللهِ لهم، ليَكونَ ذلكَ كلُّه وَبالاً عليهم، وعِقاباً لهمْ في الدُّنيا، مِنْ تَعَبٍ في جَمعِه، وكَدٍّ في تَحصِيله، ونَفقَةٍ منهُ للزَّكاةِ والجِهاد، دونَ أنْ يُثابوا عليه، ومَقتَلِ أولادٍ لهمْ في الغَزو، وهمْ لا يَعتَقِدونَ استِشهادَهمْ ولا احتِسابَهمْ واللِّقاءَ بهمْ في اليَومِ الآخِر، فيَكونُ كلُّ ذلكَ حَسرةً عليهم، وتَعذيباً نفسيّاً لهم، وأكثرَ إيلامًا لهم، ولتخَرُجَ أرواحُهم ويموتُوا على كُفرِهم(49).
(49) {وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ}: يعني وتخرجَ أنفسُهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودِهم نبوَّةَ نبيِّ الله محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم. (الطبري). أصلُ الزهوق: خروجُ الشيءِ بصعوبة. أي: فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتعِ عن النظرِ في العاقبة، فيكونُ ذلك لهم نقمةً لا نعمة. (روح البيان). الزهوق: الخروجُ بشدَّةٍ وضيق، وقد شاعَ ذكرهُ في خروجِ الروحِ من الجسد. (التحرير والتنوير).
ولو أنَّهم وجَدوا حِصناً يَتحَصَّنونَ به، أو مَغاراتٍ في الجِبالِ يُخْفُونَ أنفسَهم فيها، أو أنفاقاً في الأرضِ يَدخلونَها، لصَرَفوا وجوهَهمْ عنكمْ وأقبَلوا إليها وهمْ يُسرِعون، لا يَلتفِتونَ إلى شَيء.
يَعني: لو يَجدونَ مَخْلَصاً منكمْ ومَهْرَباً لفارَقوكم، فهمْ لا يوَدُّون مخالطتَكم، لأنَّهمْ ليسُوا منكم.
ومنهمْ مَنْ يَعيبُ عليكَ في تَقسيمِ الصَّدَقات، ويَطعَنُ عليكَ في تَوزيعِها، لا لسبَبٍ سِوَى مَصلحتِهمُ الماليَّة، فإذا أعطيتَهمْ مِنْ تلكَ الصَّدَقاتِ قَدْرَ ما يُريدونَ رَضُوا وفَرِحوا وشَكروا لك، وإذا لم تُعطِهمْ منها غَضِبوا ولم يَستَحسِنوا فِعلَك.
وفي صَحيحِ البُخاريِّ ما يُفيدُ أنَّ هذهِ الآيةَ نزَلتْ في "خارِجيٍّ" قال: اعْدِلْ يا رَسولَ الله. وتَفصِيلهُ في "فتحِ الباري".
ولمَنْ تُجْمَعُ قلوبُهم ليُسلِموا، أو يَثْبُتوا على إسلامِهم.
وفي فكِّ رِقابِ العَبيدِ ليُصبِحوا أحراراً، وهمْ لا يَقْدِرونَ على دفعِ ما يَلزَمُهمْ لأسيادِهمْ لأجلِ ذلك. وذكرَ بعضُهم أنَّ المقصودَ أُسارَى المسلِمين.
والصِّنفُ السادِسُ همُ الذينَ عليهمْ دَين.
وللغُزاةِ في سَبيلِ الله، يُعْطَونَ الزَّكاةَ إذا أرادوا الخروجَ إلى الجهادِ ليستَعينوا بها على أمرِ الغَزو، ولو كانوا أغنياء.
وللمُنقَطعِ في سفَرِه.
وهذا التقسيمُ واجِبٌ فرَضَهُ الله، وهوَ عَليمٌ بأحوالِ الناسِ ومَصالحِهمْ ومُستَحقّاتهم، حَكيمٌ فيما يُقَسِّمُ ويُقَدِّر ويُشَرِّع.